وحسبي أن أتخير شيئا واحدا مما تقع عليه عيناي، وليكن هذه المنضدة التي أراها أمام بصري، فهي وحدها كفيلة أن تمدني بفكرة «المكان»؛ وإذن فهذه الفكرة لا مصدر لها سوى الانطباعات التي تطبعها المنضدة على حاسة البصر؛ لكن حاسة البصر لا تنقل إلي من المنضدة إلا انطباعات عن نقط ملونة رتبت على نحو معين؛ ولو زعم لي زاعم بأن العين ترى من المنضدة غير هذه النقط الملونة كما تنطبع عليها، فعليه أن يهديني إليه؛ أما إذا عجز الزاعم عن الإشارة إلى شيء يجاوز هذه الانطباعات كان لنا أن نستنتج نتيجة يقينية هي أن فكرة الامتداد ليست إلا صورة لهذه النقط الملونة بالترتيب الذي ظهرت به لعيني.
وإذا فرضنا أن الشيء الممتد، أو قل التركيبة المؤلفة من مجموعة النقط الملونة - فالعبارتان بمعنى واحد - إذا فرضنا أن هذه النقط الملونة التي استقينا منها بادئ ذي بدء فكرة الامتداد، كانت أرجوانية، فإنه يتحتم بعدئذ كلما أعدنا إلى أذهاننا فكرة الامتداد كما جاءتنا من تلك النقط، ألا نعيدها بنفس الترتيب الذي جاءتنا به عندما وقعت أبصارنا على الجسم الممتد فحسب، بل إنه لن يسعنا بالإضافة إلى ذلك إلا أن نعيدها إلى أذهاننا بنفس لونها الذي رأيناها به، وهو الأرجواني؛ لكن خبراتنا لن تقف بعد ذلك عند حد هذا الشيء الممتد ذي اللون الأرجواني، بل سيقع لنا في خبراتنا من مجموعات النقط الملونة ما هو بنفسجي أو أخضر أو أحمر أو أبيض أو أسود إلى آخر صنوف اللون؛ وعندئذ سنلحظ تشابها في تكوين النقط من حيث علاقاتها بعضها ببعض، رغم اختلاف ألوانها، فنحذف بقدر مستطاعنا صفة اللون من هذه التركيبات الامتدادية، ونبقي فكرة مجردة عن طريقة التركيب وحدها بعد تخليصها من لون نقاطها، وطريقة التركيب متشابهة فيها جميعا، فتخلص لنا بذلك فكرة الامتداد المكاني، ثم لا نكتفي في تجريدنا لفكرة الامتداد المكاني بحاسة البصر وحدها، بل نضيف إليها حاسة اللمس، فنلمس نفس الشيء الذي رأينا نقاطه الملونة مرتبة على نحو معين، نلمسه بأيدينا، فندرك أن انطباعنا اللمسي شبيه - من حيث ترتيب الأجزاء - بانطباعنا البصري؛ ومن أجل هذا الشبه بينهما تصبح الفكرة المجردة عن الامتداد صالحة لتمثيل الانطباعين معا في آن واحد: الانطباع البصري، والانطباع اللمسي للشيء الممتد؛ وها هنا نعيد ما قد أسلفناه عند حديثنا عن الأفكار المجردة (راجع الفصل الأول من هذا الكتاب) من أن الفكرة المجردة ، كائنة ما كانت، هي على كل حال صورة جزئية لفرد واحد من أفراد المجموعة التي نمثلها بالفكرة المجردة، وغاية ما في الأمر أننا نطلق على هذه الصورة دون زميلاتها وشبيهاتها اسما كليا، فتصبح بفضل هذا الاسم الكلي بمثابة الفكرة الكلية التي لا تمثل نفسها فقط بل تنوب كذلك عن سائر أفراد نوعها؛ وعلى ذلك ففكرة الامتداد التي نستخرجها من رؤية هذه المنضدة وحدها كافية لتمثيل الامتداد المكاني أيا كان الجسم الممتد.
وهكذا تكون فكرة «المكان» عند هيوم مستمدة من الانطباعات البصرية واللمسية التي تطبعها الأشياء على حاستي البصر واللمس، وأما فكرة «الزمان» فهي كذلك مستمدة من تينك الحاستين مضافا إليهما كل أنواع الإدراك الأخرى أفكارا كانت أو انطباعات، وسواء كانت هذه الانطباعات على الحواس الظاهرة أو الحواس الباطنة ... فكرة «الزمان» مستمدة من تتابع إدراكاتنا، مهما يكن نوعها؛ وهي كأية فكرة مجردة أخرى تتمثل في أذهاننا بفكرة جزئية لشيء محدد متعين الكم والكيف، والذي يجعلها كلية هو إطلاقنا اسما كليا عليها لتقوم بتمثيل زميلاتها وشبيهاتها.
وكما أن فكرة المكان مستمدة من الطريقة التي رتبت بها الأشياء المرئية والملموسة، أعني أنه ليس ثمة شيء قائم بذاته اسمه «مكان» يطبع حواسنا كما تطبعها - مثلا - هذه المنضدة، بل «المكان» طريقة ترتيب الأشياء التي نحسها بالبصر واللمس، فكذلك فكرة الزمان مستمدة، لا من شيء مستقل قائم بذاته اسمه «زمان» تنطبع به حواسنا، بل هي مستمدة من تتابع المحسوسات، فترانا ندرك بالحس انطباعا إثر انطباع، أو ترد على أذهاننا الأفكار فكرة بعد فكرة، فمن هذا التتابع تتكون فكرة الزمن.
إن الغارق في نعاسه، أو المنشغل بفكرة معينة تستنفد انتباهه ووعيه، لا يحس مر الزمن ولا يدركه، وذلك لأنه عندئذ لا يعي تتابعا في إدراكاته، وبالتالي فهو لا يعي الزمن؛ وعلى نفس الأساس تستطيع أن تقول إن الإنسان ليحس مر الزمن مسرعا أو مبطئا حسب سرعة تتابع إدراكاته أو بطئها؛ إنه حيث لا تتابع في إدراكاتنا فلا زمن؛ فحتى لو كان هنالك تتابع في وقوع الحوادث الخارجية ، لكنه تتابع أسرع من أن يلاحقه إدراكنا، فسيكون أمام حواسنا بمثابة الشيء الثابت، وبالتالي لا يكون لإدراكنا له حلقات متتابعة، وإذن فلا إدراك عندئذ للزمن؛ وعلى ذلك فالنتيجة التي ننتهي إليها هي أن الزمن ليس شيئا قائما بذاته يعرض نفسه على العقل مستقلا عن سواه، بل وليس شيئا يعرض نفسه أمام العقل مصحوبا بشيء آخر ثابت لا يتغير، بحيث ندرك حركته بالقياس إلى هذا الثابت، بل هو دائما وفي جميع حالاته عبارة عن إدراكنا للتتابع الذي تتلاحق به الأشياء في تغيرها.
78
وإثباتا لهذا الذي قلناه عن حقيقة «الزمن» نضيف الدليل الآتي، وهو أن الامتداد الزمني مهما قصر أمده مؤلف من لحظات، أي من أجزاء، لأنه لولا ذلك لما كان في إمكاننا التفرقة بين فترتين زمنيتين من حيث الطول، فنقول عن إحداهما إنها أطول أو أقصر من الأخرى؛ وبديهي ألا تكون هذه الأجزاء متآنية بعضها مع بعض، أعني أنها لا تتعاصر بحيث تقع كلها معا في آن واحد، لأن تعاصر الأجزاء، أو قل قيامها معا في آن واحد، هو من خصائص أجزاء المكان لا أجزاء الزمان؛ وإذن فمن هاتين المقدمتين (وهما: أن الامتداد الزمني مؤلف من أجزاء، وأن هذه الأجزاء لا تكون متآنية) نخلص إلى نتيجة وهي أن الشيء الذي لا يتغير يستحيل أن يمدنا بفكرة الزمن؛ إذ لو كان هنالك شيء ثابت، كان معنى ثباته أن أجزاءه متآنية، لا يتلو بعضها بعضا، أي إنه لا يكون ثمة تعاقب في حالاته، وبالتالي فلا تكون لدينا منه فكرة «الزمن»؛ إن هذه الفكرة - كما قلنا - لا بد لها من تعاقب وتتابع، أي لا بد لها من تغير يصيب الأشياء بحيث تجيء حالة وتذهب حالة؛ إنه لو أصيب العالم بسكون تام يجعله ذا حالة واحدة قائمة دائمة، لما كانت فكرة «الزمن» بين مدركاتنا. (6) حقيقة الاعتقاد
يفرق هيوم بين فكرتنا عن الشيء واعتقادنا فيه،
79
لأنه وإن تكن فكرتنا عن شيء ما شرطا أساسيا لاعتقادنا فيه، إلا أنها ليست كل شيء في هذا الاعتقاد؛ ولنا - إذن - أن نسأل: ما طبيعة الاعتقاد؟ ماذا هناك من المقومات حين نكون إزاء فكرة لدينا نعتقد في صوابها؟
Unknown page