وأخيرا تزوجت أختي الكبرى، وكانت تدعى نبيهة واسم الدلع «بخاطرها»، وكانت أمي تسمى «أم بخاطرها» نسبة لها أو أم سيد نسبة لأخي الأكبر سيد؛ تزوجت من قريب لوالدتي، سيد حامد، مثالا في الأخلاق والمساعدة الأسرية. وهو الذي كنت أعتمد عليه دائما في مصالحتي مع الأسرة عندما كانت لا تستجيب لطلباتي مثل شراء الكمان أو في الاشتراك في حمام السباحة حتى لا أغرق، وكانت طريقتي في الخصام هي الصوم؛ لذلك كانوا يسمونني «غاندي». هو الذي يصمم لي المكتبة والرفوف لوضع الكتب. وهو الذي تابع طبع رسالتي الأولى الفرنسية بالمطابع الأميرية بعد موافقة الأمين العام للمجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في ذلك الوقت، ثم شحن مائة نسخة إلى باريس كما تتطلب السربون في ذلك الوقت. وهو الذي جاء معي لمحل الموبيليات للتفاوض على ثمن غرفة النوم مع زوجتي وتخفيضها من مائتين وعشرين جنيها إلى مائتين وعشرة جنيهات، وأصر عامل المحل على أن يأخذ خمسة جنيهات إكرامية له لوقوفه إلى جانبنا ضد صاحب المحل صدقا كان أم نقاقا. كانت حالتنا المالية لا تسر؛ فكان معاش الوالد ستة جنيهات، نأخذ الدقيق، وهو الأهم، من بقال على ناصية الحارة، وهو السحار، مع تأجيل الدفع حتى أول الشهر، حوالي أربع مرات؛ فالخبز أهم شيء في الأسرة، وكان الفرن قريبا من المنزل على مدخل عطفة العبساوي، ويسكن صاحبه فوقنا.
انتظرت والدتي مرة أختي الكبرى على باب المدرسة بعد أن سعت لنقلها إلى القاهرة بعد زواجها، ونجحت في ذلك، وعاتبتها على أنها تركت أسرتها دون أي معونة مالية، فقصت أختي القصة إلى حماتها التي عايرتنا بهذه الطريقة في الشحاذة مع أنها موافقة على أن تعطي أختي والدتها جنيها أو اثنين شهريا.
ولما توفت زوجته وهي شقيقتي الكبرى لم يستطع العيش بدونها، وتوفي هو بعد شهر، وكانت مقبرته بجوار مقبرتنا، وفي آخر الطريق مقبرة علي إسماعيل، وترك من بعده ذرية صالحة، ولدين وأربع بنات، تزوجن جميعا وأصبح لهن أحفاد يحفظون الود لخالهم.
وكنت مرتبطا بأولاد شقيقتي الكبرى: سوسن، وسهير، وسهام، وسلوى، وأحمد، ومحمد. وكنت آخذ سوسن وسهير سيرا على الأقدام من باب الشعرية إلى شبرا لإرجاعهما إلى والديهما بعد أن تكونا قد قضتا الليل عند جدهما وجدتهما وخاليهما. وكنا نطوي المسافة طيا دون أي ألم في الأقدام خشية من ركوب المواصلات العامة، مثل الترام، الذي كان في ذلك الوقت خيرا مما هو عليه الآن. كما كنت آخذ شقيقاتي؛ سعاد، وفاطمة، وعلية، إلى سينما مصر، وكنا نرقص على سلم المنزل ونقول: «رايحين السيما.» ولما كبرت شقيقاتي، ووالدي محافظ، كن يقصرن الرداء بالحزام فوق الركبة تقليدا للكبار.
أما الأقارب فأتذكر تاجر الجلود بالصنادقية الذي كان قريبا للوالدة، وكنا بين الحين والآخر نذهب إليه لاقتراض بعض المال، خاصة في أوائل العام الدراسي، سيرا على الأقدام خلال شارع المعز لدين الله الفاطمي وخلال القاهرة القديمة. وكانت أخت الحاج حسنين جدي أفقر منا، تعيش أسرتها من عمل اللعب، الوز الملون المتحرك؛ الأب يقطع الأخشاب، والابن يبيع في الأسواق، والثالث غادر هذه الحياة البائسة ليبحث عن رزق أوسع نجارا ، ويأتي لزيارة الأسرة بين الحين والآخر. لم يتزوج بائع اللعب، ومرة أتانا إلى المنزل مصاحبا بامرأة مدهونة بالأصباغ وعلى رأسها قبعة ظانا أن ذلك أعلى قيمة في الحداثة، وقدمها على أنها زوجته التي يتباهى بها. وكان له أخ آخر سائق بين القاهرة والإسكندرية، أتانا مرة وانفجر بالبكاء لأننا أسرة مفككة، فقدمنا له العشاء والمنامة حتى ضحك وجفف دموعه، ولم نره بعدها! وكان أبي له أخ علمه الموسيقى فكون فرقة موسيقية متواضعة يشارك فيها في الأفراح. وكان يزورنا في هذه الفترة «عم إسماعيل» أنيقا لامع الشعر لزيارة الوالدة قريبته، فكانت تلقاه بالحفاوة المطلوبة ولكن الوالد كان يغار منه على والدتي ويفتعل خناقة مع الوالدة، ثم تتم المصالحة، وكان الوالد لا يحب كثيرا أن يأتي. وكان عم حسين حما شقيقتي النابغة يحب الحديث مع الوالدة، هو كثير الكلام وهي تسمع، وكان حلو الحديث. لم يكن أبي يغار منه لأنه لم يكن متأنقا مثل عم إسماعيل، كان بجلباب فضفاضة، أهتم الأسنان. كلاهما تجاوزا السبعين؛ الوالدة، أما عم حسين فقد جاوز الثمانين. اثنان من كبار السن لا خطر من أن يتحادثا لشغل أوقات الفراغ.
وكان الجيران على أنواع: الصديق، في الظاهر والباطن، والمنافق؛ أي الصديق في الظاهر والعدو في الباطن، والعدو في الظاهر والباطن؛ فالصديق في الظاهر والباطن في الشباك الذي أمامنا، وكانت صالحة على مستوى معين من الجمال، بيضاء هيفاء، قليلة الكلام، وعينان براقتان، وفم ضاحك، وقلب نابض. والصديق في الظاهر والعدو في الباطن من فوقنا، زوجة الفران، التي لديها ابن (صلاح) الذي كان متقدما في شئون المرأة عنا، وهو الذي علمني كيف أعاكس المطلقة التي في السطح، بإطفاء نور السلم وتقبيلها. ولما كان ذلك كثيرا علي، انتظرتها وهي خارجة من المنزل وأنا في الشباك وقذفتها بالماء، وهي حركة عدو لا صديق، فمسحت قدمها بمنديلها وواصلت السير. نظرت إلى أعلى ولسان حالها يقول: هل هكذا يفعل العاشقون؟ وندمت وعرفت أنه ليس كذلك تكون المعاكسة؛ أي الغزل. وبعد كل فشل ترن في أذني أغنية محمد عبد الوهاب «عاشق الروح» في آخر فيلم «غزل البنات»: «وعشق الروح ما لوش آخر، لكن عشق الجسد فان.» فهل هناك عشق صادق أم تعويض عن الفشل؟ وقد كان صلاح غير موفق في دراسته وليس له في العلم رغبة لأنه هو الذي سيرث أباه في الفرن. اختلف مع والده مرة عندما عاتبه أنه ليس ناجحا مثل من تحته، وهم نحن، فسكب على نفسه الجاز فأشعلها، ثم أطفأته الجيران، وبقي تأثير الحريق في وجهه، وذهب إلى قريبة له في مدخل درب الشرفا حتى يتصالح مع والده. وكان الوالد فتوة، يدخل المعارك بالعصا بين الأسر أو الأحياء عندما يبدأ الصراع بين درب الشرفا حيث أسكن والعطوف. وعادة ما تكون الغارة علينا لأنهم هم الأقوى، قوة وعددا، وكما صور نجيب محفوظ في «التوت والنبوت» في الحرافيش. وكانت أخته ليلى جميلة ذات صدر بارز يكاد يقع من بروزه. وتثني ظهرها بدعوى التنظيف والكنس.
وكان في وسط الحارة امرأة فتوة، نفيسة، يخشاها الجميع، ولم أكن أعرف لماذا؟ وهي طويلة بيضاء مثل تحية كاريوكا في فيلم «سمارة» و«عفريت سمارة». في يديها صيغة من اليد إلى الكوع، تجلس على باب المنزل أكثر مما تعيش في شقتها. وكان في آخر العطفة ميدان مغلق، سكانه أكثر رقيا، كان لي فيه أصدقاء لم يعيشوا طويلا في صداقاتهم. وكان جمال إسماعيل في الخديوية الثانوية يأتينا لزيارة فريق التمثيل في خليل أغا الثانوية، وكان أخي أحد أعضائها، يتحدثون عن التمثيل، وكان العزبي يغني، واستمر جمال إسماعيل في التمثيل، وتحولت الهواية إلى مهنة، أما أخي فاستمر في السلك الجامعي، وكان أبو زهرة مع هذا الفريق، وأنا مثله تركت الموسيقى إلى الدراسة.
وكنا ونحن صغار في سن ما قبل المدرسة نلعب في الحواري والشوارع. وكانت اللعبة المفضلة لدينا في ذلك الوقت «العوامة» وتتكون من عمودين من الخشب؛ واحد أفقي نضع عليه رجلا والأخرى تدفع بها على الأرض، والثاني رأسي في آخر خشبة أخرى أصغر مثل (الدركسيون) وعجلتين رولمان بلي؛ الأولى أمامية والثانية خلفية . وإذا كان الطفل ميسور الحال وضع عجلة أخرى، الأولى يمينا، والثانية يسارا. وإذا كان ميسورا أكثر ربط العمودين بمفصلة حديدية تسمح بالتحول يمينا أو يسارا. وكان في سطح المنزل الخاص الذي تحته مخازن السحار جملونات للضوء محملة على عواميد خشبية، فكنت أخلع عمودين وبالتالي يكتمل جسم العوامة. وكنا نلعب بها منذ ساعات الفجر الأولى، والشوارع خالية. وفي صباح باكر قام شيخ جليل ذو ذقن بيضاء وفي يده شيشة من على الكرسي على رصيف المقهى وجرى نحوي وأخذ العوامة ورفعها ثم ضربها على الأرض فتفتتت؛ فقد صلى الفجر وأراد أن يجلس على المقهى في هدوء ويدخن الشيشة، وهؤلاء الأطفال يسببون الصخب له. فمنذ ذلك الوقت كرهت المشايخ ونفاقهم، والدين الذي لا يرحم. وكيف لي أن أصلح العوامة من جديد؟ واللعبة الثانية أن شقتنا كان بها غرفة تطل على سطح مخازن السحار، فإذا كنا ميسورين نلبس قباقيب عجل ونسير في السطح، وفي وسط العام الدراسي نأخذ كتبنا للمذاكرة هناك. وعندما قام الصراع بين الإخوان والثورة في 1954م أخفيت منشورات الإخوان في إحدى مواسير الحائط حتى اكتشفها والدي وأخذها وحرقها خوفا علي، وانتابني حزن كبير.
وكنا نلعب في الحارة السباق جريا بالعرض من شرطي «امسك حرامي»، وهي مسافة لا تتجاوز خمسة أمتار، وكانت بالنسبة لنا كافية للسباق. وفي لعبة أخرى نقذف بصفيحة إلى أعلى ونتلقفها باليدين، ومن ينجح في ذلك يكون أبوه ملكا. فعلت ولم يصبح أبويا ملكا، بل دخلت أنا المستشفى لإجراء جراحة عاجلة في الرقبة ما زال أثرها حتى الآن، في شارع عبد العزيز تحت إدارة وزارة المعارف العمومية وهو الاسم القديم لوزارة التربية والتعليم. أما كرة القدم «الكرة الشراب» فكنت أكرهها ولا أحب لعبها لأنني لم أعلم أين الفن فيها، وأحيانا يكون الدفع فيها هو الأساس، وأين الحارة التي تغلق نفسها للاعبين؟ ومهما كبرت الكرة الشراب فلن تتجاوز قبضة اليد، وليس لدينا مال لشراء كرة النفخ، وكانت الخسائر فيها كثيرة؛ الوقوع على الأرض وجروح الركبتين، وولولة الأم، وقسمها أني لن أنزل لألعب في الحارة من جديد، ولكننا كنا نجعلها تحنث بالقسم. ولعبة أخرى هي نط الحبل، ولكنها كانت للبنات أكثر مما هي للصبية. ولعبة «السيكة» التي كانت ترسم على الأرض بالطباشير الأبيض عدة مسافات، ووضع قطعة من الطوب في كل مسافة، ثم القفز عليها من أجل زحزحة الطوب من خانة إلى أخرى، وتسمى أيضا «النطة». ولم تكن الرياضة أمنية الأطفال في ذلك الوقت.
ثم وقعت كنبة على ساقي فانكسر، وتم تجبيره عند برسوم، طبيب الشعب، في ميدان رمسيس. وكانت والدتي تحملني على كتفيها كالحصان من باب الشعرية إلى ميدان رمسيس لتشتري السمك الطازج من رجل مشهور هناك، في الخلفاوي أو الحلفاوي، كان يقعد «بالمشنة» على الرصيف، وتعود والدتي إلى المنزل، وكنت أستغرب كيف حملت هذا الحمل الثقيل ذهابا وإيابا، وتحمل السمك؟ ولما كبرت عرفت أن ذلك هو إخلاص المرأة المصرية لبيتها.
Unknown page