Dhahab Masbuk
الذهب المسبوك في وعظ الملوك
Genres
فنكس الرشيد رأسه، وأقبل ينكت في الأرض وعيناه تذرفان ثم رفع رأسه فقال: من أين مطعمك ومشربك؟ قال: من عند من يرزقك. قال من ذاك؟ قال: من عند من فلق الحب والنوى وأخرج الحب من الثرى من طعام سهرت فيه العيون، وتعبت في حصاده الأجساد، وحرسته الملائكة حتى أتاني به القدر بلا رنق ولا كدر قال: ألك عيال؟ قال: نعم. قال: ومن هن؟ قال: زوجة. قال أتختلف إلى تجارة أو تحترف في صناعة؟ قال: قد كفاني الله مؤونة ذلك بالعافية. قال: أفلا أجري عليك رزقا تستعين به على بعض أمورك وتستغني به عن الطلب من غيرك. قال: إني بالله أغنى مني بما بذلت لي من ذلك. قال: ألك حاجة؟ قال: نعم أطع الله عز وجل فيما تعلم من سرك، فإنك تصل إلى كل محبوب وتنال به كل مطلوب، ولست تبلغ شيئا من نكاية عدوك من طاعتك لربك فإنك إن أطعته جعل ناصية عدوك بيدك، فلا تشاء أمرا إلا بلغته ولا مكروها به إلا نلته، قال: ألك حاجة غيرها؟ قال أتؤمنني من الموت؟ قال لا أقدر على ذلك. قال: فتجيرني من النار قال: ليست في يدي قال: فتدخلني الجنة؟ قال لست أملك. قال: أفتحيي لي ميتا حتى أسأله عما عاين ورأى؟ قال: ذاك في قدرة غيري. قال: ما أنت إلا كسائر من ترى من رعيتك، غير أن الله عز وجل فضلك عليهم بما أعطاك من هذا الحطام الزائل، واستخلفك في الأرض لينظر كيف تعمل ، وذكر كلاما، ثم خرج فقال الرشيد: الحمد لله الذي جعل في رعية أنا عليها مثله، ولا تزال هذه الأمة بخير ما لم يعدموا هذا ونظراءه وأشباهه.
* أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل الغساني من فسطاط قراءة عليه أخبرنا أبي أخبرنا أبو بكر أحمد بن مروان القاضي الدينوري، قال حدثنا ابن أبي الدنيا ومحمد بن موسى قال: حدثنا عبد الرحمن عن عمه قال: بعث إلي هارون الرشيد وقد زخرف مجالسه، وبالغ فيها، ووضع فيها طعاما كثيرا ثم وجه إلى أبي العتاهية، فأتاه، فقال له: صف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا، فأنشأ يقول:
عش ما بدا لك سالما ... في ظل شاهقة القصور
فقال: أحسنت، ثم ماذا فقال:
يسعى عليك بما اشتهيت ... لدى الرواح وفي البكور
قال: حسن أيضا ماذا فقال:
فإذا النفوس تقعقعت ... قي ضيق حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقنا ... ما كنت إلا في غرور
فبكى هارون، فقال الفضل بن يحيى: بعث إليك أمير المؤمنين لتسره فأحزنته فقال هارون: دعه فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا عمى.
Page 218