83 (7) ذاتية النفس
إذا كان علم الإنسان بأي شيء - كائن ما كان - قوامه انطباعات وأفكار، ثم إذا كانت هذه الانطباعات والأفكار هي كحلقات السلسلة تتوالى بحيث لا يكون حاضرا منها إلا حلقة واحدة في كل لحظة واحدة، فعلمنا ب «النفس» - كعلمنا بأي شيء آخر - هو كذلك مؤلف من انطباعات وأفكار تتوالي دون أن يكون هناك «ذات» قائمة دائما إلى جانب تلك الحالات المتوالية؛ وبهذا تكون «النفس» الإنسانية مجموعة من حالات، واحدة تعقب واحدة، وليست هي بالكائن الذاتي الواحد الذي ننطبع به كما ننطبع بهذه المنضدة مثلا، أو كما ننطبع بإحدى عواطفنا الداخلية؛ إنني قد أحس إحساسا مباشرا حالة «الغضب» أو حالة «العزيمة الإرادية» أو حالة «الحب» أو «الكراهية» كما قد أحس إحساسا مباشرا لون الورقة التي أمامي ولمسة القلم بين أصابعي، ولذلك فهذه كلها «كائنات» موجودة وجودا فعليا، أحسست بعضها بحواسي الظاهرة وأحسست الأخرى بحواسي الباطنة؛ لكنني لا أحس «النفس» إحساسا مباشرا، لا بحاسة ظاهرة ولا بحاسة باطنة.
يقول هيوم في ذلك:
84
إن هنالك فئة من الفلاسفة يصور لها الخيال أن الإنسان في كل لحظة شاعر شعورا قويا وثيقا بما نطلق عليه كلمة «نفس»؛ وأنه يحس وجودها ويحس استمرار ذلك الوجود استمرارا متصلا، ولذلك فهو دائما على يقين لا يتطرق إليه الشك بأن له ذاتية كاملة، وأن هذه الذاتية بسيطة التكوين، وليست هي بالمركبة من مجموعة عناصر؛ وتلك الفئة من الفلاسفة لا تحمل نفسها مشقة البرهان على صدق ما تزعم؛ إذ إن كل ما قد يساق برهانا على هذه الحقيقة - في رأيهم - هو أضعف منها وأقل صلة بنفوسنا، فما من شيء على الإطلاق هو ألصق بشعورنا من وجود «النفس الإنسانية »، أي من وجود ذواتنا، فلو كان ثمة انطباع حسي، فالنفس هي التي تنطبع به ، وإذا كان ثمة عاطفة معينة، فالنفس هي التي تنفعل بها لذة أو ألما، فبماذا إذن نقيم البرهان على وجودها؟ إننا لو شككنا في وجود «النفس» - هكذا يقول أولئك الفلاسفة - لشككنا بالتالي في كل شيء، ولم يعد ما يمكن أن يعلم علم اليقين.
لكن هيوم يأسف لهذا الموقف من أمثال هؤلاء، ويسألهم: أي انطباع حسي كان مصدر هذه الفكرة - فكرة «النفس» - عندكم؟ إن أية فكرة لا تكون إلا نسخة من انطباع حسي سبق وقوعه على إحدى الحواس - ظاهرة كانت تلك الحواس أو باطنة - فأي انطباع تكون فكرة «النفس» صورته؟ إنه لا بد من الإجابة عن هذا السؤال إذا أردنا أن تكون فكرة «النفس» واضحة مفهومة؛ إنه لا مناص لأية فكرة - كائنة ما كانت - من أن يكون لها أصل بين انطباعات حواسنا، ذلك لو كانت الفكرة جديرة باسمها هذا، ولم تكن مجرد لفظ نقوله ولا نعني به شيئا محددا واضحا؛ ولو كانت «النفس» كائنا دائم الوجود ما دام صاحبها موجودا، لزم أن يكون هنالك انطباع حسي دائم التأثير على هذه الحاسة أو تلك، بحيث يكون لفظ «النفس» اسما نطلقه على ذلك الأثر الحسي، لكننا لا نجد بين انطباعاتنا الحسية انطباعا يدوم على حالة واحدة لا يتخلف ولا تصيبه زيادة ولا نقصان، فنجعله أصلا لهذه «النفس» المزعومة التي نزعم لها الدوام وعدم التغير؛ إن حياتنا الإدراكية سلسلة من حالات لا تتجمع كلها معا في لحظة واحدة، فالألم واللذة والحزن والسرور وشتى العواطف والإحساسات تتعاقب واحدة في إثر واحدة، ولا يمكن أن تكون فكرة «النفس» مستمدة من واحدة وحدها من هذه الحالات، وإذن فالفكرة نفسها من خلق الوهم وليس لها وجود.
أنقول إن «النفس» ليست حالة معينة من هذه الحالات المتعاقبة، ولكنها هي النواة التي تتعلق بها تلك الحالات الجزئية وإليها تنتمي؟ لكنا نسأل: كيف تتعلق وعلى أي نحو تنتمي؟ إن حالاتنا الإدراكية كلها مختلفات، نستطيع أن نميز بينها ونفرق بين واحدة وواحدة، بل نستطيع أن نتصور وجود كل حالة منها على حدة غير معتمدة في وجودها على سواها، وغير مستندة إلى دعامة تقيمها، فبأي صورة - إذن - تنتمي هذه الحالات المفردة المتتابعة إلى نواة واحدة؟ «أما عن نفسي، فإنني إذا ما توغلت في هذا الذي أسميه «نفسي» توغلا أحاول به أن أكون على صلة مباشرة بها، فلا أراني دائما إلا عاثرا على هذا الإدراك الجزئي أو ذاك، كأن أقع على إدراك لحرارة أو لبرودة، أو نور أو ظل أو لحب أو كراهية، أو لألم أو لذة، ولم أستطع قط أن أمسك ب «نفسي» في أية لحظة من اللحظات دون أن يكون هنالك حالة إدراكية معينة، ثم لم أستطع أبدا أن ألحظ من نفسي إلا تلك الحالة الإدراكية وحدها؛ فإذا ما زالت إدراكاتي لفترة معينة، كما يحدث مثلا في حالة النوم العميق، فإني لا أكون عندئذ على وعي ب «نفسي» حتى ليمكن حقا أن يقال عني إني لست موجودا؛ ثم لو زالت كل إدراكاتي بالموت، بحيث لا يعود في مستطاعي أن أفكر أو أن ألمس أو أن أبصر أو أن أحب أو أكره، بعد تحلل جسدي، فإنني عندئذ أكون قد محيت محوا كاملا.»
85
فإذا زعم لي زاعم بعد هذا أنه يختلف وإياي في الرأي، وأنه يستطيع أن يجد له «نفسا» غير الإدراكات الجزئية التي تعرض له، «فإنني أعترف بأنني عاجز عن المضي معه في حجاج عقلي، وكل ما أسلم له به هو أنه قد يكون على صواب كما قد أكون أنا على صواب، وأننا مختلفان اختلافا جوهريا في هذا الموضوع، إنه قد يكون مدركا لشيء متصل الوجود بسيط التكوين، يقول عنه إنه «نفسه»، أما أنا فلست أشك في أنني لا أجد عندي شيئا كهذا.»
86
Unknown page