وهبت بعض الكائنات الضعيفة قدرات حسية متباينة تعوض بها مواضع النقص لديها. وكانت ذات على غرار هذه الكائنات؛ فهي تتمتع بحاسة سمع مرهفة بالنسبة لأصوات التردد المنخفض، تزداد إرهافا بعد منتصف الليل، عندما تخفت أصوات التردد المرتفع (الصادرة من الباعة الجائلين ، والأولاد اللاعبين، والشيوخ المؤذنين، والسائقين المزمرين، والسكان المتصايحين )؛ ولهذا فشلت التحركات المرتبطة بلم شمل الفيديو على التليفزيون في إيقاظها من سباتها، بينما نجحت التأوهات الخافتة التي تلتها في ذلك.
بالإضافة إلى السمع المرهف، كانت ذات تتمتع بنفاذ البصيرة؛ ولهذا لم يكد العرض ينتهي، ويغادر الشنقيطي الشقة بجهازه، ويقترب عبد المجيد من مكانها حتى تظاهرت بالاستغراق في النوم.
تدرجت محاولات عبد المجيد لإيقاظ زوجته من فتح النافذة ثم إغلاقها، إلى التعثر في ساقيها أثناء صعوده إلى الفراش ليحتل مكانه المعهود إلى جوار الحائط، ومن جذب الغطاء المشترك من فوقها ليندرج تحت لوائه، إلى الارتطام عفوا بأليتها المتضخمة. وعندما فشلت كل هذه المحاولات انتقل إلى الوسائل المباشرة؛ فأحاطها بذراعه محاولا تقبيلها، لكن شفتيه لم تتمكنا من لمسها؛ إذ انغرز في حاجبه الطرف المدبب لأحد المسامير البلاستيكية البارزة من بكر شعرها، فاشتعل غضبه وقرر أن يأخذها عنوة، وهنا لم تجد ذات بدا من الاستيقاظ.
التجأت ذات أول الأمر إلى الحجج المعهودة في الترسانة النسائية (والرجالية أيضا في الواقع) من التعب والصداع، إلى الأطفال والوقت المتأخر، لكن عبد المجيد ازداد تصميما، فلم يعد أمامها سوى الاستسلام. ولأنها لم تشأ لتضحيتها أن تذهب هباء، وأيضا كي تسهل له الأمر، وتجنب نفسها أية مضاعفات، فقد استنجدت بالفيديو الداخلي، وقامت بمونتاج خلاق حقا من الفيديو المجاور، تداخلت فيه مشاهد القبلات المستهيمة في أفلام الستينيات العربية، مع لقطات مكبرة (كلوز أب) للنتوء الرجالي (دون أن تغفل الاستعانة - خلسة - بالآخر المبتور)، وفي صحبة موسيقى تصويرية من الأصوات التي التقطتها بسمعها المرهف، وبذلك أمكنها أن تحقق درجة من المشاركة سمحت لعبد المجيد أن يبدأ العرض، الذي احتملته في صبر المرأة المعهود. ولم تطل معاناتها؛ لأن عبد المجيد، في غضبه وانفعاله، كان سباقا إلى تيتر النهائية. نفس ما وصل إليه الشنقيطي مع بعض الفوارق التقنية البسيطة.
سميحة كانت غارقة، حقا، في النوم بين أحضان عشاقها، وكانت صغيرة السن، غير مقدرة للعواقب؛ مما أمدها بجرأة تفتقد ذات إليها. فما إن حاول الشنقيطي إيقاظها، وقد جثم فوقها كالثور، حتى صرخت فيه بحدة: «نام يا وجدي.» واستدارت فوق جانبها جاذبة الغطاء فوقها، فتدحرج بعيدا عنها دون أن يفقد وضعه المتحفز.
استسلمت سميحة لعشاقها، بينما جثم زوجها إلى جوارها يتملى خطوته التالية. كان يعرف من حرب الاستنزاف أن فتح الثغرات يتطلب أن يكون المهاجم في وضع دفاعي، ومسيطرا على مواجهات واسعة، ثم يركز هجومه على مواجهة صغيرة إلى أن تنضم إليه وحدات دعم، لكنه كان في وضع هجومي وليس دفاعيا، ولم يكن مسيطرا على أي مواجهات، ولا يتوقع دعما من أي وحدات؛ لهذا لم يبق أمامه سوى الانسحاب. وكان الانسحاب تكتيكيا، لا يعني التخلي عن الهدف الاستراتيجي.
مضى إلى المطبخ فأعد لنفسه كوبا كبيرة من القهوة، حملها إلى الصالة ووضعها على مسند المقعد الوثير المواجه للتليفزيون، ووضع علبة السجائر إلى جوارها، ثم أعاد الشريط إياه إلى بدايته، وحرك المقعد قليلا بحيث يكون قادرا على رؤية سميحة إذا ما غادرت غرفتها إلى الحمام، ثم أدار الشريط واستقر في المقعد وبدأ يعتمد على نفسه.
تكررت العروض الفيلمية، وتكرر انسحاب الشنقيطي واعتماده على نفسه، كما تقاعست ذات عن المشاركة ولو في مرحلة الاستهلال؛ ولهذا فسرعان ما لحق عبد المجيد بجاره، فما إن ينتهي العرض، ويعود كل منهما إلى موقعه حتى يعد الشنقيطي كوب القهوة ويضعه إلى جوار علبة السوبر، بينما يكون عبد المجيد قد حذا حذوه، وجلس على بعد خطوات، موليا ظهره لظهر جاره، لا يحول بينهما سوى الحائط الفاصل بين الشقتين، ثم يدير كل منهما جهاز الفيديو الخاص به، ويبدأ في الاعتماد على نفسه.
وسواء تم الأمر بالتليباثي أو بدونه، فإن تكنيك «الانسحاب والاعتماد على النفس» انتشر بين سكان العمارة من الجنسين، ومختلف الأعمار (ابتداء من سن المراهقة بالطبع)؛ فما إن ينتهي البث التليفزيوني الرسمي بعد منتصف الليل حتى يكرسوا أنفسهم له، ويبرزون من شققهم في الصباح بعيون محمرة ووجوه متجهمة، وأعصاب مشدودة؛ ذلك أن التكنيك الجديد لم يكن مشبعا تماما، وخاصة بالنسبة للأزواج والزوجات الذين طالت إقامتهم بين الأفخاذ الشرعية؛ فقد تلونت مشاعر هؤلاء وأحاسيسهم بحيث صاروا يفتقدون حرارة المشاركة ولو كانت سلبية، وهو ما يجعلنا نفهم سلوك كل من عبد المجيد وذات يوم حادثة سنجر.
في ذلك اليوم كان عبد المجيد واقعا تحت ضغط شديد مبعثه أمران متباعدان لا رابطة بينهما (كالعادة في هذه الأحوال)؛ أولهما خاص بسيرة عبد الرحيم مبروك، والثاني يتعلق بوديعة نفيسة أبو حسين.
Unknown page