Dawla Cuthmaniyya
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
Genres
وإن في لبنان علاوة على ما تقدم دافعا طبيعيا لجلاء جزء من سكانه بين فترة وفترة، ذلك أنهم جميعا كثيرو الضنو، تتكاثر ذراريهم بسرعة فيضيق القطر عنها، وهو في حالته الحاضرة مع وفرة عدد الجالين عنه للعهد الأخير لا يزال من أكثر جبال الأرض سكانا، فالقرى - ولا سيما في شماليه - مزدحمة ازدحام قرى النمل، ولا عبرة بإقفار بعضها في هذا الزمن، فلا تلبث أن ترجع فتكتظ بأهاليها.
ومن أعظم أسباب المهاجرة أيضا انتشار العلم بكثرة المدارس، وإن من سيئات العلم - إذا عدت له سيئة - أنه يثني حديث العهد به عن زراعته، فقلما تجد ابن فلاح تعلم فعكف على زراعة أبيه، بل تسوقه المطامع في المال إلى طلب الرزق من باب آخر. وأبواب الرزق في لبنان تكاد تكون منحصرة في الزراعة ومصالح الحكومة، فأما مصالح الحكومة فإنها لا تتسع لأكثر من زهاء ثلاثمائة؛ فيضطر سائر المتعلمين - ويعدون بالألوف - إلى هجر الأوطان.
وهكذا كانت الجالية اللبنانية مؤلفة من فئتين: فئة الفقراء المنتجعين العيش بقوة سواعدهم ، وكثيرون من هؤلاء يستلفون نفقات السفر استلافا، وفئة المتعلمين الطالبين الرزق من شق أقلامهم أو من رأس مال صغير يكون في الغالب أيضا دينا بذمتهم.
وكان أول من نفخ في ذلك البوق أهل شمالي لبنان؛ حيث الأهالي مزدحمة ازدحام القطافي أفاحيصها، ثم تابعهم أهالي أواسط الجبل، فسكان الجنوب، وما لبثت أن امتدت العدوى إلى مدن سوريا كدمشق وحلب وبيروت، وسائر الثغور والأرياف.
ولنقل الآن كلمتنا الأخيرة، وإن طالت، عن مهاجري لبنان قبل أن ننتقل إلى سائر الجالية العثمانية، وخصوصا أن بين هجرة اللبنانيين وهجرة سائر أبناء السلطنة فرقا عظيما في الأسباب والنتائج.
ليس لدينا إحصاء رسمي لمعرفة عدد المهاجرين اللبنانيين (والإحصاء في زمن الحكومة الغابرة من الكماليات المضرة)، ولكنه يؤخذ من الاستقراءات الطويلة التي تتبعناها أنهم بين الولايات المتحدة وسائر جمهوريات أميركا وأستراليا ومصر وجميع الأقطار الأفريقية؛ لا يقلون عن الثلاثمائة ألف. أي: إنهم يكادون يساوون - عددا - السكان الباقين في البلاد. وكل هذه الجالية هجرت البلاد بعد سنة 1870 إلا أفرادا قليلين منها، وكلها أيضا هاجرت في طلب الرزق، فلم يكن الظلم السبب الدافع للمهاجرين، ولكنه كان السبب في انصرافهم عن بقاع سوريا والعراق الفسيحة ومدنها الغناء في بلاد هواؤها هواؤهم ولغتها لغتهم إلى حيث تنهكهم الأمراض والمشاق في بلاد يجهلون لغتها وطبائع أهلها.
ولقد عرفنا من بعض الإحصاءات الاستقرائية أن ثلثهم يموت فناء بالمرض ومشقة السفر. ويكفيهم من ضروب العذاب الأليم ما يلقاه كل فرد منهم يوم مغادرته ثغر بيروت أو يوم عودته إليه، وإنا لعلى يقين أنه لو حوكم بعض ولاة بيروت على ما كانوا يؤلمون به أولئك البؤساء، وما يبتزونه منهم من الأموال بواسطة حفاظ الأمن يوم سفرهم أو يوم عودتهم؛ لحكم عليهم بالسجن المؤبد.
ومع كل ما نتج عن المهاجرة اللبنانية من تناقص الأيدي العاملة في الأرض، وتناقص النسل بموت بعض المهاجرين، وابتعاد الرجال عن نسائهم، وانتشار بعض الأمراض التي لم تكن معروفة، أو كانت نادرة جدا كالسل الرئوي والزهري، فإن النفع كان عظيما بإثراء زمرة من هؤلاء المهاجرين، وتكاثر النقود بما كانوا يرسلونه إليها، وتوسيع أبواب الراحة بالمعيشة وتلاشي الجرائم بابتعاد أربابها لقلة أرزاقهم في ديارهم.
واللبناني من طبعه شديد التعلق بوطنه، يحن إليه وإن شاخ في أقاصي الأرض؛ ولهذا كانت الجالية في أول الأمر تعقد النية يوم قطع تذكرة السفر على أن لا تلبث في اغترابها إلا ريثما يجتمع لديها شيء من الوفر تستعين به على معيشتها، فتنقلب راجعة إلى بلادها وهي تقول ما طالما رددناه لبعض أفرادها:
لا يستقر الظبي في فلواته
Unknown page