حتى يكتب الرسالة معتمدا على الإنترنت بمئات المراجع التي لم يقرأ منها شيئا أو رسائل لا هدف منها ولا قضية، وفي نفس الوقت يدفع قدرا من المصاريف، ويدفع الطالب العربي أضعافا مضاعفة؛ فلم تعد الجامعة تهتم بالعلم، ولا الأستاذ المشرف، وأصبح هم الطالب هو نيل الدرجة العلمية، وما أسهلها! ثم تقوم المظاهرات في الشوارع بعد ذلك لأن مئات الحاصلين على شهادتي الماجستير والدكتوراه بلا عمل، فامتنعت عن الإشراف على رسائل جديدة، ولكني ما زلت أناقش بعض الرسائل القديمة التي يشرف عليها الزملاء. أما «التعليم المفتوح» فهو مشروع تجاري خالص، يدفع فيه الطالب آلاف الجنيهات، والطالب العربي الضعف ثمنا للكتب التي تشتريها الجامعة من الأستاذ، وتكون وسيطا تجاريا بين البائع والمشتري، ويأخذ الشهادة الجامعية، ولم تنطبق عليه شروطها وهو المجموع الكلي المطلوب في الثانوية العامة. وتتساوى الدرجتان العلميتان، التعليم المشروط والتعليم المفتوح؛ فالجامعة أصبحت تحمي الكتاب المقرر، وتتاجر فيه قبل الأستاذ. أصبح التعليم الجامعي حفظا وتلقينا لمعلومات يدرسها الطالب على الإنترنت، والطالب يغيب، والأستاذ يغيب، والدرجة العلمية مضمونة. ولا يمكن دعوة أستاذ من خارج الجامعة لإلقاء محاضرة إلا بموافقة سلطات الجامعة وعلى رأسها الأمن. ولا يمكن عمل أي نشاط علمي خارج المقررات الدراسية إلا بموافقة السلطات الجامعية. وعربات الأمن المركزي تحيط بالجامعة، وقد سأل أحد الزوار الأجانب رئيس الجامعة لما شاهد هذا المنظر: هل أنتم في حالة حرب؟!
وقد أعطيت عدة جوائز في مصر وخارجها. أعطيت جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، والفلسفة جزء منها عام 2007م، ولم يرشحني قسمي بل رشحني قسم الدراسات اليونانية واللاتينية، في حين رشح القسم محمود حمدي إبراهيم من القسم الذي رشحني! وأعطيت جائزة النيل الكبرى عام 2015م وليس من قسمي بل بترشيح من الجمعية المصرية للدراسات التاريخية وأتيليه الإسكندرية. وكان رئيس الدولة هو الذي يسلم الجوائز للمفكرين في عيد العلم، وفي حالتي كان رئيس الجامعة ونوابه عندما بدأ التوتر المكتوم بين الرئيس والمثقفين. وأعطيت جائزة «المفكر الحر» من بولندا وسلمها لي رئيس جمهورية بولندا، وقدمني لمفكري بولندا، وألقى خطابا في حرية الفكر، ولما عرف أني أعزف الكمان طلب من الفرقة عزف كونشرتو الكمان لموزار، وطلب مني أن أعزف شيئا، فعزفت «الكمان» على العشاء في القصر، من موسيقى سيد درويش.
وقد شاركت في معظم نشاطات المجلس الأعلى للثقافة منذ إنشائه حتى حكم العسكريين، أي حتى الآن؛ فكنت أحد أعضائه البارزين قبل تشييد البناء الخاص به في أرض الأوبرا. وكان في البداية يسمى المجلس الأعلى للثقافة والآداب والعلوم الاجتماعية برئاسة يوسف السباعي. وبعد اغتياله تولى رئاسته في لجنة الفلسفة زكي نجيب محمود وفؤاد ذكريا ومحمود أمين العالم وأنا وأخيرا أنيس منصور كما طلب من فاروق حسني. كانت اللجنة في مبناها القديم تصدر «الفكر المعاصر»، «تراث الإنسانية»، «المجلة»، كما كانت تصدر «الكاتب»، وكانت متنوعة الاجتهادات، وشاركت في معظمها والتي جمعتها بعد ذلك في «قضايا معاصرة» (جزءان)، الفكر العربي المعاصر، الفكر الغربي المعاصر. رأستها وهي في المبنى الجديد وبعد عام أزحت عنها دون إبداء أسباب. وجاء من بعدي زميل مريض لم يحضر ولا جلسة ثم زميل آخر بالنيابة حتى توفي. والآن يرأسها من قضى في الكويت معظم عمره بعد أن كان أستاذا في الفلسفة اليونانية في جامعة عين شمس، ويصرح بأنه يعد مشروعا للفلسفة المصرية. ولم أكن أقبل أنيس منصور مفروضا علينا من وزير الثقافة لأن تعليقاته على الأساتذة وكأنهم جهلاء بأورتيجا وغيره من الفلاسفة، وكنت لا أقدره لأنه كان أنيس الرئيس المغدور، وكان يفتخر أن معاهدة كامب دافيد قد تم توقيعها بقلمه الذي يحتفظ به للذكرى. وفي اليوم الذي قرر فيه مناقشة كتابي فشته، فيلسوف المقاومة تعاركنا، وقذف بالكتاب أحد الأعضاء على المنصة مستهجنا حتى انتقل الاثنان إلى الرفيق الأعلى، ومن يومها لم أدخل المجلس. ولم أدع إلى حضور نشاط فيه بعد أن استولى عليه التيار المعادي للإسلاميين، وصنفت بأني من الإخوان، وأنتسب إليهم، ثم عزلت عن نشاطاته تماما وكأنني لم أعد مثقفا، وقد كانت الرئاسات السابقة لا تفرق بين إسلامي ويساري. لقد أصبحت كل مؤسسة ثقافية أو سياسية أو اقتصادية تسير على ساق واحدة، فتسير عرجاء، وترى العالم بعين واحدة فتكون عوراء، وتتنفس برئة واحدة فتختنق. وما عابوا عليه الحكم الإسلامي، أحادية الطرف، وقعوا فيه. الخطورة اليوم هو التبعية لنظام الحكم مثل الإعلام، وربما كل مؤسسات وزارة الثقافة، وهو ما جعل الثقافة خاوية؛ فالثقافة حوار بين تيارات مختلفة حتى لو كانت متعارضة أحادية، الفرقة الناجية تموت.
وكان أثري في ماليزيا وإندونيسيا وأوزباكستان وكثير من جمهوريات آسيا الوسطى كبيرا. وعرفت في إندونيسيا عبد الرحمن وحيد رئيس جماعة نهضة العلماء، والرايس رئيس جماعة المحمدية، وهما أكبر مجموعتين إسلاميتين في إندونيسيا. وأفكار اليسار الإسلامي منتشرة هناك، بدأت نهضة العلماء يسارية وانتهت يمينية، وبدأت جماعة المحمدية يمينية ثم أصبحت يسارية، وكان همي الجمع بين الجماعتين في اليسار الإسلامي، إلا أن الرغبة في الرئاسة منعت من هذا التواصل. وما زالت إندونيسيا ترسل لي سنويا في الصيف حوالي عشرين طالبا وطالبة دراسات عليا كي أستمع إلى رسائلهم وأصححها لمدة شهرين مرة أسبوعيا لعدم قدرتي على الحركة، وعندي قاعة للاجتماعات تكفيهم وأكثر. وماليزيا أكثر تحررا وعلمانية بفضل محمد محاضر رئيس الوزراء السابق بالرغم من خلافه مع أنور إبراهيم على السلطة، وقد عرفت الاثنين، ولكن الشعب كان مع محاضر. وذهبنا إلى كابل عن طريق موسكو؛ فروسيا هي الطريق الوحيد لأفغانستان، وفنادق موسكو كلها نمطية، جادة، لا زواق فيها، بين الحين والآخر تشاهد فتاة روسية شقراء بكعب طويل وميني جيب لا أدري ماذا يفعلن في بهو استقبال الزوار. وفي مطار موسكو وقفنا بالساعات للتفتيش، الأوراق، الجوازات، تأشيرات الدخول، صحيحة أو مزيفة حتى كدت أصرخ فيهم: نحن ضيوف منظمة تضامن شعوب آسيا وأفريقيا. لا يدل على وجوه الموظفين والموظفات الذكاء، يريدون فقط أن يؤدوا واجبهم بحرفية مطلقة، لا توجد أي شبهة في أي من أعضاء الوفد، ومع ذلك التفتيش هو التفتيش. وفحص الأوراق هو فحص الأوراق، ولا يهم أوراق من؟ معنا مرافق يرسم له الطريق، ولا يستطيع أن يغيره، معه كاميرا خاصة للتصوير لبيان مدى ترحاب روسيا بالوفد. وحاضرت علماءهم وأهدوني العباءة الوطنية الأفغانية، ثم أخذوها لأني رفضت الذهاب إلى السفارة الأمريكية. وذهبت إلى جامعة كابل، ورأيت تمثال جمال الدين الأفغاني، مفجر الثورة العرابية في مصر وواضع أيديولوجية التحرر الوطني للعالم الإسلامي. وبعد كابل من أواسط آسيا زرنا أوزبكستان وطشقند وسمرقند وباكو، وتعرفت على علمائهم، يبدءون الطعام بالفاكهة، طلبوا مني في المسجد أن أتلو القرآن؛ فأنا من جوار الأزهر الشريف، حاولت لكن ليس مثل القراء المحترفين. وفي بخارى رأيت مدرسة بخارى. وفي طشقند توجد المدارس والمساجد العالية. وفي سمرقند مرصد أولوغ بك، والبوابة الكبيرة على مدخل المدينة. فرحت للحضارة الإسلامية، وانتشارها في أواسط آسيا، والحفاظ على آثارها، ثم حزنت على ضياعها وتحولها إلى إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي مع محاولة استقلال الشيشان.
وقد امتد أثري إلى أمريكا اللاتينية، المكسيك وفنزويلا والأرجنتين. ورأيت مدى التشابه بين حياتهم العامة والخاصة مع حياة العرب، كانوا يتوقون إلى التحرر من سيطرة الولايات المتحدة الاقتصادية. وفي المكسيك حياة إسبانية، بها بقايا الأثر العربي القديم. وامتد أثري في جامعات أوتوا العاصمة الكندية وتورنتو وكاليجري. وحاضرت هناك مع الأساتذة العرب والكنديين. ورأيت كيف أن الأمريكتين الجنوبية والشمالية مرتبطتان بالوطن العربي والثقافة العربية، ولا خوف من تكفير أو حكم بالردة؛ حيث يسمع الطلبة والأساتذة هذا الفكر الجديد من أحد ممثليه. ولما قابلوني بعد ذلك في مؤتمرات قبلوني ومنهم من قبل يدي وكأنني شيخ طريقة جديد، سمعوا عني وقرءوا لي قبل أن يروني، وقد جاءت المناسبة الآن للتصوير معي، كي تبقى لهم ذكرى في التاريخ. ولا يعرف معظم الناس في مصر عن أمريكا اللاتينية إلا لاعبي كرة القدم.
وأثر دعوة لبعض المفكرين المصريين للحج، دعوة من الملك عبد الله مباشرة، ذهبت أنا ومحمود أمين العالم وآخرون وعشنا في المخيم مثل باقي الحجيج. ودعينا إلى الغداء مرة على مائدة الملك، فوجدنا الخراف المشوية المنتصبة واقفة على الموائد وتحتها الأرز، وفي صدر المائدة جلس الملك. وقام أحد المدعوين بإلقاء كلمة نيابة عن المدعوين، وكان فلسطينيا بليغ اللسان وهو بلال الحسن. وبعدها أردنا أن نجالس المثقفين السعوديين من مكتبة الملك عبد العزيز، فلم يستجب إلى الطلب، تحادثنا مع أنفسنا. وكان الشباب السعودي يأتوننا في المساء بلا دعوة ليجالسوا بعض المفكرين العرب الذين يسمعون عنهم، ووجدنا روحا جديدة راغبة في السماع والتعلم ومناقشة الأفكار المثيرة التي نمثلها، وكانت الجلسات تستمر حتى الصباح في بهو الفندق. وكان السؤال: هل نفتح قلوبنا لهم كما فتحوا قلوبهم لنا أم نحترس؟ ففتحنا قلوبنا بلا خوف، وتحدثنا عن مضمون الإسلام وليس شكلياته، وأنه بنية اجتماعية وليس أحكاما شرعية. وتفرجت على شعائر الحج، والطواف، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمرات، والصعود إلى عرفات من شرفة بناء مجاور، وأنا في ملابس الإحرام. ورفض محمود أمين العالم أن يلبسها أو أن يشارك في شيء، ولم يأخذ ملابس الإحرام الخاصة به؛ فهو صاحب مبدأ لا يتنازل عنه. ولما عدت كتبت «خواطر حاج» في «أخبار الأدب». ودعوت فيها إلى أن عرفات يجب أن يكون في القدس، بهذه الملايين الصاعدة فوقه خاصة وأن القدس كانت أولى الحرمين. وعجبت من أخي الذي أخذ الوالدين على نفقته الخاصة للحج مرتين، وكانت مرة واحدة تكفي من أجل إرضاء رغبات الطبقات الشعبية.
وفي هذه الفترة كان لي أصدقاء، معظمهم من «حزب التجمع» مثل محمد عودة والذي كان شيخ حارة يعرف الأصدقاء بعضهم ببعض، وكان معظم الأصدقاء الذين عرفتهم في مصر عن طريقه مثل فيليب حلاب وزوجته الصحفيين وكمال الذين رفعت والذي كان من الضباط الأحرار، وعائلة النقاش ومحمد الفولي، وكنا نجمع بين الثورة والحياة، فذهبت إلى مزرعة مجدي حسنين في بنها معهم والذي كان محافظا للبحيرة أيام عبد الناصر لنأكل البط الأصيل. وكان لي أصدقاء يعيشون في فرنسا ولكن يأتون إلى مصر خاصة بعد حرب 1973م ليساهموا في بناء مصر التي انتصرت وأزاحت عن كاهلها عار هزيمة 1967م، مثل أنور عبد الملك الذي غادر مصر في أزمة الشيوعيين مع عبد الناصر في 1958م، وأقام في باريس، وعمل بالمركز الوطني للبحث العلمي، ورشدي راشد. وبعد عام 1973م أراد أن يشد الرحال إلى مصر، ولكن أين؟ بالجامعة وهي مغلقة على أهلها بقوانينها أو في «الأهرام» وهي جريدة الدولة أو في المركز القومي للبحوث الاجتماعية وهو ما زال تقليدي الاتجاه. كان مديرا لمشروع البدائل الاجتماعية الثقافية في «جامعة الأمم المتحدة» بطوكيو، وكان على صلة قوية بمفكري العالم الثالث في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وانتخب نائب رئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع، وهو خريج قسم الفلسفة بجامعة عين شمس، وتلميذ عبد الرحمن بدوي، وآخر كتبه «الوطنية هي الحل». وقد كتب فيه وفي أمثاله لطفي الخولي مقال «العابرون بعد العبور». وكان في وداعه الأخير في الكنيسة بضعة أفراد معدودة على الأصابع، كانت القاعة شبه خالية، ولم يحضر المتحدثون ولم يعتذروا، وكما هو في المثل: «البعيد عن العين بعيد عن القلب.»
الفصل التاسع
«التراث والتجديد» وأحزان
خريف العمر (1996-2011م)
Unknown page