لم تقنط الماكينة وتوسلت بالصبر حتى سنحت فرصة أخرى، عندما مالت عليها ذات لتبعد كتفها عن الجسم الصلب الذي أراد أن يندس أسفل إبطها، فلوت شفتها في اشمئزاز من هذا السلوك ومن جنس الرجال عموما، وتابعت مع ذات الرجل المقصود وهو يبتعد باحثا عن ضحية أخرى، ثم يتجه إلى كتف أنثوية ممتلئة برزت من مسند أحد المقاعد بصورة متعمدة، تعلن عن استعدادها وتلهفها. وشرعت الماكينة في البث، لكن ذات كانت قد انشغلت بفك شفرة الأسئلة المتتابعة التي وجهها ولي العهد حول زحام الطلاب أمام الجامعة. وعندما ترك الأوتوبيس ميدان العباسية مندفعا كالسهم في شارع لطفي السيد، غادرت مقعدها وجذبت الطفل أمامها، وشقت طريقها بصعوبة وسط الأجسام المتلاحمة نحو باب النزول، لكن الخروج من الحمام ليس دائما في نفس سهولة الدخول إليه.
وقفت إلى جوار السائق معتمدة على قضيب حديدي، ثبته إلى القوائم المعدنية الأصلية للسيارة؛ ليحميه من الماجما البشرية. كان شابا في نهاية العشرينيات، مهموم الوجه، ذا لحية نامية، عن إهمال لا عن دروشة، يرتدي قميصا وبنطلونا قذرين مجعدين، كأنما قضى ليلته نائما فيهما. وكان يسوق بقدم واحدة ينقلها بين المسرع والكابح، بينما ثنى الأخرى وأسندها، عارية من جوربها، كاشفة عن أصابع متسخة، فوق عامود المقود.
وزعت ذات اهتمامها بين السيطرة على تحركات أمجد، وحماية مؤخرتها من الاحتكاكات العفوية المقصودة (ومنها واحد بالذات بالغ الصلابة أصابها بالارتباك لأنه أوشك أن يهز دعائم موقفها المعادي لهذا اللون من السلوك)، ومتابعة السباق الذي اشترك فيه السائق مع سيارة يابانية حمراء اللون مزوقة برسم السوبرمان ونسر أسود ذي جناحين هائلين يقودها مراهق في ملابس رياضية وتتصاعد منها موسيقى هشك بشك، مرقت بجوار الأوتوبيس كالصاروخ، ثم أجبرها الزحام على التباطؤ حتى لحق بها الأوتوبيس ولاحقها بعد ذلك عندما انساب المرور، مائلا نحوها حتى أجبرها على الابتعاد نحو الرصيف، لكن سائقها كان مصرا على البقاء في المقدمة، فعالجه سائق الأوتوبيس بانحرافات حادة مفاجئة أجبرته على السير بحذاء الرصيف.
أحاطت ذات ولي عهدها بساعديها، متناسية أمر مؤخرتها، مترقبة في هلع النهاية المحتومة، عندما تجاورت السيارتان، ثم انحرف سائق الأوتوبيس بشكل مفاجئ نحو الشاب فأجبره على الصعود فوق الرصيف والمضي فوقه حتى وجد نفسه متجها نحو عامود نور فأوقف سيارته تماما، منسحبا من السباق، بينما واصل الأوتوبيس طريقه بنفس سرعته، بعد أن ألقى سائقها بنظرة خاطفة غير مبالية على السيارة المهزومة في مرآته. وقبل أن تلتقط ذات أنفاسها ظهرت محطة المستشفى على مرمى البصر، فمالت نحوه، مستجمعة كل ما تملك من رقة، قائلة: «المحطة الجاية وحياتك.»
لم يعبأ السائق بها واحتفظ بنفس سرعته، عازما على تقديم عرض قياسي من نوع آخر؛ إذ أوقف السيارة أمام المحطة بحركة مفاجئة، ألقت بالركاب إلى الأمام، فاصطدم الجالسون بظهور المقاعد التي تواجههم، بينما تدحرج الواقفون في اتجاه مقدمة السيارة، وتعرضت مؤخرة ذات لكثير من الأذى قبل أن تتمكن من مغادرة السيارة مع ولي عهدها.
وقفا في منخفض من الأتربة ينتظران أن يخف اندفاع السيارات كي يعبرا الطريق. وطال انتظارهما بينما انضم إليهما زوجان ثم ثلاث سيدات وعددا من التلاميذ. وانتهز الجميع فرصة سانحة خف فيها ضغط السيارات، فاقتربوا من بعضهم البعض، ثم اندفعوا جريا عبر الطريق مثل الدجاج المذعور. وفوجئت ذات بأن الرصيف الذي بلغته ضيق للغاية ويشغله عدد من سيارات المرسيدس المعروضة للبيع، فجعلت الطفل إلى يمينها ومضيا بين السيارات المندفعة، حتى طفا الرصيف الأصلي، فاعتلياه؛ وبذلك أصبح الطريق ممهدا أمام ولي العهد.
فقبل أن تنتبه إلى نواياه كان قد عهد إليها بحقيبته، وانطلق يجري غير عابئ بصيحاتها، مجبرا إياها على أن تخب خلفه بأقصى ما تملك من جهد، مشيرا إليها بأصابعه أنه يعرف الطريق، منحنيا في ممر جانبي، عابرا بركة من مياه المجاري، متجاهلا أول بوابة في سور المستشفى، ومتوقفا أمام البوابة التالية، حتى لحقت به لاهثة الأنفاس.
لكنه كان قد استحق شرف القيادة التي تولاها بكفاءة ساحبا ذات خلفه، وسط الزحام، وبجوار كوم من الحجارة والمخلفات المعتادة لمسيرة الهدم والبناء، وفوق السلم الداخلي لمبنى تكومت القمامة أمامه، واقتعد درجته العليا عجوز في جلباب نظيف، بادي الإعياء، وعبر قاعة كبيرة حفت بجانبيها الغرف ومقاعد الانتظار وزحمها المرضى، وأسفل سلم خشبي اعتلاه عملاق انهمك في دهان السقف دون أن يعبأ بالمارة الذين لم ينتبهوا إلى وجوده وإلى الطلاء المتناثر من فرشاته إلا بعد أن تلوثت ملابسهم، وإلى باحة صغيرة في الطابق الأرضي اصطفت بها مقاعد خشبية مدهونة حديثا بلون أخضر قاتم، تحيط بباب خشبي في نفس اللون، استقبلتهما خلفه عجوز في ملابس التمرجية المغبرة أعلنت أن الطبيبة لم تصل بعد، وعندما سألتها ذات: «وإمتى تيجي؟» ردت متعجبة: «لما تيجي.» ثم وجهت اهتمامها إلى قادم جديد قبل أن تضيف بشيء من التنازل: «اسألي عنها في القسم.»
بدا الطفل متمرسا بكل هذه التطورات؛ إذ استدار على عقبيه، وقاد أمه في الطريق الذي جاءا منه، وأسفل سلم الدهان إياه، حتى غرفة مجاورة لقسم الأورام، كشف الزجاج المبرقش لبابها المغلق عن ضوء فلورسنتي، لكنه لم يستجب لطرقاتهما، فأطرق برأسه إطراقة العارف الخبير، وانطلق كالسهم، وأمه خلفه، إلى الخارج دون أن تستوقفه غير ثلاث ظواهر؛ امرأة في جلباب أسود وشبشب، معصوبة الرأس بمنديل، انتشرت بقعة داكنة اللون حول صدغها الأيمن ورقبتها (قدرت ذات، بخبرة أيام التفعيص، أنها من أثر جرعة زائدة من الكوبالت)، وتمرجية مترهلة الجسم، لونت القذارة كعبي قدميها العاريين البارزين من شبشبها، تدفع في زهق مريضا ممدا فوق نقالة معدنية، فتصطدم رأسه بحافتها المعدنية، صعودا وهبوطا، في حركة إيقاعية، ورجل خمسيني في ملابس أنيقة وعوينات مذهبة، وشعر مصفف في عناية، برز من إحدى الغرف في عجلة وقد هرع خلفه عدد من الشبان ذوي المعاطف البيضاء.
بلغت المسيرة منتهاها في قاعة انتظار ضيقة، تمثل جزءا من طابق مسروق في المبنى المجاور، فارتمت ذات على أحد مقاعدها البلاستيكية، وهي تتنهد في ارتياح ما لبث أن تبدد.
Unknown page