اليوم يوجه لنا المشتغلون بالدين علينا الخطاب الأول ويغطون حتى على مصادر الخطاب الثاني، ويطلبون عودة بلادنا إلى نظامها الخليفي الأول، ويطلب الاتحاد العالمي للإخوان إحياء الخلافة هدفا رئيسيا في برنامجه؛ لذلك يصبح واجبا على المسلم أن يعلم ما هو مقبل عليه في حال استلام الإخوان أو أحد إخوانهم لحكم مصر المحروسة لا قدر الله ولا كان.
نعود للخلفاء الراشدين قدوة المسلمين، والذين تحولت فعالهم في المذهب السني إلى سنة كسنة الرسول، مكملة له بالضرورة، بحسبانها النموذج الذي يدعو له المتأسلمون على كافة ضروبهم، لنجد الواقع ينطق بغير أقوالنا المأثورة؛ فالخليفة الذي قبل من الأعرابي قوله أن يقومه بسيفه، هو من قوم الجزيرة كلها بسيفه، فقتل أهلها شر قتلة؛ قتل من اعترضوا على خلافته وشكوا في شرعية حكمه وصحة بيعته، وقتل من قرر ترك الإسلام إلى دين قومه؛ فأمر برمي الجميع من شواهق الجبال، وتنكيسهم في الآبار ، وحرقهم بالنار، وأخذ الأطفال والنساء والثروات غنيمة للمسلمين المحالفين لحكم أبي بكر؛ وهو ما دونته كتب السير والأخبار الإسلامية على اتفاق. والخليفة الثاني العادل، هو من استعبد شعوبا بكاملها، ومات مقتولا بيد واحد ممن تعرضوا للقهر والاستعباد في خلافته. أما الخليفة الثالث فكان واضحا من البداية في التمييز وعدم العدل خاصة في العطاء، فكان أن قتله أقاربه وصحابته الذين هم صحابة النبي قتلا أقرب إلى المثلة، فكسروا أضلاعه بعد موته عندما نزوا عليه بأقدامهم، ورفض المسلمون دفنه في مقابرهم فدفن في حش كوكب؛ مدفن اليهود.
ستواجهنا هنا مشكلة أخرى؛ فبأي الخلفاء الراشدين سنقتدي في دولتنا الإسلامية المقبلة؟ وبأي طريقة سيتم اختيار الخليفة؛ لأن الخلفاء الأربعة كان لكل منهم طريقة في الوصول إلى الحكم.
الخليفة أبو بكر انتصر بحديث «الإمامة في قريش» أو «الخلفاء من قريش»، وفي تأويل آخر رمزي اعتبر تكليف النبي له بالصلاة بالمسلمين في مرضه الأخير، تفويضا له بالخلافة؛ ولم يكن تعيينا واضحا دقيقا بالمرة. واختار أبو بكر عمر من بعده، واختار عمر من بعده ستة يختاروا من بينهم واحدا، وفي ولاية الإمام علي أقوال كثيرة.
كل هذا يشير إلى أن رب الإسلام لم يضع للمسلمين نظاما واضحا في الحكم ليتبعوه؛ بدليل اختلاف الهداة الراشدين، وإلا كان تصرف وفعال وطريقة كل خليفة في الحكم مخالفة لمعلوم من الدين بالضرورة. إنهم يقولون لنا غير ذلك؛ يقولون إن دولة الخلافة والشريعة معلوم من الدين بالضرورة، ومن يعارض قيامها (مثلي مثلا؛ فأنا من أشد أعدائها) هو مرتكب لما هو مخالف للمعلوم من الدين بالضرورة!
إنهم يزيدون علينا في أمر ديننا؛ وهذا هو التعريف الدقيق للبدعة. المسألة ببساطة أن رب الإسلام ترك شأن الحكم للمسلمين؛ إن شاءوا فعلوا ما فعل الأثينيون بديمقراطيتهم المباشرة، وإن شاءوا فعلوا فعل بلقيس عندما كان لها لجنة استشارية متخصصة ترجع إليها في شئون الحكم، وهو ما أخبرنا به القرآن. ولم يعب القرآن حكم بلقيس، إنما عاب دينها، ففصل الدين عن السياسة، وترك لنا نموذجا آخر بين البدائل الممكن اختيارها. فإن شاءوا أخذوا بالطريقة المصرية أو الساسانية. وكل ما يجمع بين هذه الأمثلة هو وجود المؤسسات والهيئات التي تقوم على حفظ نظام الدولة وكيانها وإقامة العدل بين المواطنين، وحفظ حقوقهم.
نعود لزمن الرسول والصحابة نبحث أي النماذج اختاروا للحكم من بين المعروض في الدنيا. وهو مساحة صمت فيها الوحي، فكانت مساحة حرة يمكن فيها اختيار أفضل الأنظمة لأفضل الأديان ليعبر عنه وعن عدله ومساواته، ومحققا لمأثوراتنا؛ خاصة أسنان المشط دلالة على المساواة.
يقول: «أبو حاتم وابن مردويه، عن أبي الأسود قال: اختصم رجلان إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
فقضى بينهما، فقال الذي قضي عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب. فأتينا إليه، فقال الرجل: قضى لي رسول الله على هذا، فقال ردنا إلى عمر. فقال عمر: أكذاك؟ قال: نعم. فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما. فخرج إليهما مشتملا سيفه فضرب الذي قال: ردنا إلى عمر. فقتله، وأدبر الآخر، فقال: يا رسول الله، قتل عمر صاحبي. فقال عليه السلام: ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن. فأنزل الله:
Unknown page