وفي نفس الوقت كنت رئيسا للجان العلمية لترقيات الأساتذة والأساتذة المساعدين في الفلسفة، حاربت فيها «التربيطات» من أجل ترقية أحد الزملاء بتشكيل لجنة ثلاثية للفحص موالية أو أخذ اللوم لأن أستاذا لم يرق، بل والخصام والعداء، وقد كنت عضوا ثلاث سنوات عندما كانت لجنة فلسفة وعلم نفس واجتماع ثم أمينا لها ثلاث سنوات أخرى، ثم ست سنوات رئيس لجنة الفلسفة معي في الدورة الأخيرة أمين الفلسفة فيصل بدير عون صامدين ضد أي تدخل خارجي لصالح أحد المتقدمين، ثم جاءت اللجنة الثالثة تسير في نفس الطريق حتى وهنت. وكانت لجنة التظلمات هي الباب الخلفي والتي يرقى فيها من لا يرقى في اللجنة العلمية.
أما الأبناء فسأذكر ابني البكر الذي أصبح نجما من نجوم الفلسفة العربية والإسلامية . وقد سرني أن كتب عني مقالا يقارن فيه بين «من العقيدة إلى الثورة» و«اليسار الإسلامي»، والمقارنة بين الاثنين خاطئة. «من العقيدة إلى الثورة» المستوى العلمي لمشروع «التراث والتجديد». أما «اليسار الإسلامي» فهو المشروع الشعبي. الأول للخاصة والثاني للعامة. ومع ذلك فرحت لأن أحد تلاميذي تجرأ ونقد الأستاذ على غير من يتكلمون في الموضوع ولا يذكرون الأستاذ أبدا، مع أن ذلك من أصول البحث العلمي للدراسات السابقة. وقد رجوته أن يستمر في نقده لي حتى يحدث التراكم العلمي الكافي لإحداث تيار فلسفي، فكان يكتفي بالنقاش الشفاهي بيني وبينه. وسرني أن تصلني عدة دراسات ورسائل للماجستير عني في كل أرجاء الوطن العربي ومن المغرب العربي، الجزائر وتونس وليبيا، والأردن والعراق ولبنان، حتى كل المشرق الآسيوي، اليابان والصين وإيران، تقريبا بمنهج العرض للتعريف بمشروع «التراث والتجديد» وبفكري أو ناقدا إياه من وجهتي النظر الماركسية أو السلفية، ومنهم من يأخذ جزءا من المشروع ويفنده مثل «مقدمة في علم الاستغراب» دفاعا عن الغرب ظانا أن الكتاب به نقد للغرب دون أن يتأكد من هذا الجانب في نظرية المعرفة، وقلب الذات إلى الموضوع، والموضوع إلى الذات، استكمالا لحركة التحرر الوطني على المستوى الثقافي والفكري والحضاري. وقد كنت أحد أفراد اللجنة الخماسية التي شكلها مجلس الكلية مع مصطفى سويف للرد على تقرير اللجنة بعدم الترقية التي تدخلت في ضمير الباحث وحكمها عليه بالإلحاد والكفر بأن ذلك خارج اختصاصات اللجنة العلمية ردا على تقرير اللجنة الثلاثية الذي وافقت عليه اللجنة العامة، ولكن الأمر قد تسرب إلى الإعلام. ودخل تلميذي في مباراة إعلامية ضد من ردوا عليه، ودخل المتخصص وغير المتخصص، من يريد الشهرة ومن يريد الإثارة الصحفية. وبالرغم من نصيحتي لتلميذي ألا يرد، وألا يتكلم في الإعلام فذلك شأن جامعي خالص، ولا يناقش إلا في الجامعة بين متخصصين، ولكنه أصر على مواجهة الإعلام؛ فلا فرق بين معركة الجامعة في الداخل ومعركة حرية الفكر في الخارج، فأبلغته أن الأمر ما زال مبكرا. يكفينا أن نكون كتيبة في الداخل مثلي ومثله قبل أن تخرج إلى المجتمع. نحن الآن نقوم بحرب عصابات «اضرب واجري»، ولا نستطيع أن نكون جبهة مثلهم. علينا أن ننتظر عدة أجيال؛ فكما اكتشفته أنا فعليه أن يكتشف آخرين من طلابه حتى نكون جبهة في مقابل جبهة. أما الآن فالمعركة ما زالت مبكرة. وقد كانت هذه هي نصيحة إبراهيم بدران رئيس الجامعة لي. ليس للمجالس الإدارية وليس للجنة العلمية الحق في النيل منا حتى لا نصفى واحدا تلو الآخر، ثم حدث ما حدث بتركه البلاد، ثم استمع إلى نصيحتي أن يعود إلى الجامعة ولو ليوم واحد قبل المعاش أي سن الستين، حتى يعين أستاذا متفرغا، وهو ما حدث.
وهناك عدة نماذج جامعية، زملاء وطلابا أصبحوا أساتذة يمكن تصنيفها كالآتي: (1)
الغيرة التي تتحول إلى كراهية ثم إلى كراهية بدلا من المنافسة الشريفة، نموذج الغيرة من العلماء دون التقدير أو حتى المنافسة الشريفة والتحدي المهني؛ فتتحول هذه الغيرة إلى كراهية، والكراهية إلى عداوة علنية، خاصة إذا كان في اليد سلطة وقدرة على الإيذاء، بتعاون مع الإدارة لتحويل هذه الأهواء إلى قرارات إدارية مثل المنع من التدريس أو عدم الموافقة على تقرير اللجنة العلمية للترقية في مجلس القسم حينما يكون الأستاذ الوحيد أو يخاف منه باقي الأساتذة اتقاء لشره، وحرصا على مصالحه. وتتدرج الكراهية من مجلس القسم إلى مجلس الكلية إلى مجلس الجامعة؛ فهذه المجالس تأتمر بأمر الأمن لمعاقبة من يقف ضد النظام. ويعود القرار بالترقية إلى اللجنة العلمية فتعيده إلى المجالس الإدارية فإنها قالت كلمتها؛ فإن القرار بالترقية هو قرار اللجنة العلمية وليس موافقة المجالس الإدارية، فتسقط الأهواء الذاتية أمام موضوعية العلم، وينال هذا النموذج جزاءه من الدنيا قبل الآخرة بالإهمال وعدم نيل أي استحقاق علمي، وتفرق الطلبة عنه وإصابته بالكسور والأمراض وعدم التوفيق الأسري، وينتظر نهايته منبوذا من الجميع إلا ممن استمر على النفاق والمداهنة بدافع الإخلاص والوفاء.
ويتكرر هذا النموذج حتى في التلاميذ ضد أساتذتهم والذي قد يصل إلى حد الإحالة إلى التحقيق لتوقيع العقاب أو مرة إلى القضاء إذا كان العقاب الجامعي لا يكفي، «الفاضي يعمل قاضي»، يشعر أنه أخذ الماجستير أو الدكتوراه بغير حق، ويفرح أنه تمت ترقيته إلى أستاذ مساعد وأستاذ وهو لا يستحق، وينال مناصب إدارية لأنه ينفذ ما يطلب منه من ممثلي النظام، ليس له مؤلف يعرف به أو يقوم بها تخصصه، وليس له دور في الثقافة العامة، يستمر في الإيذاء لإثبات الوجود، وهو محط احتقار الجميع. ويتحول هذا النموذج إلى خارج الجامعة، من الغيرة والكراهية والعدوان إلى الاستعلاء والاستكبار على الآخرين؛ فهو الأجمل والأعلم والأقدر على الصعود على أكتاف المشاهير وعن طريق صداقاته العليا أو الأيديولوجيات التقدمية ليعلو ويستكبر به على الجهلاء، يتوسط به الصغار حتى ولو كانوا من الأساتذة لقضاء مصالحهم، ويرقى في الدرجات العلمية باختيار لجان فحص أقل علما وقدرة. وقد انتشر هذا النموذج خارج القسم في الأقسام المشابهة في جامعات المحافظات؛ فالنموذج يتحول من فرد مؤسس إلى عصبة تتبادل المصالح. وهو قادر على الفهم، ولكنه كما يستعلي على الزملاء يستعلي على النص، وينظر إليه من عل، ويعيد التعبير عنه بلغته الخاصة، كتب عدة مقالات في إحدى المجلات العربية الشهيرة عن طريق الواسطة، وتوسط لمن أشرف عليه في الدكتوراه كي يأخذ جائزة الدولة التقديرية بعدي بعام، كان يرى أنه مخلوق من جنس آخر غير بني آدم، من ذهب وليس من طين، تأخر في ترقيته والتي تمت أخيرا عن طريق لجنة اثنان يميلان ويتحيزان له، الأولى لضعفه العلمي، والثانية لصداقته لأستاذه، وما زال يخاصم ويصادق طبقا لأهوائه ومصالحه مثل أستاذه، وأرجو أن يرقى إلى أستاذ قبل أن يحال إلى المعاش، وأعتذر أيضا لذلك. قد يكون الانطباع خاطئا، وقد يكون الأمر أفضل بكثير مما أتصور. وهل من الضروري الحكم على الأشخاص بما يجب أن يكون أم يكفي بما هو كائن؟ وبماذا يجيب كانط؟ أعتذر للجميع مرة ثانية، وأذكرهم بأنني معهم وليس عليهم؛ فأنا بمثابة الأب، وأذكرهم بآية:
ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا .
ومن ينتمي إلى النموذج الأول كان أول من أوصت دار نشر بمراجعة ترجمتي لكتاب جان بول سارتر «تعالي الأنا موجود»، وكان يحسن استعمال المصطلحات الفلسفية، وله قاموس بالاشتراك عن المصطلح الفلسفي. لم يكن قد ظهر اتجاهه السياسي بعد إلا أنه ماركسي، وأنا لم أشعر أنه كذلك. يبدو أنه كان كذلك عندما كانت الماركسية رائجة من خلال الاشتراكية العربية. والآن يعيش على قضيتين: أن ابن رشد ليس مثله من قبل ولا من بعد، وهو ممثل العقلانية. والثانية الهجوم على الأصولية، والدفاع عن العلمانية الغربية. ارتبط بالدوائر الفلسفية الغربية أكثر من العربية، ويكتب أسبوعيا في الأهرام ويكرر نفسه. لم يحصل على أي جائزة، وهو الآن مفكر الجامعة للهجوم على الإسلاميين.
وهناك أيضا زميل من خارج القسم هو صديق تاريخي من أيام باريس ومؤتمر المبعوثين، وظللنا على صداقة مستمرة نحضر المؤتمرات سويا، وكل منا معجب الآخر، ثم أتت فترة بان فيها الخلاف. هو من المعجبين بالرئيس الجديد، واتهمني بأنني بعد خمسين عاما أنني من الإخوان، وأنا لا أعجب بأحد، بل مهمتي نقد الحكم بناء على واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أطالب بالحريات، والإفراج عن المعتقلين، وتحقيق نوع من العدالة الاجتماعية بعد أن ارتفعت الأسعار، فاغتنى الأغنياء وافتقر الفقراء. اتهمني في صحيفة لا يقرؤها أحد، ورددت عليه مواجهة بأنه يعمل لحساب الدولة «عميل الدولة». كاتب مراوغ لا يوجد فيما يكتب أي نقد للوضع الحالي، وكل ما يكتبه مستمد من الإنترنت لعرض آخر النظريات في العلوم السياسية والاجتماعية، ونبهته على ذلك أكثر من مرة، فإذا لم يجده في الإنترنت طلب مني أن أكتب له هذا الموضوع في عدة أوراق. نال عدة جوائز من الخليج لأن كلامه لا يضر ولا ينفع في حين أنني منعت جائزة الملك فيصل في علم أصول الفقه، وألغيت في العام الذي تقدم فيه الناشر بكتابي في الموضوع «من النص إلى الواقع»؛ فمقالي الحسن هو ما لا يتعرض للنظام ويقول كلاما في الهواء لا يصيب، ومقالي السيئ هو الموجه ضد النظام، رئيسا أو مؤسسات لأنه يصيب. وعندما نكون على منصة واحدة يتكلم كلاما ليس موجها ضد أحد، فأحسست أنه أيضا غيور مثل باقي الزملاء الذين أعيش بينهم منذ خمسين عاما، وما زلنا متخاصمين؛ فأنا لا أحب التابع للنظام، وهو لا يحب الناقد له، طريقان مختلفان. وكثيرون غيرهم كونوا جماعة مضادة لي في مؤتمرات وندوات، ولكني لا أرد. لم يزر إسرائيل مثل غيره من الاجتماعيين ولكن لا مانع لديه من استقبال صحفيين إسرائيليين في مكتبه بالرغم من الثورة عليه.
ومنهم من كان صديقي الأول في مصر أستاذا ورئيس قسم الفلسفة بعد تعييني في القاهرة، استقبلني استقبالا حارا، وانتدبني للتدريس بالقسم بعد سفر رئيس القسم السابق إلى إيران ثم إلى باريس، وقراره بعدم العودة نهائيا إلى مصر لأن القسم طلب منه أن يكتب طلبا للعودة بعد جوازه السنوات المقررة بالإعارات فرفض لأن كرامته لا تسمح بذلك. وكنت أهديه أول نسخة من أي كتاب يصدر لي، ثم غادر في إعارة، وتجاوز المدة المقررة بخمسة أضعافها، وعاد وهو يريد أن يصبح صحفيا مثل هيكل، فكتب مرة أو مرتين في الأهرام فلم يلتفت إليه أحد؛ فشتان بين الكاتبين. ونظرا لطول إقامته في الإعارة بمفرده استعمل حريته إلى أقصى حد حتى بعد العودة، وعلمت أسرته بذلك فأتتني باعتباره صديقي الأول في مصر ، وأسرت لي بما يدور في خلدها وهي تبكي، فلم أستطع إلا أن أتعاطف معها، ثم جاء الصديق ليقنعني بموقفه، ويأخذني إلى صفه كما فعل كل زملائه بالقسم رغبة في الإعارة أو مدها. ولما كنت أبغي الحق فلم أغير موقفي، فما رأيت منه إلا أن كتب مقالا طويلا ضدي، وضد «اليسار الإسلامي»، واتهمني بأنني زعيم الحركة السلفية وممثل الإمام الخميني في مصر ومن أنصار الثورة الإسلامية في إيران في وقت كان النظام السياسي في مصر يعادي الثورة خوفا من الإخوان. وكان الرئيس يغالط في كلماته ، ويتهم الخميني بأنه يقول «الله أكبر، الخميني أكبر.» أي إنه أكبر من الله مع أن الكلمة الفارسية «هربر» تعني قائدا أو زعيما. وظل الرئيس يعتمد على هذه المغالطة لتملق الحس الديني للجماهير، فتعادي الثورة الإيرانية. فحزنت أن ذلك يأتي من أعز صديق لي في مصر، فقاطعته. وعلم صديق مشترك بيننا علماني الاتجاه مثله، ودعانا إلى العشاء عنده لعلنا نصطلح، وأدخلنا الشرفة وأغلقها علينا. وانتظر هو أن أفاتحه في الأمر مع أني هو المعتدى عليه، وانتظرت أنا ليبدأ بالاعتذار، ويوضح موقفه، ولكنه لم يفعل استكبارا؛ فمن مثله يعتذر؟ ومن مثلي حتى يتم الاعتذار له؟ وبعد مدة لا نعرف ماذا نقول وفي أي موضوع نتحدث غادرنا الشرفة، والصديق المشترك يتعجب من عدم إتمام المصالحة. ورأيته مرة واحدة في عزاء زميل مشترك آخر بالمجلس الأعلى للثقافة، يسنده اثنان لأنه لا يستطيع السير، ومن يومها لم أره حتى وفاته. تحدثت إليه مرة واحدة تليفونيا عندما علمت أنه قد هدد من الجماعات الإسلامية بالقتل، وأطمأننت عليه، وأعلنت مساندتي له، ووقوفي بجانبه. (2)
الصداقة التي تنقلب إلى غيرة وعداوة في فترتين من العمر، من النقيض إلى النقيض. وهو النموذج الثاني الذي تبدو عليه علامات النبوغ الفكري كمفكر وليس كباحث، والبحث العلمي أداة للتفكير الحر. وجد صعوبات في حصوله على الماجستير لأن الفلسفة الإسلامية كانت تتم بشكل تقليدي تاريخي. وكرر نفس الشيء في الدكتوراه معي، فكر جيد ولكن بحث علمي ضعيف غير موثق، فنصحته أنه يمكن أن يحصل على الدكتوراه معي، ولكن المهم ما بعد الدكتوراه أن يعيد النظر في منهجه لأنه لا يحفر بيديه ويستخرج النفط من البئر بنفسه دون أن يعتمد على أفكار الآخرين، ويعيد إنتاجها بأسلوب جديد؛ فجيد أن يكون الإنسان مفكرا بعد البحث والتمحيص والحفر باليدين، وليس قبله، ولم يستمع. كان يريد الشهرة بسرعة، فالتصق بتلميذي الآخر نصر حامد أبو زيد لأنه لم يعترض على الشهرة السريعة أو مخاطبة الإعلام. وبدأ الخروج إلى الإعلام، وكتابة أفكاره في الصحف، فكان يأخذ قطعة من «النداغة» من فمي فيكون منها بالونة كبيرة حتى تكبر ويراها الناس ثم تنفجر بسرعة لأنها لا تستمد هواءها من ذاتها. كان هدفه الشرب من بئري لينال شهرة نصر حامد أبو زيد؛ فهو خليفته، مع أنه على النقيض؛ فنصر حفر بيديه بعد أن أخذ الشرارة مني. ونبهته إلى أن ذلك ليس بحثا علميا، ونبهته إلى أن البحث العلمي ليس أخذ قطعة من السكر أو الملح من ماء غيره ويذيبها، فلم يستمع، وتقدم ببحوث من هذا النوع، العلم مني والشهرة من نصر حامد أبو زيد، وأسمع من الزملاء أنه كان كثير النقد والتجريح لي. ومرة أراني زميل ما كتبه على الفيسبوك بأنني كاهن الفلسفة في مصر، ورجل النساء والشهرة والمال والأسفار، وأنني لا أعرف الموضوعية ولا الملوخية، وأنني سبب تعطيله في الترقية إلى أستاذ مساعد. وعندما كلفته بجمع أوراق «التراث والتجديد» تقدم بها للترقية إلى أستاذ مساعد عن «الثيولوجيا والأنثربولوجيا»، وأخذ من نصر حامد أبو زيد «النص والخطاب». مع أنه طلب الأوراق التي وصلت إلى الجمعية فأعطيناها له؛ فالعلم ليس فيه احتكار. وقد وجد صعوبة في الترقية، وتقدم أربع مرات، ورفضت الترقية لعيب في المنهج، فتقدم إلى لجنة التظلمات التي كونت لجنة ثانية «مطبوخة» فرقته. وأنا لا أعطي لذلك أي اهتمام حتى إنه قال إني أغار منه! وعرف العميد ذلك وسألني هل يقدمه إلى التحقيق، فرفضت؛ فكيف يشكو الأب أبناءه؟ كما أن الزمن سيعلمه. وقد تقرب من أحد الأساتذة الغيورين مني والذي أعطى زوجته رسالة ماجستير عن «إخوان الصفا» في إحدى الجامعات الإقليمية. اخترته عضوا في لجنة مناقشة طلب لرسالة دكتوراه، وما إن علم العضو الثالث حتى أراد الاعتذار، وخفت أن يأتي الإعلام فيصور المناقشة، ويشهر في اليوم الثاني بنا، فطلبت تغييره إلى أستاذ آخر بناء على طلبه. وجاء مدرس كاره، وكان تلميذا لي من قبل، ويظن أنني وقفت ضده في ترقيته إلى أستاذ مساعد منذ عدة سنوات، يطعن في أمام القسم دون أن يتحدث هو بأنه هو الذي طلب الانسحاب. وقد صاحب نصر حامد أبو زيد في رحلته الأخيرة من إندونيسيا إلى القاهرة، ثم توفي نصر بعدها بعد أن طلبت منه زوجته نقله إلى القاهرة، وليس إلى هولندا. قال نصر قبل أن يغادر هذا العالم: «علينا ألا نترك أستاذنا وحيدا، وأن نقف معه، ونتعلم منه.» وحينها اتصل بي الأستاذ آخر مرة، وقال إنه يريد أن يحتفل بعيد ميلادي ليس بالطريقة المعهودة، فأفرغت ما في قلبي تجاهه، مددت له ذراعي فقطعه. كانت كتابته أشبه بالمقالات الثقافية المطولة، يعرض أفكاري وكأنها أفكاره، ولم يشر إلي ولو لمرة واحدة في إحالاته المرجعية، وكأن هذا الماء قد خرج من بئره. لم يهدني أي كتيب من كتيباته ظانا أنني لم اكتشف خداعه ومصادره غير المعلنة. كان القسم يعتبره خير من يخلفني، ولكني اكتشفت باطنه كما عرفت ظاهره؛ فقد كان يبدي إخلاصا لي في الظاهر، ويبطن عداوة في الباطن، ثم توفي بعدها رحمه الله دون أن ينال لقب باحث أو مفكر، وسمعت أنه قال وهو في النزع الأخير: حسن حنفي هو أستاذي في النهاية. وتكونت حلقة معادية لي من تلاميذي الذين أصبحوا أساتذة بأنني السبب في إجهاضه بل وموته شهيدا للفلسفة بسبب كراهية القسم له. وتقرب إلي أستاذ كان في معيته، وكان يسعى إلى نحو الشهرة والمال، وكان يكتب في «الأهرام» و«القاهرة»، وجعلوه نائب رئيس لجنة الاحتفال بنصر حامد أبو زيد بعد أن كانت زوجته رئيسا، ولكنه كان يريد أن يكون الرئيس ولا أحد غيره. أتى مرة إلى مؤتمر الجمعية الفلسفية المصرية، وحضر يوما واحدا لأن هناك عربة ستغادر إلى القاهرة، وكان سؤاله: «هل أنت رئيس كل الجلسات دائما؟» وقد أراد زحزحتي عن درس التأويل في الدراسات العليا، ولو كان طلبه بمحبة لكنت تركته له. كان إذا أتاني الطلبة الإندونيسيون عندي كما يفعلون كل عام أدعوه للمشاركة. ودعا هو رئيس جمعية نهضة العلماء إلى الأهرام مع أحد كتابه الغيورين وسأل: «طبعا أنت راجع من السفر وتعبان ولا تستطيع أن تأتي إلى «الأهرام»؟» فأجبته: نعم. أراد أن يحل محلي ومحل نصر حامد أبو زيد، كان يريد أن يسير على طريق شقه غيره، وكانت الدراسات العليا عند فلان، مثل «من محمد عبده إليه» لوصف مسار الفكر الإصلاحي. هذه شهادة للحق وأعتذر له وهو في السماء حيث يسود الحق والعدل إن كنت قد ظلمته في شيء، وليرد علي أحد من مجموعته. وقد يحدث هذا في الطبعة الثانية من الذكريات يردون فيه على تجربتي مع الراحلين؛ فربما أكون قد أسرفت أو أولت أو ظلمت. والله أعلم. (3)
Unknown page