والمطابع الجامعية الفرنسية
. وغيرها، وكنت آخذ قوائمها وأعلم عليها باليد وأجمعها وأعطيها لمكتبة في شارع فورجيرار
Vaugerar
تعطي تخفيضا 20٪، جاء صاحبها مصر ليزورني، وهو الذي دعاني إلى الغداء. وتم شحن الكتب في ثلاثة صناديق خشبية ضخمة ووصلت للإسكندرية، وذهبت مع والدي وأخي لاستلامها، وفي الجمرك انتظر الموظف «بقشيشا»، ولما فتحها ووجدها كتبا قال: كتب! حزن. واكتفى بصندوق واحد ووقع بالموافقة على كتاب أورتيجا إي جاسيه «ثورة الجماهير ». وبعد شحنها إلى القاهرة ساعدني زوج أختي الكبرى سيد حامد في شراء ألواح الأخشاب ونجارتها من قريب لي توفي أخيرا هو علي النجار لعمل مكتبة لتصنيف الكتب عليها في غرفة من شقة الأسرة في شارع الجنزوري بالعباسية التي ما زال يقطن فيها ابن شقيقتي بعد أن توفي الوالدان والخالة. وفي هذه الأشهر الستة كتبت «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم»، وهو مجرد مقدمة لرسالتي الأولى «مناهج التفسير في علم أصول الفقه» التي كتبت عام 1965م قبل «نحن والتراث» لمحمد عابد الجابري الذي ظهر عام 1980م والذي يسميه تلميذي أنور مغيث «مانيفستو حسن حنفي». وقد ظهر عام 1980م في دار نشر محمود الشنيطي رئيس الهيئة العامة للكتاب السابق والمؤسس لها، بعد أن جمعنا من شلة من المثقفين حوالي ستين ألف جنيه لبناء ملحق في فلته بمدينة نصر وإحضار آلات الطباعة، والبداية بتصوير النصوص القديمة مثل مذكرات أحمد عرابي، وأمده أخوه فتحي بآلات الطباعة التي كان يريد الاعتماد عليها في إنشاء مطبعته الخاصة في بدروم فلته. وبعد مدة توقف المشروع، وضاع رأس المال، وأخذ فتحي آلاته، ورد لي محمود خمسائة جنيه من خمسة آلاف تعويضا عن خسارة المشروع، وقال لي إن ذلك من ماله الخاص.
الفصل الرابع
الأستاذ الجامعي (1966-1971م)
ولا يعني الأستاذ الجامعي هنا درجة أستاذ، بل تعني بداية التدريس بالجامعة كمدرس 1967م ثم أستاذا مساعدا 1973م ثم أستاذا 1980م. ولا يعني نهايته عام 1995م بل التعيين كأستاذ متفرغ حتى عام 1980م، يجدد التعيين مرة كل سنتين بطلب القسم حتى الثمانين وكفى. ألغي الفرق بين المتفرغ وغير المتفرغ، ويستطيع الأستاذ أن يستمر أستاذا سواء درس أم منعته صحته عن التدريس على ما أذكر. وقد يكون القانون قد تغير.
تعرفت على سامي النشار بالإسكندرية وسعاد عبد الرازق ابنة علي عبد الرازق صاحب «الإسلام وأصول الحكم»، وكان من أشهر أساتذة الفلسفة بآداب الإسكندرية، وطلب مني أن أزامله في قسم الفلسفة بالإسكندرية، فاعتذرت لأن الشوق كان لجامعة القاهرة بعد حرمان طويل، عشر سنوات، وظللنا نتعاون علميا في فلسفة العصر الوسيط، وساعدني في تقديمي لدار الكتب الجامعية، ونشر أول كتاب لي «نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط»، يحتوي على ترجمات «المعلم لأوغسطين»، «أومن كي أعقل لأنسليم»، «الوجود والماهية لتوما الأكويني». وقد كلفت بتدريس الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى بجامعة القاهرة، بعد أن تركها فتحي الشنيطي لأنه لم يكن راغبا فيها. وعندما عدت من الإسكندرية واقتربت من قسم الفلسفة بآداب القاهرة كان رئيس القسم أحمد فؤاد الأهواني الذي كنت قريبا منه وأنا طالب، واصطحبني معه إلى مكتبة عيسى البابي الحلبي في الأزهر الذي كان نسيبا له، وكان يعد لأن ينشر مخطوطا كلفني بنقله أولا بخط اليد، ولم يكن هناك كومبيوتر في ذلك الوقت، وحزنت عليه عندما غادر إلى الجزائر ولم يلق معاملة طيبة، ثم توفي بعد نشر رسائل ابن سينا في النفس، وكتب كتابا مقررا عن الفلسفة الإسلامية، وكان أولا في وزارة التربية والتعليم، فسر بعد لقائي بعشر سنوات، وأراد أن يعينني بالقسم بلا إعلان، ولكن الإدارة رفضت؛ فلا بد من إعلان، والإعلان عن درجة، والدرجة لا توجد، ولا بد من نقلها من قسم آخر مما يستدعي موافقة القسم صاحب الدرجة، وطلب القسم الذي يريد الدرجة، وعميد الكلية، ورئيس الجامعة، ووزير المالية! وهذا يحتاج عاما للحصول على كل هذه الموافقات دون أن يعترض أحد. وقابلت عبد الرحمن بدوي وكان في طريقه إلى إيران، ويريد من يحل محله، وأعلن عن درجة علمية شاملة في تاريخ الفلسفة حتى ينطبق علي الإعلان، فوافقت وأنا ليس لي عمل. وتقدم اثنان؛ عزمي إسلام في المنطق تلميذ زكي نجيب محمود وأنا، وبالطبع فضلني بدوي. ولما طلب مني القيام بإجراءات التعيين اللازمة لم أكن أشعر بأي شيء تجاه المبنى، مبنى كلية الآداب، جامعة عين شمس بالطوب الأحمر والمعمار الهندسي الصوري الشكلي، فذهبت إلى بدوي وأخبرته بأن الحيطان لا تكلمني، فسخر مني قائلا: وهل الحيطان بتتكلم يا أستاذ؟ واعتذرت له، فأخذ عزمي إسلام. وذهبت إلى سهير القلماوي التي كانت رئيسة قسم اللغة العربية لأرجوها مساندتي في مجلس الكلية في نقل درجة من قسم إلى قسم الفلسفة، فقالت بجفاء وهي تنظر إلى الكتاب المفتوح بين يديها: «عندما أعين طالبي أولا.» وتقصد عبد المنعم تليمة. رددت عليها في سري: ولكن طالبها لن يرفض؛ فأنا وهو واحد. وهي زوجة يحيى الخشاب الذي أحالني إلى التحقيق وأنا في السنة الرابعة لأني رفضت أن أدعو العميد، السيد العميد لأنه لا سيد إلا الله، وقول الرسول: «لا تسيدوني.» وكانت فيلتها في ميدان الجيش حيث أسكن في الشارع بجواره، شارع الجنزوري.
وطلب مني رئيس القسم أن أقوم بتدريس الفلسفة في العصور الوسطى منتدبا، وكان فتحي الشنيطي يقوم بها وهو لا يحبها، ففرح لأن أحدا غيره سيقوم بذلك، ولم تعرف الحسابات كيف تدفع لي أجرا؛ فأنا لست منتدبا من جهة حتى تعاملني بالمثل. وفي هذا العام زادت معرفتي بمصطفى حلمي، وكنت أذهب إليه كي أصحبه إلى الجامعة، كما كان يفعل أحمد مرسي مع عبد الحميد يونس، وعرفني بابنته ربما لغاية في نفسه، وما زلت أذكر معركتي معه عندما كان يعطيني بحث قسم الامتياز وأنا في السنة الرابعة، طلب مني أن أكتب بحثا عن نظرية المعرفة والسعادة عن الغزالي، وهو موضوع تقليدي، ولم أكن أحب الغزالي ولا التصوف، وفي الخاتمة بعد عرض البحث كتبت رأيي عن «السقوط والانعراج»، وعنيت به السقوط السياسي والاجتماعي في عصر الفتنة الكبرى ثم رد الفعل عليه بالتصوف بالصعود إلى أعلى، وهو ما شرحته بعد ذلك في «من الفناء إلى البقاء، محاولة لإعادة بناء علوم التصوف»، فلما قرأه قال لي اقطع هذه الخاتمة لأنها خارج الموضوع، فاعترضت بأن هذا هو رأيي الخاص، فرفض، وأعطاني المقص، وقصصت الخاتمة وكأنني أقطع قلبي. رزعت الباب بقوة، لا أدري إراديا أم لا إراديا، شعوريا أم لا شعوريا، وخرجت وكنت أخشى أن ينكسر الزجاج من وراء الحاجز الحديدي. لم ينتقم مني كما يفعل آخرون، وأعطاني امتياز، ثم حدثت هزيمة يونيو 1967م وكنت خجولا للسعي في مصلحة شخصية، والوطن كله في نكسة، ومع ذلك تمت إجراءات تمويل درجة مدرس، وتم الإعلان، وتقدمت، ولم يكن هناك منافس غيري، وعينت رسميا مدرسا بقسم الفلسفة بآداب القاهرة بثلاثين جنيها شهريا، وكنت أدفع نصفها للأسرة تكلفة إقامتي معها، والنصف الآخر قسط موبيليات أختي الصغرى حتى الزواج؛ لذلك كنت أكتب في «الفكر المعاصر» بعشرة جنيهات و«المجلة» بثمانية جنيهات و«تراث الإنسانية» بعشرين جنيها، و«الكاتب» بستة جنيهات، وكان المجموع مواصلاتي وثمن كتبي بالعربية، وحصيلة ذلك نشر بعد ذلك في «قضايا معاصرة» (جزءان): الأول «في فكرنا المعاصر». والثاني «في الفكر الغربي المعاصر»، أسلوب ثقافي سياسي عام 1968م، 1970م. وحذرني رئيس القسم: إياك أن تصبح مثل أنيس منصور؛ أي تترك الفلسفة إلى الصحافة، و«التراث والتجديد» لم يكن قد ظهر بعد إلا في الرسالتين بالفرنسية، فكان التحذير ليس في مكانه. وكان الموضوع الغالب فلسفة الدين، وفلسفة السياسة، والواقع العربي المعاصر، وهي الأضلاع الثلاثة في مشروع «التراث والتجديد». ووصلتني دعوة من المعهد الفرنسي في روما برياسة كاستيلي لحضور مؤتمر عن التأويل والهرمونطيقا في يناير 1968م، ورفضت السلطات الأمنية بالمجمع سفري، فأرسلت برقية إلى عبد الناصر أخبره بالأمر، فتم الرد مع راكب موتوسيكل بعد أربع وعشرين ساعة بالموافقة على سفري، وقدرت الرئيس، وأدركت خطورة أجهزة الأمن الموازية لسلطة الرئيس.
ودرست معظم المواد تقريبا: الفلسفة العامة للسنة الأولى، وفلسفة العصر الوسيط وعلم الكلام في السنة الثانية، والفلسفة الحديثة في الثالثة، وفلسفة التاريخ، والفكر العربي المعاصر في السنة الرابعة؛ فقد كنت شابا متحمسا يشعر بالخجل من الهزيمة 1967م، ويقرأ تاريخ الفلسفة من خلال المقاومة ابتداء من الدوناتيين ضد أوغسطين، ضد سلطة دفاعا عن الإمبراطورية الرومانية حتى فشته ونداءاته للأمة الألمانية ضد احتلال نابليون لألمانيا، وكان يحضر محاضراتي جميع الطلاب من جميع الكليات ورجال الأمن.
Unknown page