والعقل وإن كان أشرف القوى وبه صار الإنسان خليفة اللَّه تعالى في العالم فليس دأبه إلا الإشارة إلى الصواب كطبيب يشير على المريض بما يرى فيه بُرأه، فإن قبل منه المريض وإلا سكت عنه، ولذلك جعل له الحمية لتكون نائبة عنه في الدافعة والممانعة؛ ولهذا لا يتبين
فضيلة العقل لمن لا حمية له وبهذا النظر قيل: المهين من لا سفيه له، وقال الشاعر (النابغة):
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتقي مربض المستأسد الحامي
وأيضًا مثل النفس في البدن مثل مجاهد بعث إلى ثغر كي يراعي أحواله، وعقله خليفة مولاه ضم إليه ليسدده ويرشده ويشهد له وعليه فيما يفعله إذ عاد إلى حضرة مولاه
وبدنه بمنزلة فرس دفع إليه ليركبه، وشهوته كسائس حبيث ضم إليه ليتفقد فرسه، ولا قدر لهذا السايس عند المولى، والقرآن بمنزلة كتاب أتاه من مولاه، وقد ضمن كل ما يحتاج إليه عاجلًا وآجلًا كما وصفه تعالى بقوله: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)
وبقوله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)
والنبي ﷺ رسول الله أتاه بالكتاب ليبين له ما يشكل عليه مما يقرؤه من الكتاب.
وقبيح أن ينسى هذا الوالي مولاه، ويهمل خليفته فلا يراجعه فيما يبرمه وينقضه، ويصرف همه كله إلى تفقد فرسه وسائسه، ويقيم سائس فرسه مقام خليفة ربه.
ومن وجه آخر الإنسان من حيث ما جعله اللَّه عالمًا صغيرًا وجعل بدنه كسمدينة والعقل كملك مدبر فيها، وقواه من الفكرة والخيال والحواس كجنده وأعوانه، والأعضاء كرعيته، والشهوة كعدو ينازعه في مملكته ويسعى في إهلاك رعيته، صار بدنه كرباط وثغر، ونفسه كمقيم فيه مرابط، فإن جاهد عدوه فهزمه وقهره على ما يجب وكما يجب حمد أثره إذا عاد إلى حضرته كما ضمنه تعالى حيث قال: (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (٩٥)
فدفاع الهوى أعظم جهاد كما قال ﷺ، وقد سئل: أي الجهاد أفضل فقال: " جهادك هواك ". وإن ضيع ثغره وأهمل رعيته ذم أثره إذا عاد إليه
1 / 90