Dawla Islamiyya Wa Kharab
الدولة الإسلامية والخراب العاجل
Genres
أما الملاحظة الملفتة بشدة، فهو أن الدكتور أبا حطب في طي سرده لأسباب استبعاده النضال العنيف، لا تجده يرفضه من منطق قيمي أو من باب أخلاقي، بل هو لا يرفضه إن حقق أهداف، لكنه يرفضه لأنه لن يحقق المطلوب، ولأن المسلمين على حالهم اليوم لا يملكون القدرة لتنفيذ النضال العنيف.
إن عجز شعوبنا وسلبيتها ولا وعيها، كلها نواتج ثقافة مريضة هيمنت عليهم آجالا طويلة وتسيدت في عصور ظلام ممتدة حتى اليوم، بينما استطاعت شعوب أخرى بمفكريها وفلاسفتها من استبدال ذلك الظلام بجديد حديث حر، ولم يستغلوا ضعف النظام الحاكم للقفز على الكرسي الكبير لينصبوا أنفسهم مستبدين جددا بذات الفكر القديم، وربما أكثر استبدادا وسلفية وهو الأمر الأكثر منطقية. إن الدكتور يحرض الشعوب ضد حكامها لتمكين المتأسلمين مع بقائنا عبيدا كما نحن الآن، وبالقطع سيكون حالنا أسوأ مما نحن عليه الآن بمراحل.
إن النضال اللاعنفي الذي يدعو إليه الدكتور هو كالسرطان الذي يمزق المجتمع كي يثأر من الحكومة. إنه حتى وهو يعرض علينا جديده السلمي اللاعنفي حافظ بداخله على «سورس» العنف، والطبع يغلب التطبع.
إن عنفه اللادموي لا يحمل معنى الرضا والتراضي؛ فعنفه الديني ولا عنفه الثقافي يخرجان من مشكاة واحدة، وقودها الدم وتقيتها العدوانية الخبيثة، وكوكبها الدري المخفي وراء الخطاب المختال هو الاستيلاء على الحكم ولو على ردم من خراب. فالدكتور ليس لديه بديل يقدمه لنا بعد تدمير المجتمع، وبعد مقاطعة المواطنين للحكومة وللشركات الوطنية والوكلاء الذين يزودون النظام باحتياجاته، وعدم التعاون مع الحكومة عند حاجتها لشعبها وإضراب الصدمة للفلاحين والعمال، والاستقالة من العمل الحكومي وسحب الولاء عنها ورفض مساعدة أجهزة الحكومة ... إلى آخر ما قال من خراب ديار. إنه لم يقدم لنا البديل لأنه يعلم أن البديل أوضح من أن يشار إليه أو يعرف، إنه الحل الرباني ... الإسلام هو الحل. فلا يبقى سوى القضاء على الحكومة والاكتفاء بمشايخنا مراجعنا وبالأزهر بعد ذلك سندا ومرجعا، بعد أن تم إلغاء عقل الناس، بعد أن قضوا على الملكة الغريزية الباحثة عن المعرفة، وكفروا العقل النقدي، وأصبح الناس يسألون مشايخنا وهم يجيبون على كل سؤال في كل شأن، هل مجتمع في الدنيا على هذا الحال له أي حقوق ضائعة من حقه أن يطالب بها؟
الغريب أنه وهو يعض على إيمانه بيده مع أخذه النضال اللاعنيف، فإنه باليد الأخرى يقر بما نقول، كما في قوله «جاء اصطلاح الانقلابات والثورات التصحيحية للتخلص من أنظمة ظلت تمارس القمع والاستبداد لفترات طويلة ... إلا أن الأنظمة الجديدة التي أتت بها الانقلابات لا تمثل تصحيحا ولا بداية جديدة كما كان متوقعا، وهنا يكمن الدرس التاريخي الذي يدفعنا إلى التحفظ على خيار الانقلابات، فاحتمالية تحول من يقومون بالانقلابات تحت شعار الحرية لأنظمة دكتاتورية تظل احتمالية قائمة.»
إن هذه العبارة تكاد تكون العبارة الوحيدة الصادقة فيما قال أبو حطب جميعه، وهو يقدمه تبرير وتأكيد لدعوته لبدائل العنف للتخلص من الاستبداد، وهو يعلم أن مجتمعنا وهذا حاله إن تغير فلن يتغير فيه سوى الوجوه والأسماء ودرجة الظلم؛ لأنه يستكمل صادقا دون أن يعني نفسه أو جماعته قائلا: «لأن هؤلاء الواثبين على الحكم لم يؤسسوا لتقاليد الحريات المدنية والتحول الديمقراطى». إن الدكتور إن أراد حقا خير الناس لانشغل بهم وبحث عن أسباب الاستبداد رغم تعدد الانقلابات والثورات وتغيير النظم الحاكمة مع كل حكومة في بلاد المسلمين، إن السبب هو استمرار الثقافة الحاكمة دون تغيير ودون أن تشذ حالة واحدة عن هذه القاعدة.
إن مفاهيم حقوق الإنسان والديمقراطية والحريات على أصنافها شيء غائب عن ثقافتنا، وغير موجود في مخزوننا المعرفي ولا حتى في معجمنا اللغوي؛ لأنه لو كان متواجدا لكان لدينا كل أنواع الحريات من قديم الزمان منذ السلف الصالح الذي نفترض هنا بالضرورة أنه هو من أسس للديمقراطية. إن قيمنا لا تعرف الحريات كما هي في الديمقراطية المحدثة، ولو كانت تعرفها كما يوعز لنا أبو حطب كي نستردها بالنضال اللاعنيف، لكان المسلمون أسبق الشعوب معرفة بها، ولنقلها الآخرون عنا، ولما انتظر العالم كله حتى يظهر روسو وفولتير ومونتسكيو.
وضمن مبراراته لنضاله اللاعنيف أن خيار الانتخابات الذي تلجأ له الأنظمة الدكتاتورية لا يؤدي إلى تحول ديمقراطي، يؤدي إما للتلاعب بنتائجها أو إلغائها بالكامل، كما حدث في بورما 1990 ونيجيريا 1993 وفي الجزائر 1991 ... وتعمد النظم الدكتاتورية إقامة هذه الانتخابات في ظروف لا توفر المعايير المطلوبة لإجراء انتخابات نزيهة.
والرجل محق تماما في أن خيار الانتخابات لن يؤدي إلى تحول ديمقراطي، لكن ليس نتيجة تزييف نتائجها، فبفرض اكتمالها بكافة معايير الانضباط والالتزام الإداري، فإنها لن تفرز لنا عناصر من غير ذات المجتمع وذات الثقافة. إن مجتمع السادة والعبيد لن يفرز لنا من يقيم لنا الحريات، حتى أحزاب المعارضة لا تعرض في سوق الفكر ديمقراطية حقيقة أو لا تقدم نموذجا ديمقراطيا حقيقا من أقصى يمينها إلى أقصى يسارها، كلها كالحكومة، طبعة واحدة؛ لأنها ثقافة المجتمع. كلهم عصابات تتصارع على الفريسة، والفريسة لطيفة مطيعة لأنها تطيع الله ورسوله وأولي الأمر منها. ولأن أبا الحسن الماوردي قد قال في الأحكام السلطانية: «إن أهل الرأي متى عقدوا البيعة للإمام لا يجوز لمخلوق نقضها؛ لأن الرعية عليها بموجب هذه البيعة الطاعة، والنصر للإمام ما وسعتهم الاستطاعة، ولا يحل لهم القيام عليه بحال.» هذا قول الفقيه، ومثله كان قول المثقف المستأنس؛ إذ يقول ابن هانئ الأندلسي في المغرب يخاطب الخليفة:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
Unknown page