ولما كنت قد اتصلت بأستاذ آخر في مدرسة الدراسات العليا التطبيقية في السوربون، وكان متخصصا في الإسماعيلية والتأويل الباطني، قرأ خطتي الأولى عن الطاقة والحركة، قال لي: «لماذا لا تدرس التأويل عند الإسماعيلية؛ فهم أقرب إلى تحليل الشعور كما تفعل؟» وكانت هذه المدرسة تعطي العلم للعلم مثل الكوليج دي فرانس دون شهادات أو درجات علمية.
واحترت بين الموقفين؛ الأستاذ الأول الذي يريدني أن أدرس علم أصول الفقه وأطوره كي أقترب منه ويقترب مني، والموقف الثاني الأستاذ الذي طلب دراسة التأويل عند الإسماعيلية أو الباطنية؟ فمقولاتي عن الطاقة والحركة والتصور والشعور أقرب إلى التأويل الباطني.
وظللت في حيرة من الأمر، أعجبني تحليل علم أصول الفقه للنص، والمصلحة العامة، وطرق الاستدلال، والتعليل. وأعجبني في نفس الوقت التأويل الباطني وتحليل الشعور وتحويل النص إلى تجربة حية كما تفعل الظاهريات «الفينومينولوجيا». وكان الأستاذ كوربان قد ترجم أجزاء من كتاب «الوجود والزمان» لهيدجر تلميذ هوسرل مؤسس الظاهريات.
وقرأ خطتي الأولى فيلسوف ظاهرياتي ومن اليسار المسيحي وهو بول ريكور مع مونييه، وقال لي: «يبدو أنك ظاهرياتي بالطبيعة؛ لأن منهجك يقوم على تحليل الوعي والبحث عن الدلالات، فلماذا لا تدرس الظاهريات وتؤولها كما تشاء وتطبقها على الظاهرة الدينية؟» وظللت حائرا. فكل النصائح أشعر بجديتها وإمكان اتباعها. ولكن أين لي بالمستشرق الفيلسوف وليس المؤرخ؟ وأين لي بالفيلسوف المستشرق دون الفيلسوف الخالص؟
وقال لي أحد الأساتذة الذي قرأ الخطة لا يشرف عليك إلا فيلسوف مستشرق، أو مستشرق فيلسوف وهو ما لا وجود له إلا عند رينان والذي كان مستشرقا هيجليا، وهيجليا مستشرقا، وكان السؤال: وأين لي برينان الآن وقد توفي في القرن الماضي؟
وأخيرا سجلت الرسالة الأولى عن «مناهج التفسير في علم أصول الفقه» مع مستشرق متخصص في الفقه وأصوله، وسجلت الرسالة الثانية عن الظاهريات وتطبيقها على الظاهرة الدينية بعنوان «من تأويل الظاهريات إلى ظاهريات التأويل، دراسة في المنهج الظاهرياتي وتطبيقه على الظاهرة الدينية». وكنت قد اقترحت قبل ذلك عنوان «الدين العقلي والدين الوجودي عند كانط وكيركيجارد». ثم لم يعجبني العنوان، خاصة بعد أن سجلته في الدراسات العليا بالجامعة وفضلت العنوان الأول «من تأويل الظاهريات إلى ظاهريات التأويل».
وقد استفدت كثيرا من محاضرات أستاذ في تاريخ الفلسفة وهو جان جيتون أشبه بعثمان أمين في مصر، يحاضر في تاريخ الفلسفة مع التحليل الشعوري مثل برجسون. ومتخصص في المسيحية أي الكاثوليكية وفلسفة الدين، واعتقل في الحرب العالمية الثانية منذ بدايتها. ولما عرف الحكم النازي أنه فيلسوف قدموه إلى هيدجر تلميذ هوسرل في جامعة فرايبورج في الغابة السوداء، وكتب دون مراجع وهو في المعتقل اثني عشر جزءا سماها «الفكر الحديث والكاثوليكية». وهو يعيد بناء العقائد المسيحية بناء حديثا طبقا للفلسفة المعاصرة. وكانت رسالته في الدكتوراه عن «الزمان والخلود عند القديس أوغسطين».
وكان بعد محاضراته العامة يجلس في مكتب صغير ملحق بالقاعة الكبيرة مع طلبة الدكتوراه لمدة ساعة، يتحدث فيها الطلاب وهو يراجعهم. فكنت أستمع إلى محاضراته العامة في القاعة الكبرى، وأحضر في المكتب الصغير الملحق بجواره مع طلاب الدراسات العليا، ومرة طلب مني أن أتكلم عن برجسون بجانبه على المنصة أمام الطلاب؛ فقمت وشرحت برجسون في إطار تاريخ الفلسفة الغربية نهاية به وبداية بديكارت والتقاء بالعقلانية والتجريبية عند هيجل؛ فأعجب بتلك الرؤية العامة التي تضع الجزء في الكل وهو ما قمت به بعد ذلك عند العودة إلى مصر في «مقدمة في علم الاستغراب».
ومن حبي وإعجابي ببرجسون مثل هذا الأستاذ؛ ألفت كتابا عن برجسون بالعربية بعد عودتي إلى مصر. لم يلتفت إليه أحد لأنه ليس كتابا مقررا على الطلاب.
وأولت خطتي الأولى عن الطاقة والحركة من خلال كتاب برجسون «الطاقة الروحية» وعن التصور والنظام في كتابه «منبعا الأخلاق والدين».
Unknown page