دولة سيدات في مملكة نساء
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
دولة سيدات في مملكة نساء
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
دولة سيدات في مملكة نساء
دولة سيدات في مملكة نساء
تأليف
نقولا حداد
دولة سيدات في مملكة نساء
أما سمعت أيها القارئ بالأمازونيات؟ أوما عرفت شيئا عن تاريخهن؟ أو قرأت أساطيرهن؟ فقد حدث هيرودوتس المؤرخ اليوناني المشهور عن أصلهن وفصلهن، وعرفنا منه أنهن قبيلة من الإناث المحاربات، كانت تقطن في بنطس في آسيا الصغرى على شاطئ البحر الأسود، وكانت ذات مملكة مستقلة تحت سيادة ملكة من أصل شريف منها، وكانت عاصمتها تاميسيرا على ضفة نهر ترمودون حسب نص هيرودوتس.
وكانت الأمازونيات يزحفن من تلك المملكة لمحاربة أهل سيتيا، وتراقيا، وشواطئ آسيا الصغرى، وبحر إيجه، وكن أحيانا يتطرقن إلى سوريا، وبلاد العرب حتى مصر.
ويقال في أصلهن إنهن قدمن إلى مدينة ترمودون من بالوس ومايوتوس على بحر أزوف (قزبين)، ويقال إنهن حاربن مع الإسكندر الكبير.
ولم يكن يأذن لرجل أن يقيم في مملكتهن يوما واحدا، وإنما لكيلا ينقرضن كن يزرن مدة أسبوع في السنة قبيلة الجاريجاريين في مملكة جارجاريا المجاورة لبنطس مملكتهن، فالذكور الذين يلدنهم بعد هذه الزيارة يقتلنهم أو يرسلنهم إلى آبائهم إذا كن يعرفنهم. وأما الإناث فيحتفظن بهن وتربيهن أمهاتهن، ويعلمنهن الزراعة والصيد وفن الحرب (بحسب قول المؤرخ سترابو)، راجع دائرة المعارف البريطانية.
ورد في إلياذة هوميروس أنهن غزون ليسيا فهزمهن بيليريفون، وهاجمن الفريجانيس الذين انتصر لهم بريام حين كان لا يزال غلاما على الرغم من أنهن أخذن جانبه ضد الإغريق تحت قيادة ملكتهن بتسيليا التي قتلها أخيل (أو أشيل).
كن يعبدن أريس إله الحرب، وإله تراقيا، والإلهة أرطاميس إلهة النور العذراء، والإله أجكس إله القوة، وكانت أزياؤهن وعاداتهن وتقاليدهن يونانية تقريبا.
وسترى في هذه القصة الغريبة الحوادث العجيبة التقاليد أن القوانين والشرائع التي تناقض الطبيعة البشرية لا يمكن أن تطاع طاعة تامة بصدق وإخلاص، ولا أن تنفذ إلا بالإكراه. فلا يمكن أن تقوى الآلهة على الإله كيوبد (إله الحب)؛ لأن هذا الإله يجاري قوة الله الواحد الأحد الذي قال: «انموا واكثروا، واملئوا الأرض.»
وسترى أيضا أن البشر في العصر الميثولوجي كانوا عن غير قصد ينفذون نبوءات الكهنة أو الكاهنات اللواتي كن يزعمن أنهن نبيات بوحي من الآلهة، يعني أن الناس كانوا متى سمعوا بنص نبوءة يتوجهون إلى تحقيقها من تلقاء أنفسهم، وهم يعتقدون أنهم يفعلون ذلك بدافع من الآلهة، بقوة حافزة في داخلهم، كأن ما يفعلونه قضاء إلهي مبرم لا بد من حدوثه.
وعند التحقيق في حوادث النبوءات كان المحققون يستنتجون أن تلك التكهنات النبوية كانت مكايد ينصبها الكهنة والكاهنات والأشخاص الذين يتصلون بهم وبالهيكل، كهيكل دلفي الذي اشتهر بنبوءاته التي كانت تتحقق بعض التحقيق؛ لأنها كانت مبهمة، وكان المقضي عليهم بمقتضاها يساعدون على تحقيقها منساقين بتأثيرها في أنفسهم.
وسترى في سياق هذه الرواية العجب العجاب من دهاء الكهنة أو الكاهنات، ومقدرتهم في التأثير على الأشخاص والجموع، فاقرأ.
الفصل الأول
في الهيكل
كان الفصل آخر الصيف، وكان الوقت عيد الحصاد تحتفل فيه الكاهنات، ثم سيدات الدولة على رأسهن الملكة، وبقية الأمة وراءهن، في هيكل أجكس إله القوة، وأرس إله الحرب، وهو هيكل فخم رحيب، ووراءه دير الراهبات متصل به، ومن الدير يدخلن من باب خلفي إلى قدس أقداس الهيكل.
وفي مقدم الرحبة مذبح للمحرقات وفيه موقد. وفي جهات الهيكل الأربع أعمدة ضخمة مزخرفة بنقوش بديعة. وفي زاويتي الرحبة قاعدتان مرتفعتان لتمثالي الإلهين أجكس وأرس.
وما إن سمع الحشد الموسيقى الرخيمة من وراء قدس الأقداس حتى ارتفع الستار الذي يحجب قدس الأقداس عنهم، وبدت رئيسة الكاهنات، ووقفت في الصدر والمذبح أمامها، وتوالت وراءها الكاهنات صفين إلى جانبي الهيكل، ثم شرعن يرقصن رقصة العيد الوقورة.
ثم دخلت الملكة من يمين الرحبة تتبعها بطانتها المؤلفة من أربع وصيفات. ثم دخلت من شمال الرحبة هيئة الحكومة المؤلفة من ست وزيرات، ووقفن مقابل صف الملكة لدى المذابح، والجمع قدام المذبح.
وكانت رئيسة الكاهنات تلبس جلبابا من الدمقس، طويلا إلى ما فوق القدمين قدر عشر سنتيمترات، بنفسجي اللون، واسع الأكمام، ذا منطقة حمراء. وعنقها مطوق بطوق أحمر، وعلى رأسها قلنسوة بنفسجية تتدلى منها قدتان حمراوان من الأطلس الفاخر، تتدليان على الخدين حتى العنق.
وفي أيسر منطقتها خنجر صغير ذهبي القبضة والغمد مرصع بالجواهر، وفي يدها صولجان ذو شعبتين بحربتين. وفي قدميها حذاء بسيور. وأما سائر الكاهنات فكن يلبسن كالرئيسة بيد أن لون الجلباب أبيض. وما هو أحمر في زي الرئيسة هو أسود في زي الكاهنات، ولهن خناجر صغيرة أنيقة.
أما ثوب الملكة، فكان قصيرا إلى وسط الساق تحت الركبة بخمسة عشر سنتيمترا، ولونه أرجواني، وعلى رأسها إكليل من ورق الغار الصناعي، وفي منطقتها الصفراء الذهبية خنجر ذهبي مرصع، وفي يدها قوس وسهم جميلان.
وكانت أثواب حاشيتها كثوبها، وإنما كان لونها ورديا فاتحا، وليس معهن خناجر، ولا قسي، ولا سهام. وعلى رءوسهن عصائب مزركشة.
وكانت رئيسة الحكومة تلبس كالملكة، وإنما اللون أزرق فاتح، وفي جبهات العصابات ورقتا غار أو ورقة واحدة حسب الرتبة، وفي أقدامهن شبه صنادل.
وأما سائر سيدات الأمة، فكانت أثوابهن بيضا. •••
ولما انتظم الجمع وانتهى رقص الكاهنات رنم الجمع كله هذه الترنيمة بلحن شجوي يشعر بجلال المقام، والراجح أن النغم كان نهوندا أو عجما.
1
الترنيمة
فيك يا عيد الحصاد
رمز خيرات البلاد
نجتني اللذات مما
قد زرعنا من جهاد
كم دفنا الحب ميتا
نال في الترب الحياة
من دفين البزر جاء
حيوان ونبات
قوة الأحياء فيض
فاض من قلب أجكس
وبه في الحرب نلنا
النصر من كفر أرس
قوة قد حررتنا
من خضوع للرجال
فتمتعنا بخير الز
زرع والضرع الحلال
وكانت رئيسة الراهبات والملكة تنحنيان نحو المذبح كلما انتهى دور من الترنيمة، فتحذو جميع الهيئات حذوهما.
وبعد انتهاء الترتيل، برزت رئيسة الكاهنات من صدر قدس الأقداس نحو متر إلى الرحبة، وأشارت بيدها إشارة إسكات، فصمت الجمع صمتا تاما لسماع نطق الهيكل من فم الكاهنة العظمى. ثم نطقت الكاهنة التي إلى يمين الكاهنة العظمى (الرئيسة) بصوت جهوري بكل تؤدة:
سمعا وإصغاء لنطق الهيكل المقدس لأمة أجكس إله القوة، وأرس إله الحرب. نبوءة العام الجديد لأمة الأمازونيات العظيمة التي دوخت الأقطار وخاضت البحار. أمة الإناث التي نفضت عن عنقها نير الذكور. أمة المحاربات التي حطمت قوس كيوبد إله الحب، وتقلدت خنجر أجكس إله القوة وأحرزت قوس أرس إله الحرب، ونالت إكليل الاستقلال المطلق.
سمعا وإصغاء لنطق الهيكل المقدس، واستيعابا لمعناه.
وهنا تقدمت رئيسة الكاهنات خطوتين إلى الأمام، ونطقت بكل تأن بصوت جهوري: «الويل إذا تخطى جسر نهر ترمدون قمر ساطع حين يكمد القمر اللامع.»
ثم سكتت نحو نصف دقيقة وقالت: «والويل ثم الويل إذا انتصر كيوبد إله الحب على أجكس وأرس حين يقترن القمران.»
وفيما رئيسة الكاهنات تتلو هذه النبوءة، كانت الملكة والحاشية ورئيسة الحكومة ينتفضن فرقا.
ولما انتهى نطق الهيكل حدث لغط في الجمع، وكن يتهامسن: «الويل، الويل، لماذا الويل؟»
وقالت أمازونيا - رئيسة الحكومة - بصوت مسموع: «ماذا ارتكب في مملكة بنطس الزاهرة المجيدة من الآثام حتى تنذر بالويل والثبور؟!»
وفي أثناء ذلك انحنت رئيسة الكاهنات 3 انحناءات ببطء لدى المذبح، ثم عادت إلى قدس الأقداس، وخرجت من الباب الخلفي إلى الدير، وحذت سائر الكاهنات حذوها.
وقبل أن تتوارى الكاهنة الأخيرة، أسرعت أوجستينا سيدة القضاء - أي وزيرته - وأمسكت بثوبها وهمست في أذنها قائلة: «بحق الإلهين أجكس وأرس يا سيدتي الكاهنة ملفينا، استوضحي الهيكل المقدس عن بواعث هذه النبوءة الرهيبة.»
على أن ملفينا أفلتت من يدها مسرعة لتلحق موكب الراهبات من غير أن يبدو عليها استياء كأنها تعدها وعدا صامتا.
أما الملكة فكانت في شديد الاضطراب، وقد أمرت أن يخرج الجمع كله حالا. فجعلت النسوة يخرجن، ثم قالت الملكة للحاشية والوزيرات بصوت متهدج: إن الهيكل المقدس ينذر مملكة بنطس الظافرة بويل رهيب. ويلاه، أية جريمة فظيعة ارتكبت هنا فأغضبت الإلهين العظيمين أجكس وأرس.
فقالت أوجستينا سيدة القضاء: لعل في الخفاء يا مولاتي سعاية لتولية كيوبد إله الحب منصب الألوهية في بنطس إلى جانب الإلهين العظيمين.
فقالت الملكة بنزق: أبدا، لا يمكن أن تعيش يد تنصب تمثالا لكيوبد إله الحب في هيكل أجكس وأرس، بل تعيش اليد التي تحطم تمثالا لكيوبد.
فقالت أمازونيا رئيسة الحكومة: إن امتزاج الزيت بالماء لأيسر جدا من وقوف كيوبد وأجكس أو أرس في هيكل واحد.
فقالت أوجستينا سيدة القضاء: ألا يخشى أن يبنى في الخفاء هيكل لكيوبد ويعبد فيه سرا.
فصاحت الملكة بنزق: الويل لمن تدخل هذه البدعة إلى بنطس.
فقالت أوجستينا: إذن يجب أن تضاف إلى دستور الدولة مادة تقيد الحرية الدينية، وإلا فلا عقاب بلا قانون.
فقالت أمازونيا: هذا التقييد مفهوم من مضمون الدستور نفسه. - ماذا في الدستور يحرم عبادة كيوبد إله الحب؟
إن الأمة الأمازونية أخذت حريتها بالقوة لا بدلال الغرام؛ ولذلك شادت هيكلا لأجكس إله القوة؛ لأن أجكس يمنح القوة، وكيوبد إله الحب يبددها في ساحة العشق؛ ولذلك تحرم عبادته في بنطس.
فقالت فلومينا وهي مديرة الشرطة والأمن: ويحكن! إن الدماء التي أراقتها جداتنا في سبيل تحطيم نير العبودية للرجال ثمنا للحرية والاستقلال، أعاضنا عنها أجكس قوة ونشاطا، وظفرا في الحروب، فماذا يمنحنا كيوبد إذا بذلنا قوانا على مذبح عبادته؟
فقالت أمازونيا: لا يمنحنا إلا عبودية للرجال، وذلا في صحبتهم، وهوانا في مقارنتهم.
فقالت فلومينا سيدة الأمن: أجل، ما انتصرت أمة في حرب إلا بتأليه أجكس، وما انكسرت أمة في قتال إلا منذ ألهت كيوبد.
فقالت الملكة: أي وحق أرس، ما رمى كيوبد سهما على بطل إلا صرعه، وما رمى أجكس سهما على صعلوك إلا جعله بطلا، وعندنا الشاهد على ذلك أنطونيوس كليوبترا وأكتافيوس خصمه.
فقالت أوجستينا: لذلك أقول: يجب أن يكون في القانون صريحا في تحريم عبادة كيوبد.
فاستشاطت الملكة قائلة: من هي المرأة التي تجسر أن تقيم تمثالا لكيوبد في بيتها، أو تبني له هيكلا في بنطس.
فقالت فلومينا: هي المرأة الخائنة.
فقالت أمازونيا: هل في بنطس امرأة تجرأ على ارتكاب الخيانة العظمى؟
فقالت الملكة بصوت متهدج: كلا البتة، إن سيف النقمة مصلت فوق كل عنق يشرئب إلى هيكل كيوبد. إن هذا الهيكل في مملكة جاريجاريا لا في بنطس جارتها، وفي جاريجاريا فقط نقدس كيوبد ونعبده أسبوعا واحدا فقط لتجديد النسل. وأما في بنطس فلن يقام معبد لكيوبد لكي لا يبنى ضريح للحرية وينصب ضريح للاستقلال. هذا هو دستور الدولة الأمازونية الصريح، وكل امرأة في بنطس تعرف هذا القانون بالبديهة ولا تجرأ أن تخالفه.
فقالت أمازونيا رئيسة الوزارة: لعل بعض سيدات الدولة لم يعلمن حتى الآن أن العداء الذي نشأ أخيرا بين حكومتنا وملك جاريجاريا كان سببه أن ذلك الملك كان يحاول إدخال عبادة كيوبد إلى بنطس؛ لكي يمهد السبيل إلى تبادل الصلات بين القطرين، ولا يخفى عليكن ما في ذلك من خطر على استقلالنا، واحتمال وقوعنا تحت نير العبودية للرجال، كما كانت جدات جداتنا من زمان قبل التحرير. وما نطق الهيكل اليوم إلا نذير بهذا الخطر، فحذار من تسهيل السبيل لعبادة كيوبد، وتفشي الحب والغرام في قلوب الأمة.
فقالت الملكة: أجل، إن نطق الهيكل اليوم إنذار مروع يحتاج إلى درس وتفسير وإلى تقرير الخطة التي تتدارك ويلاته. فإلى ديوان الدولة حيث ينعقد المجلس الرسمي، يجب أن تكون الجلسة سرية. وحذار أن تتسرب كلمة من نطق الهيكل ونتيجة البحث فيه إلى الأمة لئلا تتضارب الأقاويل والأراجيف والتخرصات والإشاعات التي تحدث اضطرابا وقلقا، وقد تفضي إلى فوضى. فإلى ديوان الدولة أيتها السيدات.
وفيما هن يخرجن كانت فلومينا - ضابطة الأمن - تقول: إن ما تحاذرن قد حدث، فما خرجت الأمة من الهيكل إلا والنسوة يتقولن.
2
وما إن خرجت سيدات الدولة حتى ظهرت رئيسة الكاهنات في رحبة الهيكل، وإلى جانبها ملفينا الكاهنة المحبوبة عند الرئيسة، والتي تعتبر كأنها كاتبة سرها، وهي التي أمسكت بها آنفا أوجستينا، وطلبت منها الاستيضاح عن سبب إنذار الهيكل، وكانت ملفينا تقول: يظهر يا مولاتي أن بنطس المجيدة قد انغمست في حمأة الجرائم حتى كان نطق الهيكل اليوم مروعا.
فقالت الرئيسة بصوت أجش ضخم كعادتها: أجل، الويل لمملكة بنطس من عبادة كيوبد إله الحب؛ لأن أجكس إله القوة غيور لا يطيق شريكا له في ألوهيته، وأرس مستمد القوة منه في الحروب، فإذا سيطر كيوبد على بنطس غضب الإلهان واستردا قوتهما منا وذلت الدولة، ووقعت تحت نير العبودية للرجال من جميع القبائل، فالويل للفاجرات، الويل للمنغمسات في الشهوات. - ويحهن، وهل لكيوبد جرأة على أن يغزو مملكة بنطس وهي في حماية الإلهين العظيمين أجكس وأرس؟
إن كيوبد يسرح ويمرح الآن خلسة في بنطس، فالويل للأمازونيات إذا استوى كيوبد في هيكل، فلسوف يتبوأ عرش بنطس قمر يكسف الشمس. - وا ويلتاه، وا سوء المصير! - إن الهيكل لمنتقم شر نقمة، وستعلم اللواتي يرحبن بكيوبد أي منقلب ينقلبن. عليك يا ملفينا أن تراقبي الدار والأديار والأسواق والأسوار، فإني أحسب حسابا للغزاة السريين الأشرار.
3
وكانت أوجستينا كامنة في الهيكل تسمع الحديث، ولا تراها الرئيسة ولا ملفينا، فما إن خرجت الرئيسة حتى نادت همسا: ملفينا ملفينا ملفينا.
فارتدت ملفينا إلى الوراء متخلفة عن الرئيسة وقالت: ليس غير ما سمعت من فم الرئيسة. - أليس في وسعك تسقط الأخبار السرية عما حدث في بنطس مما أفضى إلى هذا النطق الرهيب؟ - ليس في وسعي اليوم، ولكن المفهوم أن النطق جرى بسبب أن الحب يلعب أدوارا سرية في بنطس مع أنه محرم على الأمازونيات كل التحريم إلا في جاريجاريا في أسبوع واحد فقط كما تعلمين، حيث تذهب الأمازونيات إلى هناك لعبادة كيوبد لتجديد النسل. - هذا معلوم، وقد مضى ذلك الأسبوع المقدس منذ شهر، فهل تظنين أن أحد العشاق قد تبع عشيقته سرا ولا يزال متخفيا في بنطس؟ أولا تعتقدين أن الحدود بين بنطس وجارجاريا فاصلة بالفعل بين ساحات الغرام وساحات الصيام؟ - بحسب شريعة الدولة يجب أن تكون الحدود خالية من مسارح الغرام.
فقالت أوجستينا مازحة هازلة: أي نعم، كما يخلو الجو من رطوبة الماء متى كانت الشمس ساطعة، حتى إذا غابت الشمس وانسدل الظلام تقاطرت
1
الرطوبة ندى على الأزاهر.
ولا يخفى على القارئ من سياق هذا الحديث أن الراهبة والوزيرة هما على رأي واحد؛ ولهذا يستلذان هذا الحديث ، ولهذا هما صديقتان تتساران بعض الأحيان. فقالت ملفينا مزكية قول وزيرة القضاء ضاحكة: ولذلك نرى الغرام دائم التقاطر هناك على أزاهر القلوب، أليست هذه طبيعة الحباحب - أي سراج الليل - لا ترى عشاقها في ضياء الشمس الباهر، بل في ضياء غرامها تحت جنح الظلام؟
فقالت أوجستينا مستطيبة هذا السجال الشعري: إذن حيث لا تقع أشعة الشمس تتلاقى قلوب العشاق تحت أشعة الغرام، فلماذا تلام؟
فقالت ملفينا جادة: إذا ضعفت أشعة شمس الدولة عند الحدود، فهل يضعف صوت الشريعة الزاجر؟ - بل قولي صوت الطبيعة الآمر. - إنما فارس الشريعة نشأ لكي يكبح جماح جواد الطبيعة، هذه حكمة الآلهة في صيانة قوى الأمة الأمازونية.
فقالت أوجستينا محتجة: حاشا للآلهة أن ترتكب حكمة هوجاء كهذه، إذ لا فائدة من القوى المحبوسة، أيبلغ الجواد إلى آخر شوطه وهو حبيس في إسطبله، لا بد من إطلاق قواه لبلوغ هدفه، والطريقة القويمة لتصريف القوي هي الحب.
فقالت ملفينا مناقشة: يجب أن يكون الحب تحت سلطة القانون؛ لأنه مسراف نزق متهور. - وتنازع الحياة يستلزم النزق والإسراف والتهور، فلا حياة بلا حب.
ويحك الحب عدو استقلالنا، لو اعتنقنا عقيدتك هذه لوقعت بنطس فريسة للأعداء.
فقالت أوجستينا هازئة مقهقهة: حبذا الأعداء! من هم الأعداء، أليس أقرب قبيلة لنا قبيلة جاريجاريا؟ وفيها آباؤنا وإخوتنا وبنونا، وقد ازدحمت بالذكور الذين نلدهم ونرسلهم إلى آبائهم، وقلت عندهم الإناث، وازدحمت بنطس بالإناث اللواتي نلدهن ونستبقيهن، فإذا غزانا أهل جاريجاريا كنا نحن مفترساتهم لا هم مفترسينا. - الويل لك، أتريدين أن نفترس أقرب الناس إلينا؟ - وما قولك إذا كانوا يغتبطون كل الاغتباط بهذا الافتراس؟
فقالت ملفينا متبالهة: يا لك من مماحكة! أيغتبطون في أن تكون بنطس معارك أبطال تتدقق فيها دماؤهم كالأنهار؟
فثارت أوجستينا مازحة: أي نعم، يغتبطون في أن تكون بنطس معارك غرام تتدفق قلوبها بدماء الحب.
وقالت ملفينا متمادية بالتباله، ومستلذة هذا النقاش: أوه، أهذه المعارك تعنين؟ - أي نعم، معارك الأحداق والمهج. - هذه معارك لا نستطيع نحن الانتصار فيها، ينتصر فيها الرجال، ونصبح لهم فيها إماء ورقيقات. - بل يكون النصر لنا حتما، يدخل رجال جاريجاريا إلى بنطس مغزوين لا غازين، ويكونون لنسائها غنائم لا غانمين. - إن تقاليدنا وتواريخ جداتنا تشهد ضد هذه الأماني التي تمنين النفس بها. فما اعتصبت جداتنا ضد الرجال إلا لكي يسحقن نير العبودية لهم، فهل تريدين أن نعود إلى ذلك النير الثقيل؟!
فقالت أوجستينا جادة: آسف أن للتقليد سلطانا على عقلك يا عزيزتي. عند الاختبار تجدين رجال هذا الزمن في معارك الغرام أسارى ونساءه آسرات. - وقينا من شر نظريتك يا سيدة القضاء. أما كانت معارك الغرام تحتدم في أزمان جداتنا القديمات؟ فلماذا كانت جداتنا أسيرات لا آسرات، ورقيقات لا سيدات.
فقالت أوجستينا جازمة: كلا لم تحدث معارك الغرام في زمن جداتنا؛ لأنهن كن أسيرات، وكان الرجال يتمتعون بهن بغير اقتناص كما يتمتعون بأكل الغنم والفراخ والحمام بلا اصطياد. جداتنا قمن بنصف المهمة التي كتبت في سفر تحرير المرأة، هن حررننا من العبودية للرجال، فبقي علينا أن نستعبد الرجال، ولا سلاح لاستعبادهم إلا سهام كيوبد.
فقالت ملفينا مضطربة: ويك أخاف أن كيوبد إله الحب يعيث غراما الآن في البلاد، ويريش سهاما إلى الأكباد إذا كانت سيدة القضاء تتمادى بهذه الفلسفة ... إلخ إني أحس بوقع سهم، فمن أية ناحية ريش هذا السهم إلى هنا؟ (ووضعت يدها على قلبها تتحسس).
فقالت أوجستينا: طبيعي أن يعيث كيوبد في بنطس ويريش السهام على الدوام؛ لأن الحب جوهر الطبيعة، فإذا عاث الجوهر في البلاد كان عيثه زهرا جميلا وثمرا يانعا. - ولكن الحب في شريعتنا جريمة يا سيدة القضاء والعدل، فكيف نتقي هذه الجريمة؟ - هو جريمة في شريعتنا، ولكنه فضيلة في سنة الطبيعة، ولا قبل لنا على مناهضة الطبيعة فيما هو فضيلة في شريعتنا. - ولكن الشريعة نشأت لمقاومة الطبيعة. - حقا ما تقولين. فلنر أيهما تغلب وتفوز أخيرا يا عزيزتي الكاهنة التقية النقية، بالطبع لا تقصي نقاشنا هذا على رئيستك الكاهنة العظمى، وإن كانت قد أوصتك أن ترقبي حوادث كيوبد في بنطس، أثق أنك لا تقصين عليها هذا الحديث لأنك شريكة فيه.
عند ذلك باغتهما وقع أقدام، فالتفتتا إلى حيث كان الوقع، فإذا رئيسة الكاهنات بادية وهي تقول بصوت جهوري: «في الغد يكمد القمر ويعتقل الحب، فارقبي القمر يا ملفينا.»
ثم توارت وملفينا أجفلت وقالت: ويحي لقد سمعت كل حديثنا، وسينزل الويل علينا. - لا تخافي، هل سجدت لكيوبد؟ إذن لم تعصي الشريعة، فلماذا تخافين؟ وأسرعت أوجستينا إلى القصر لكي تحضر مجلس الدولة.
الفصل الثاني
في دار الدولة في قصر الملكة
تركنا الملكة في الفصل الآنف تأمر بعقد مجلس الدولة في بهوها، وهو يحتوي على مقاعد من الخشب السنط مزخرف من الطراز اليوناني القديم، وفي وسطه منضدة من خشب مزخرفة، وقد جلست الملكة أمامه وجلست حوله سائر سيدات الدولة، ما عدا الوصيفات وحاشية الملكة طبعا.
وعلى أرض البهو أبسطة جميلة إغريقية الطراز، وفي الزوايا مناضد عليها تماثيل وأزاهر أمام التماثيل. وعلى الأبسطة فراء، وقسي وسهام، وخناجر وحراب ورماح معلقة في الجدران.
1
وقد افتتحت الملكة الجلسة بورع قائلة: إن إنذار الهيكل لرهيب يا سيدات.
فتلتها أمازونيا رئيسة الوزارة بالقول: لا بد أن في بنطس الآن جريمة سرية مدنسة قدسية شريعتها. فيجب تطهير البلاد منها، وإلا نزل الويل بالبلاد، وما الويل الذي يخشى منه إلا ضياع استقلالها ووقوعها تحت نير العبودية لدولة جارجاريا الطامعة فيها.
فقالت الملكة: طبعا، لا إنذار إلا تجاه جريمة، فالأمر الذي يجب تحقيقه هو الجريمة نفسها.
فقالت فلومينا مديرة الشرطة: طبيعة الجريمة ظاهرة يا مولاتي في نفس إنذار الهيكل، وهي «الويل إذا انتصر كيوبد إله الحب على أجكس إله القوة»، فالجريمة جريمة حب، وبأكثر وضوح هي جريمة اجتماع حبيبين في بنطس.
فقالت أوجستينا متفلسفة: كيف يكون الحب جريمة ونحن لولاه لما وجدنا.
ففسرت أمازونيا رئيسة الوزراء: ليس الحب جريمة إلا في بنطس، وأما في جارتنا جاريجاريا فلا.
فقالت أوجستينا متململة: لا أفهم كيف يكون ناموس طبيعي جريمة هنا وفضيلة هناك، أليست بنطس جزءا من الطبيعة؟ - أمرك غريب ... هل الطبيعة دستور بنطس؟ وهل سنت الشرائع إلى لمقاومة الطبيعة. - دستور بنطس لا يحرم الحب، لا يحرم إلا دخول الذكور إلى البلاد. - ويحرم الحب فيها أيضا؛ لأن إباحة الحب تتضمن إباحة دخول الرجال، ودخولهم خطر على الاستقلال الذي اشترته جداتنا بدمائهن.
فتدخلت الملكة بين أوجستينا وأمازونيا حسما للنزاع في سر الحب، وقالت: يجب أن نفسر نطق الهيكل كلمة كلمة لكي نحدد الجريمة التي اقتضت هذا الإنذار المروع.
فقالت فلومينا: التفسير واضح يا مولاتي، القمر الساطع رمز لشيء، فهل يمكن أن يكون رمزا إلا للرجل.
فقهقهت أوجستينا متهكمة وقالت: ألا يحتمل أن يكون رمزا لحمام أو لغزال، أو لتيس سيعبر الجسر.
فقالت فلومينا ساخرة: لا ريب أن ضياء عيني تيسك يخسف القمر. - ومن ذا يقول إن الظباء والحمام والتيوس لا تعشق. الحب كالدم جار في كل عرق من عروق الطبيعة.
فشق على الملكة التمادي بالجدال في موضوع الحب كأنه يحرك فيها شجونا وهو ما تريد تجنبه في هذا المقام، فقالت: يجب أن نبحث لماذا يغضب الإله إذا مر ذلك القمر الساطع على الجسر حين يكمد القمر، إذا كان المراد بالقمر الساطع رجلا، مع أن دخول أي رجل إلى بنطس في كل حال يعد جريمة.
فقالت فلومينا مستدركة: ولكن ليست كل جريمة تغضب الإله هذا الغضب المنذر بالويل والثبور. والظاهر من النطق الهيكلي أن الإله يغضب إذا اتفق مرور ذلك الرجل الجميل على الجسر حين اكمداد القمر، فيجب أن نبحث عن المراد باكمداد القمر.
فقالت أوجستينا متفلسفة: الأمر واضح، ليس تفسير اكمداد القمر بخسوفه أبعد عن العقل من تفسير القمر الساطع بالرجل الجميل. - ومروره على الجسر حينئذ نذير بدخوله إلى بنطس بجريمة الحب التي تغضب الإلهين.
فقالت الملكة مترددة: إذن عليك بالقبض على الرجل الذي عناه الإنذار قبل أن يمر على الجسر ساعة اكمداد القمر؛ أي خسوفه، وإذا مر قبل الخسوف أو بعده فلا ويل.
فقالت الوزيرة أمازونيا نازقة بصوت عال وهي تخبط المنضدة بيدها: يجب القبض عليه واعتقاله ومقاصته ورفيقته بالموت على كل حال، فاليوم رجل وغدا رجال، وبعد غد أقيال وأخيرا أمراء، وحينئذ على عرش الدولة يا رحمان يا رحيم، وللاستقلال نار الجحيم، ولكن للجميع العبودية.
وكانت الملكة تختلج عند سماع هذا الإنذار فقالت مضطربة: أجل، يجب قطع دابر الذكورة من بنطس وإلا وقعت الأمة الأمازونية تحت نير العبودية للرجال. على ملفينا القيمة على الأمن أن تتخذ التدابير الكافية للبحث عن أي ذكر في بنطس.
فقالت أمازونيا بحزم: ويجب أيضا مراقبة جسر ثرمودون حول ميعاد خسوف القمر واعتقال كل امرأة تمر عليه وتحري أمرها.
فقالت الملكة متلعثمة: وسأنزل العقاب الشديد بكل امرأة يثبت أن لها صلة برجل متخف في بنطس؛ لتكون عبرة لمن تجرأ على تدنيس شريعة الأمازونيات، إني حريصة على استقلالهن كحرصي على عرشي.
فهتفت المؤتمرات: تعيش الملكة، ثلاثا.
ثم قالت أوجستينا: إذن يجب أن نتحقق موعد خسوف القمر فقد يكون قريبا.
فقالت الملكة مؤمنة على كلام وزيرة العدل: على جريجوريا وزيرة الشئون الاجتماعية استدعاء المنجمة الآن لاستفتائها.
فخرجت جريجوريا لقضاء هذه المهمة واستمرت الملكة تقول: حذار أن تتسرب كلمة من هذا المجلس إلى الخارج لئلا تضج البلاد بالأقاويل والأراجيف التي يمكن أن تحدث شغبا. بقيت الفقرة الثانية من نطق الهيكل: «الويل ثم الويل إذا انتصر كيوبد على أجكس إله القوة حين يقترن القمران.»
فقالت فلومينا سيدة المحافظة على الأمن: الظاهر من هذا النص أن المراد بالقمرين القمران المذكوران في الفقرة الأولى: القمر الساطع والقمر المكمد.
فقهقهت أوجستينا وقالت متهكمة: أي نعم، اضبطي قمر الأرض الساطع لئلا يفر إلى قمر السماء المكمد ويقترن به.
فقالت الملكة متحققة أمرا يهمهما: ألا يحتمل يا سيدات أن يكون المراد باقتران القمرين مرور الرجل على الجسر مع حدوث الخسوف في وقت واحد؟
فقالت أوجستينا: عفو مولاتي، إذا كان هذا هو المراد، فالفقرة الثانية تكرار للأولى، ونطق الهيكل يجل عن التكرار الفضولي أو التوكيدي لأنه أكيد بلا توكيد.
فقالت أمازونيا رئيسة الوزارة باسمة: هذا كلام شخص حقوقي قانوني منطيقي. إذن فلا بد أن يكون المراد اقتران ذكر وأنثى في بنطس على كل حال.
فقالت فلومينا كأنها تتشفى: أجل الويل لهما، هذا تدنيس للشريعة، يجب أن يشاد هيكل حقير لكيوبد، ويحرق المجرمان على مذبحه لكي يختنق كيوبد بدخان ضحيته.
فقالت أوجستينا ساخرة: وحينئذ يجب أن تعيني حارسات تراقبن ذلك الهيكل ليلا وتحصين الأمازونيات اللواتي يدخلن إليه، ويسجدن لإله الحب. - واجعلي فوق باب الهيكل سيفا يسقط على كل عنق يشرئب إلى داخله. - حاذري أن يقع سيفك خطأ على عنقك يا عزيزتي. - سيفي لا يخطئ، لا يقع إلى على كل من تمد عنقها إلى هيكل الغرام.
فقالت الملكة متلملة من هذا الحديث كأنها هي المقصودة فيه: إذن فعليك يا فلومينا أن تستخرجي القرينين من مخبئهما، ولو كانا في أعماق الخفاء.
فعادت أوجستينا إلى لباب الموضوع وقالت: إذن يجب أن نفهم ماذا عنى الهيكل بالقمرين لكي نعلم إن كانا يصحان رمزا للعاشقين، ليس في السماء إلا قمر واحد، فما هو القمر الآخر؟
فقالت فلومينا: الجواب عند المنجمة، فمهلا قليلا فإن جريجوريا قد خرجت لاستدعاء المنجمة.
2
لم يمض وقت طويل حتى جاءت جريجوريا مصطحبة المنجمة، وانحنتا باحترام كلي لدى جلالة الملكة وسائر الوزيرات. وكان تحت إبط المنجمة درج من رق الغزال يشتمل على علوم الأفلاك والتنجيم، فأمرتها الملكة بالجلوس على مقربة منها، وسألتها: هل لك أيها العالمة أن تنبئينا متى يقع الخسوف القادم.
فحلت المنجمة الثوب الأطلسي عن الرق، ونثرت الدرج مسافة ذراعين منه، وجعلت تحملق فيه إلى أن قالت: «بحسب تقويم بطليموس سيد الفلكيين وأمير المنجمين، يقع الخسوف القادم في موعد تمام البدر القادم.»
فقالت أوجستينا: عمر القمر الآن عشر ليال ...
فقالت الملكة: إذن بعد 4 أيام يقع الخسوف.
فقالت المنجمة: من غير بد.
فسألت الملكة محققة: هل تعرفين في الفلك قمرا ثانيا؟ - كلا وحاشا يا مولاتي، لا تسمح الآلهة إلا بقمر واحد يقرر صنفا واحدا من الطوالع. - صنفا واحدا من الطوالع؟ أي صنف؟ - صنف الطوالع الغرامية يا مولاتي.
فاختلجت الملكة واختلجت معها جميع الوزيرات مرتبكات، وقالت الملكة: يا للعجب. هل للقمر تأثير في العشق؟ - القمر نفسه عاشق يا ذات البهاء. - يعشق من؟ - يعشق الشمس يا سيدتي، وهل يجد القمر في الفلك عشيقة أجمل من الشمس؟ - أمر غريب. كيف يعشق القمر الشمس؟ - أما رأيت يا ذات الذكاء الباهر القمر يقترن بالشمس حين كسوفها، ولا يفارقها إلا بعد عناق طويل يبثها فيه غرامه.
وكانت جميع الوزيرات مبهوتات من كلام المنجمة. فقالت أوجستينا: أعزك الله يا ذات العلم الواسع، إذن يعنى بانكساف الشمس اقترانها بالقمر، وإذا قيل اقتران القمرين فماذا يعنى؟
فقالت المنجمة محملقة مشرئبة العنق: من يقول هذا القول البديع؟ إنه لشعر ساحر. - لعل إلها قاله. لا أتذكر. - المجد لهذا الإله، إنه لتعبير بديع يراد به الشمس والقمر جميعا، لعل هيلاس إله الغناء والشعر قاله. - هل تعرفين في ميثولوجيا إحدى الأمم نصا على أن الشمس والقمر متعاشقان؟ - في ميثولوجيا غلاطيه أنهما عاشقان، وفي ميثولوجيا كبدوكيا أنهما أخوان، وفي ميثولوجيا قورنثيا أن الكوكبة أندروميديا ولدتهما وتركتهما فاقترنا، نعم أخوان اقترنا. - متى يحدث الكسوف التالي؟
وكانت المنجمة تحملق في درجها وتقول: «بحسب تقويم أستاذ التنجيم بطليموس، يقع الكسوف التالي يوم ميلاد القمر التالي.» - إذن بعد ... - بعد 18 يوما كاملة.
فقالت الملكة مضطربة تريد الخلاص من المنجمة: شكرا لك أيتها العالمة الجليلة، لك المكافأة اللائقة بعلمك جزاء إفاداتك. ونهضت المنجمة وانحنت باحترام كلي ثم خرجت.
3
حدث اضطراب شديد على أثر خروج المنجمة، وجعلت الوزيرات ينظرن بعضهن إلى بعض كأنهن يتساءلن إلى أن قالت فلومينا: يالله! أخوان يقترنان؟ أليس هذا شرا فظيعا؟
فقالت أوجستينا: هذا فظيع، ولكنه جائز في قورنثيا، دعينا من تطبيق الشرائع الآن. لقد انجلى فحوى نطق الهيكل جيدا الآن، وهو أن الويلين ينزلان على بنطس إذا اقترن الأخوان المتعاشقان حين كسوف الشمس، أجل إن اقتران الأخوين أعظم جريمة تزلزل بنطس.
وكانت الملكة مبهوتة تفكر فيما جرى من الحديث فقالت: ويحهما، أيقترنان في بنطس؟ - إن العاشقين يا مولاتي ليسا بعيدين عن هذه العاصمة.
فاستشاطت الملكة مختلجة واجفة وقالت متلعثمة: الويل ثم الويل لهما، سأجعلهما عبرة للأجيال القادمة.
فقالت جريجوريا كاتبة سر الملكة: يمكن حدوث هذا القران الفظيع خطأ يا مولاتي. - وهل يغتفر إلاهانا هذا الخطأ؟ إن دستورنا تدارك حدوث اقتران الأخوين خطأ؛ إذ حتم على كل امرأة أن لا تعرف إلا قرينا واحدا لها، فترسل إليه مولودها إذا كان ذكرا، وتحتفظ به إذا كان أنثى. وهكذا تستطيع أن تنذر بناتها من الاقتران ببنيه؛ لذلك يجب تدارك حدوث هذا الخطأ لئلا تنقض الويلات على بنطس. على فلورينا أن تجمع كل دهاء السماء والأرض لكي تعتقل ذينك العشيقين قبل حدوث الخسوف تداركا للويلات الرهيبة، وعل كل يمكن أيتها الوزيرات أن تفعل ما يجب عليها في اكتشاف هذه الجريمة الهائلة. لقد أعذر من أنذر، وسيكون الانتقام من اللواتي يحاولن بناء هيكل ليكوبد في بنطس انتقاما لا تطبيقه نفس بشرية. سلام عليكن.
وجعلن ينحنين أمام الملكة ويخرجن.
وفيما هي في صحن الدار همست ملفينا في إذن أوجستينا: ما قولك بعظة الملكة. فقالت أوجستينا: هل تستطيع أن تقول غير ما قالت؟
4
ارفض المجلس والملكة دخلت إلى جناح قصرها، وجلست على مقعدها تفكر فيما سمعت، وفيما جرى في الهيكل، وفي نبوءة الكاهنة الكبرى، وقد استوى الهم على نفسها، وجثم على صدرها كابوس الغم، ثم جعلت تحلل النبوءة بنفسها.
لقد انحصر تفسير نطق الهيكل في أمرين صريحين؛ الأول: مرور رجل على جسر ترمودون في حين خسوف القمر، وهذا أمر تداركه أسهل من السهل.
والثاني: اقتران الأخوين في حين كسوف الشمس، وهذا يمكن تداركه إذا نجحت فلومينا في اعتقال أحد الأخوين حين مروره على الجسر، ولكن من هما الأخوان، لا يمكن أن يكون أفريدوس أحدهما. وهب أن هذا الاقتران وقع في بنطس فأنا بريئة منه، والويل لا يقع في القصر.
ثم تقدمت نحو باب حجرة السر وفتحته ثم نادت أفروديت: أفروديت، أفريدوس، أفريدوس!
فجاءها من وراء الحجرة فتى في زي فتى روماني يتشح بوشاح عريض طويل أنيق، وإلى جانبه خنجر جميل صغير، وينحني باحترام وببشاشة ويقول: لبيك يا مليكة فؤادي.
وعانقته عناقا عنيفا ثم قالت: ما ألذ وأجمل أن أراك بزي الفتى الجميل والحبيب المعشوق يا أفريدوس. يا لقوة الجمال في هاتين الساعدين المفتولتين. قالت هذا وهي قابضة على ساعديه.
ويا لقوة السحر في هاتين المقلتين الوضاءتين! ويا لقوة الشعر في هاتين الشفتين العندميتين! ويا لقوة الضياء في هذا المحيا الساطع! أخاف أن تكون القمر الساطع، ويا لقوة البهاء في هاتين الوجنتين المتوردتين.
وكانت تلمس بأناملها جميع هذه المذكورات.
ثم أردفت: يا لقوة الشباب في هذا القد العادل.
وضمته إلى صدرها ثانية وقبلته قبلة النسيم للغصن.
ثم أفلتته، ولكنها لم تستطع أن تفلت من بين ذراعيه ولا شفتاها من شفتيه كأنه لا يرتوي ولا هي ارتوت.
وعادت تقول: أغتبط أيما اغتباط إذ أراك قمرا طالعا بزي الشاب النبيل. ولكن أشفق أن ينم عليك زيك في حين غفلة، فعد وتزيا بزي الوصيفة أفروديت لئلا تباغتك إحدى الوصيفات فيفتضح الأمر.
فقال أفريدوس: ولكني كما أمرت أتجنب الاختلاط بالوصيفات تحاميا للفضيحة.
هذا التجنب حتم على كل حال حتى في حال تنكرك؛ إذ لا يمتنع أن تصادفك إحداهن على حين غفلة، فعد والبس لباس أفروديت. - أخشى حسدهن لي لتمييزك إياي عليهن، يعرفنني وصيفة حديثة العهد في بلاطك باسم أفروديت. - لقد أوهمتهن أنك فتاة من سلالة تتصل بالأسرة المالكة ففقأت بهذا الإيهام عيون الحاسدات. - ولكن ما الذي طرأ حتى صرت ترغبين في اختلاطي بهن. - أشفق عليك من مللك في وحدتك في انتظاري، حين أكون مشغولة بمهام الدولة. - لا أشعر بملل الوحدة لأنني في غيابك أنظم الشعر لأبث فيه غرامي لك. - أما كفى ما في هذين اللحظين من السحر حتى تضم إليها سحر الشعر. إنك قاتلي بما في هذين الناظرين من السحر، ادخل الآن إلى خدرك وتنكر بزي الوصيفة، وهلم إلي.
فدخل إلى مخدعه، وهي بقيت تغازل نفسها، يا للهوى يا لشعلة الغرام في الفؤاد! كلما نفخها جبروت الملك لكي يطفئها صب عنفوان الشباب زيتا عليها ليزيدها ضراما ... ا ... آه ... طلبت السعادة في انتصارات الحروب فوجدتها لا تزيد على نبضة واحدة ضعيفة بين نبضات الغارات العنيفة في المعارك . توسلت إليها في مطاردات الصيد فما أصبت منها إلا علفة من قلب غزال تتخم معدة الجسد. وأما معدة النفس فبقيت جائعة، فتطلبت السعادة في سلطة الملك، فما وجدت إلا سلسلة مشاكل ومشاغل لا تنتهي. عبثا بحثت عن سعادة في أي ناحية من نواحي الحياة ... آه. فما وجدتها إلا في الحب، تبا لدستور بنطس الذي يجعل الحب جريمة، فكأنه يحرم الحياة. إذا قتل الحب، فماذا يبقى من هدف للحياة ... آه ... الحب. الحب الحب، هو إله الطبيعة الذي لا يجحد، هلم إلي يا كيوبد إله الحب، إني ملكة عبادك بل أنا خادمة هيكلك.
عند ذاك جفلها قرع على البار الخارجي. ففتحته وإذا أمها الشمطاء العمياء تبدو منه فقالت مبغوتة: ماذا دعاك إلى هذه المفاجأة يا أماه؟
فقالت أمها: صه، لا تدعي أفريدوس يأتي إلى هنا قبل أن أملي عليك نصيحتي. - نصيحتك؟ بأي شأن يا أماه؟ - بشأن المجلس الذي ارفض منذ برهة، فإن أذني العمياء مرهفتان - استوعبتا كل حوار جرى بينكن من وراء الباب. - كانت جلسة سرية يا أماه. - أتودين أن تكتم أسرارك عن أخلص الناس لك؟ عن أمك؟ عن والدتك الساهرة على سلامتك وسلامة عرشك؟
فقالت الملكة خافقة الفؤاد متلعثمة: أجل أنت أم، بل أنت الملكة الأولى، وستبقين الأم التي لا غنى عن نصائحها. - فاجأتك قبل أن ترسمي أية خطة بشأن أفريدوس، فماذا نويت أن تفعلي؟ - نويت أن أحتم عليه الاعتكاف في القصر لا يخرج منه كعادته للصيد إلى أن ينقضي موعد إنذار الهيكل. - أي سبب تنتحلين لهذا التحتيم؟ - لم أفكر بعد بتلفيق سبب له.
مهما لفقت من أسباب فلا يطمئن، وإذا اشتد قلقه أفضى إلى فضح سره، فما هو بالأبله لكي يطاوع طاعة عمياء، إن الاحتفاظ به هنا في القصر غير مأمون العاقبة. - إن تنكره متقن جدا يا أماه، فهو يحلق عارضيه وشاربيه كل يوم مرتين، وإلى الآن لم يكتشف أحد سره.
منذ اليوم ستكون العيون محملقة جدا يا بنتي. - لا يتسنى لأحد أن يتدخل بشئون قصري. - لا تدرين ماذا تكون عاقبة التدقيق في التحقيق الذي قررتنه، فإذا وقعت الشبهة على أفروديت تتبعت الجاسوسات أفريدوس إلى أعماق قصرك.
فقالت الملكة مضطربة: ورأيك الحكيم يا أماه. - رأيي أن يخرج أفريدوس حالا من القصر بأية حجة من غير أن يرتاب بسبب، دعيه يسبقك إلى قصر الصيد على الحدود حيث ابتدأ تعارفكما، حتى متى صار هناك توعزين إليه أن يتريث موعودا بأن تستدعيه بعد حين إذا لم تلحقي به. - أماه، ويلاه، لا أطيق فراقه يوما واحدا. - أشعر بحسرتك، فقد نكبت بها في شبابي أحيانا، ولكن أتطيقين ضياع عرشك إذن؟ - ويحي، كلاهما متعادلان في الميزان. - وكليهما تخسرين. - يمكن أن يسلما كلاهما إذا منحتني دهاءك.
تحتاجين إلى دهاء عظيم يا بنتي؛ لأني أحس أن مكيدة هائلة مدبرة ضدك، فحاذري. - ويحي، أي مكيدة تحسين؟
عجبا، ألا تشعرين أن نطق الهيكل مبني على تسرب أسرار القصر إليه؛ لأن جواسيس الهيكل يجسن أعماق الزوايا والكهوف، ولعل رئيسة الكاهنات علمت بأمر أفريدوس فنطقت بنبوءة الهيكل بناء على هذا العلم.
فقالت الملكة متفجعة: ويلاه. إذن. دبري تدبيرا ينقذني من هذه المكيدة الهائلة يا أماه من غير أن يفقدني التدبير أفريدوس. هو قمري الذي لا أحتمل غيابه يوما واحدا. - العروش يا بنتي، لا تثبت على أساس العواطف الرملي، يجب أن تكون لك إرادة أصلب من الجلمد، يجب أن تقصي أفريدوس عنك إلى آخر الشهر؛ أي إلى ما بعد حدوث الخسوف والكسوف، وثم نرى ماذا يكون بعد إخفاق نبوءة الهيكل.
فقالت الملكة متضرعة: أماه كيف يمكن السمكة أن تعيش في الوحل إذا نضب الماء؟ وكيف يعيش العصفور في إناء لا ينفذ إليه الهواء؟ وكيف يهتدي الجدي إلى أمه إذا انحجب عنه الضياء؟ وكيف يحيا الحي إذا انقطع عنه الغذاء والضياء والهواء والماء؟ يا أماه، أحين أبلغ إلى قمة جبل الغرام أتزحلق إلى وادي الفراق؟ لا أطيق يا أماه، يجب أن أتبعه على الأثر. - حاذري أن تفارقي العرش في إبان هذه الأزمة الدولية الهيكلية؛ لئلا تقعي فريسة للمكيدة. - أف، أف، ليت هذا العرش لم يكن، ولا كانت متاعبه ومصائبه ... آه ... ما أسعد الراعية في جاريجاريا، وحبيبها يعزف لها على قيثارته! وما أسعد الفلاحة في قورنثية وهي تشد بحبل رفش حبيبها! وما أسعد الحاصدة في كبدوكية وحبيبها يعرقل منجلها بمنجله مداعبا! كرهت العرش يا أماه. - أشفق عليك، حاذري التفريط بالعرش يا بنتي؛ لأن حياتك مقترنة ببقائه. ولدت ذات عرش ولم تولدي فلاحة ولا راعية. كوني حازمة لئلا تضيعي الملك والعرش والحبيب والحياة جميعا. استدعي أفريدوس وأبلغيه تعليماتك.
وخرجت الوالدة لا تلوي، وبقيت الملكة تناجي نفسها: وا ويلتاه! كيف أستطيع فراق ذلك البدر الساطع؟ هل تستطيع عيناي الغمض وهو بعيد عني؟ كل يوم أقضيه إلى جنبه يزيد غرامي به. كذب الشعراء الذين يقولون: «دوام الوصال يورث الملال.» لعلهم لم يذوقوا طعم الحب، فكيف يبدعون التشبيب والغزل والنسيب؟ آه! ولكن لا بد من إبعاده ريثما يمر زمن الإنذار بالويل، فيا قلب تحمل الفراق على أمل اللقاء.
ثم فتحت الباب ونادت أفريدوس.
ودخل أفريدوس فإذا هو أفروديت إلهة الجمال، لا يمكن أن تظنه شابا؛ لأنه أتقن زي الحسناء من كل وجهة، فتلقته الملكة باشة متهللة، وأخذت بيده وطوقت خصره بذراعها وتمشيا معا، وهي تقول: إلى ينبوع السرور، وهو يقول لها: لبيك يا بحر البهجة والحبور.
فقالت: أليس البحر متجمعا من الينابيع، فكيف لا يتعاظم ويتدفق على مرور الزمن كأنه لا ترويه الينابيع؟! - الينبوع يا عزيزتي سلسال قطرات صغيرة تتلاشى في البحر الخضم، فلا تزيده مقدارا.
فقالت بعد صمت هنيهة وتأمل وتفكير في ما هي فيه من بلبال: أفريدوس، من أين تأتي مياه الينابيع؟ - إنها قطرات المطر تتغلغل في الأرض، ثم تتفجر من منافذها. - ومن أين يأتي المطر؟ - من فيض الآلهة. - أي الآلهة؟ - مطر السرور من فيض كيوبد إله الحب، أتنكر أن الحب مصدر كل سرور وسعادة؟ - لا أنكر. - إذن فلماذا لا تبنين هيكلا لكيوبد؟
فأجابت بدلال وابتسام ساطع: بنيت. - أحقيقي؟ أين؟
فأشارت إلى قلبها، وقالت: هنا، بنيت هيكلا واحدا لمتعبد واحد.
فقال أفريدوس متدللا أيضا: كيوبد إله جميع البشر، فكيف تحصرين عبادته في هيكل واحد لمتعبد واحد؟ - أتريد هيكلا يشترك بالعبادة فيه كل الناس؟ - كذا تكون الهياكل، يجب أن تبني هيكلا لكيوبد في بنطس يقصد إليه كل الناس. - أن تعلم أن لا محل له في بنطس، ولا سلطة لي في غيرها. - حيثما تبنين هيكلا لكيوبد تنقاد السلطة إليك صاغرة. - تغضب أمتي. - غضب كاذب. - كيف يكون كاذبا وهو يزعزع عرشي؟! - بل يثبت عرشك؛ لأني أعلم عباد كيوبد في بنطس أشد حرارة وغراما من عباده في أي مكان آخر. - لو بني هيكل هنا لهدمنه في دقيقة وجعلن مكانه قاعا صفصفا.
فقهقه أفريدوس قائلا: ليتك تمتحنين الأمر؛ فترينهن يترامين إليه ترامي الفراش على المصباح. - يرمينني منه بسهام مسمومة. - يرمينك بأغصان الورد امتنانا وشكرا. - هذه مجازفة يا أفريدوس، لا أجسر أن أقدم عليها. - ليس في الأمر مجازفة، يبنى الهيكل في الحدود قرب قصر الصيد الذي اجتمعنا فيه لأول مرة من غير أن يعلم من بناه، وحينئذ ترين الأمازونيات يتهالكن في التردد إليه خلسة وبعد حين جهارا. وفي زمن غير طويل يتلاشى العداء الذي حدث بين دولتي بنطس وجاريجاريا بسبب الدسائس، وثم يتواتر القران بين الأمازونيات والجاريجاريين. وأخيرا يتحول الخصام الكاذب بين الأمتين إلى ولاء صادق. وثمت يتسنى ضم العرشين في عرش واحد تتبوئينه أنت. - وي. وي. وي. لقد شططت كثيرا يا أفريدوس، تزين لي حلما لا أتصور تحقيقه حتى ولا في السماء السابعة، فكيف يمكن ذلك؟
فقال أفريدوس جادا: تقترن ملكة بنطس بملك جاريجاري ...
فقالت مبغوتة غاضبة: ويحك، أتخادعني بحبك لكي تزين لي قرانا بملك جاريجاري، وقد صار ملككم عدوا لدودا لأسرتي؟ إذن كنت تتصنع الغرام بي تصنعا لكي يكون السبيل إلى اتحاد العرشين وضم المملكتين بزواج ملكي أكون فيه أمة لا سيدة. لا، لست أصبر على هذا الخداع لحظة.
فقال أفريدوس بدلال وشمم: أتبلغ منك السذاجة أن تفهمي من مقالي قرانك بغيري؟ هل ترين في النذل الذي يسخر عشقه أو يؤجره لقضاء مأرب لغيره؟!
فقالت مبهوتة: إذن كيف يتحد العرشان بهذا القران، وأنت تقول إنك من سلالة الكهنوت لا من سلالة ملكية؟ - هل تجهلين أن السلالات الملكية مشتقة من السلالات الكهنوتية في كل أمة؟
إذن فلا بدع أن يصير ابن كاهن كبير ملكا. - هل مسخ ملك جاريجاريا إلى خنفسة حتى لا تحسب حسابا لمقاومته. - أجل في جاريجاريا سلطة العرش مستمدة من سلطة الكهنونت، والشعب الجاريجاري ضاق ذرعا من قانون دولتكن الذي أفضى على مرور الزمن إلى تكاثر الذكور في جاريجاريا، وتجمع الإناث في بنطس؛ لأن الأمازونية التي تقارن جاريجاريا في ربيع المغازلة إذا ولدت بنتا احتفظت بها أو ذكرا أرسلته إلى أبيه. فأصبحت بنطس مملكة نساء، وجاريجاريا مملكة رجال قلت فيها النساء. وكثير من الشبان لا يجدون لهم زوجات، وجميع الآلهة تستنكر هذا التفريق. وكيوبد يتضجر منه، فإلى متى هذا الفسق المنافي لسنة الطبيعة؟
وكانت الملكة تفكر في منطق أفريدوس هذا وتزنه وترى الصواب فيه إلى أن قالت: تكاد تريني سعادة لا أتصور وجودها حتى في عالم الآلهة. هذا اقتراح خطير الشأن، يجب البحث فيه مليا قبل تقريره، والبحث في خططه قبل تنفيذه؛ لذلك أود أن تذهب الليلة إلى قصر الصيد في الحدود، وتنتظرني هناك إلى أن أوافيك بحاشيتي للصيد. وهناك يخلو لنا الجو، ونتفاوض في رسم الخطة الضامنة النجاح.
فأجاب أفريدوس مبتهجا: لماذا لا أبقى هنا ثم أذهب مع الحاشية؟ - صرت أخشى انفضاح أمرنا، فأود أن تسبقني بدعوى أنك موفد لتهيئة أجهزة الصيد، وهناك سيرونا الوصيفة المخلصة الحارسة قصر الصيد، والقيمة عليه تكون في خدمتك. - لا أرى موجبا لهذا التدبير العاجل، لعلك تريدين بهذا التدبير إقصائي عنك. - كلا البتة، بالعكس، أود أن أضمن بقاءك إلى جنبي إلى الأبد، لا تسئ الظن بي، وأن أعبد كيوبد فيك، اذهب الليلة إلى قصر الصيد وانتظرني هناك. - كم عمرا أنتظرك؟
فضحكت ملء فمها، وقالت: بعض الأسبوع. - أبعد غد؟ - أو بعده فلا تضجر. - بدأ الضجر منذ الآن. - راع القمر فهو شعاع الحب بين قلبينا. - سأرى القمر مكمدا حيث لا تكونين موجودة تمدينه بضيائك.
فقالت مجفلة : إذن فلا تساهر القمر، بل ناج الشمس في النهار، فهي جمرة الحب بين قلبينا.
فقال متضرعا: بربك لا تبطئي لئلا تحرق تلك الجمرة قلبي، فلا تجدين حين اللقاء إلا رماده.
فقالت ضاحكة: اذهب أعد جوادك، فالشمس على وشك المغيب، تبلغ إلى قصر الصيد في ضحى الغد إذا لم يخنك الجواد.
ثم تلاثما ملاثمة الوداع، وخرج إلى الإسطبل.
الفصل الثالث
في دار القضاء
في دار القضاء بهو رحيب أنيق، فيه مقاعد من خشب السنط، مزخرفة زخرفة إغريقية جميلة، وفي وسطه منضدة من نفس الخشب، وإلى جانبي مقدم البهو عمودان ضخمان يتوسطهما تمثالان للإلهين أجكس وأرس، وقد علق في الجدران حراب وسيوف وقسي وسهام.
1
وكانت أوجستينا سيدة القضاء أو وزيرة العدل جالسة لدى المنضدة، وفي يدها رق القانون تنشره رويدا كلما قرأت لنفسها بعض أسطره. وما هي إلا هنيهة حتى دخلت أودينا الشرطية الكبرى أو ذات الرتبة العالية بثوب خاص يدل على رتبتها، وفي يدها رمح قصير ذو حربة، وضربت الأرض بكعب رمحها ضربا خفيفا، فالتفتت إليها أوجستينا، وسألت: هل جد شيء بشأن المعتقلات التسع على جسر ترمودون؟ - عثرنا على عاشرة يا سيدتي مشتبه بها في فندق التاجرات، فاعتقلناها منذ ساعة. - أية شبهة ظهرت فيها؟ - أعدم يمناي إذا لم تكن رجلا جاريجاريا متنكرا. - وي. وي، إذن عثرنا على القمر الساطع.
فقالت أودينا باسمة: بل على القمر القاتم يا سيدتي، وأما القمر الساطع فما هو إلا المعتقلة السابعة التي أصرت على عدم الإقرار بهويتها لأن الشبهة قويت عليها.
فاشرأبت أوجستينا مهتمة وقالت: ماذا بها من دلائل الشبهة؟ هل كذبت بحقيقة شخصيتها؟ - بل حقيقتها كذبت شخصيتها.
فابتسمت أوجستينا وقالت: كيف؟ هل شرعت تتحول من صنم إلى إنسان؟ - لا، لم تزل صنما لا يتحول، وإنما أليس هذا هو الصباح الثاني لاعتقالها. - بل مضت عليها ليلتان ونهار في المعتقل هنا، فماذا ظهر من كذب شخصيتها؟
فقالت أودينا مداعبة ومشيرة إلى خدها: وجنتا الصنم كذبتا كذبا صراحا. - هل اصفر أحمرها وجلا؟ - بل اخضر ورقا.
فقالت أوجستينا ضاحكة : تبا لك، أتعنين أن شيئا أخضر نبت فيهما؟ - أي وربي، نبت فيهما عذاران ... أ ... جميلان. - ويك، أعذاران؟ أشعر نبت فيهما كما يبدو في خد الفتى؟ - نعم، إذ لم يتسن له أن يحلق منذ وقع أسيرا إلى اليوم، فتأملي أن تري شبحا في ثوب مرأة أنيق وعلى خديه عذاران وعلى شفته شارب.
وجعلت أوجستينا تقلب الرق في يديها وقالت: أما هي سابعة اللواتي قبضت الشرطيات عليهن حين مرورهن على جسر ترمودون حين خسوف القمر؟ - بلى هي، هي. - هل علمت متى عبرت المتنكرة العاشرة على الجسر. - لا، لأن ذلك المتنكر لم يبت في الفندق إلا أمس، وقد جاء إليه متأخرا ولم يخرج منه إلى أن أعتقل. - ائتيني بهذا المعتقل العاشر أولا، وحافظي على السابع جيدا ريثما أنتهي من التحقيق مع ذاك أولا.
وبعد أن خرجت أودينا جعلت سيدة القضاء تخاطب نفسها: حقا، لم يكن نطق الهيكل عبثا، سنرى أي الدواهي في صدري هذين الرجلين المتنكرين، هل لهما غرض واحد، أم أنهما لا يلتقيان عند غرض واحد.
وفي الحال دخلت أودينا تقود رجلا متنكرا بثوب امرأة، وفي يديه غل (سلسلة حديدية) متصل بطوق في عنقه، وعلى وجهه لثام تبدو من خلاله عينان حادتان، لأن السجن في نفس الجدار.
ثم أشارت أوجستينا إلى أودينا أن تخرج، ورفعت أوجستينا اللثام عن وجهه، فبدا لها رجل في آخر سن الشباب، دميم الوجه، ذو أنف أشم. وجلست وهو بقي واقفا أمامها وسألت: كيف دخلت إلى البلد من غير أن تشتبه بك امرأة أمازونية أو شرطية الحدود لكي تصدك عن الدخول.
فقال بأنفة وكبرياء: دخلت مستترا بغلس الليل الماضي. - أين كنت في نهار أمس. - كنت مارا في الحدود. - كيف جرؤت وأنت تعرف أن قانون الأمازونيات يحرم دخول الرجال إلى بنطس تحت طائلة القصاص.
خاطرت مضطرا لأمر ليس فيه مساس بقانون البلاد.
فقالت بنزق: ما هو؟ - لي حبيبة جاريجارية يأباها علي أهلها، وقد اضطهدوها لأجلي، فلجأت إلى عاصمة بنطس وجئت أبحث عنها لكي نتفاوض بتدبير موافق لكلينا. - وي. وي . لقد أصبحت بنطس ملجأ للعشاق ... ما اسمك يا هذا، وما اسم حبيبتك؟ - مولاتي أرجو أن تعفيني من هذا السؤال. العادة عندكن أن الهاربات إليكن بسبب غير مشين يلجأن إلى الهيكل، وكنت مزمعا أن أقصد إليه لكي أسأل عن حبيبتي هناك، فاعتقلت قبل أن يأتي الليل، فأرجو أن تسمحي بأرسالي إلى الهيكل، وهناك يثبت صدق دعواي. - لا أجيب طلبك إلا إذا اعترفت بهويتك وبهوية حبيبتك. - مولاتي، أعتقد أن قضاء الأمازونيات الجليل الشريف يسمح لي بكتمان هويتي وهوية حبيبتي حرصا على كرامتنا، وأظن أن إبلاغك أمري إلى قداسة كاهنة الهيكل الجليلة يريحك ويريحني من عناء التحقيق.
وهنا نادت أوجستينا أودينا وقالت لها: ردي هذا المعتقل إلى كنه ثم تعالي.
وخرجت أودينا بالمعتقل، وشرعت أوجستينا تكتب على رق صغير:
إلى سيدتي الورعة المبجلة رئيسة الكاهنات في دار القضاء
عندي رجل جاريجاري متنكر معتقل يزعم أن له حبيبة لاجئة إلى الهيكل فرارا من اضطهاد أهلها لأجله، ويأبى أن يبوح باسميهما، فإذا كانت عندك هذه الفتاة فأرجو أن ترسليها مخفورة إلى دار القضاء لأجل التحقيق في دعوى هذا المعتقل.
أوجستينا
سيدة القضاء
ثم لفت الرق وربطته بشريط أحمر، ولما عادت أودينا قالت: أرسلي هذه الرسالة إلى الهيكل، ثم ائتيني بذات العذار؛ لأنه يلوح لي أن هذا المتنكر الآخر الذي كان في الفندق ليس القمر الساطع الذي مر على الجسر حين اكمداد القمر. - حتى ولا نيزك هابط يا سيدتي. - أجل، أظن أن ذات العذار هي بيت القصيد. - نعم هي بيت القصيد الذي يصعب تفسيره. - هل حاولت استنطاقها؟ - لم أستنطق منها إلا لفظة «لا»، فهي مغرمة بهذين الحرفين كأن اللغة كلها مجتمعة فيهما.
فقالت أوجستينا ضاحكة: أوه، كثيرا ما تجتمع اللغة كلها في حرفين. - أفي حرفين بلا معنى كحرفي «لا». - لا بل كحرفي حاء وباء ففيهما كل معاني الوجود. - أي وربي. فيهما كل لاهوت كيوبد وفلسفته، ليتك تشرحينهما يا سيدتي. - ائتيني بذات العذار لعلي أتوفق إلى شرحهما.
2
وما هي إلا دقائق حتى عادت أودينا بفتى بثوب امرأة أمازونية مغلولة اليدين، والسلسلة متصلة بطوق في عنقها، وعلى ظهرها جعبة سهام، وعلى كتفها الأيسر قوس معلقة للدلالة على أنها كانت في الصيد، فقالت أوجستينا: دعيني يا أودينا أستوحي الفلسفة من التي أشرت إلى مصدرها.
فخرجت أودينا، وكانت أوجستينا تتفرس في المتنكرة المعتقلة جيدا معجبة بجمالها، ثم أشارت إلى مقعد لدى المنضدة وقالت آمرة: جلوسا.
فقعدت المتنكرة، واستأنفت أوجستينا التحقيق: أتأسف يا ذات العذار أن دار الاعتقال خلو من موسى يحلق بها عارضاك، ولكنك لو أنبأتني منذ أول ساعة أنك اعتدت الحلاقة كل صباح وكل مساء لاختلقت لك موسى من أعماق الخفاء، فعذرا. أين الموسى التي كنت تحلق بها عارضيك فآتي بها إليك؟
فتبرم الفتى، ولم يجب بكلمة. - عذرت إقلالك من الكلام أمس إذ كانت رئيسة الشرطة تحقق معك؛ لأن الحياء من طبع النساء الجاريجاريات المتحصنات. ولكن الإقلال من الكلام الآن إنما هو جبن لا يليق بالرجال الجاريجاريين الذين تربطنا بهم أوثق صلة، صلة الدم. فمعظمهم آباؤنا وإخوتنا وأولادنا. هل تريد أن تنكر شهادة هذا العذار اليانع؟ (قالته بابتسامة). - لا أنكره. - حسنا، ولماذا كنت تحصده كل يوم، وهو نصف حسن الفتى الجميل؟ - لأنه مستنكر في بنطس. - ومن هي المرأة التي لم تستنكر وجودك معها بدونه؟ - لا أعرف امرأة أمازونية لا تستنكر وجود رجل معها في بنطس.
فقالت باسمة ابتسامة شعاعية: أما كنت تأوي إلى منزل امرأة حسناء؟ - لا. - أين كنت تبيت؟ - في السجن. - وقبل السجن؟ - كنت في الحدود.
فقالت سيدة القضاء أوجستينا متدللة مبالغة في الابتسام: من هي المرأة السعيدة التي كانت تتوقع قدومك إليها؟ - لا أدري. - إلى أين كنت تقصد إذن؟ - إلى أي فندق في هذه العاصمة. - لماذا قدمت؟ - لأجل النزهة، ولمفاخرة رفاقي في مشاهدة عاصمة مملكة النساء التي لم يدخلها رجل. - هل كنت تجهل القانون الأمازوني الذي يحرم على الرجال الدخول إلى مملكة النساء وعقاب مخالفته؟ - كنت أعلمهما ولهذا تنكرت. - أما حسبت حساب الافتضاح وهذا المصير الذي انتهيت إليه؟ - إن طيش الشباب يخطئ الحساب يا سيدتي.
وكانت تحملق في عينيه باشة إلى أن قالت: لا يطل من هاتين المقلتين إلا سحر بابل. أمن أصل بابلي أصل سلالتك؟ - ربما. - لا أرى في هذه النظرات الخالبات طيشا. بل أرى ذكاء يضارع البهاء الذي يشع من هذا المحيا الوضاح، فلست أقتنع أنك غبي لا تحسب حساب وقوعك تحت الشبهة. أعتقد أنك لم تقدم على هذه المجازفة إلا اعتمادا على قوة تنقذك. فما هي؟
فقال الفتى متبسما: ما هي إلا رحمة القضاء بي. - لقد صحت فراستي. لم تطمع برحمة القضاء بك إلا اعتمادا على شفاعة قوية بك. فما هي؟ - ما هي إلا شفاعة القضاء نفسه. - يلوح لي أنك عظيم الأمل بتسامح القضاء، ففي مقابل أية محمدة تمني نفسك بعطف القضاء ورحمته؟ - التسامح يا مولاتي في مقابل محمدة لا يعد رحمة بل هو جزاء للمحمدة؛ لأن المحمدة ثمن له، فأنا آمل برحمة القضاء لأني شاعر بأنه مفعم «رحمة وعطفا بلا ثمن.»
فقالت أوجستينا متهللة كأنها أصابت غرضا في نفسها: ولكن قانون الأمازونيات صارم (مشيرة إلى رق القانون الذي في يدها وناشرة منه بعضه). - القانون كتابة بكماء في رقعة صماء، والقضاء ينشره ويطويه كما يشاء.
حينئذ شعرت أوجستينا بفيض الشعر في مخيلتها وقالت متغزلة: يخيل لي أنك توكل هذه النظرات الساحرات بأن تشل اليد التي تنشر القانون، ثم لفت الرق كما كان وردته إلى موضعه إذ كان الفتى يجيب باسما: إذن لم يخب أملي برحمة القضاء. - هل كانت تلك المرأة المسبية بهذه اللواحظ تطمع برحمة القضاء بك. - عسى أن تعثري على امرأة كهذه فتسألينها. - ما خاطب ظني في سحر هاتين المقلتين الفاتنتين، سحر يشق الطريق إلى الدهاء. سؤال آخر، هل تتفضل بالإجابة؟ - أشكر لسيدة القضاء الموقرة لباقة تحقيقها التي فرشت طريق الإجابة بزهور العطف واللطف، وأطلقت لساني من قيد الاعتصام بالصمت كلما أنذر السؤال بخطر الوقوع في الفخ. فتفضلي بالسؤال: هل تتوقع أن الحسناء التي كانت تتوقع نعيم اللقاء بك تقبل الرحمة بك من يد القضاء؟ (تشير بيدها). - جواب هذا السؤال يا سيدتي في فم المستقبل.
فقالت أوجستينا متململة: ما أسعد حظ تلك المعشوقة العاشقة التي يختم حبك لها باب أسرارها بختم لا يستطيع أحد فكه، ترى هل هي جديرة بهذا الإخلاص؟
أشكر حسن عقيدتك بأسيرك يا مولاتي. هل عندك دليل على وجود عاشقة لي معشوقة؟
فتنهدت أوجستينا وقالت متحسرة: أعرف عاشقة لك، لا أدري إن كانت معشوقة لك (تعني نفسها).
فقال الفتى مختلجا: ما أتعس المعشوق الذي يجهل السعادة التي هو فيها.
فردت أوجستينا: وأتعس منه العاشقة التي غمضت عينا عشيقها عن ملامح غرامها. - تبا لهذا العشيق، أأعمى هو؟
فوقفت أوجستينا متئدة، فوقف هو أيضا، وقالت: سلمت عيناه. بربك أتعلم كيف يفهم فرخ الحمام شوق قرينته الحمامة له؟
فأجاب الفتى مترددا: أظن أنه متى هدر لها أحس قلبه ينبض نبضا قويا كنبض قلبها، أعني أن القلبين يتخافقان. - إذا كنت أنت لا تحس هذا الإحساس فبربك هات يدك لعلك تحسه.
وأمسكت بيده ووضعتها على أيسر صدرها، وهو استردها بكل لطف، ففهمت هي من استردادها إباءه ثم قالت: ما أشقى الحمامة التي لم ينبض قلب الفرخ مع نبض قلبها. آه لقد كانت حياتك في يدي فأصبحت وحياة قلبي في يديك أيها الفاتن الفاتر، امنحني نظرة حب وبسمة غرام، وفي ليل ونهار تكون مطلقا إلى الحدود.
ثم قبضت على كفه كأنها تريد ضمه إلى صدرها، وقالت: إن القضاء مرن في يدي. أصدر حكمي بإطلاق سراحك بدعوى أنك فتى طائش لم تقدر العواقب حق قدرها، ولم يثبت عليك سوء قصد، فهل تسمح الآن ...؟
وهمت به، ولكن أودينا باغتتها قبل أن تنال مأربا منه وقالت: بلاغ رسمي يا مولاتي.
فارتدت أوجستينا مبغوتة وقالت: أدخلي هذه المتهمة إلى الحجرة السرية، وأوصدي الباب دونها. واستدعي ناقلة البلاغ.
ففعلت أودينا كما أمرتها سيدة القضاء، ثم أومأت لها هذه أن تخرج من حيث أتت.
3
ما هي إلا دقائق معدودة حتى دخلت جورجيا رئيسة وصيفات الملكة وانحنت باحترام كلي لسيدة القضاء وقالت: السلام على سعادة وزيرة القضاء. - سلاما، وسمعا وطاعة للبلاغ الملكي الشريف .
فقالت جورجيا بوضوح وصراحة: بلسان جلالتها أسأل: ماذا بدا من الشبهات في أمر المعتقلات؟ - ظهر بينهن رجل متنكر ليس في العير ولا في النفير، ما هو إلا جحش لا يعرف كيف «يبرطع». ثم ظهر آخر متنكرا، وهو فتى قلبه طامور أسرار، وأنا مجدة في استخراج أسراره. - وي. وي. وي. فتى متنكر؟ هذا ما كنا نتوقعه، بأي زي؟ - بزي صيادة.
فقالت جورجيا مازحة: أغزالة كان ذلك التعس يطارد؟
فقالت أوجستينا تعقب على مزاح جورجيا بمزاح فظيع: لعله كان يطارد أفعى. - أأحمق هو حتى يطارد أفعى إلى قلب بنطس؟ لا بد أنه كان يطارد حمامة كانت تستدرجه إلى أن وقع في الفخ. - إلى الآن لم يبد منه أن له صلة بحمامة ولا بغزالة، يزعم أنه جاء للتفرج والنزهة. - أجاء هذا الشقي لكي «يتفرج» على حمامته كيف يحز عنقها وينتف ريشها. - ينكر أية صلة له بأنثى. - أتبلع منك السذاجة يا سيدتي الوزيرة إلى حد أن تصدقي زعمه بعد أن قضيت عمرا في خدمة القضاء؟ أرجو عدم المؤاخذة على هذه الجسارة مني. - خمسة عشر عاما لم أر في خلالها أحدا طائشا طيش هذا الفتى الأحمق. - بلسان جلالة الملكة أقول: يجب أن تتحققي إلى أن تكتشفي المرأة التي له صلة بها. - قد يكون الفتى صادقا فيما يقول، وليست له صلة بامرأة. - يجب أن تخلقي له صلة بامرأة لكي تتم نبوءة الهيكل بجريمة، ولكي يتم العقاب ويرتفع ويل الهيكل عن البلاد. - إن كان لا بد من ذلك، ففي طوقي أن أجعل دار القضاء دار تمثيل جرائم، ومنصة لتنفيذ الأحكام بالإعدام أيضا لكي يرضى الهيكل. - لماذا تكلفين نفسك كل هذا العناء؟ كلفيها نصفه فقط، ففي قبضة يدك الآن أحد المجرمين، فاختلقي له شريكة بالجريمة، واقضي عليهما. - حتى ولو كانا بريئين؟ - إن كان هذا بريئا فإعدامه لا يسوء أحدا، ولا العالم ينقص فردا واحدا قبل ميعاد نقصه، وفي كل دقيقة يأتي للعالم بدل ما ينقص منه. - ولكن عدل القضاء غير عدلك. - دعي هذا العدل، ففي بلاط الأحكام يتلون العدل. السلام عليك.
ثم خرجت جورجيا مرحة، وما إن خف وقع أقدامها حتى استدعت أوجستينا أودينا رئيسة الأمن.
4
ودخلت أودينا فبادرتها أوجستينا: أما سأل أحد عن المتهمة السابعة؟
فأجابت أودينا ضاحكة: أذات العذار تعنين؟ من تجسر أن تسأل عنها، وتعرض نفسها للشبهة، ماذا اكتشفت من أسرار وفيها الحاء والباء المحتويان على الوجود المطلق؟
فقالت أوجستينا: إني اكتشفت في صدرها أبا هول مصريا، وفي عينيها سحرا بابليا، وفي ثغرها شعرا هوميروسيا يونانيا، وفي قلبها حكمة سليمان العبراني، وفي نفسها شمم بلقيس بلميرا، وفي رأسها ذكاء أوقتافيوس الروماني. - لله درها. إذن هي مجموعة أمم. - أجل مجموعة الأمم وقعت في قبضة القضاء اليوم. ائتيني بها من الحجرة السرية التي أودعتها فيها.
وفيما أودينا عائدة من الحجرة السرية بالفتى قالت: أشعر باختلاج في قلبي يا سيدة القضاء، أمن سحر بابل هذا يا ترى؟
فقالت أوجستينا: لا تنسي أن تقفلي الباب وراءك، ثم أشارت للفتى أن يقعد فقعد، وقالت: من العبث التسآل عن هويتك يا هذا؛ لأنه لا ينتظر من متهم أن يصدق في جواب.
فقالت: إني في إعجاب عظيم يا سيدتي بفهمك الحقائق من غير سؤال. - أتظنني فاهمة الحقيقة منك تمام الفهم؟ - لا أدري ما هي الحقيقة التي فهمتها عني يا مولاتي. - أعني أنك من الطبقة التي تمتطي الجياد، وتحمل النجاد، وتصارع الآساد، وتنازل الأبطال، وتبارز الأقيال.
لقد سبقت فقررت يا سيدتي أنك لا تنتظرين مني جوابا جازما بهذا الشأن، فأخاف أن أجيب جوابا جازما فتنخدعين بصدقي. - يقينا لا يهمني من أنت ما دام القانون عندنا لا يميز بين الأشخاص، فحسبي أن المتهم أمامي بشخصه جسدا وحياة وعقلا وروحا. أجبني على سؤال واحد فقط بلا مراوغة ولا مواربة؛ لأن الأمر باستنطاقك جازم، من هي المرأة التي تتصل بها؟ - تضطرينني يا سيدتي أن أعود إلى صمتي السابق بعد أن أطلقت لباقتك العنان للساني، واستوفى تحقيقك حقوقه. - أجل، لا أرجع بوعدي لك أن أفسر ذنبك بالطيش والتهور لتبرئتك. ولكن إنجاز هذا الوعد لا يمنعني من الاستقصاء عن المرأة التي لك صلة بها. فإذا لم تبح باسمها وهويتها فلا بد من إنزال العقاب الشديد بك، وهذا ما أريد أن أتداركه ولو بتضحية مني. - شكرا لعطفك الذي لا يقدر بثمن، إذن اختصري الطريق واحكمي بالعقاب الآن، ولا مقتضى لانزعاج كلينا بالتحقيق العقيم.
ووقفت وأمسكت بأذنه وقالت: لله منك عنيدا مكابرا، حاولت إنقاذك فعاونت القدر على معاكستي.
وطوقت خصره بذراعها وهمت أن تضمه إلى صدرها، وإذا بأودينا تفاجئها قبل أن تفعل؛ فانتفضت إلى الوراء بهزة كأن تيارا كهربائيا نفضها، وكأن تيارا عصبيا كلح وجهها وصفره، وقالت: ماذا عسى يا أودينا؟
5 - بلاغ رسمي يا ذات القضاء والدينونة والصفح والمغفرة.
فقالت أوجستينا وهي تبتغي أن تختلق عذرا لسبب وقوفها إلى جانب الفتى، أمسكت بيده وقالت: أدخلي ذات العذار إلى حجرة السر هذه.
وبعد أن نفذت هذا الأمر قالت لها: أدخلي جورجيا ناقلة الأمر الملكي.
فدخلت جورجيا وحيت التحية الرسمية، فقالت أوجستينا: أمر جلالتها. - هل اعترف الفتى بشيء؟ - حاولت أن أجرعه مقيئا عسى أن يتقيأ اعترافه الصادق فلم أنجح، ولا أظنني أنجح. - تهدديه بالحكم بالموت، وإن أصر على الكتمان فأصدري الحكم، وأسمعيه نصه، وإن بقي مصرا فأرسلي نص الحكم إلى جلالتها. - سمعا وطاعة.
ثم خرجت جورجيا وبقيت أوجستينا تكتب الحكم إلى أن دخلت أودينا، فأمرتها أن تأتي بذات العذار.
فقالت أودينا: أف من عذارها، لقد أزعجنا كثيرا يا سيدتي، ليتك تأمرين بحصده.
فقالت أوجستينا مازحة: وإذا حلقناه، فماذا يبقى من فلسفة كيوبد التي تودين درسها يا غبية.
دخلت أودينا إلى الحجرة السرية، ثم عادت بالفتى قائلة: يكاد هذا العذار يصبح مرجة زمردية اللون.
وخرجت أودينا بإشارة من ذات المعالي الوزيرة، وهذه تلقت الفتى بابتسامة مشرقة، وقالت: لم يبق في قوس الصبر منزع يا عزيزي المتهم، ولم يعد في وسعي احتضانك، كلما أطال القضاء الأجل قصر القدر، ولا حيلة في القدر الإلهي إلا حيلة واحدة وهي أن تتقيأ اسم شريكتك في عبادة كيوبد المحرمة في بنطس، لكي تشفى من دائك المميت. فما قولك ؟ - لا يموت الإنسان يا سيدتي مرتين، وأما في هذا التحقيق العقيم فقد مت ثلاثا، ولتكن الرابعة خاتمة الموتات.
فقالت أوجستينا يائسة عابسة: إذن اسمع.
وقرأت: «حكمت دار القضاء الأمازوني على المعتقلة السابعة من معتقلات الرابع عشر من هذا الشهر التاسع اللواتي اعتقلن على جسر نهر ترمدون؛ لأنه ظهر أنها فتى متنكر بزي أمازونية، ولم يقر عن شريكته بجريمة عبادة كيوبد المحرمة في بنطس، حكمت عليه دار القضاء بالموت برمي السهام في قلبه إلى أن ينضب دمه، ولا يقيه من هذا الحكم إلا إقراره عن شريكته قبل التنفيذ.»
ثم استدعت أودينا وأمرتها أن تدخل الفتى إلى كنه في الغرفة السرية، ففعلت أودينا كما أمرت، ثم لفت أوجستينا رق الحكم وختمته، وقالت لأودينا: أرسلي هذه الوثيقة إلى القصر حالا، لم يبق لهذا المنكود الحظ إلا أن يستهدف قلب الملكة لسهامه عسى أن تنفتق لها حيلة لإنقاذه.
6
بعد قليل جاءت أودينا إلى سيدة القضاء تبلغها أن رئيسة الحكومة أمازونيا جاءت لمقابلة أوجستينا، فوقفت أوجستينا تقول: على الرحب والسعة بالرئيسة الموقرة.
ودخلت أمازونيا وحيت، فأخلت لها أوجستينا كرسي الرئاسة، ولما استقرت قالت: بلغ إلي أن الذي وقع في الفخ رشأ إلى جانبي أنفه جعبتان للسهام. وختمت كلامها بضحكة وزارية.
فأجابت أوجستينا أيضا بضحكة قضائية: أجل، جعبتان لا تفرغان من السهام، كلما راش سهما منها بدا آخر. - أود أن أستهدف واحدا منها.
فنادت أودينا وقالت: إلينا بذي العذار.
فقالت أودينا: أف. وغدا بذي الشاربين وبعد غد باللحية.
فقالت أمازونيا: يقال إنه ابن كيوبد، وقد جاء ليثير فتنة في بنطس لقلب الحكومة الأمازونية.
فقالت أوجستينا: وفي وسعه أن يشعل بنطس بنار الجحيم.
ثم عادت أودينا تصطحب الفتى، فرفعت أمازونيا نظرها فيه ثم قالت: حاشا لله ما هذا بشر، إن هذا إلا كيوبد بعينيه. وقالت: يقولون إنك ابن كيوبيد، أحقيقي؟ أنت كيوبد بعينه؟
فقال مبتسما: إن لم أكن كيوبد أو ابنه فإني من سلالته. - ويقال إنك جئت لكي تثير فتنة في بنطس، أحقيقي هذا القول أم افتراء ؟ - على سيادتك التحقيق.
والتفتت أمازونيا إلى أوجستينا، وسألت: بماذا اعترف هذا الساحر العاثر الحظ؟
سمعا يا هذا، نحن هنا نجحد السحر والشعر أيضا.
فقالت أوجستينا: عبث استخراج الدر من بحر بلا قرار.
وسألت أمازونيا: من هي المفتونة الخائبة الأمل التي تشاطرك الجريمة يا هذا؟ - أية جريمة يا سيدتي الجليلة؟ - جريمة الحب العظمى. - الحب يا سيدتي فضيلة للإنسان حتى للحيوان، فكيف تصمينه بوصمة الإجرام. - هو جريمة في بنطس، وجريمة مقدسة في غيرها، وعقابه عندنا شديد، أعيذك منه. - لماذا الحب جريمة في بنطس دون غيرها؟ - لأنه خطر على استقلال المرأة، ألا تعلم هذا من تاريخ الأمازونيات؟ أما علمت أنهن لم يتحررن من العبودية للرجل إلا بجحدهن الإله كيوبد وصد سهامه، أولا ترى أنه حيث يباح الحب تكون المرأة أمة للرجل الجائر؟ - لا يا سيدتي، حيث يباح الحب تكون المرأة محبوبة والمحبوب معزور، وأما حيث تكون المرأة أمة للرجل، فلأن الحب قتيل وكيوبد دفين. - ألا ترى أننا نحن الأمازونيات مستقلات لأننا نكفر بكيوبد إله الغرام؟ آه يا للغرام كم أشقى قلوبا!
فقال الفتى محتجا: أأنتن مستقلات؟ لا وربي، ما أنتن إلا «عبدات» رقيقات أسيرات لهيكلكن، منسحقات تحت أقدام كهنوته، لستن معتوقات كما تظنن، ولا حرات كما تعتقدن، ولا تفهمن معنى الحرية. - ما هي الحرية التي تتبجح بها؟ - هي تلبية نداء الطبيعة بلا كبت ولا قمع. الطبيعة تعزف ونحن نغني، نحن نحب والطبيعة تضحك لنا. نحن ننظم الشعر والطبيعة توحي لنا الخيال الجميل. نلحن والطبيعة قيثارتنا، ماذا عندكن، من هذه المطربات المعجبات يا من تدعين الحرية والاستقلال؟ عندكن أوتار بلا أنغام وأشعار بلا ألحان، ووقع بلا رقص، وسماء بلا شموس ولا أقمار. ما أنتن حرات حتى ولا رقيقات، بل أنتن رمم أموات، وأصنام بلا حياة، أنتن بنات الطبيعة، وقد خرجتن على الطبيعة، مهما تمردتن عليها تبقين فيها تحت سلطانها، فإذا كنت يا سيدتي تعملين لخير الأمة الأمازونية وسعادتها ومجدها، فشيدي هيكلا فخما لكيوبد في بنطس تحج إليه الأمازونيات مع قرابينهن جهارا، حيث تحل عليهن نعمة الحب السعيد.
وكانت أمازونيا وأوجستينا مصغيتين متهللتين كأنهما تسمعان أنشودة الغرام على قيثارة هلاس، ومحياهما يطفحان بشرا. فقالت أمازونيا: وي وي. كأني لم أجئ إلى هنا لكي أحقق، بل لكي أسمع كرازة بعقيدة الحب. - أجل يا سيدتي، الحب ينبوع السعادة والسرور، والقلب بلا حب كالغصن اليابس. هو أول الأغصان التي تتحول إلى رماد إذا لفحها اللهيب، وأول ما تنقصف إذا كسحتها الرياح، وأما القلب المفعم حبا كالغصن الذي تحميه رطوبته من الاحتراق، وتنقذه مرونته من الانقصاف، بل هو الغصن الرطيب الذي تكسوه أزاهره في الربيع، وتثقله ثماره في الصيف. - كفى يا هذا، ما نحن في مباراة أشعار، دع هذا الهذيان.
فقاطعها قائلا: أعلم يا سيدتي أنك لا تحسين ما أقول، فلو كان إلى جنبك زوج وفي حضنك طفل لكنت تفهمين هذا الهذيان، ما أنت إلا الغصن اليابس الذي ينقصف من هبوب رياح هذياني. - كفى كفى. إذن حقيقي أنك ابن كيوبد، وقد جئت لكي تضرم نار فتنة هنا. - إذا كانت الدعوى إلى عبادة كيوبد تسمى فتنة، فقد صدق القول أني جئت لكي أطلق النساء الأمازونيات من أسرهن إلى ساحة حريتهن، وأرشدهن إلى كيفية استعباد الرجل بالحب والإخلاص. - صه، لقد انجلى لنا جرمك بشهادة لسانك، فلا تعفى من العقوبة إلا إذا كنت تبوح باسم شريكتك فيه. - أستنكف جدا أن أشتري العفو بشهادة زور. - على من تعتمد في إنقاذك من الحكم الرهيب؟
فقال الفتى باسما: على سهم من سهام كيوبد إلهي. - لا حول لكيوبد ولا طول في بنطس.
فقال: يرمي سهامه من جاريجاريا فتقع في قلب بنطس.
ووقفت أمازونيا كأنها غاضبة، وقالت باسمة: يا سيدة القضاء، إن لهذا الفتى صلة بمكيدة هائلة، فإذا لم يعترف بها لكي يكافأ بالعفو، فلا بد أن تحكمي عليه بالموت الأحمر أو الأسود. السلام عليك.
فقالت أوجستينا واقفة: لقد صدر الحكم يا مولاتي.
وخرجت أمازونيا ظافرة مرحا ومترنحة أسفا.
7
وما إن خرجت رئيسة الحكومة أمازونيا حتى دخلت أودينا وفي يدها رق، وقالت: رسالة من الهيكل يا سيدتي رد لرسالتك.
ودفعت الرق لأوجستينا وخرجت توا.
وفضت أوجستينا الرق، وقرأت:
من رئيسة الكاهنات إلى حضرة سيدة القضاء
عندي في الهيكل خمس لاجئات لأسباب مختلفة، وبعضها مجهولة، يكتمن ذواتهن، وليس للهيكل أن يبتزها منهن ابتزازا، فأرجو أن ترسلي المعتقل إلى هنا عسى أن يتعرف على حبيبته إن كانت بينهن.
وفكرت أوجستينا مليا، ثم كتبت الرد هذا:
سيدتي الجليلة رئيسة الكاهنات، حسب إيعازك أرسل إليك المعتقل لكي تتحققي صدق دعواه، ثم أرجو أن ترديه إلى دار القضاء بحيث لا يكتشف أمره أحد.
ثم استدعت أودينا وأمرتها أن تأخذ الرسالة مختومة وذلك المعتقل الذي قبض عليه في الفندق إلى الهيكل.
وما إن خرجت أودينا حتى دخلت جورجيا رئيسة وصيفات الملكة، فبغتت أوجستينا وقالت: خير إن شاء الله. - جلالة الملكة قادمة الآن متنكرة لكي تحقق مع الفتى المجرم العنيد الذي صدر الحكم عليه، يجب أن تخلي دار القضاء من الإنس والجن لكيلا يعلم أحد بوجودها هنا.
استحضري الفتى واحبسيه في هذه الحجرة إلى أن تدخل جلالتها عليه من غير أن يعرف من هي التي تحقق معه؛ لعلها تستطيع أن تستخرج سره من أعماق قلبه.
ألقت جورجيا هذه الرسالة وانثنت راجعة من غير أن تسمع كلمة من سيدة القضاء، فاضطربت أوجستينا وانهمكت، واستخرجت الفتى بنفسها من الحجرة السرية، وقالت: إني بريئة من دمك يا هذا، لقد حاولت إنقاذك، ولكن عنادك جنى عليك، بقي لك خيط ضئيل من الرجاء، إن شئت أن تتشبث به، إني تاركتك إلى المحققة الأخيرة قبل تنفيذ الحكم، فعسى أن ترعوي وتربأ بنفسك.
وخرجت وأقفلت الباب وراءها، فجعل الفتى يخاطب نفسه قائلا: إني أعتصم بغوث إلهي كيوبد من هؤلاء المرائيات اللواتي يعبدنه بقلوبهن ويلعنه بشفاههن، قبل أن يرمينني بسهم واحد مدم.
8
ما هي إلا هنيهة حتى انفتح الباب بغتة ودخلت الملكة بثوب عامية، ثم ارتدت مذعورة لما وقعت عيناها على عيني أفريدوس، وأجفلت إذ رأت عذاره، وترنحت واهية القوى، وأما أفريدوس فبهت واختبل؛ لأنه لم يكن البتة يظن أن الملكة تأتي إلى دار القضاء للتحقيق.
وبعد لأي قالت وهي تتبينه: ويحي. أأنت المعتقل؟
فقالت أفريدوس: بلى، أنا هو الذي لم تجد الملكة أفضل وسيلة لنبذه إلا أن تلقمه لأنياب القضاء العاتي.
فحملقت فيه ذاهلة: ويلي! وأغلال في يديك وعنقك؟
وأمسكت السلسلة كأنها تتحقق. - نعم، هذا هو جزاء اليدين اللتين كانتا تضمان هذا الهيكل الملائكي إلى الصدر المتدفق غراما لكي يرتوي من سعادة الحب الطاهر.
فقالت الملكة متفجعة: وسجن أيضا في كن المجرمات؟ - وهل غير كن الكلب أليف للعاشق الذي جعل صميم فؤاده سريرا للملكة تتقلب فيه على وثير الحب؟
فقالت وكأنها لا تفهم ماذا تقول، وجالت كالمجنونة: أيمكن أن يكون هذا قضاء الهيكل؟ - يا للمكر، أتعزين هذه النقمة لقضاء الهيكل، وأنا ماثل في دار قضائك أستوحي كيوبد إلهي أن يلهمني أجوبة التمويه التي لا تستفيد منها سيدة القضاء شيئا يقرب الظن إلى الملكة.
فقالت وقد لطمت خديها وتركت كفيها عليهما: وا حرباه أهو الغدر الغشوم أم غضب الآلهة؟ - لا هذا ولا ذاك، وإنما أتخمت الملكة من وليمة الحب، فرامت أن تغير ألوان الطعام، فقذفت بالبقية الباقية من طعام الوليمة إلى دار القضاء لكي تحرقها هذه في فرن الإجرام. - صه، كفى تقريعا لي في إبان أزمتي ويأسي. - وي! أزمة؟ حبيب الملكة العزيز بالأمس أذل المجرمين اليوم، وهو يهيأ ليقدم أضحية على مذبح الانتقام من ملاك الغرام.
صمتا عن هذا العتاب المر، كيف اعتقلت وعهدي بك في قصر الصيد تنتظرني. - إذا كنت غبيا صابرا على وعدك لموافاتي إلى قصر الصيد فقلبي ليس غبيا، ولا يطيق صبرا. وإذا كان جسمي طينة حقيرة لا تشعر بالذل، فنفسي سماوية لا تحتمل الهوان. وإن كانت سلالتك ملكية، فسلالتي الكهنوتية ليست أحط منها. ما كان إقصائي عنك يكلفك سوى إعراضة واحدة، فلا تعودين بعدها ترين وجهي إلى أن أقضي بداء غرامي المبرح. - ويك، حسبي هذه الكارثة، فلماذا تضاعف وقرها على نفسي بهذا التقريع؟ قل أين اعتقلت؟ - على جسر نهر ترمودون. - وكان القمر ...؟ - في إبان خسوفه.
فترنحت الملكة وهي تقول: ويحي، ويحي، الويل، الويل ... ما الذي جاء بك إلى الجسر، وقد أمرتك أنت تنتظرني في قصر الصيد. - القلق عليك والشوق إليك. - الشوق فهمته، والقلق لماذا؟ - لأني فهمت أنك عدلت عن الصيد، فخفت أن يكون قد ألم بك حادث سوء. - لم أقل لأحد إني عدلت عن الصيد، فما الذي أقام الشك في ذهنك بوعدي أن أوافيك؟ - سيدونيا حارسة القصر، وكانت أول من لمحت إلى عدولك عن الصيد بدعوى طروء مشاغل سياسية.
فقاطعته الملكة: تبا لها، كيف تقول هذا ولم أوعز به لها ولا لأحد؟ - طبعا رابني قولها، فبرحت مدعيا لها أني ماض إلى الصيد، ومؤكدا لها أني سأعود مساء حتما. ولكني توجهت إلى جهة العاصمة أتنسم أخبار الحقيقة عن قدوم حاشيتك، فما رحلت مرحلة إلا تسقطت من أنبائك خبر عدولك عن الصيد. وما زلت أتقدم وأتنسم هذا الخبر بعينه إلى أن وقعت في الفخ الذي نصبته لي على الجسر، حيث اعتقلتني 4 شرطيات شاهرات الخناجر البراقة علي، وجردنني من سلاحي، وجئن بي إلى السجن، فماذا تظنين يخطر لي سببا لاعتقالي؟
وكانت الملكة شديدة الاضطراب والحنق، وقالت: ولكني أرسلت ملدافي بعدك لكي تؤكد لك أني ذاهبة إلى قصر الصيد، على قصد أن أتأكد أنك منتظرني، فعلمت ملدافي من ميدونيا أنك متغيب في الصيد فتركت لك معها خبر إزماعي على الذهاب إلى القصر، وإيعازي بأنك تبقى فيه منتظرني. فلو رجعت أدراجك لوجدت أوامري مطمئنتك. فلا أدري كيف تسرعت.
وتفجعت باضطراب شديد وهي تقول: الويل الويل الويل.
وأفريدوس لا يفهم ما معنى هذا الويل؛ لأنه لم يعلم بخبر نبوءة الهيكل، ولا رامت الملكة أن تنفره بهذا الخبر. فقال حينئذ: أي ويل أعظم من أن أفهم أنك أوعزت باعتقالي؛ لأن وعدك الكاذب باللحاق بي لم ينجح في إقصائي.
فصاحت الملكة كالمجنونة: الويل الويل. وا فجيعتاه! لم أقل إني عدلت عن الصيد، فكيف انتشرت هذه الإشاعة الكاذبة؟ لا ريب أنها من تدابير الإله لكي تتم نبوءة الهيكل، فوا حرباه وا نكبتاه!
وما زال أفريدوس لا يفهم سر هذا التفجع والويل، فقال: ماذا كانت نبوءة الهيكل؟ لم تخبريني بها. - يا للهول، كانت عبور رجل على الجسر حين خسوف القمر.
فقهقه أفريدوس وقال: ما هذه نبوءة، إن هذه إلا مكيدة من كاهنات الهيكل. - إذا كانت هذه المكيدة قد أتقنت هذا الإتقان الغريب العجيب، فالكاهنات أعظم من الآلهة؛ ولذلك يجب أن نخشى غضبهن. - إن تطيرك بتخريفهن ساعد مكيدتهن، أو أن مكيدتهن أنتجت وهمك الذي وافق تدجيلهن. لو لم توعزي لي أن أسبقك إلى القصر ما حدث عبوري على الجسر بتاتا، ولتم خسوف القمر وانقضى حين لا أزال في قصرك هنا عبد غرامك وأسير بهائك. - ولكني لم آمرك أن تذهب إلى قصر الصيد على الحدود إلا لكي أفسد نبوءة الهيكل.
فقال أفريدوس مقهقها: يا له من إفساد للنبوءة! إن قصر نظرك أفسد إفسادك لها.
فقالت متنهدة: لا حيلة في تدابير الإله الناقم على غرامنا، أعني التدابير التي أتم بها نبوءة الهيكل، ويلي لقد نفذ المقدور. - إذا صدقت عقيدتك فقضاء إلهك لا مرد له. ليت سيدة القضاء أفهمتني ولو تلميحا عن نبوءة الهيكل، فكنت أرجوها أن تستنزل كل ويلات غضب الإله علي لكيلا يقع منها شيء لا على العرش ولا على الأمة. - ويحك. هذا هو الويل الأعظم الذي أبذل كل شيء لكي أتداركه. آه، لا أدري ماذا أفعل. عدمت الحيلة، ونضب معين الدهاء. - لماذا هذا التفجع يا سيدتي، ولم تقع عليك شبهة؟
لأني لا أستطيع أن أهربك من غير أن أثير الشبهة بي. - لا أهرب ولن أهرب.
ولا أستطيع أن أختلق مبررا لإطلاق سراحك. - أليس عجبا أن تستطيع سيدة القضاء ما لا تستطيعه الملكة؟
فأجابت الملكة متغيظة: ماذا تستطيع سيدة القضاء؟ - تستطيع أن تنتحل المبرر لإطلاق سراحي، تزعم أن التحقيق لم يسفر إلا عن طيش هذا الفتى ورعونته؛ لأنه لم يدخل إلى بنطس متنكرا إلا لكي يشاهد عاصمة الأمازونيات. - أأوجستينا قالت هذا القول؟ إذن لماذا حكمت عليك؟ - لأني لم أقبل شروطها.
فقالت الملكة مرتعشة: ماذا كانت شروط تلك الماكرة؟ - ماذا تكون شروط المرأة التي كان في قبضتها فتى تداعبه كما تداعب الهرة الفأرة، أو بالأحرى كما تداعب الغزالة الغزال؟ - وي وي، أحقيق أن تلك الماكرة كانت تنوي أن تفعل ما تقول؟ - لا أدري إن كانت تستطيع التصنع إلى حد أن تحملني على تصديق وعدها.
وكانت الملكة تفكر مليا ثم قالت: يا لمعاندة القدر! كان القدر كالسيف ذي الحدين يجرح من الجانبين. أنا أبحث بالتشديد في التحقيق؛ لأني لم أكن أعلم أن القدر رماك في يد القضاء، وأنت تمردت على قلب متلهف، فاتفق الأمران على قضاء صارم. - هل كنت تعذرين مطاوعتي لمساومة أوجستين لو علمت أني أنا الواقع فريسة بين براثن القضاء، وأن نجاتي تتوقف على قبولي شروطها؟
فقالت مرتبكة: نعم ... لا بل، لكن لا بأس. ماذا كان في الأمر لو قبلت ثم حنثت؟
فقال أفريدوس مستهجنا: أوه، لو كان الحنث شيمتي أفما كان التحقيق الدقيق خطرا عليك؟ إذ يحتمل أن أخون عهدك أيضا لكي أنجو من الموت. - أوه، ويلي. وهذا ما يجعل الموقف الآن أعقد من عقدة الإسكندر، وا نكبتاه! من لي بسيف الإسكندر لحل العقدة؟ - الأمر بسيط، لا تهتمي بأمري، دعيني لرحمة القدر. - ويلاه، كيف أؤمن للقدر وقد بدرت بادرته الهائلة؟! الحكم بالإعدام، لا أستطيع تصوره. - اعتبري علاقتنا الماضية حلما قصيرا وانقضى. - كيف ينقضي وهو مطبوع في مخيلتي ولا يمكن الزمان أن ينسخه؟ - احسبي حساب الموت مقدرا لكل إنسان! واتركيني لنقمة القضاء قبل أن تثار الظنون.
فقالت مضطربة: مستحيل أن أسلمك لنقمة القضاء. - لم يبق إلا هذا السبيل لإنقاذ حياتك وعرشك. - وما الجدوى من الحياة بلا حب؟ وما لذة العرش بلا حبيب؟! وا لوعتاه. لا أسلمك للقضاء ولا لنقمة الهيكل إلا وأنا معك أتلقى هذه النقمة الهائلة بصدري لكيلا أراها منقضة عليك. آه دعني أعزي النفس في إبان يأسها.
ثم طوقت عنقه بساعديها وقالت: سأستكد قريحتي لاختراع وسيلة للفرج.
ثم فتحت الباب واستدعت أوجستينا، وقالت: ردي هذا المعتقل إلى كنه وعودي إلي.
فانحنت أوجستينا، وقادت المعتقل إلى الحجرة السرية حيث كان حبيسا. ولما عادت قالت الملكة: يلوح لي أن لهذا الفتى سرا عميقا، ولا بد من استخراج سره من صدره؛ لذلك يؤجل إعدامه لئلا يدفن سره معه. انتظري مني أمرا باستدعائه إلى قصري عسى أن أوفق إلى حيلة لاستقصاء أمره. - الأمر أمرك يا مولاتي. توفقنا إلى القبض على أسير آخر يا مولاتي. - أسير آخر؟ ماذا علمت من أمره؟ - ادعى أن حبيبته فرت من اضطهاد أهلها لأجله، ولجأت إلى الهيكل، فخاطبت رئيسة الكاهنات بشأنه عسى أن تكون دعواه صادقة، فطلبته الرئيسة إلى الهيكل لكي تعرضه على اللاجئات.
فبدا على الملكة بشر، وقالت: من يدري؟ ألا يحتمل أن يكون هذا هو المقصود بنبوءة الهيكل، أود أن تشددي النكير في التحقيق منه، ولا تثقي بدعواه هذه، فما هي إلا للتمويه.
وخرجت الملكة. وما لبثت أن طلبت ذات العذار إلى قصرها، فأرسلته أوجستينا مخفورا وهي تقول له: جرب سهامك حيث أنت ماض.
الفصل الرابع
ننتقل الآن إلى الهيكل، حيث نشاهد ألاعيب رئيسة الكاهنات في هذه الحوادث التي أحدثتها نبوءة الهيكل، وهناك نرى الرئيسة واقفة لدى المذبح تتمتم، وإذ دخلت عليها ملفينا كاتبة سرها، ودفعت إليها رسالة قائلة: هذه الرسالة كانت مع شرطيتين تحرسان معتقلة مغلولة.
فضت الرئيسة الرسالة التي أرسلتها إليها سيدة القضاء أوجستينا مع المعتقل الآخر كما علم القارئ. ثم قالت لملفينا: أدخلي المعتقلة إلى هنا.
فأدخلتها ملفينا وأمرتها الرئيسة أن تنتظر مع الشرطيتين أوامرها، ثم رفعت اللثام عن وجه الأسيرة، وارتدت إلى الوراء مبغوتة متجهمة، إذ رأت وجه الرجل المتنكر المعتقل، وقالت: من؟ الكاهن جيهول؟ ويحك! معتقل؟ لماذا؟ وأين ومتى؟! - في فندق التاجرات في هذا المساء. - لماذا عدت إلى الفندق؟ - لكي أتأكد اعتقال القمر الساطع. - أما تأكدت ارتداده قبيل الخسوف؟
كنت أحتال لحمله على الارتداد إلى أن اقترب إلى الجسر. - إذن لماذا فضولك في الدخول إلى المدينة؟ - لأني لم أتأكد إن كان قد اعتقل حتى ولا إن كان قد عبر. - كيف كانت صلتك إذن ناقصة؟ - لم تكن ناقصة بل كانت متقنة جدا . رشوت سيدونا حارسة قصر الصيد بسهم من سهام كيوبد، وأوعزت إليها أن تدع أفروديت المزيفة تفهم أن الملكة لا تنتظر أن تأتي للصيد؛ لأنه يقال إن مشكلة سياسية نشأت حديثا فأشغلتها، فعاد المتنكر باسم الوصيفة أفروديت مدعيا أنه سيمضي نهاره في الصيد، وسيعود حتما في المساء، وكنت أسبقه وأنا أزرع أمامه في مراحل طريقه مثل ذلك القول الكاذب الذي يفهم منه أن الملكة عدلت عن الصيد لمشاغل سياسية طرأت عليها، إلى أن رأيته في أول غلس الليل على ظهر جواده يجوس القرية التي قبل الجسر، وبعد ذلك ضيعته، ولم أعد أدري هل عبر الجسر أم لم يعبره، ثم عدت إلى قصر الحدود، فما وجدت له أثرا، فرجعت أمس الأمس، ودخلت المدينة في الغسق، ونزلت في فندق التاجرات لكي أتجسس عسى أن أظفر بخبر عن اعتقال فأطمئن.
فقالت الرئيسة هازئة: مرحى مرحى، لقد ظفرت بأغلال اعتقاله هذه.
وأمسكت سلسلة يديه وهزتها لكي تجلجل.
فقال جيهول: كنت قلق النفس يا مولاتي، ولا أطمئن إلا بالعلم باعتقاله. - أتكون بكرا لرئيس كهنة، ولا تطمئن نفسك لنبوءة الهيكل؟ أم تظن أن هيكل بنطس أقل علما بالغيب من هيكل جاريجاريا؟ - عفوا يا مولاتي، إن جهادي في سبيل اقتناص عرش جاريجاريا من وراثة الطائش الأهوج طوح بي إلى هذا المصير. - هذا جزاء شكك بقدرة هيكل بنطس على معاقبة الحمق والطيش، وعلى وضع الحق في نصابه الذي يحتفظ به. إن هذه الأغلال جزاء ضعف إيمانك بوعد هيكلي أن يؤيد هيكلك في إحباط مكيدة ضم العرشين وتمزيق الدستورين! ستبقى هذه الأغلال في يديك وعنقك إلى أن تحبط المكيدة، وينقلب الأحمقان. - قد ينفذ في حكم القضاء قبل الحبوط المرجو، أفليس في وسعك يا مغيثتي أن تخلقي لي عاشقة من اللاجئات إلى هيكلك لكي تؤيد دعواي، وتسوغ عذري في دخولي إلى المدينة متنكرا؟
فأجابت الرئيسة بأنفة وسخرية: إن اللسان الذي ينطق بالنبوءات ينعقد عن النطق بالأكاذيب يا ذا القداسة الكهنوتية.
فقال جيهول وهو يحني هامته ذلا وانكسارا: إن حكمك يا سيدتي أشد وقرا من حكم القضاء، وأنا الآن في حاجة شديدة لنصحك في ورطتي هذه لا إلى قضائك الصارم. - ليس عندي نصيحة مقدسة، فما لك إلا أن تستصبح إله الشرع عسى أن يلهمك الإصرار على كذبك إلى أن ينسج لك القدر مخرجا من هذا المأزق.
ثم ردت اللثام على وجهه وصفقت فدخلت ملفينا وأمرتها أن ترد المعتقلة (جيهول) إلى الشرطيتين اللتين جاءتا به ثم أن تعود إليها، وألا تفتح لهن باب الخروج إلا متى أمرت بهذا. ولما عادت أمرتها أن تستدعي اللاجئة ذات العصابة السوداء، ولما مثلت ذات العصابة السوداء بين يهديها قالت لها: لست أحتم عليك أن تعترفي بهويتك إذا كنت تأبين الاعتراف بها، وإنما أسألك سؤالا ربما كان من صالحك الصدق في الجواب عليه.
فانحنت الفتاة وقالت متذللة: لا بأس يا مولاتي إذا كان الجواب لا يقتضي أن أطلعك على بغيتي من الالتجاء إلى هيكلك فأصدقك فيه. - هل كنت مضطهدة لأجل حبيب، فلجأت إلى هيكلنا محتمية من الاضطهاد؟
فأجابت الفتاة متنفسة الصعداء: نعم. - هنا شاب متنكر معتقل فادعى أن له حبيبة لجأت إلى بنطس من جراء الاضطهاد لأجله فهل تؤيدين دعواه لكي تنقذيه.
فأجابت الفتاة بلهفة: أحقيقي؟ أظنه حبيبي، أؤيد دعواه. أين هو؟
فضحكت الرئيسة على الرغم من عبوستها: أسمح لك أن تريه من غير أن يراك لئلا يكون هذا الخبر قد أضل قلبك. ألقي النقاب على وجهك، وانظري من خلال السجف إلى أن أعرضه على نظرك.
فاستترت الفتاة وراء ستار الأقداس والنقاب على وجهها، ثم خرجت الرئيسة وعادت بجيهول، ورفعت اللثام عن وجهه، وهو لا يدري لماذا، ثم ردت اللثام على وجهه وخرجت به، ثم عادت، فبدت الفتاة من وراء الستارة وقالت: لا، لا يا سيدتي، لست أستطيع هذا التزوير على نفسي. - ولكن ما قولك إذا كان يستطيع إنقاذك من الاضطهاد ورد حبيبك لك. - لا أستطيع هذا التزوير، ولو كان الرجل يستطيع إنقاذي، ليس هذا حبيبي الذي يأبى هذا التزوير علي لأسباب أنا أعلمها. - هل يمكنك أن تخبريني هذه الأسباب؟ - لا يا مولاتي، لقد قلت لك من أول الأمر إني لا أستطيع جوابا لما قد يفضح أسراري.
لا بأس، فلا أحرجك. عودي إلى خدرك متمتعة بحماية الهيكل.
ثم نادت ملفينا وقالت لها: خذي هذه إلى خدرها، ولتمض الشرطيتان بمعتقلهما.
ثم قالت لنفسها: وسيبقى في عقاله إلى أن يشهد اقتران القمرين وانقضاض الويلين.
لله من دهاء هذه الكاهنة!
الفصل الخامس
1
نعود بالقارئ الآن إلى قصر الملكة، وندخل به إلى بهو رحيب مستوفي الرياش كما يمكن أن يتصور القارئ قصر ملكة، والشباك المطل على حديقة غناء يسرح فيها النظر بين نجوم الأرض، ثم نجوم السماء في الليل، وشمس النهار صارت فوق الأفق، ولو كان لفلكي ذلك الزمان منظار عظيم يقرب مسامير السماء لرأى القمر مظلما على مقربة من الشمس، ويكاد يهجم عليها هجوم العاشق على حبيبته.
من ذلك البهو باب خاص يدخل منه إلى حجرة الملكة، وفي هذه الحجرة كانت الملكة جالسة على مقعد طويل عريض. وقد دخلت عليها جورجيا أولى الوصيفات، وقالت: إن أوجستينا سيدة القضاء تستأذن بالامتثال.
فأمرت أن تدخل، وقالت لنفسها: ما وراء هذه الداهية من خبر شؤم.
ودخلت أوجستينا وانحنت، فتصنعت الملكة الابتسام وقالت: هل اقتلعت ولو حصاة من مخ ذلك الشاب الهرم الذي يدعي أن له حبيبة لاجئة إلى بنطس؟ - ليس في ذلك المخ المائع إلا صلصال لا يصلح للبناء. - أما عرفت من أي طينة ذلك الصلصال؟ - لا أرى إلا أنه من طينة الأكواخ. - مهما كانت طينته قذرة، فلا بد أن تكون ذات سلالة، أما تفل اسما له؟ - بل تفل اسم سدرون، وهم اسم أفرغ من عقم أمله بالعثور على حبيبته اللاجئة إلى بنطس. - ألا يمكن أن يكون هو القمر الساطع المقصود بنطق الهيكل؟
فقالت أوجستينا كاظمة ضحكتها: مولاتي، لم يكن جو بنطس مظلما في زمن من الأزمان كما هو مظلم منذ طلع هذا القمر الأسود. - لا يعني نطق الهيكل سواه، فيجب عصره في التحقيق إلى أن يتضح كل ما في صدره من أسرار. - مولاتي ، يستحيل أن يكون هو المقصود بنطق الهيكل، وإلا لقبضت عليه الشرطيات. إن نطق الهيكل أصدق على الفتى ذي العذار منه على ذلك الشاب الدميم، فإن كان ممكنا نحت تمثال لمكيدة من هذا الشخص الدميم فمن ذي العذار ينحت برج مكايد.
فامتعضت الملكة وقالت متجهمة: لقد أفرغت جعبة الحيل في استخراج أسرار ذي العذار، فوجدت مخه رقا منفوخا خاليا إلا من الطيش والحمق والرعونة.
فهزت أوجستينا رأسها هازئة وقالت: طبعا لا تصدقين جلالتك تظاهره بالنبالة، فإن وراء الأكمة ما وراءها.
ثم قدمت لها رقا وقالت: تفضلي يا مولاتي، شرفي وثيقة الحكم بإعدامه بإمضائك الشريف.
فذعرت الملكة من هذه المفاجأة، وقالت: ويك، لماذا هذا التعجل، وإلى الآن لم يثبت الجرم على الفتى؟ - ذلك أمر جلالتك وقد تسجل الحكم.
كادت الملكة تتفتت من شدة الغيظ، وبذلت مجهودا عصبيا عظيما في كظم غيظها. وفكرت في إبان يأسها، ثم قالت مرتبكة: لم يزل عندنا متسع من الوقت للتحقيق معه عسى أن نبلغ إلى ضميره. - لقد نفد كل أسلوب للتحقيق يا مولاتي، ولم يبق إلا أحد أمرين: إما تشريف الحكم بإمضائك إن كان مستطاعا، أو إصدار العفو عنه إن كان مرغوبا.
قالت هذا القول وهي تبتسم ابتسامة لؤم، كأنها شاعرة بموقف الملكة الحرج.
فسخطت الملكة وقالت: يستحيل أن يعدم قبل أن يبوح باسم المرأة الشريكة له في جرمه، ولكن هل تجدين مبررا للعفو؟ - ربما كان المبرر ممكنا يا مولاتي قبل أن صارت العاصمة تغلي بثرثرة الأمة كالقدر على وطيس حام، أصبحت العاصمة الآن كالمسرح الذي يتوقع المشاهدون فيه ظهور الأبطال بذاهب الصبر. الأمة تلح بإصدار بيان عن أسرار هذا الاعتقال.
فقالت الملكة مرتبكة: رأيك بالبيان؟ - لا يخمد الأفكار الثائرة إلا التصريح بإقرار الفتى عن المرأة التي يتصل بها، أو إعلان الحكم عليه بالإعدام لإصراره على النكران.
وقد أحست الملكة أن أوجستينا هذه وزيرة القضاء تبتغي أن تزيد موقفها تحرجا، ولكن الملكة وجدت منفذا للفرج في قول أوجستينا وقالت: إذن دعيني أحقق معه مرة أخرى، فأعرف كيف أنجح، ولا فائدة من إعدامه إذا بقي سره دفينا في صدره. اتركي لي صورة الحكم هنا ريثما أنتهي من التحقيق الأخير. - وإنما دبري يا مولاتي تدبيرا ناجعا يسكن هياج الأمة، فالأمة الآن مثرثرة، وعما قليل مزمجرة. وثم ثائرة، لقد أخلصت البلاغ والنصح يا مولاتي. إذنك بالانصراف.
2
وما إن انصرفت أوجستينا حتى نقر الباب الأوسط المؤدي إلى داخل الجناح، ولا يدخل منه أو يخرج إلا خاصة الملكة. فنهضت الملكة، وفتحت الباب، وبدت منه أمها العجوز، ولما قادتها إلى مقعدها قالت الأم: أين نحن من الويل الأول الآن يا بنتي؟
فقالت الملكة ناحبة متوجعة متواقعة على ذراعي أمها الضريرة: نحن فيه الآن يا أماه.
فقالت الأم مرتبكة: أفي هذا القصر موقعه؟ - نعم يا أماه.
فقالت الأم: ويلاه، أتعنين أن المعتقل هو أفريدوس؟ - هو بعينه. - وا ويلتاه. أما قلت إن ملدافي أكدت لك أنه لا يزال منتظرك في قصر الصيد؟ - إذا كان القدر معاكسا فلا ينجح الحذر، لقد مل أفريدوس الانتظار في القصر! فعاد لكي يتحرى سبب إبطائي، فقبض عليه وهو يمر على الجسر وتمت فيه النبوءة. وا أسفاه!
فقالت الأم مضطربة: وأقر الشقي بالحقيقة؟
معاذ الله. فهو أنبل من أن يشرك غيره بجرمه. - الحمد للإله. إذن لم يقع الويل بعد. - ويحي، أي ويل أعظم من أن يصدر الحكم عليه بالإعدام؟!
فقالت الأم متحمسة: نفذي الحكم عليه حالا؛ تداركا لوقوع الويل الأعظم.
فأجابت الملكة ساخطة: يا لك من ظالمة! - أعليه أنت مشفقة أم على نفسك وعرشك، بالقضاء العاجل عليه خلاص نفسك، وبهلاكه راحة قلبك. - لله من قلبك الصلد الجلمد، أبالقضاء عليه خلاصي؟ وماذا يبقى لي من سعادة بعد؟ - يبقى لك عرشك الأسنى يا حمقاء. - يا لك من ظالمة جائرة، ألا ترين أن العرش بلا حب ظلام دامس، والعرش بلا حبيب ليل بلا بدر، والحياة بلا حب لا تختلف عن الموت إلا بالملل والسأم. آه وا شقوتاه! - بئس غرامك هذا. إنك بهذا الجنون فاقدة العرش والحبيب جميعا. وتنفيذ الحكم ينقذ أولهما وينقذك.
فقالت الملكة وكأن بها نوبة جنون: ويحك لا أقنع إلا بسلامة ثانيهما. - سلامة أفريدوس تكلفك حياتك يا غبية، أتهربينه. أتعفين عنه. كلا الأمرين يغضبان الهيكل عليك ويهيجان الأمة ضدك.
فارتمت الملكة على المقعد خائرة. وقالت: أماه، دبريني في نكبتي، أين ذكاؤك؟ أين دهاؤك؟ - لقد فقدت نصف ذكائي وثلاثة أرباع دهائي منذ تنازلت عن العرش لك بسبب فقد نظري، لو بقيت في عرشي عمياء لكنت في حكمي أحد منك بصرا. لقد بسطت لك تدبيري فلم تذعني.
فأجفلت الملكة: ماذا؟ أن أنفذ حكم الإعدام بأفريدوس؟ هذا مستحيل، مسكينة أنت. لقد حرمك إلهك نعمة الحب، فصم قلبك عن نبضاته، يجب أن يبقى أفريدوس ولو فقدت العرش، هل فهمت؟ - وتفقدين حياتك أيضا، وحياته لا تسلم. فنصيحتي الأخيرة: أن تضحي بواحد من الثلاثة خير من التضحية بالثلاثة معا، حياتك وحياته والعرش. ضحي بحياته يبق لك حياتك والعرش.
فسخطت الملكة سخطا عظيما، وصرخت صراخا شديدا: عني يا أماه. إذا لم يكن عندك غير هذه النصيحة التعسة، فدعيني أتلقى الويل المنقض علي بشجاعة الملكة.
حينذاك دخل أفريدوس من باب السر بثوبه الأمازوني، وقال: النصيحة الخالصة ما قالت أمك الموقرة أيتها الملكة، دعيني أمضي إلى دار القضاء حيث أتلقى بسرور النقمة المنقذة لك من الويل.
فقالت الملكة بأمر محتوم: مكانك، إلى بيت سرك، فللزمن رأي، وفي صدره نصائح، فعاد أفريدوس إلى وجاره صاغرا.
3
وبقيت الملكة بعد خروج أمها وأفريدوس وحدها، ولو وضع ميزان الحرارة على جبهتها حينئذ لارتفعت حرارته إلى الخمسين، تكاد تنفجر غما وهما، لم يعد القصر يسعها، بل الجو لم يعد يتحمل حر أنفاسها. انتفخ رأسها حتى كاد يصطدم بالجدران حولها، عدمت الحيلة، لم تعد ترى بدا من التضحية بنفسها أولا، وبعد ذلك يبقى أفريدوس والعرش في ميزان القدر الأعمى.
وفي إبان أزمتها طرقت جورجيا الباب ثم دخلت إذ سمعت صوت الملكة بالإذن. - مولاتي، هنا فتاة جاريجارية تتوسل إلى إذن جلالتك بالامتثال بين يديك لأمر لا تريد أن تفضي به إلى سواك.
فرفعت الملكة رأسها عن صدرها، وقالت لنفسها: «عسى مع هذه الفتاة فرج.» ثم فكرت قليلا، ثم قالت: قولي لها: إن الملكة مشغولة عن مقابلتك، وإنما كلفت رئيسة ديوانها أن تسمع سؤالك. دعيها تدخل من غير أن تشعر أني أنا الملكة، بل يجب أن تعتقد أني رئيسة الديوان، حاذري أن تدعيها تفهم أني الملكة، هل فهمت أنت؟
فهمت كل الفهم يا مولاتي، يجب أن تفهم أنك رئيسة للديوان، وأنك بأمر الملكة تسمعين سؤلها. - حسن جدا.
ثم بعد قليل أدخلت جورجيا امرأة بثوب عادي كأثواب الأمازونيات، وتركتها لدى الملكة ومضت. وانحنت المرأة قليلا لدى الملكة، أو مندوبة الملكة. فسألتها الملكة: ما اسمك؟ - اسمي أنيدون. - لقد أمرتني جلالة الملكة بأن أهتم بسؤالك جد الاهتمام؛ لأنها مشغولة جدا، فليس في وسعها أن تقابل أحدا في هذه الأيام، فماذا ترومين؟ - شكرا جزيلا لجلالتها ولك يا سيدتي، نمى إلي أن الفتى المعتقل هنا في القصر يزعم أنه خاطر بنفسه في الدخول إلى بنطس ليبحث عن خطيبته اللاجئة إلى هذه العاصمة من اضطهاد أهلها بسببه، فهل تأذن جلالتها أن أقابله؟ - إن الدخيل المدعي هذه الدعوى معتقل في دار القضاء، فهناك اطلبي مقابلته.
فقالت أنيدون: رأيت ذلك المعتقل هناك فما هو فتاي يا سيدتي، فإذا أذنت جلالتها لي بمقابلة الفتى الذي هنا انتفى كل قصد سيئ من وجوده في هذه العاصمة، وخرج منها بريئا. - لا أظن أن هذا الفتى المعتقل هنا هو خطيبك؛ لأني لا أعتقد أن خطيب أية امرأة يخاطر بنفسه في الدخول متنكرا إلى بنطس لكي يبحث عن خطيبته، وهو يعلم العقوبة التي يستحقها.
فقالت أنيدون باسمة: أعذر خطأ حكمك هذا يا سيدتي؛ لأنك أنت أمازونية لا تعرفين ما هو الحب.
فقالت الملكة المتنكرة: أعرف أن الحب ... هو ... هو ... هو ... ماذا؟ - هو يا سيدتي القوة التي تجعل المخاطرة حتى الموت في سبيل الحرص على الحبيب ألذ من النصر في الحروب، وأمجد من فتح الممالك وقنص العروش.
فقالت الملكة مدهوشة قلقة: هل أنت واثقة أن خطيبك يحبك هذا الحب؟ - إذا كان المعتقل هنا هو إياه فلا يبقى عند جلالة الملكة شك بأنه يحبني هذا الحب، وإلا لما خاطر هذه المخاطرة، ولذلك يصبح ذنبه بسيطا، وجلالة الملكة النبيلة القلب تصفح عنه، وتأذن لنا أن نخرج من المملكة بسلام متمتعين بنعمة الحب.
وكانت الملكة تسمع هذا الكلام وقلبها يخفق وجدا، وعصبها ينتفض حقدا أو غضبا، أيكون أفريدوس خادعها ويلعب عليها دورا إذا صدقت هذه الفتاة فيما تقول؟ فتجلدت وقالت: هل تسمحين أن أقول لجلالتها من أية أسرة أنت لكي تتضح لها درجة سؤالك من الأهمية. - هبي أني من أسرة الكهنوت، فهل تسمح الملكة؟
فقالت الملكة باضطراب يكاد يفضح قلبها: أظنها تسمح، ولكن لماذا تضطهدك أسرتك لأجله، هل هو وضيع الأصل؟ - أرجو من سيادتك إعفائي من جواب يطلب منه هو. - لعل جلالتها تشترط هذا الشرط للإيذان بالمقابلة. - إن الحب يا سيدتي كالموت يجعل جميع الناس سواء في المقام، فإن كان أحدنا أوضع من الآخر ارتفع إلى مقامه، الحب يرفع لا يضع يا مولاتي، ليتك تعرفين ما هو الحب لكنت تشعرين أن سماح جلالتها لي بمقابلة خطيبي أعظم فضيلة تتحلى بها الملكة.
أصبحت الملكة بعد اعترافات أنيدون على نار، صارت تود أن تعلم الحقيقة من فم أفريدوس، فقالت: انتظري إذن خارجا في الرحبة إلى أن تسمعي ثلاث صفقات فتدخلين.
فخرجت أنيدون حسب أمر الملكة، واستدعت أفريدوس على الأثر من حجرته، وسألته: هل ادعيت في التحقيق في دار القضاء أن لك خطيبة لاجئة إلى الهيكل من اضطهاد أهلها بسببك؟ - لم أدع شيئا حتى ولا أني موجود في الوجود، ما كنت لقاء الأسئلة التي كانت تلقى علي إلا كالعصفور الذي يفر قبل أن تقع عليه اليد التي ترميه بالحبوب. - هنا فتاة جاريجارية تزعم أن الفتى المعتقل هنا يدعي هذه الدعوى وتود مقابلته، فهل تقابلها؟ - أود أن أراها خلسة أولا لأعلم من هي. - هي في الرحبة، اختلس نظرة منها من خلال الباب.
فوصوص أفريدوس من خصاص الباب، ثم ارتد مبغوتا، وقال: أرجو أن تسمحي لي بأن أختلي بها اختلاء تاما . - إذن صفق 3 صفقات فتوافيك.
ثم خرجت من الباب الآخر وقالت تكلم نفسها قلقة: أيمكن أن يخدعني؟ وبقيت خلف الباب توصوص وتتسمع.
وصفق أفريدوس ودخلت الفتاة. فقال مبغوتا: أنيدون؟ ويحك. ما الذي قذف بك إلى عاصمة بنطس، وأنت ابنة أحد كبار الكهنة المعززة في خدرها. - مثل نفس السبب الذي قذف بك إليها أيها الأمير. - صه، صه. لست معروفا هنا بالأمير، فلا تذكري هذه الكلمة، كيف تعلمين أن السببين متماثلان؟ - هل يكون لدخول فتى إلى مملكة بنطس من سبب غير سبب الحب؟ - وي. وي. هل أنت واثقة أن حبيبك تبعك إلى عاصمة بنطس. - بل أنا تبعته. - أفي بنطس ملجأ العشاق الأمين؟ - كلا، لا أجهل أنه ملجأ خطر، وقد جئت لإنقاذه من الخطر الذي وقع فيه. - من غشك بأنه هنا في القصر؟ - لم أنغش البتة. - أعلم أنه ليس هنا أحد سواي. - وإياك طلبت أن أقابل. - أنيدون، ماذا تعنين؟ - لم تتح لي فرصة أبوح فيها لك بسهم وقع في فؤادي.
فقال خائر القوة كاليائس: آه، وآه: لعلك أشد مني تعسا بهذا السهم. - أتعد ذلك السهم تعسا وأنا أعده سعادة؟
وكأن أفريدوس يخشى أن تكون الملكة متسمعة من خصاص الباب، فجذب أنيدون إلى ناحية بعيدة، وقال: لا ترفعي صوتك، فللهواء آذان وعيون. إنك لتعسة لأن الخصام الذي احتدم أخيرا بين الكهنوت والعرش في جاريجاريا أضاع عليك الفرصة التي كنت تتوخينها. آسف جدا، إن الفرصة سنحت لك متأخرة يا أنيدون.
لا بأس لم ينقص تأخرها من شعوري بالسعادة التي أتوخاها منها. - هذا الشعور الجميل لا يقل من أسفي يا أنيدون. - لم آت لكي أنتزع شيئا من غبطة قلبك يا سيدي الأمير.
فأجفل أفريدوس من كلمة الأمير، وأشار لها بالكف عن ذكره، واستمرت تقول: بل جئت لكي أتدارك ما يمكن أن يثلم هذه الغبطة. - ما الذي يثلمها فتتداركيه؟
جئت لكي أبلغك أن جيهول ابن رئيس الكهنة كان يتتبعك متجسسا حتى إلى هذه العاصمة.
فقال أفريدوس منفعلا متغيظا: ويح ذلك اللئيم! يتتبعني متجسسا؟ ألا تبا له. - ألم تصدق بعد أنه وأباه اختلقا العداء بين دولتي بنطس وجاريجاريا وأوغرا الصدور بعد تصافيها؛ لكي يقلبا عرش أبيك الملك، ويتبوأ جيهول، وتصبح أنت منفيا متشردا؟ فلما علم جيهول أنك متنكر في بنطس انتهز الفرصة لتدبير المكيدة الهائلة ضدك، ولهذا جئت لكي أنذرك قبل أن يتداعى عرشك ويهبط أنقاضا.
وكان أفريدوس ينتفض من الغيظ، فقال: شكرا، وهل جيهول الآن في هذه العاصمة؟ - نعم، معتقل فيها بصفة كونه متنكرا، وأشعر أن الهيكل البنطسي يتحيز له لكي ينقذه من عقاب هذه الدولة؛ لأنه ابن الكاهن الأكبر، والكهنة متضامنون في كل مكان. وأما أنت فعلام تعتمد في النجاة؟ - لا تهتمي بنجاتي يا عزيزتي، فما هي مطمعي، وأما إذا كنت أنت في حاجة إلى خدمة ...
فقاطعته قائلة: لم أجئ لأجل نفسي بل لأجلك، فأستطيع أن أشهد مزكية دعواك إذا كنت تدعي أنك ما جئت إلى بنطس إلا لتبحث عني لحمايتي من اضطهاد أهلي، فادع هذه الدعوى، وأنا أزكيها وأؤكدها ونخرج كلانا سالمين. - أشكر قصدك، إنك تفترضين افتراضا يستحيل علي أن أقبله. - لا تظن أني أتوسل بهذا التدبير إلى تقييدك بعهد، إني مقتنعة أن مرمى حظي أقصر جدا من مطمع قلبي، لست أبتغي مكافأة. - شكرا يا أنيدون، يستحيل أن أتذرع إلى النجاة بواسطة العاطفة، لا تهتمي بأمر نجاتي، أنصح لك بالعودة إلى خدرك الشريف الطاهر في دار كهنوت جاريجاريا عسى أن يقيض لك كيوبد حظا أسعد وأمجد. امضي بسلام.
وتراجعت ذليلة بائسة منكسرة النفس متنهدة، ثم انحنت وخرجت وأقفل الباب وراءها.
4
وما إن خرجت أنيدون حتى دخلت الملكة منفعلة شديدة الانفعال، وقبضت على ذراعه وهزته قائلة: ويحك! أعلي أنا ملكة بنطس تلعب هذا الدور الهائل؟
فأجاب أفريدوس بكل برودة وابتسام: أجل، إنه لدور غرام هائل، يا ذات الجلالة. سينقش تاريخه على ضريحي كدرس عجيب للعشاق. - صه، أغرام خداع ينقش على ضريح أمير منتحل صفة الكاهن؟ هل فقدت صولتك أيها الأمير حتى تتوسل بصولة الكهنوت إلى فؤاد ملكة؟ أم أن سياستك الأفاكة امتطت متن الغرام لكي تضمن الفوز في المعركة، وكسب العرش البنطسي. - تؤدة وحلما يا مليكتي، لما رماني إلهي بسهم حبك وأنت متنكرة بثوب فلاحة في الصيد، كنت أشعر أني واضع عرشي في حب فلاحة نابغة في الصيد، وما دريت أن إلهي جعل قلبي عرشا لملكة، ولما أصاب ذلك السهم نفسه فؤادك كنت تظنين أنك باذلة نفسك في سبيل غرامك بفارس مغوار. فلما اكتشفت أن سهم إلهي الذي نفذ في فؤادي نفذ في فؤاد الملكة التي بين عرشي وعرشها خصومة أشفقت أن يدنس دم الخصومة ذلك السهم، وخفت أن تفسري ذلك الغرام الصادق بالتحايل السياسي، فانتحلت رتبة الكهنوت لنفسي دفعا لهذه المظنة، وتحاشيا لنفورك، متريثا إلى أن تسنح الفرصة الملائمة لبسط الحقيقة لك طاهرة من الدنس، سالمة من لطمة الغش ... لدى دولة الغرام يا عزيزتي تضمحل دولة جاريجاريا ودولة بنطس، وفي عرش الهوى يا حبيبتي يفنى عرش بنطس وعرش جاريجاريا معا، فإن كنت تحسبين انتحالي صفة الكهنوت خدعا لك في فن السياسة، فهو إخلاص في فن الغرام، فسري خداعي هذا بما تشائين اللهم إلا الخداع في الحب. إني أحبك، إني أعبدك، سواء على صهوة الجواد أو في حقل الفلاحة أو على العرش. لم يبق العرش ولا الحكم مطمعي، فقد التهم الحب كل مطمع، فإذا تسنى لي أن أضمن بقائي إلى جنبك كل العمر، ولو في كهف، أثفل على العرش، وأبصق على الدولة.
فقالت الملكة والبشر يطفح من محياها: أما بقيت فلذة من فؤادك مع هذه الفتاة الكهنوتية؟ - لم يبق معها من فؤادي إلا ومضات الشفقة عليها. مسكينة، خائبة الأملين. - الأملين؟ ما هما؟ - نعم، أمل حبي لها، وأملها بإنقاذي. أما استوعبت من مكان تجسسك علينا أنها اقترحت علي أن أدعي أني في بنطس باحث عن حبيبة لاجئة، وأنها تؤيد دعواي؟ فخرجت يائسة حتى من هذا الأمل. - ألا ترى اقتراحها وسيلة لائقة لإنقاذك؟ - أيليق بأمير أن يسخر قلب فتاة بسراب الأمل لإنقاذ نفسه؟ أيليق بأمير الغرام أن يعلل فؤاد فتاة برجاء الحب الكاذب تذرعا لنجاته؟ إذا أبيت اقتراح هذه الفتاة أفلا أصبح مدينا لها بعطفة قلب؟ أولا تصبح هي شاعرة بهذا الدين وآملة باستيفائه، وإن كانت لا تطالب به؟ أولا يتلطخ وشاح حبي لك ولو بنقطة سوداء؟ وأخيرا كم يكون تمنين أهلها ثقيلا على عاتقي؟
ونقر الباب فأسرع أفريدوس إلى حجرة السر.
ففتحت الملكة الباب، وإذا جورجيا تقول: رئيسة الكاهنات تطلب مقابلة جلالتك.
فارتبكت الملكة وقالت كأنها تكلم نفسها: ماذا تريد هذه الشيطانة الآن؟ ماذا في طيلسانها أو طي لسانها؟
فقالت جورجيا مضطربة أيضا: تقول إن عندها بلاغا من الهيكل مباشرة.
فجزعت الملكة ولم يسعها إلا أن تقول: سمعا وطاعة وخضوعا للهيكل.
ولم تنتظر الكاهنة الإذن فدخلت وانحنت للملكة، وقالت بصوت جهوري ضخم: الويل على الأبواب إذا لم تتداركه الضحية.
عند ذلك وقعت الملكة على المقعد منصعقة، وفي الحال خرجت رئيسة الكاهنات، وما لبث أفريدوس أن دخل من باب الحجرة السرية قلقا مضطربا.
5
وجلس أفريدوس إلى جنب الملكة عاطفا عليها ممسكا بكفيها، وقال: فديتك يا نعيمي السرمدي. وبعد هنيهة قال: عسى أن تكوني قد اقتنعت أنه لم يبق لنا إلا الفرار الليلة من هذا القصر إلى القصر الجاريجاري.
فتشددت الملكة قليلا وقالت: الويل لي، كيف الفرار من الويل الذي أنذر به الهيكل؟ أما سمعت إنذار رئيسة الكاهنات الأخير الآن؟ - يا للسذاجة، أوما سمعت خبر أنيدون منذ برهة أن جيهول ابن رئيس كهنة جاريجاريا هو المدبر المكدية بالتواطؤ مع الرئيسة. - رئيسة الكاهنات لسان الهيكل، والهيكل مقام الإله، فهي تتكلم بلسان الإله. وا شقوتاه!
فقال أفريدوس مقنعا: إذا فررت معي خاب تدبير الكهنوت، وأخفق إنذار الهيكل، وحبطت المكيدة على مدبريها، فلا بد من تقرير الأمر الليلة وإلا فات كل تدبير.
فقالت الملكة يائسة: لو قبلت أنت اقتراح الفتاة أنيدون لنجوت بنفسك. - لو شئت النجاة وحدي لما احتجت إلى تدبير فتاة حتى ولا إلى تدبير ملكة. إن قوائم جوادي الأربع تصل إلى الحدود قبل بصره، أستطيع أن أفر في رائعة النهار، وأبرع فارسة عندك لا تستطيع أن تنال مني لمحة عين. - لماذا لم تفر؟ - عجبا، ألم تفهمي بعد أني لا أهتم بخطة تضمن سلامتي، بل بالخطة التي تضمن سلامتك أولا. - دعني للقدر ولدهاء أمي. - لا أثق بالقدر، ولا آمل بدهاء أمك بعد الذي ظهر من استنكارها لحبنا. - لعلك تعذرها إذا علمت أنك أمير جارجاريا الوارث عرشها. - حاذري أن تبوحي لها بهذا السر لئلا يشتد إيجاسها تخوفا على العرش الذي تنازلت عنه لك، حذار فهي الخصم الألد.
فقالت الملكة مستسلمة لليأس: إذن أنا أستسلم للظروف مهما كانت سيئة جزاء لتورطي، فارحل أنت ولا تقاسي نقمة الآلهة، هي ويلات واقعة حتما لا مفر لي منها؛ لأن نبوءة الهيكل صادقة. - يا للسذاجة! ليس لعقل أن يرى حادثا قبل وقوعه، فما نبوءة الهيكل إلى مكيدة ضدك، فإذا فررت كذبت النبوءة وخابت المكيدة، وإذا بقيت هنا كنت أنت المتممة للنبوءة في نفسك. يستحيل أن أدعك للظروف.
فقالت ملتمسة خيطا من الأمل: إذن فماذا؟ - عندي خطتان، ولك الخيار في إحداهما: إما أن أمضي إلى ساحة الإعدام، وفيها تنزل ويلات هيكلك علي وحدي وتسلمين بعرشك ولأمتك، أو أن تفري معي الليلة ويستحيل على أية قوة أن تنال منك، فاختاري إحدى الخطتين. - لا هذه ولا تلك. - فقال بحزم جازما: إذن أنا أختار، أرجو أن تسكني في حجرتك إلى أن تنسيك إياي ألاعيب الأقدار ومكايد الهيكل.
ثم هجم إلى ناحية الخروج، ولكنها أسرعت وصدته صارخة: مكانك. - دعيني أخرج. أوجستينا استبطأت الأمانة، والأمة تلحف بطلبها. - لن تخرج، أنا الملكة صاحبة الأمر والنهي. - الموت أعلى سلطانا من سلطانك، وأمره فوق كل أمر، وهو يدعوني واستبقائي هنا إلى الغد أصبح قضاء مبرما على حياتك وعرشك، فدعيني أفتديهما.
تبا له من افتداء يقض مضجعي، كل حياتي التي أصبحت مفعمة بؤسا، آمرك أن تمتطي جوادك في أول الليل، وتقذف به إلى ما بعد الحدود، وهكذا نسلم كلانا. - أنت ملكة وأنا ملك أيضا. آمرك أن تمتطي مطهمك وتقذفي به أمام جوادي إلى حيث عرش النعيم يتوقعك بذاهب الصبر. - يتوقعني تمام نبوءة الهيكل. - إذا أطعت أمري لا تتم نبوءة الهيكل، فإن لي هيكلا ينقذك من خرافة هيكلك. - ويلي، ماذا يكون بعدي؟ - يا لك من ساذجة، أإلى الآن لم تدركي قيمة الخطة التي تسلم بها حياتك وحياتي، وتحصلين بها على عرش أمجد من عرشك وأسعد؟
وفكرت الملكة مليا، ثم قالت: ويحي، وبماذا تقذفني ألسنة الأمازونيات بغير نعت الخائنة؟ - أجل، ولكن قلوبهن تصفك بنعت السعيدة، في الجهر يقلن تبا لها من خائنة، وفي اجتماعاتهن السرية يقلن: هنيئا لها بما يرشه إليه كيوبد من سهام لذات الحب. - يا لها من لذات لا تذوقها الأمازونيات إلا بالحلم. - أما أنت فتذوقينها باليقظة. يبقى العرش الجاريجاري متقلقلا إلى أن تستوي أنت عليه، والدولة تبقى قلقة إلى أن تقبضي على صولجانها. هلم انتقلي من هذا العرش المملوء من المخاوف والإنذارات إلى العرش المطمئن الوطيد. - والشعب الجاريجاري ماذا يقول؟ - يغتبط عظيم الاغتباط إذ يعد جلوسك على عرشه انتصارا لإلهه. - ودسائس كهنتكم؟ - تحبط لدى انتصار إلههم. - وهل يجهل شعبك ماذا يكون حقد الأمازونيات وغضبهن وهن اللواتي قد دوخن الأقطار وفتحن الأمصار. - تنحل قوتهن حالما يبرز كيوبد لهن بسهامه. - ويحي، من ينقذني من غضب أجكس، وأرس العظيمين؟ - لا يتجاوز غضبهما حدود بنطس، وسحر كيوبد يخبلهما ويشل عضلات الأمازونيات كما شل عضلاتك، فاعتنقي دين كيوبد فهو أقوى الآلهة وأوسعها سلطانا وأفعلها سحرا، وأمنحها للسعادة والهناء، هو إله جميع البشر، أبدلي إلها بإله وعرشا بعرش، وحياة سعادة بحياة بؤس. - وأفقد عطف أمتي وحبها، وأتعرض لحقدها. - بل تكسبين عطف شعب آخر مع عطف أمتك التي ستتوسل بك إلى اعتناق دين كيوبد، والتمتع بنعمة الحب التي تجود بها يد الطبيعة. - ويلي، وغضب كاهنات الهيكل؟ - يبقى كالريح تصدم الصخر الجامد، والصخر لا يكترث لأن الأمة تتمرد على الكاهنات اللواتي كن عقبة في سبيل انصياعهن إلى صوت الطبيعة الموسيقي. - يا لك من ساحر خالب تكاد تزين لي الفردوس في الفلك السابع. - أجل، إن ذلك الفردوس مفتوح الباب للترحاب بك يا حبيبتي، فلنمض إليه حالما ينسدل الظلام.
6
في هذه الساعة الحرجة نقر الباب، فأجفلا وأسرع أفريدوس إلى الحجرة السرية، وتقدمت الملكة إلى الباب ففتحته، وإذا بأوجستينا فيه، فقالت لها الملكة بصوت متهدج: ادخلي.
ورأت أوجستينا محيا الملكة متوردا، وعينيها مضطربتين، كأنها كانت في معركة خصام حاد ولما تنته بعد. فانحنت باحترام وارتباك، فبادرتها الملكة: ما وراءك يا أوجستينا؟
فقالت متلعثمة: ورائي يا مولاتي أمة تطالبني بالأمانة التي ائتمنتك عليها.
فقالت الملكة مرتعدة وجلة: الأمانة؟ - نعم، الفتى المتنكر ذو العذار.
فأجابت الملكة متشددة: وما هو شأن الأمة؟ - الأمة تنفذ الدستور يا مولاتي، وتريد أن ترى شريكة الفتى بالجريمة، أو أن يقتل الفتى قصاصا لجريمته. - عجبا، هل انتقل حق الحكم من العرش إلى سواد الأمة؟ ما هذا التطاول من الأمة على ملكتها؟ - الأمة تخاف غضب الآلهة قبل غضب الملكة. - والملكة حريصة على استرضاء الآلهة على الأمة، يجب أن تترك الأمة التدبير للملكة ولسيدات الدولة، اذهبي وطمئني الأمة بهذا. - لم يبق للأمة قياد يا مولاتي، فحبذا أن تشرفي أنت من قصرك وتلقي كلمة اطمئنان، ففكرت الملكة قليلا، ولم تر مخرجا من هذا المأزق إلا بالوعد، فقالت: سأفعل. اخرجي أنت سكني ثائر الأمة بهذا الوعد.
وخرجت أوجستينا وبقيت الملكة تحدث نفسها: ويلاه، الأزمة تشتد، وهذه الخبيثة أوجستينا تزيدها وقدا بلؤمها، لم يبق للتسويف نفع، يجب بت الأمر عاجلا قبل أن يحدث الكسوف إن كان وقوعه مؤكدا، ويجب تدارك الويلين ولو بالتملص من سلطة الهيكل.
ثم فتحت الباب الأوسط المؤدي إلى حجرة أمها، ونادت أمها، فلبت الأم في الحال، فبادرتها قائلة: أماه، في فمك فصل الخطاب إذا خففت من غلوائك، ورجعت بتذكاراتك إلى أيام صباك، أيام ثورة الطبيعة البشرية. - لقد كنت في صباي أشد صلابة مني في شيخوختي العمياء، فلا تستنجدي بشيخوختي الهامدة، ولا تنتظري مني تحبيذا لخطة خرقاء.
فتنهدت الملكة لشدة غمها، وقالت: لقد دبرت خطة أسلم بها وهي أن أترك أفريدوس لرحمة الهيكل؛ لأن الكهنة يعطفون بعضهم على بعض، وإنما أود أن أمهد للأمر بالتشفع به لدى رئيسة الكاهنات أولا. - خطة لا بأس بها، ربما كانت أسلم عاقبة من أي خطة أخرى. - ولكن الأمة ثائرة، وأود تهدئتها ريثما أسترضي الهيكل على أفريدوس، وأوجستينا تنصح لي على أن أشرف على جمهرة الأمة من شرفة القصر، وألقي فيها كلمة لتهدئة ثائرها، فما تكون الكلمة يا أماه؟ - حاذري أن تشرفي على الأمة وهي متجمهرة ثائرة؛ لأن الجمهور مجنون فاقد العقل والاتزان، أرسلي حكمتك إلى الأمة بلسان رئيسة حكومتك أمازونيا، ولتلقها أمازونيا باستخدام سلطتك الشرعية بتؤدة وحكمة. - وماذا تكون كلمتي يا أماه؟ - الوعد. - أي وعد أستطيع تنفيذه؟ - الوعد الكاذب الذي لا تريدين أن تبري به يا ساذجة، وما هو إلا هدنة ريثما يسكن ثائر الأمة، لكي يتسنى لك أن تنفذي خطتك. - بأي وعد كاذب أستطيع أن أملك هدنة اليوم فقط. - بوعد أن تسلمي الأمة غريمها لكي تفتك به. - ويحي من وعد يتزلزل به هيكل عظامي، أشكر رأيك يا أماه. - ولكنك لن تبري بالوعد، متى سكن ثائر الأمة نفكر بخطة.
وقادت الملكة أمها إلى باب حجرتها وأدخلتها فيها، ثم استدعت جورجيا كاتبة أسرارها، وأمرتها أن تستدعي أمازونيا رئيسة الحكومة.
7
وقبل أن تلبي أمازونيا الدعوة استدعت أفريدوس من حجرة السر، وقالت: لم يبق عندي من خطة إلا الفرار يا عزيزي، فلنستعد له حالما تفرنقع المتجمهرات ونختلس الطريق في أول الليل.
فابتهج أفريدوس وقال مرحا: لقد انتصر الحق على الباطل، كيوبد إله حق، إله الطبيعة الفياضة بالسعادة والهناء.
فقالت الملكة: ولكن الشمس ستنكسف قبل مجيء أول الليل، وعندها يحل الويل، فما التدبير؟ - عندي التدبير، فمهلا قليلا.
وعندئذ نقر الباب، فأسرع أفريدوس إلى حجرة السر، وأذنت الملكة فدخلت جورجيا، وقالت: إن السيدة أمازونيا جاءت من تلقاء نفسها. - فلتدخل.
فدخلت أمازونيا، وانحنت لجلالة الملكة، فبادرتها الملكة بالسؤال: ما وراءك؟ - تحرج الأمر يا مولاتي، لم يعد في وسعي ضبط الأمن، الأمة ثائرة تريد القضاء على الخونة قبل أن تنزل ويلات غضب الإلهين حين يقترن القمران.
فقالت الملكة واجفة متظاهرة بالشجاعة: أبلغي الأمة أن غدا فصل الخطاب، وفيه ننزل العقاب على الخونة، استعملي حكمتك في تهدئة خواطر الأمة وتبديد الجمهور.
فانحنت أمازونيا وقالت: الأمر أمر مولاتي، سأرى ماذا في مقدوري أن أفعل، ليتني أنجح.
ثم خرجت أمازونيا، ودخل توا أفريدوس، وقال: لقد أعددت المطهمين الأولين. - لا نحتاج إلى شيء غيرهما، في الصباح نكون في قصر الحدود، وفي أول الليل نبرحه. - لا نؤجل السير إلى عاصمة جاريجاريا؛ لئلا تدركنا مطارداتنا. - لا يشعرن بفرارنا إلا صباحا، فلا خوف من مطاردتهن لنا، أود أن أدخل جاريجاريا ليلا بعد أن تكون قد سبقتني لاسترضاء أبيك. - أبي يغتبط عظيم الاغتباط بقدومك، ويتنازل لي عن العرش حال وصولك؛ لأنه يحسب قدومك انتصارا لإلهه. وا سعادتاه إذا صح هذا الحلم، وداعا يا بنطس. - لا تودعيها، فستعودين إليها مكرمة محبوبة وملكة. - هلم أعانقك عناق القران يا ينبوع السعادة والهناء. أظن يجب أن تبرح بنطس بأسرع ما يستطاع لئلا يحدث الكسوف ونحن هنا فتتم نبوءة الهيكل فيقع الويل.
فقهقه أفريدوس وقال: إن نبوءة هيكلك - ولو كسفت الشمس - خائبة؛ إذ لا صلة بين الكسوف وحوادث الأرض. ما هذه النبوءات التي تصدر عن الهياكل إلا خداع للشعوب. أنا ابن كاهن وأعرف كيف أبي يؤثر على الشعب بإصدار النبوءات، لا تعلقي أهمية على نبوءة هيكلك، فما هي إلا قسم من الدسيسة المتبيتة ضدك، والمكيدة المنصوبة حولك.
عند ذلك نقر الباب، فأجفلت الملكة وقالت: داهية جديدة، أسرع إلى كنك.
8
ففتحت الباب الملكة وإذا جورجيا تقول لها: رئيسة الكاهنات يا مولاتي!
فتجلدت الملكة وقالت: مرحبا بها، لا ريب أن الإله أوحى إليها أني في حاجة إلى مقابلتها السعيدة، مقابلة موفقة بإذن الإله.
وما خرجت جورجيا حتى فتحت الملكة الباب الأوسط واستدعت أمها بسرعة، فحضرت وهمست لها: أظن أن الخطة موفقة جدا يا أماه؛ لأن رئيسة الكاهنات قدمت من تلقاء نفسها كأن الآلهة أوحت لها خيرا.
فقالت الأم متململة: وقتنا الآلهة من مفاجآت كاهناتها، إني أتوقع شرا من هذه الخبيثة.
فقالت الملكة مضطربة شديدة الاضطراب: أرجو أن تساعديني يا أماه في إقناعها بأن تأخذ أفريدوس غدا إليها لكي يقدم التوبة في الهيكل، وتصفح الآلهة عنه.
فقالت الأم: تصفح الآلهة أو تنتقم سيان عندنا، يكفي أن نطهر العرش من هذا الرجس.
وهنا، دخلت رئيسة الكاهنات.
9
واستقبلت الملكة رئيسة الكاهنات بكل بشاشة وترحاب، فانحنت الرئيسة قليلا، وقالت: تحية لصاحبة الجلالة.
فقالت الأم: وسلام لقداسة سفيرة الهيكل المبجلة، لا ريب أن قدومك أيتها الموقرة بشير الرحمة، وبواسطة سموك يكف الآلهة عن الغضب، وتوسلك يستدرك غضب الآلهة، قررنا أن نضع بين يديك وتحت رعايتك المعتقل المتنكر الذي لم يسفر التحقيق معه إلا عن هوج وطيش، ولا غرض له سوى مشاهدة عاصمة الأمازونيات.
فأجابت الكاهنة وهي جامدة في مكانها لا تبدي حراكا، وقالت بصوت جهوري: فليحضر، فليحضر.
فقالت الملكة بتضرع: لقد ظهر يا ذات القداسة أنه من أسرة الكهنوت، ولهذا يستحق عطفك.
فأجابت الكاهنة بصوت جهوري شديد: فليحضر حالا.
فاستدعت الملكة أفريدوس من حجرة السر، فدخل بثوب رجل وانحنى باحترام كلي.
واستدعت الكاهنة كاتبة السر الملكة جورجيا، فحضرت، وقالت لها: استدعي الكاهنة التي اصطحبتها معي.
فما ترددت جورجيا في أن دعت الكاهنة التي كانت في معية رئيسة الكاهنات المطلوبة، فنزعت رئيسة الكاهنات الثوب عن الكاهنة المزيفة فبدا جيهول بزي كاهن بثوب أسود، وعلى رأسه قلنسوة لا غطاء لها، وإنما لها أربع زوايا.
فانذعر أفريدوس بعض الذعر، ولكنه تجلد وتشجع. وأما الملكة فانذعرت وارتجفت، ووجهت الكلام إلى جيهول قائلة: هل تعرف هذا المزعوم أنه كاهن جاريجاري.
فقال جيهول: كاهن جاريجاري؟ ما هذا كاهنا، وإنما هو أمير جاريجاريا يا مولاتي. فوجهت كلامها إلى أفريدوس: هل تنكر هذا الكلام؟
فقال أفريدوس بشدة بأس وقوة: لا لست كاهنا، أنا أمير جاريجاري وزوج ملكة بنطس الشرعي حسب شريعة كيوبد، الملكة التي ستتوج ملكة على جاريجاريا أيضا.
فصرخت أم الملكة بملء شدقيها: ويلكما، ويلكما، أنتما أخوان من بطن واحد وصلب واحد، سر لا يدريه أحد سواي.
فقالت رئيسة الكاهنات: والويل يدريه أيضا.
ربما كانت الرئيسة لا تدريه، وإنما ادعت هكذا لكي تتم النبوءة وتنتصر الرئيسة النصر المبين.
عند ذاك صرخت الملكة صرخة شديدة وانطرحت على ساعدي أمها: ويلاه، ويلاه! الويل، وكان القمر قد شرع يتدرج ببطء على قرص الشمس وكاد يغطيه.
فقال أفريدوس متداركا: وماذا في الأمر؟ بعض أمراء الأمم يتزوجون أخواتهم، وقد تزوج بعضهم أخواتهم كبطالسة مصر، وابن آدم تزوج بنت آدم، وبنت لوط تزوجت أباها ورزقت منه ولدا، وهناك ألف شاهد على زواج الإخوة والأخوات.
الأم: ويلكما، ليس لهم شريعة هيكل ينزل الويلات على الأخوين المقترنين.
فقال أفريدوس: مع ذلك لا أصدق دعواك، فقد كنت معارضة زواجنا بكل شدة، فانتحلت هذا السبب لكي تحولي دونه.
وقالت الرئيسة: القمران يقترنان، انظروا الآن ... والويلان ينقضان.
من غرائب الاتفاق أن الكسوف حدث في تلك الساعة، فمن من الخرافيين لا يصدق أن نبوءة الهيكل تمت.
وصرخت الملكة صرخة تفجع وهي تنظر إلى الشمس مكسوفة: الويل الويل الويل.
واستلت خنجرها بكل سرعة وطعنت به قلبها. وقعت صريعة.
في إبان هذا الويل دخلت أمازونيا ثم تبعتها جورجيا، ثم أوجستينا ثم فلومينا، وبعض حاشية الملكة، وجزعن من جراء هذه المأساة، وانعقدت ألسنتهن عن الكلام، وأي كلام يطرأ عليهن. والأم تفجعت وصاحت بالويل والثبور إلى أن قالت: يا لنقمة الآلهة فطالما حاولت أن أتدارك هذا الويل، ولكن مقدرتي خانتني.
وقالت الكاهنة بصوت جهوري: القمران يقترنان والويلان ينقضان.
وعندما تناول أفريدوس الخنجر من يد الملكة القتيلة وهزه وهو يقول بصوت جهوري بكل تأن: تبا للإله الذي يجعل شريعته فوق شريعة الطبيعة، ويحسب الحب جريمة يعاقب عليها بالموت، فلسوف تمتص الطبيعة ذلك الإله كما يمتص الهواء الدخان والبخار، ولسوف تعاقب الأجيال القادمة خدمة ذلك الإله الجاحد الحق والطبيعة بالحديد والنار. معك يا زوجتي إلى عالم الحق والحقيقة، وهجرا لعالم الغباوة والضلال.
ثم طعن صدره وخر على رجلي الملكة قتيلا.
ثم قالت الكاهنة: القمران اقترنا، والويلان انقضا، ونبوءة العرش صدقت، انظروا الشمس مكمدة.
وحينئذ تم كسوف الشمس وسكنت الطيور في أوجارها، والحيوانات لجأت إلى أوكارها، واضطرب الجو ونفخت الريح.
وقالت أمازونيا: لقد انتصر أجكس وأرس على كيوبد، وسلم عرش بنطس، وحفظ استقلال مملكة الأمازون .
وقالت الكاهنة: تولي يا أمازونيا عرش بنطس، فأنت أولى من يتولاه الآن.
وقالت أوجستينا: إذا لم ترش يمين كيوبد سهاما فلا يبقى ذكور ولا إناث ولا بطون.
Unknown page