وحفزه الحرص والخوف معا أن يستطلع رأي «بتلر» - القسيس والفيلسوف الأخلاقي المعروف في تاريخ الفكر الإنجليزي - فاعجب لهذا الثائر على الفلسفة الدينية والأخلاقية الشائعة في عصره يستشير قسيسا أخلاقيا في قيمة مبادئه! لكنه فعل، وأعجب من ذلك أنه لم يتردد في تغيير ما اقتنع بأنه واجب التغيير.
وأخيرا صدرت «الرسالة في الطبيعة البشرية»
5
لا تحمل اسم صاحبها ولا أي اسم آخر من أسماء العظماء الذين اعتاد المؤلفون أن يستندوا إليهم؛ فقد أراد هذا الفيلسوف الشاب الذي لم يكن قد جاوز الثامنة والعشرين عندما نشر في الناس مؤلفه العظيم، أراد أن يواجه القارئ بكتابه مواجهة مباشرة فيرفعه أو يخفضه تبعا لما يراه في ذاته من قيمة كبيرة أو صغيرة، دون أن يتأثر بهذا الاسم أو ذاك ... ترى هل كان هذا التخفي جبنا أم شجاعة؟ هل جفل الفيلسوف المتردد من مواجهة القراء بشخصه أم أنها شجاعة منه أن يقذف بفلسفته في وجه القراء غير مستندة إلى ناصر أو شفيع؟
وعلى أي حال فقد «ولدت الرسالة ميتة من المطبعة، لم تستثر حتى ولا الهمس بين من يتحمسون لها.» على حد ما قاله هيوم نفسه عنها؛ مع أنه كان يعلق عليها آمالا كبارا، وكان يظن أن عالم الفكر سيرتج لها ارتجاجا؛ لأنها في الحق قد جاءت بالمبتكر الجديد، لكنها «ولدت من المطبعة ميتة» كما يقول؛ ولما أن اشتد به القلق لهذا الإخفاق، لم يطق صبرا على البقاء في المدينة يرقب كتابه كيف يكون وقعه في الناس، فآثر أن يأوي إلى بلده في الريف ريثما تقرر الأيام مصير الكتاب الذي طلع على الناس - كما يقول هيوم نفسه في إحدى رسائله عندئذ - بالرأي الجديد، «فإذا ما استقر به القرار فسيكون من شأنه أن يغير مجرى الفلسفة تغييرا شاملا كأنه الثورة، وأنت تعلم أنه ليس من اليسير استحداث ثورة من هذا القبيل.»
6
لكن الكتاب لم يلق رواجا عند صدور جزأيه الأولين، وكان الرواج والنجاح - عند هيوم - أمرين مرتبط أحدهما بالآخر، فلا نجاح لمذهبه بغير رواج كتابه؛ وقل ما شئت عما أخذه من ضيق نفسي لهذه الهزيمة التي لم يكن يتوقعها، ومع ذلك فقد مضى يعد جزأه الثالث، غير أنه هذه المرة آثر أن يلجأ إلى ناشر آخر، مستعينا في ذلك ب «هتشسن» الذي كان أستاذا للفلسفة في جامعة جلاسجو، وهو الفيلسوف المعروف بمذهبه في الأخلاق.
لا، بل إن الأمر لم يقف عند حد امتناع الرواج، فجاوزه إلى اضطهاد من يقرأ هذا الكتاب من أبناء الجامعات! وإنه ليروي في هذا الصدد أن آدم سمث (صاحب الكتاب المشهور في الاقتصاد) كان تلميذا ل «هتشسن»، فأوصاه أستاذه هذا أن يقرأ «رسالة» هيوم، ففعل، ثم حدث له بعدئذ أن انتقل إلى جامعة أكسفورد، فرآه المشرف عليه هناك يطالع «الرسالة» فوجه إليه أشد اللوم وألذع التقريع؛ لأنه يقرأ كتابا بعيدا عن العرف الجامعي في طريقة البحث وأسلوب التفكير.
أوى هيوم إلى الريف لائذا بهدوئه من الخيبة التي أصابته في كتابه، وجعل يكتب «مقالات في الأخلاق» والسياسة حتى أعد منها ما يصلح كتابا، ودفعه إلى النشر فلقي من الرواج ما لم يكن لكاتبه في حساب! فحفزه ذلك إلى كتابة جزء ثان من هذه «المقالات»، وتحرك الأمل في صدر هيوم من جديد، راجيا أن يكون رواج «المقالات في الأخلاق والسياسة» سببا في لفت الأنظار إلى «الرسالة» التي أهملت ظلما من أئمة الفكر وقادته؛ وعلى كل حال فقد كانت هذه «المقالات» من سمو الفكرة وطلاوة الأسلوب ما استحقت به البقاء؛ ولعلها كانت أول إنتاج أدبي ينتجه كاتب اسكتلندي فيجاوز به حدود إقليمه ليتحدث عنه القراء في سائر أجزاء إنجلترا، بل وفي فرنسا مركز الثقافة في ذلك الحين.
بهذا النجاح الجزئي اكتسب هيوم ثقة بنفسه، ولم يعد يتوارى عن الناس كما كان يفعل؛ وعلى أساس هذه الثقة تقدم إلى كرسي الأستاذية في الفلسفة حين خلا في جامعة إدنبره؛ لكن الجامعة رفضته بسبب آرائه التي وردت في «رسالته»، وعينت «هتشسن» لولا أنه اعتذر بضعف صحته؛ والعجيب الذي يستحق الذكر هنا هو أن «هتشسن» هذا كان بين من أوصى جامعة إدنبره ألا تعين هيوم في كرسي الأستاذية، على الرغم من أنه كان بين الأساتذة القلائل الذين قرءوا «الرسالة» وأعجبوا بها وشجعوا مؤلفها على المضي في بقية أجزائها، لكنه - فيما يظهر - لم يرد أن يشغل الأستاذية من جاءهم من خارج «المهنة» بالرأي الجديد.
Unknown page