Defense of the Sunnah and Reply to Orientalists' Suspicions
دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين ط مجمع البحوث
Publisher
مجمع البحوث الإسلامية
Edition Number
الثانية
Publication Year
١٤٠٦ هـ - ١٩٨٥ م.
Publisher Location
القاهرة
Genres
دِفَاعٌ عَنْ السُنَّةِ وَرَدِّ شُبَهِ المُسْتَشْرِقِينَ وَالكُتَّابِ المُعَاصِرِينَ
تأليف الدكتور محمد محمد أبو شهبة
من علماء الأزهر الشريف
مجمع البحوث الإسلامية - الأزهر الشريف.
المؤتمر العاشر: القاهرة.
الطبعة الثانية: صفر ١٤٠٦ هـ - نوفمبر ١٩٨٥ م
عدد الأجزاء: ١.
أعده للمكتبة الشاملة / توفيق بن محمد القريشي، غفر الله له ولوالديه.
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي].
Unknown page
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله تعالى مالك الملك لا شريك له في ملكه ولا معبود بحق سواه والصلاة والسلام على سيدنا محمد ﷺ الذي أكرمنا الله برسالته وفضلنا بتلك الرسالة على سائر الأمم فجل من قال:
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران، الآية: ١١٠]
ورسالة محمد ﷺ -مرجعها إلى أصلين شريفين هما: القرآن الكريم والسُنَّة النبوية المطهَّرة.
والقرآن أصل الدين ومنبع الصراط المستقيم ومعجزة النَّبِي ﷺ -العظمى وآياته الباقية على وجه الدهر، والسُنَّة بيان للقران وشرح لأحكامه وبسط لأصوله واتمام لتشريعاته والسُنَّة متى ثبتت عن المعصوم ﷺ -فهي تشريع وهداية واجبة الاتباع ولا محالة.
والسُنَّة بعضها بوحي جلي عن طريق جبريل - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وبعضها بالإلهام والقذف في القلب وبعضها بالاجتهاد حسب ما علم النَّبِي ﷺ -من علوم القرآن وقواعد الشريعة وما امتلأ به قلبه من فيوضات الوحي الذي لا يتوقف على قراءة وكتابة وكسب وبحث.
وقد عنيت الأُمَّة الإسلامية بتتبع هذين الأصلين القرآن والسُنَّة عناية فائقة لم تعهد في أمة من الأمم نحو ما أثر عن أنبيائها وملوكها وعظمائها.
فقد حفظ الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - القرآن وتدبروه وفهموه وبلغزه كما أنزله الله إلى من جاء بعدهم من التابعين وحمله التابعين وبلغوه كما تلقوه إلى من جاء بعدهم وهكذا تداوله الجم الغفير الذين لا يحصون في
المقدمة / 1
كل عصر إلى أهل العصر الذين يلونهم وسيظلون إن شاء الله تعالى إلى أن تقوم الساعة مصداقا لقول الله سبحانه:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [سورة الحجر، الآية: ٩] وأما السُنَّة فهي وحي الله وإلهامه إلى نبيه ﷺ وصدق الله حيث يقول:
﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ [سورة النجم، الآية: ١]
وفا نعن نزف البشرى الى قواء العربية وعئاق السمة ومحبيها ذوى الغيرة عليها والى طلاب الحقيقة ومحبى المعرفة فى كل بقعة من بقاع العالم الاسلامى واعربى بل للعالم كله إعادة طبع.
كتاب دفاع عن السُنَّة ورد شبه المسمشرقين والكاب المعاصرين لعالم فضيلة الدكورمحمد محمد أبو شهبة وذلك رَدًّا للشبه وتصحيقا للعقيدة عنل من وصلت إلى عقيدته شبهة آو زيتى وتبيت لمن ثبت لديه اليقين وحب القرآن الكرم والسة النبوية المشرفة.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل
الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية
سامي محمد متولي الشعراوي
المقدمة / 2
بسم الله الرحمن الرحيم
مُقَدِّمَةُ الكِتَابِ:
الحمد لله الذي كرم الإنسان، وميزه على كثير من خلقه بنعمة العقل والبيان، والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد: فمرجع الشريعة الإسلامية إلى أصلين شريفين:
القرآن الكريم، والسُنَّة النبوية.
والقرآن أصل الدين، ومنبع الصراط المستقيم، ومعجزة النَّبِي العظمى، وآياته الباقية على وجه الدهر.
والسُنَّة بيان للقرآن، وشرح لأحكامه، وبسط لأصوله، وتمام لتشريعاته، والسُنَّة متى تثبت عن المعصوم - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ - فهي تشريع وهداية، وواجبة الاتباع ولا محالة.
والسُنَّة بعضها بوحي جلي عن طريق أمين الوحي جبريل - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - (١) وبعضها بالإلهام والقذف في القلب (٢) وبعضها بالاجتهاد على
_________
(١) كما في قصة من أحرم بعمرة وهو متضمخ وهي مروية في " الصحيحين ".
(٢) كما يدل على ذلك الحديث المرفوع «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي، لَنْ تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ» رواه الحاكم عن ابن مسعود وصَحَّحَهُ، وأبو نعيم والطبراني عن أبي أمامة والبزار عن حذيفة، ورواه صاحب " مسند الفردوس " عن جابر.
1 / 3
حسب ما علم النَّبِي من علوم القرآن، وقواعد الشريعة، وما امتلأ به قلبه من فيوضات الوحي والتعليم الإلهي الذي لا يتوقف على قراءة وكتابة وكسب وبحث، وصدق الله حيث يقول: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (١) فالتعليم بالقلم إشارة إلى العلم الكسبي، وما بعدها إشارة إلى العلم الوهبي الذي يضعه الله حيث شاء.
ومتى اجتهد النَّبِي ﷺ وسكت الوحي عن اجتهاده اعتبر هذا إقرارا من الله ﷾ له واكتسب صفة ما أوحى إليه به وبهذا المعنى يعتبر كل ما صدر عن النَّبِي وحيا، وصدق الله حيث يقول: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ (٢)
وقد عنيت الأُمَّة الإسلامية بتبليغ هذين الأصلين عناية فائقة لم تعهد في أمَّة من الأمم نحو ما أثر عن أنبيائها وملوكها وعظمائها، فقد حفظ الصحابة القرآن وتدبروه وفقهوه، وبلغوه كما أنزله الله إلى من جاء بعدهم من التابعين وحمله التابعون وبلغوه - كما تلقوه - إلى من جاء بعدهم، وهكذا تداوله الجم الغفير الذين لا يحصون في كل عصر إلى أهل العصر الذين يلونهم، وانضم إلى الحفظ والتلقي الشفاهي التقييد بالكتابة في عصر النَّبِي ﷺ وبعد عصر النَّبِي ﷺ، حتى وصل إلينا لا تزيد فيه ولا اختلاق ولا تحريف ولا تبديل، مصداقا لقول الله سبحانه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (٣).
_________
(١) [سورة العلق، الآيات: ١ - ٥].
(٢) [سورة النجم، الآيتان: ٣ - ٤].
(٣) [سورة الحجر، الآية: ٩].
1 / 4
وكذلك عني الصحابة بالسُنَّة المحمدية حفظًا وفهمًا وفقهًا وبلغوها بلفظها - وهو الغالب والأصل - أو بمعناها إلى من جاء بعدهم من التابعين، وبلغها التابعون لتابعي التابعين وهَلُمَّ جرًا.
ولم تكن السنن والأحاديث مدوَّنة بصفة عامة في القرن الأول وذلك لما ورد من النهي عن ذلك خشية اختلاطها بالقرآن أو اشتغال الصحابة بها عن القرآن وبذلك انتهى القرن الأول والكاتبون للسُنَّة قليلون وإنْ كان الحافظون لها المقيِّدُون لها في الصدور كثيرين.
ولم يكد يبدأ القرن الثاني حتى بدأ التدوين بصفة عامة، ونشط العلماء لهذا العمل المشكور نشاطًا قويًا، وقد اقترنت حركة التدوين بحركة النقد والتعديل والتجريح والتحرِّي عن الحق والصدق والصواب، ووضع أئمة الحديث وصيارفته لهذا أدقَّ قواعد النقد وآصلها وأعدلها سواء أكان ذلك يتعلق بنقد الأسانيد أم المتون.
وقد تمخضت هذه الحركة التدوينية عن كتب قيمة، وموسوعات ضخمة اشتملت على الأحاديث النبوية التي تصلح للاحتجاج، أو للتقوية والاستشهاد، ومن هذه الكتب ما هو خاص بالصحيح، ومنها ما هو مشتمل على الصحيح والحسن والضعيف، ومنها ما هو خاص بالحديث النبوي، ومنها ما يشتمل على أقوال الصحابة والتابعين.
وقد مني الإسلام من قديم الزمان بأعداء لا ينامون. يُضْمِرُونَ له الكيد وينسجون الخيوط ويحيكون المؤامرات لذهاب دولته وسلطانه.
وهؤلاء لما لم يتمكنوا من المجاهرة بالعداوة لجأوا إلى الدسِّ والخديعة واتبعوا في سبيل ذلك وسائل متعددة: فَطَوْرًا عن طريق إظهار الحب
1 / 5
والتودد لآل بيت الرسول كما فعل السبئيون (١) وطورًا عن طريق التأويل في النصوص الدينية تأويلًا لا يشهد له لغة ولا شرع، ومحاولة إبطال التكاليف الدينية كما فعل الباطنية والقرامطة وأضرابهم.
وقد حاول هؤلاء الأعداء أن يُشَكِّكُوا المسلمين في أساس دينهم وهو القرآن الكريم وذلك بالتشكيك في تواتره وإعجازه وسلامته من الاختلاف والتناقض وصلاحية إحكامه لكل عصر ولكل بيئة، وفي سبيل هذه الغاية اختلقوا الروايات وحرَّفوا معاني الآيات.
وكذلك حاولوا أنْ يُشَكِّكُوا المسلمين في الأصل الثاني وهو السُنَّةُ النبوية وقد اتَّخذوا للوصول إلى هذه الغاية الدنيئة أساليب متعددة، فتارة عن طريق التشكيك في ثبوتها، وأنها آحادية وليست متواترة.
وتارة أخرى عن طريق اختلاق الروايات التي تظهر الأحاديث بمظهر السطحية والسذاجة في التفكير ومخالفة الواقع المحسوس أو العقل الصريح أو النقل الصحيح أو التجربة المُسَلَّمَةِ إلى غير ذلك من الأساليب، وقد حمل لواء هذا التهجُّم من قديم الزمان «النظَّام» ومن على شاكلته من أعداء السُنَن النبوية، وقد عرض للكثير من مقالاتهم في الأحاديث العلاَّمة «ابن قتيبة» في كتابه " تأويل مختلف الحديث ".
وقد جاء القساوسة والمُسْتَشْرِقُونَ في العصور الحديثة فأخذوا هذه الطعون والشبهات فنفخوا فيها وزادوا فيها ما شاء لهم هواهم أنْ يزيدوا وحملوها أكثر مِمَّا تحمل وطلعوا بها على الناس.
ومِمَّا يؤسف له غاية الأسف أنَّ بعض الذين يثقون بكل ما يرد عن
_________
(١) هم أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أظهر الإسلام واستبطن الكفر.
1 / 6
الغربيين من آراء ومذاهب قد تلقفوا هذه الشبهات والطعون ونسبها بعضهم إلى نفسه زورًا فكان كلابس ثوبي زور، والبعض الآخر لم ينتحلها لنفسه ولكنه ارتضاها وجعل من نفسه بوقًا لترَدًّادها، ومن هؤلاء من ضَمَّنَ كُتُبَهُ هذه الشبهات بل وقَوَّى من أمرها وذلك كما فعل الأستاذ أحمد أمين ﵀ في كتابيه " فجر الإسلام " و" ضُحى الإسلام " وهو وإنْ كان جَارَى المُسْتَشْرِقِينَ في كثير مِمَّا زعموا فقد خالفهم في بعض ما حدسوا، وكان عفيفًا في عبارته، مترفِّقًا في نقده.
وبعض هؤلاء المتلقفين كانوا أشد من المُسْتَشْرِقِينَ وَالمُبَشِّرِينَ هوى وعصبية وعداءً ظاهرًا للسُنَّة وأهلها وزاد عليهم الإسفاف في العبارة وأتى في تناوله للصحابة ولا سيما الصحابي الجليل «أبو هريرة» ﵁ بألفاظ نابية عارِيَّةَ من كل أدب ومروءة، وذلك كما صنع الشيخ محمود أَبُو رَيَّةَ في كتابه " أضواء على السُنَّة المحمدية ".
وشتان ما بين صنيع الأستاذ أحمد أمين، وبين ما صنع أَبُو رَيَّةَ، والفرق بينهما فرق ما بين العالم والمُدَّعِي، والباحث الأصيل والمتعلق بأذيال الباحثين.
والبحث في السُنَّة وعلومها ليس هيِّنًا ولا سهلًا، وإنما يحتاج إلى صبر وأناة، وإعمال رويَّة وإطالة نظر، والنظر السطحي والبحث الخاطف لا يؤديان إِلاَّ إلى آراء مبتسرة ونتائج فاسدة.
وقد تكشَّف لي أنَّ بعض الأخطاء التي وقع فيها المُسْتَشْرِقُونَ ومتابعوهم جاءت مِنْ أنهم لم يستكنهوا الأمور، ولم يصلوا إلى الأعماق والجذور، ولم يَسْتَشِفُّوا ما وراء الظواهر، ولم يتمثَّلوا حق التمثل البيئة والعصر
1 / 7
والملابسات التي جمعت فيها الأحاديث، والصفات التي كانت مِنْ ملازمات أئمة الحديث من دين، وعلم، وتثبُّت، وحذر بالغ، وأمانة فائقة، ومراقبة لله في السرِّ والعلن.
وقد قيَّض الله - سُبْحَانَهُ - للسنن والأحاديث من نافح عنها وردَّ كيد الكائدين لها، ولن يخلو عصر من العصور من عالم ينفي عنها تحريف الغالين، وانتحال المُبطلين، وتأويل الجاهلين.
ورحم الله الإمام «ابن قتيبة» فقد عرض لكثير من الشُبَهِ التي أوردها أعداء الأحاديث، وكان له في ردِّها جهاد مشكور مذكور بالإكبار والإعظام.
ولا يزال في كل قُطْرٍ من أقطار الإسلام من شغف بالسُنن والأحاديث، وتعمَّق في دراستها، وجاهد في ردِّ الشبهات عنها، وألَّفُوا في هذا السبيل المؤلفات القيِّمة، من علماء الأزهر وغيرهم من علماء الحجاز والشام والهند والمغرب.
وقد شاء الله سُبْحَانَهُ لي - ولله الحمد والمِنَّة - أنْ أكون من المتشرفين بدراسة السُنَّة والمدافعين عن ساحتها الطاهرة دفاعًا عن علم وتثبت، ودراسة واقتناع، لا عن عصبية وعاطفة، وقد عرضت لبعض هذه الشُبُهَات وَرَدِّهَا رَدًّا علميًا صحيحًا في كتابي الذي نلت به درجة الأستاذية «الدكتوراه» وسمَّيْتُهُ " الوضع في الحديث، وردِّ شُبَه المُسْتَشْرِقِينَ والكُتَّاب المعاصرين " (١).
_________
(١) ألَّفتُهُ عام ١٣٦٥ هـ الموافق سنة ١٩٤٦ م.
1 / 8
ولما صدر كتاب " أضواء على السُنَّة المحمدية " وجدت مؤلفه تلقف فيه كل ما قاله الأقدمُون والمُحَدِّثُونَ من طُعُون في الأحاديث، ورجالها، وما قاله المُسْتَشْرِقُونَ والمُبَشِّرُونَ، وأذنابهم، وحرص أشدَّ الحرص على أنْ يُظْهِرَ السُنَّة بمظهر الاختلاف والتناقض، والتحريف والتبديل، والسذاجة والتخريف، وفي سبيل هذا الغرض زَيَّفَ الصحيح، وصَحَّحَ المختلق المكذوب، وقد رأيت أنَّ الرَدِّ على هذا الكتاب يعتبر رَدًّا لكل ما أثير حول السُنَّة من طُعُونٍ ولغط فمن ثَمَّ أسميته " دِفَاعٌ عَنْ السُنَّةِ، وَرَدِّ شُبَهِ المُسْتَشْرِقِينَ وَالكُتَّابِ المُعَاصِرِينَ ".
وقد بدأت الرَدِّ على صفحات " مجلة الأزهر "، وكتبت فيها سبع مقالات متوالية (١)، ثم جدت أحوال وملابسات توقفت بسببها عن الرَدِّ على صفحات هذه المجلة، ثم أخذت في إكمال الرُدُود وتفرَّغت لذلك، وقد يسَّر اللهُ - وله الحمد والمنَّة - وأعان، فكان هذا الكتاب.
ولا يفوتني أنْ أُنَوِّهَ بما قام به في هذا المضمار أخوان كريمان وشيخان جليلان، هما الأستاذان: عبد الرحمن بن يحيى المعلَّمي اليماني، ومحمد عبد الرزاق حمزة.
فقد أخرج كل منهما في ذلك كتابًا حافلًا، فلهما من الله سبحانه الجزاء الأوفى، ومن الناس الثناء والدعاء.
_________
(١) من المُحرَّم إلى شعبان عام ١٣٨٧ هـ. يعني قبل أنْ يُقدِّمَ الدكتور مصطفى السباعي ﵀ كتابه " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " بعام لأنَّ تاريخ كتابته لمقدمة الطبعة الأولى لكتابه: ١٥ شعبان ١٣٧٩ هـ - ١٢ شباط ١٩٦٠ م وقد ذكر السباعي ﵀ في كتابه: ص ٤٦٠ (*) أنَّ كتابه صدر في عام ١٩٦١ م حين كان يستشفي بالقاهرة.
----------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
في ذكر الرجوع إلى كتاب الدكتور مصطفى السباعي " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي " ذكر في هذه الطبعة، وكذلك طبعة دار السنة (هنا رقم الصفحة ٤٦٠ وفي طبعة دار السنة: ٤٦) وهو خطأ (وإنما هي الصفحة ٤٦٥). انظر " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي "، ص ٤٦٥، الطبعة الثالثة - بيروت: ١٤٠٢ هـ - ١٩٨٢ م، المكتب الإسلامي: دمشق - سوريا، بيروت - لبنان.
1 / 9
وها أنذا أزف كتابي إلى قراء العربية، وعُشَّاق السُنَّة ومُحِبِّيهَا ذوي الغيرة عليها، وإلى طلاَّب الحقيقة، ومُحِبِّي المعرفة في كل قطر من أقطار الإسلام والعروبة، وسأقدِّم بين يدي الرَدِّودَ بحوثًا في منزلة السُنَّة من الدين، والاحتجاج بها، وموجزًا في الأطوار التي مَرَّتْ بها، والأصول والقواعد التي وضعها علماء الرواية وأئمة النقد في الإسلام.
فإنَّ كل ما قلته صوابًا فمن الله، وإنْ كانت الأخرى فالحقَّ أردتُ، والصوابَ قصدْتُ «وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ».
كتبه أبو محمد محمد بن محمد أبو شهبة
من علماء الأزهر الشريف
1 / 10
مَنْزِلَةُ السُنَّةِ مِنَ الدِّينِ:
القرآن الكريم هو الأصل الأول للدين، والسُنَّة هي الأصل الثاني، ومنزلة السُنَّة من القرآن أنها مبيِّنة وشارحة له تُفَصِّلُ مُجْمَلَهُ، وتوضِّحُ مُشْكِلَهُ، وتُقَيِّدُ مطلقه، وتُخَصِّصُ عامَّه، وتبسط ما فيه من إيجاز، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (١) وقال: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ (٢).
وقد كان النَّبِي - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ - يُبَيِّنُ تارة بالقول وتارة بالفعل وتارة بهما، وقد ثبت عنه ﷺ أنه فسَّر الظلم في قوله سبحانه: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (٣) بالشرك، وفسَّرَ الحساب اليسير بالعرض في قوله سبحانه: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ (٤).
وأنه قال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» رواه البخاري وأنه قال في حُجَّة الوداع: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لاَ أَدْرِي لَعَلِّي أَنْ لاَ أَحُجَّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ» وفي رواية «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»
رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
وروى أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عُبادة بن الصامت في قوله تعالى: ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ (٥).
_________
(١) [سورة النحل، الآية: ٤٤].
(٢) [سورة الشورى، الآيتان: ٥٢، ٥٣].
(٣) [سورة الأنعام، الآية: ٨٢].
(٤) [سورة الانشقاق، الآيات: ٧ - ٩].
(٥) [سورة النساء، الآية: ١٥].
1 / 11
أن رسول الله ﷺ قال: «خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ» (١).
مَثَلٌ مِنْ بَيَانِ السُنَّةِ لِلْقُرْآنِ:
قال الله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ (٢) ولكنه لم يبين عدد الصلوات ولا كيفيتها ولا أوقاتها ولا فرائضها من واجباتها من سُننها فجاءت السُنَّة المُحمَّدية فبيَّنت كل ذلك، وكذلك لم يبين متى تجب الزكاة؟ وأنصبتها ومقدار ما يخرج فيها وفي أي شيء تجب؟ فجاءت السُنَّة فبيَّنت كل ذلك.
وكذلك قال الله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاَ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (٣) ولم يبين ما هي السرقة؟ وما النصاب الذي يحد فيه السارق؟ وما المراد بالأيدي؟ ومن أي موضع يكون القطع؟ فبينت السُنَّة كل ذلك.
وقال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (٤) ولم يبين الحد فجاءت السُنَّة فَبَيَّنَتْهُ.
وقال الله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ (٥) ولم يبين لمن هذا الحُكْم فبينت السُنَّة أنَّ هذا الحُكْم للزاني غير المحصن أما المحصن فَحَدُّهُ الرجم.
وقال تعالى: ﴿وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ ...﴾ (٦) ولم يبين قصتهم وجنايتهم فجاءت السُنَّة فبينت قصتهم غاية البنيان، إلى غير ذلك من المثل الكثيرة التي
_________
(١) أخذ بظاهر الحديث بعض الفُقَهَاء، وذهب إلى نسخ التغريب في البكر والجلد في الثيب آخرون.
(٢) [سورة البقرة، الآيات: ٤٣، ٨٣، ١١٠]، [سورة النساء، الآية: ٧٧]، [سورة النور، الآية: ٥٦]، [سورة المزمل، الآية: ٢٠].
(٣) [سورة المائدة، الآية: ٣٨].
(٤) [سورة المائدة، الآية: ٩٠].
(٥) [سورة النور، الآية: ٢].
(٦) [سورة التوبة، الآية: ١١٨].
1 / 12
تفوق الحصر، والتي لولا بيان السُنَّة لها لاستعجم علينا القرآن وتعذَّر فهمه وتدبُّره، وقد كان الصحابة ومن جاء بعدهم يعلمون هذه الحقيقة.
روى ابن المبارك عن عمران بن حصين أنه قال لرجل: «إنك رجل أحمق أتجد الظهر في كتاب الله أربعًا لا يجهر فيها بالقراءة، ثم عَدَّدَ عليه الصلاةً والزكاةً ونحو هذا، ثم قال: أتجده في كتاب الله مفسَّرًا؟ إنَّ كتاب الله أبهم هذا وإنَّ السُنَّة تُفَسِّرُهُ». وروى الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: كان الوحي ينزل على رسول الله ﷺ، ويحضره «جبريل» بالسُنَّة التي تُفَسِّرُ ذلك.
وعن مكحول قال: «القرآن أحوج إلى السُنَّة من السُنَّة إلى القرآن». وقال الإمام أحمد: «إن السُنَّة تُفَسِّرُ الكتاب وتُبَيِّنُهُ»
اسْتِقْلاَلُ السُنَّةِ بِالتَشْرِيعِ:
وقد تستقل السُنَّة بالتشريع أحيانًا وذلك كتحريم الجمع بين المرأة وعمَّتها أو خالتها، وتحريم سائر القرابات من الرضاعة - عدا ما نص عليه في القرآن - إلحاقًا لهن بالمحرَّمات من النسب، وتحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، وتحليل ميتة البحر، والقضاء باليمين مع الشاهد إلى غير ذلك من الأحكام التي زادتها السُنَّة عن الكتاب (١).
حُجِيَّةُ السُنَّةِ:
وقد اتفق العلماء الذين يعتد بهم على حُجية السُنَّة، سواء منها ما كان على سبيل البيان أو على سبيل الاستقلال، قال الإمام الشوكاني: «إنَّ ثبوت حُجية السُنَّة المطهَّرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إِلاَّ مَنْ لا حظ له في الإسلام» (٢).
_________
(١) " مقدمة تفسير القرطبي ": ١/ ٣٧ - ٣٩.
(٢) " إرشاد الفحول " للشوكاني: ص ٢٩.
1 / 13
وصدق «الشوكاني» فإنه لم يخالف في الاحتجاج بالسُنَّة إِلاَّ الخوارج والروافض، فقد تمسَّكوا بظاهر القرآن وأهملوا السُنن، فضلُّوا وأضلُّوا، وحادوا عن الصراط المستقيم.
وقد استفاض القرآن والسُنَّة الصحيحة الثابتة بحُجية كل ما ثبت عن الرسول ﷺ، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ (١) وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ (٢).
. قال ميمون بن مهران: الرَدِّ إلى الله هو الرجوع إلى كتابه، والرَدِّ إلى الرسول هو الرجوع إليه في حياته وإلى سُنَّتِهِ بعد وفاته.
وقال سبحانه: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (٣) وما قضى به النَّبِي ﷺ يشمل ما كان بقرآن أو بسُنَّة، وقد دلَّت الآية على أنه لا يكفي في قبول ما جاء به القرآن والسُنَّة الإذعان الظاهري بل لا بُدَّ من الاطمئنان والرضا القلبي.
وقال: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ (٤) فقد جعل ﷾ طاعة الرسول من طاعته، وحذَّر من مخالفته فقال - عَزَّ شَأْنُهُ -: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (٥) فلولا أنَّ أمره حُجَّة ولازم لما تَوَعَّدَ على مخالفته بالنار.
وقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ (٦).
_________
(١) [آل عمران، الآية: ٣١].
(٢) [سورة النساء، الآية: ٥٩].
(٣) [سورة النساء، الآية: ٦٥].
(٤) [سورة النساء، الآية: ٨٠].
(٥) [سورة النور، الآية: ٦٣].
(٦) [سورة الأحزاب، الآية: ٢١].
1 / 14
وقال سبحانه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (١) فقد جعل سبحانه أمر رسوله واجب الاتباع له، ونهيه واجب الانتهاء عنه.
وأما الأحاديث فكثيرة منها: ما رواه أبو داود في " سننه " عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أَلَا إِنَّنِي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانٌ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ، وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَلَا لُقَطَةُ مُعَاهَدٍ إِلاَّ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا، وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْقِبَهُمْ (٢) بِمِثْلِ قِرَاهُ». قال الإمام الخطابي: قوله: «أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» يحتمل وجهين:
أحدهما: أنَّ معناه أنه أوتي من الوحي الباطن غير المتلوِّ مثل ما أعطي من الظاهر المتلوِّ
والثاني: أنه أوتي الكتاب وحيًا يُتلى، وأوتي من البيان مثله أي أذن له أن يُبَيِّنَ ما في الكتاب فيعم ويخص، ويزيد عليه ويشرح ما في الكتاب، فيكون في وجوب العمل به ولزوم قبوله كالظاهر المتلو من القرآن».
وقوله: «يوشك رجل شبعان ...» يحذِّر بهذا القول من مخالفة السُنن التي سنَّها مِمَّا ليس له من القرآن ذكر، على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض فإنهم تمثَّلوا بظاهر القرآن وتركوا السُنن التي قد ضمنت بيان الكتاب فتحيَّروا وضلُّوا، وأراد بقوله: «متكئ على أريكته» أنه من أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا العلم من مظانه (٣).
_________
(١) [سورة الحشر، الآية: ٧].
(٢) روي مشدَّدًا ومخفَّفًا من المعاقبة أي يأخذ من أموالهم بقدر قراه.
(٣) " تفسير القرطبي ": ١/ ٣٨.
1 / 15
وقد دلَّ الحديث على معجزة لِلْنَّبِيِّ ﷺ -فقد ظهرت فئة في القديم والحديث إلى هذه الدعوة الخبيثة وهي الاكتفاء بالقرآن عن الأحاديث، وغرضهم هدم نصف الدين أو إنْ شئت فقل: تقويض الدين كله، لأنه إذا أهملت الأحاديث والسُنن فسيؤدِّي ذلك - ولا ريب - إلى استعجام كثير من القرآن على الأمَّةِ وعدم معرفة المراد منه، وإذا أهملت الأحاديث واستعجم القرآن فَقُلْ: على الإسلام العفاء.
وفي حديث العرباض بن سارِيَّةَ مرفوعًا: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ». رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وروى الحاكم عن ابن عباس ﵄ أنَّ النَّبِي ﷺ خطب في حُجَّة الوداع فقال: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ، وَلَكِنْ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَمْرِكُمْ فَاحْذَرُوا، إِنِّي تَرَكْتُ مَا إِنِْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ». وروى مثله الإمام مالك في " الموطأ ".
وهي صريحة في أنَّ السُنَّة كالكتاب يجب الرجوع إليها في استنباط الأحكام وقد أجمع الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - على الاحتجاج بالسُنن والأحاديث والعمل بها ولو لم يكن لها أصل على الخصوص في القرآن ولم نعلم أحدًا خالف ذلك قط فكان الواحد منهم إذا عرض له أمر طلب حكمه في كتاب الله، فإن لم يجده طلبه في السُنَّة، فإن لم يجده اجتهد في حدود القرآن والسُنَّة وأصول الشريعة.
وقد وضع لهم النَّبِي ﷺ -هذا الأساس القويم
1 / 16
بإقراره لمعاذ حين بعثه إلى اليمن فقد قال له: «بِمَ تَقْضِي إِنْ عَرَضَ قَضَاءٌ؟ قَالَ: «بِكِتَابِ اللَّهِ». قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟» قَالَ: «بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ». قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟» قَالَ: «أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلاَ آلُو». فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَدْرَهُ وَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ..
وقد فهم الصحابة رجوع جميع ما جاءت به السُنَّة إلى القرآن من قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (١).
روى البخاري في " صحيحه " عن عبد الله بن مسعود قال: «لَعَنَ اللَّهُ الوَاشِمَاتِ وَالمُوسْتَشِمَاتِ، وَالمُتَنَمِّصَاتِ وَالمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ»، فقالت أم يعقوب: «ما هذا؟» فقال عبد الله: «وما مالي لا ألعن من لعن رسول الله، وفي كتاب الله» قالت: «والله لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدته»، فقال: «والله لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه قال الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (٢)».
وهذه الآية تعتبر أصلًا لكل ما جاءت به السُنَّة مِمَّا لم يرد له في القرآن ذكر وعلى هذا الدرب والطريق الواضح من جاء بعد الصحابة من أئمة العلم والدين، روي عن الإمام الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - أنه كان جالسًا في المسجد الحرام يُحَدِّثُ الناس فقال: «لا تسألوني عن شيء إِلاَّ أجبتكم فيه من كتاب الله»، فقال الرجل: «ما تقول في المُحْرِمِ إذا قتل الزنبور؟» فقال: «لا شيء عليه»، فقال الرجل: «أين هذا من كتاب الله؟» فقال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (٣).
ثم ذكر إسنادًا إلى سيدنا عمر أنه قال: «للمحرم قتل الزنبور».
_________
(١) و(٢) و(٣) [سورة الحشر، الآية: ٧].
1 / 17
وذكر ابن عبد البر في كتاب العلم (١) له عن عبد الرحمن بن يزيد: أنه رأى مُحرما
عليه ثيابه، فقال: «ائتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي، قال: فقرأ عليه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (٢).
حَدِيثُ عَرْضِ السُنَّةِ عَلَى القُرْآنِ مَكْذُوبٌ:
أما الحديث الذي يرويه القائلون بعدم استقلال السُنَّةِ بالتشريع، وهو: «إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فما وافق فخذوه وما خالف فاتركوه» فقد بَيَّنَ أئمة الحديث وصيارفته أنه موضوع مُختلق على النَّبِي ﷺ وضعته الزنادقة كي يصلوا إلى غرضهم الدنيء من إهمال الأحاديث، وقد عارض هذا الحديث بعض الأئمة فقالوا: عرضنا هذا الحديث الموضوع على كتاب الله فوجدناه مخالفًا له، لأنَّا وجدنا في كتاب الله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (٣) ووجدنا فيه: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ (٤) ووجدنا فيه: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ (٥)، (٦).
وهكذا نرى أنَّ القرآن الكريم يُكَذِّبُ هذا الحديث ويرُدُّهُ.
وقد حاول بعض المُسْتَشْرِقِينَ وأتباعهم الذين صنعهم الاستعمار على يديه أنْ يُحْيُوا ما اندرس من هذه الدعوة الخبيثة، ولكن الله سبحانه قَيَّضَ لهؤلاء في الحديث - كما قَيَّضَ لأسلافهم في القديم - من وضع الحق في نصابه، وردَّ كيدهم في نُحُورهم: ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (٧)
عِنَايَةُ الصَّحَابَةِ بِالأَحَادِيثِ وَالسُّنَنِ:
ولمكانة السُنَّة من الدين، ومنزلتها من القرآن الكريم عُني الصحابة بالأحاديث النبوية عناية فائقة، وحرصوا عليها حرصهم على القرآن، فحفظوها بلفظها أو بمعناها وفهموها، وعرفوا مغازيها ومراميها بسليقتهم وفطرتهم العربية، وبما كانوا يسمعونه من أقوال النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
_________
(١) [أي " جامع بيان العلم وفضله "].
(٢) و(٣) [سورة الحشر، الآية: ٧].
(٤) [آل عمران، الآية: ٣١].
(٥) [سورة النساء، الآية: ٨٠].
(٦) " إرشاد الفحول ": ص ٢٩.
(٧) [سورة التوبة، الآية: ٣٢].
1 / 18
وَسَلَّمَ -، وما كانوا يشاهدون من أفعاله وأحواله، وما كانوا يعلمونه من الظروف والملابسات التي قيلت فيها هذه الأحاديث، وما كان يشكل عليهم منها ولا يدركون المراد منه يسألون عنه الرسول ﷺ.
وقد بلغ من حرصهم على سماع الوحي والسُنن من رسول الله أنهم كانوا يتناوبون في هذا السماع، روى البخاري في " صحيحه " عن عمر ﵁ قال: «كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد (١)، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله ﷺ ينزل يومًا وأنزل يومًا فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك ...» (٢) الحديث.
وبذلك جمعوا بين خيري الدين والدنيا، فما شغلهم دينهم عن دنياهم ولا شغلتهم دنياهم عن دينهم.
وإذا علمنا أنَّ القرآن والسُنَّة استفاضا ببيان فضل العلم والعلماء، وأنَّ الصحابة كانوا يعلمون أنَّ السُنَّة هي الأصل الثاني للدين، وأنهم كانوا يُحِبُّونَ رسول الله أكثر من حُبِّهِمْ لأنفسهم، وأنهم كانوا يجدون في الاستماع إليه لَذَّةً وروحًا. وأنهم كانوا يعتقدون أنه ما ينطق عن الهوى إنْ هو إِلاَّ وحي يوحى، وأنهم كانوا يجدون فيما يسمعونه منه غذاء الإيمان وزاد التقوى (٣)، وأنه سبيل إلى الجنة (٤).
إذا علمنا كل هذا أدركنا مبلغ حرص الصحابة على استماع السُنن والأحاديث وأنَّ ذلك أمر يكاد يكون من المُسَلَّمَات البدهيات.
وكذلك عنوا بتبليغ السُنن لأنهم يعلمون أنها دين واجبة البلاغ للناس
_________
(١) أي ناحية بني أمية، سميت البقعة باسم من نزلها.
(٢) " صحيح البخاري " - كتاب العلم - باب التناوب في العلم.
(٣) كان الواحد منهم يقول لصاحبه وهو ذاهب إلى مجلس الرسول: «تَعَالَ نُؤْمِنْ سَاعَةً».
(٤) في الحديث الذي رواه مسلم: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ».
1 / 19