مقدمة
سيرة الفيلسوف
فلسفته
نصوص مختارة
مؤلفات ديفد هيوم
مراجع
مقدمة
سيرة الفيلسوف
فلسفته
نصوص مختارة
Unknown page
مؤلفات ديفد هيوم
مراجع
ديفد هيوم
ديفد هيوم
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
يعد «ديفد هيوم»
David Hume
أبا لحركة فلسفية تعاصرنا اليوم ونعاصرها، وهي الحركة التي يطلق عليها أنصارها اسم «الوضعية المنطقية» حينا، واسم «التجريبية العلمية» حينا آخر؛ وإلى هذه الحركة الفلسفية أنتمي؛ على أن «هيوم» وإن يكن أصلا تفرعت عنه المدرسة التجريبية العلمية القائمة بيننا اليوم، إلا أن بينه وبينها ما بين الأصل وفرعه من اتفاق في الأساس واختلاف في تفصيلات الورق والثمر.
Unknown page
والأساس الذي وضعه لنا هيوم فجئنا اليوم نبني عليه، هو التفرقة الفاصلة الواضحة بين ضربين من المعرفة: المعرفة التي تنحصر أطرافها في رأس صاحبها؛ إذ تكون تحديدا للعلاقات القائمة بين فكرة وفكرة، كأن يدرك أن إحدى الفكرتين نتيجة تلزم عن الأخرى؛ والمعرفة التي تنبئنا عن أمور الواقع، فليس الأمر ها هنا مقتصرا على تحليل الأفكار الذهنية لتحديد ما بينها من علاقات، بل إنه يجاوز حدود الذهن ليمد أطرافه إلى العالم الخارجي، فيغترف من حوادثه ووقائعه تقريرا عما يدور حولنا.
هذان ضربان من المعرفة مختلفان جد الاختلاف، ففي الضرب الأول منهما يقيم المفكر فكره بغض النظر عما يقع في العالم الخارجي أو لا يقع، كما هي الحال في العلوم الرياضية وما لف لفها، فما على المفكر ها هنا إلا أن يبدأ شوط تفكيره من فكرة بعينها، ولتكن فكرة المثلث - مثلا - ثم يأخذ في تحليل الفكرة واستخراج ما يكمن في جوفها، فإذا كانت الفكرة الأصلية مقدمة نبدأ منها، فهذه العناصر التي نستخرجها منها هي النتائج التي تلزم عن تلك المقدمة لزوما منطقيا ضروريا؛ كأن أقول مثلا إنه ما دام المثلث سطحا مستويا محوطا بثلاثة أضلاع، إذن فلا بد أن تكون زواياه ثلاثا كذلك، وإذا كان كذا، إذن فلا بد أن يكون كيت ... وهكذا؛ ها هنا تكون النتائج التي نصل إليها يقينا حتى ولو لم يكن في العالم بأسره مثلث واحد؛ لأننا لا نتعرض فيها إلى نبأ ننبئ به عن الطبيعة الواقعة بحيث يجوز علينا الصواب والخطأ، بل إننا بمثابة من يكرر الفكرة الواحدة مرتين؛ إذ نقول الفكرة الأولية ثم نحللها لنستخرج من خيوطها خيطا نبرزه، فليس هذا الخيط الذي انتزعناه من النسيج الأولي شيئا جديدا، بل هو كشف عما هناك.
لا عجب إذن أن تكون الاستدلالات الرياضية يقينية النتائج إذا ما سلمت خطوات الاستدلال، لكن ما هكذا يكون الأمر في النوع الثاني من معرفتنا، وأعني به ما يصف لنا العالم الخارجي، كأن نعلم - مثلا - أن البرودة تجمد الماء، وأن السباع لا تأكل العشب، وأن الأجسام تتجاذب على نحو معين وهكذا؛ هنا يتحتم علينا أن نتلقى من الخارج انطباعات معينة على حواسنا لنعلم ماذا عسى أن يكون في الطبيعة من وقائع وأحداث؛ فليس الفكر الخالص وحده بقادر على أن يعلم أن البرودة تجمد الماء وأن السباع لا تأكل العشب، بل لا بد في مثل هذه الأمور من النظر إلى ما يحدث، كما تدلنا عليه خبراتنا التي مارستها حواسنا من رؤية وسمع ... إلخ، ذلك لأن الفكر الخالص غير المعتمد على الخبرة الحسية ليس لديه ما يمنع أن يتصور نقائض هذه الحوادث، فليس محالا على العقل أن يتصور الماء تذيبه البرودة وتجمده الحرارة، وأن يتصور السباع آكلة للعشب والخيل آكلة للحوم؛ فالذي حملنا على قول ما نقوله عن وقائع الطبيعة هو الخبرة الحسية التي أحاطتنا بما يقع فعلا؛ فإذا كنا نقرر أن البرودة وتجمد الماء حادثان متصاحبان دائما، فما ذلك إلا لأننا رأيناهما متصاحبين فعلا؛ إننا لم نتناول فكرة «البرودة» في أذهاننا لننصرف إلى تحليلها إلى عناصرها، كما فعلنا في فكرة «المثلث» ونحن نفكر تفكيرا رياضيا؛ لم نتناول بالتحليل الذهني الصرف فكرة «البرودة» لنقول بعدئذ إن في جوف هذه الفكرة عنصرا هو أنها تجمد الماء؛ كلا، فليست العلاقة بين الطرفين - البرودة وتجمد الماء - رابطة عقلية تحليلية ضرورية الحدوث، بل الأمر مرهون بالملاحظة الحسية وحدها، فنلاحظ ملاحظة متكررة أن الطرفين متصاحبان، يتحقق أحد الطرفين إذا تحقق الآخر بغير تخلف، فنستفيد بهذه الخبرة أن نتوقع حدوث أحد الطرفين إذا ظهر لنا الآخر؛ وإذا ما قلنا إن بين هذين الطرفين علاقة «سببية» فلسنا نريد بهذه الكلمة إلا هذه المصاحبة التي خبرناها فيما مضى ونتوقع لها أن تعود إلى الحدوث في المستقبل على نحو ما حدثت في الماضي.
هذه التفرقة الفاصلة بين نوعي المعرفة السالفين، وضع لنا أساسها هيوم، فجئنا اليوم نبني عليها ونمضي في طريقها إلى غاياته المنطقية، ومن هذه الغايات المنطقية - ومن أهمها - أن وضحنا بقدر ما وسعنا التوضيح أن «المعرفة» بمعناها الصحيح، أي بمعناها الذي يمكن به أن يتبادل الناس معارفهم، يستحيل عقلا أن تخرج عن هذين النوعين - مع تبين الفرق بين النوعين - وهما العلوم الرياضية من جهة والعلوم الطبيعية من جهة أخرى؛ وأما ما عدا ذلك من صنوف الكلام فمقبول إذا أراد به صاحبه أن يخرجه تعبيرا ذاتيا عن دخيلة نفسه لا يريد غيره أن يناقشه فيه، أو بعبارة أخرى، إن ما عدا هذين النوعين من «المعرفة» لا يكون من المعرفة في شيء؛ حتى إن قبلناه على أنه تعبير فني كالقصيدة من الشعر مثلا، فإنما نقبله في هذه الحالة، لا على أنه «معرفة» موضوعية يجوز فيها الجدل والمراجعة، بل على أنه حالة انفعالية هي أقرب إلى ضحكة الضاحك أو صرخة المتألم؛ وعلى هذا الأساس نحذف الأقوال الميتافيزيقية كلها من مجال «المعرفة»؛ لأنها لا هي باعتراف أصحابها مجرد تحليلات فكرية لا تمت إلى العالم الخارجي بسبب، ولا هي معتمدة على خبراتنا الحسية، نحذفها من مجال «المعرفة»، ولأصحابها - إذا شاءوا - أن يعدوها تعبيرات فنية كقصائد الشعر وما إليها من فنون القول، على أن يكون الحكم في قبولها أو رفضها هو الناقد الفني لا صاحب المنطق العقلي؛ يقول «هيوم» في ختام كتابه «بحث في العقل البشري» (نشر «سلبي بج»، ص165): «إننا إذا ما استعرضنا المكتبات مزودين بهذه المبادئ، فيا لها من إبادة تلك التي نضطر إلى فعلها! فلو تناولنا بأيدينا كتابا كائنا ما كان، كتابا في اللاهوت أو في الميتافيزيقا المدرسية - مثلا - فلنسأل: «هل يحتوي هذا الكتاب على تدليلات مجردة بالكم والعدد؟ لا؛ هل يحتوي على تدليلات تجريبية خاصة بأمور الواقع والوجود الفعلي؟ لا؛ إذن فألق به في النار، لأنه يستحيل أن ينطوي على شيء غير سفسطة ووهم.»
إلا أننا - نحن التجريبيين العلميين المحدثين - إذا كنا على اتفاق مع رائدنا الأول في أمثال هذه الأصول، فإننا نختلف وإياه في طريقة السير، وفي مجال النشاط؛ فبينا هو يحلل الفكر الإنساني تحليلا «نفسيا»، ترانا نحلله تحليلا «منطقيا»، ومن ثم تسمية مدرستنا المعاصرة بالوضعية المنطقية؛ فرائدنا هيوم يتقصى بالتحليل الوحدات الأولية التي منها يتألف المحصول العقلي - إذا صح هذا التعبير - حتى يقع في نهاية الأمر على تلك العناصر الأولية المنشودة، وهي الانطباعات الحسية، أي ما تنطبع به حواسنا الخارجية والداخلية على السواء انطباعا مباشرا، كأن ترى بعينك لمعة من الضوء أو أن تحس خوفا، حتى إذا ما أزيلت المؤثرات الخارجية التي طبعت حواسنا، تخلفت لنا صور ذهنية هي نفسها تلك الانطباعات الأولى بعد أن زالت مؤثراتها، وهذه الصور المتخلفة هي ما يسميه هيوم ب «الأفكار»؛ وإذن فالمحصول العقلي عند الإنسان يرتد إلى هذه العناصر الأولية: انطباعات وأفكار، أو إن شئت فقل إنها انطباعات وما يتخلف عنها من صور ... هكذا يجعل هيوم مجال تحليله «نفسيا»، فلا فرق بينه في الحقيقة وبين عالم نفسي يحلل التفكير الإنساني؛ أما أتباعه المعاصرون فلا شأن لهم بالمجال النفسي، وإنما شأنهم كله في العبارات الكلامية التي فيها يتجسد التفكير؛ فالذي يحلله المحدثون هو «اللغة» التي تقع عليها أعيننا مكتوبة أو تطرق آذاننا مسموعة؛ ولذلك فالوحدات التي ينشدونها بتحليلهم هي «قضايا» أولية، لا «حالات نفسية» أولية كما كانت الحال عند هيوم.
إنني لا أريد أن أستطرد في هذه المقدمة استطرادا يخرج بها عن حدودها، لأنني أريد للقارئ أن يطالع «هيوم» نفسه؛ وإنما أقول «يطالع هيوم» لأنني في هذا الكتاب قد حرصت على أن أترك الحديث لصاحبه، فاعتمدت في كل ما ذكرته على مؤلفات هيوم، حتى يحس القارئ كأنما الفيلسوف نفسه يعرض عليه بلسانه خلاصة وافية لفلسفته.
وحسب القارئ ليعلم مكانة هيوم في الفلسفة أن يعلم أنه شق في أرضها طريقا جديدا؛ وعزف على أوتارها نغمة لم تألفها الأسماع قبله؛ نغمة أيقظت جبار الفلسفة الحديثة - عمانوئيل كانت - من سباته، فهو القائل عن هيوم: «إنني لأعترف صادقا أن ما استذكرته من تعليم ديفد هيوم كان هو على وجه التحديد العامل الذي أحدث - منذ أعوام كثيرة - أول هزة أيقظتني من سبات جمودي الاعتقادي، ووجه أبحاثي في مجال الفلسفة التأملية وجهة جديدة» (من كتابه «مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة»).
وإني لآمل أن يحدث هذا الكتاب عند دارسي الفلسفة عندنا هزة - كالتي يذكرها «كانت» - توقظهم من سبات جمودهم الاعتقادي، ولو فعل لكان ذلك لكاتبه خير الجزاء.
زكي نجيب محمود
الجيزة، في 9 سبتمبر 1957م
Unknown page
سيرة الفيلسوف
(1) نشأة مجهولة
لم يكن قد بقي ل «ديفد هيوم» إلا فترة قصيرة قبل ختام حياته، حين كتب «حياتي».
1
وكان آخر ما كتب؛ لكنه أوجز كأنما أراد أن يقص للناس عن نفسه دون أن يكشف لهم عن نفسه! وكم كنا نود أن يكتب عن نشأته فيطيل ويسهب، ليروي لنا عن المؤثرات التي عملت في نفسه بحيث أخرج كتابه الرئيسي الذي يحتوي على لباب فلسفته كلها قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين من عمره! بل إن الفكرة قد اختمرت كلها في عقله - كما يقول - وهو لم يزل طالبا لم يبلغ العشرين ... إننا قد نفهم أمثال هذا الإنتاج المبكر في عالم الفن - مثلا - أو في الرياضة، فلسنا نعجب لفنان أو لعالم رياضي يكتمل نتاجه في سن مبكرة؛ لأن الموهبة المطلوبة للعبقرية الفنية أو الرياضية هي لمعات من الإلهام أو لمحات من الذكاء قد يوهبها صاحب السن الصغيرة؛ أما الفلسفة فالأرجح ألا تتكامل لصاحبها إلا بعد أمد يطول بعض الشيء، لكي تتهيأ له فرصة التأمل الطويل والدراسة المتشعبة والمقارنات الكثيرة والخبرة الواسعة ... لكن ها هو ذا فيلسوفنا هيوم ينتج فلسفته المبتكرة التي غيرت مجرى الفكر من بعده، ينتجها في سن العشرين أو نحوها، دون أن يحدثنا عن العوامل التي فعلت في ذلك فعلها.
ولد ديفد هيوم في إدنبره - باسكتلندا - في السادس والعشرين من أبريل عام 1711م من أسرة وسط بين الفقر والغنى، وكان هو ثالث إخوته، يكبره أخ وأخت، ومات أبوه و«ديفد» لم يزل بعد رضيعا، فألقي على الأم عبء تربية أبنائها، مستمدة أسباب الرزق من ضيعة صغيرة كانت لزوجها في الريف.
ولسنا ندري كيف تلقى «ديفد» تعليمه ولا أين؛ فكل ما يرويه في هذا الصدد في كتابه «حياتي» هو هذه العبارة الموجزة: «لقد اجتزت بالتوفيق شوط التعليم المعتاد.» وهي عبارة لا تكاد تدلنا على شيء؛ لكننا نستطيع أن نجمع شذرات عنه من هنا وهناك، فنعلم منها أنه قد أكمل دراسته وهو في الرابعة عشرة من عمره، ولم يظفر من كليته بشهادة، لا عن تقصير، ولكنه العرف إذ ذاك لم يكن يلقي بالا للشهادات العلمية في كثير أو قليل؛ وكذلك نعلم عنه وهو في سني دراسته أنه تأثر بعلم «نيوتن»، لكننا لا ندري إن كان ذلك قد وقع له في الفصل الدراسي أم في قراءته الخاصة؛ ثم نعلم عنه كذلك أنه أغرم منذ سنه الباكرة بالأدب، وهو غرام لم يتحول عنه طيلة عمره، فحتى حين شغلته الفلسفة لم يكن ذلك داعيا إلى هجران الأدب، بل قسم العاشق عندئذ وقته بين معشوقتيه قسمة عدل وإنصاف.
لكن ضرورة العيش نادت، فلا الأدب ولا الفلسفة مما يأتيه بقوت يومه، وكان لا بد له من سبيل إلى ذلك القوت، لأن أخاه الأكبر قد استأثر بضيعة أبيه كما هو العرف في الوراثة عندهم؛ فأي سبيل يختار كسبا لرزقه؟ يقول إنه اختار المحاماة مهنة، وأخذ يدرس القانون استعدادا لذلك، ولا نعلم كيف كانت تلك الدراسة، وعلى كل حال لم يطل مقام الغريب في أرض الغربة، فما أسرع ما دب الملل في نفسه دبيبا، فأسرع عائدا إلى وطنه العقلي الأصلي، وما ذلك الوطن عنده إلا الفلسفة والأدب؛ عاد إليهما يعب منهما عبا كأنما أراد أن ينتقم للفترة القصيرة التي قضاها على أرض غير أرضه ؛ وراح ينفق أيامه في قراءة شيشرون وفرجيل.
ولكن لقمة العيش ما زالت تلح عليه بالعمل في سبيل تحصيلها، وكذلك أمه ما زالت به تملأ أذنيه بالنصح أن يقلع عما لا يفيد إلى ما يفيد؛ كانت الأم عملية المزاج تنظر بكلتا عينيها إلى الحياة في مجراها السائر يوما بعد يوم، فيأخذها القلق الشديد على ابنها؛ إذ ماذا يجدي عليه الأدب وماذا تجدي عليه الفلسفة حتى إن بلغ منهما الذروة العليا؟ لم يكن مألوفا في بلاده - اسكتلندا - عندئذ أن تهيئ الفلسفة أو أن يهيئ الأدب من أسباب الرزق شيئا يغني من جوع.
غير أن صاحبنا إذا ما قالت له أمه أو قال له صديق إن الفلسفة التي اختارها مشغلة حياته شيء لا يفيد من الناحية العملية، أجاب: بل هي نافعة من هذه الناحية العملية نفعا ليس وراءه نفع؛ لأنه يمارس قواعدها في ضبط شهواته، فأي شيء أكثر إيغالا في الحياة العملية من ضبط الشهوات؟ أيكون تفكيرا نظريا ذلك التفكير الذي يعلو بصاحبه على مجرى الحوادث العابرة بما فيها من تفاهة وصغار؟ أيكون سابحا في أحلام ذلك الرجل الذي يستعين بفكره على كوارث الزمن، فينعم في حياته بالسكينة والحرية وعزة النفس واستقلالها، بما أوتيه من قدرة على ازدراء الثراء والقوة والجاه؟
Unknown page
لكن شابا لم يكن بعد قد بلغ الثامنة عشرة، يأخذ نفسه أخذا صارما بمبادئ يخلقها لنفسه خلقا بمحض تفكيره الفلسفي العميق، لا بد أن ينتهي أمره سريعا إلى علة مضنية؛ لأن العبء أثقل من أن تحتمله نفس لم يكد يكتمل لها نموها؛ وهكذا مرض فتانا واعتل، وهو يفسر ذلك بقوله إن التأمل الفلسفي إذا ما نسج خيوطه في الفراغ، منعزلا عن دنيا النشاط والعمل، أصبح خطرا على صاحبه، لأنه ينهك قواه؛ ف «التفكير العقلي إذا لم يجد جبهة عملية تقاومه، تبعثر في الخلاء وحدث له ما يحدث للذراع حين تمتد لتمسك بشيء ثم يفلت ذلك الشيء وتضرب الذراع في الهواء.»
2
نعم إن فيلسوفنا الشاب لم يأخذ نفسه اليافعة بشيء من الرفق، بل واصل الدرس والتفكير، فلم تقع فلسفة عصره ولا ديانة عصره منه موقع الرضى؛ إنه لم يجد فيهما تعبيرا عن الحق يطمئن إليه، فأحس في نفسه رغبة جامحة - هكذا يروي لنا عن نفسه - في أن يشق لنفسه طريقا جديدا يلتمس به الحق كما يرضيه؛ وكان في عامه الثامن عشر حين لمعت في ذهنه المتوقد فكرته الجديدة، «فكنت كأنما انداح أمامي أفق جديد من آفاق الفكر، نقلني إلى هدف لم أكن أحلم به.»
3
تمكنت فكرته الجديدة هذه من عقله وتشبثت به حتى لم يعد في مقدوره أن يترك التفكير فيها لحظة واحدة، ودفعته النشوة - نشوة خلق فكر جديد - إلى الانغماس في أغوار التأمل حتى غص به وأقعده المرض؛ فلم يكن له بد من الراحة والعناية ببدنه وعافيته، حتى إذا ما استرد قليلا من قواه الذاوية، اقتضته الحكمة أن يغير من حياته بما يناسب حاله الطارئة؛ وهو في ذلك يقول إنه في أعوامه الماضية قد عاش حياة تتناوبها الدراسة حينا والاسترخاء حينا، فكان لهذا المركب أثره في هدم صحته، فكان لا بد له من تجربة مركب آخر لحياة يتناوبها النشاط العملي حينا والتنزه حينا ... ومن ثم جاءت عزيمته على أن يبدأ شوطا جديدا من حياته ينفقه في ميدان عملي كالتجارة، فقصد من فوره إلى أحد البيوت التجارية في مدينة «برستل». (2) هيوم الفيلسوف
لم يطل مقامه في «برستل»، فلا المدينة صادفت منه هوى ولا العمل التجاري وقع في نفسه موقعا حسنا؛ فشد الرحال إلى فرنسا، وصمم أن يكتفي بدخله الضئيل مهما اقتضاه ذلك من شظف وضيق، وذلك لينصرف بجهده كله إلى دراسته وتأمله؛ وانتهى به المطاف في فرنسا بمدينة «لافليش» التي أذاع شهرتها أن ديكارت كان قد تلقى فيها علومه بكلية الجزويت، وقد كان خليقا بهيوم أن يذكر هذه الحقيقة في حياته، لكنه لم يفعل، كأنما مقامه في بلد أنشأ ديكارت من قبله ليس من الحوادث التي تستوقف النظر؛ فما الذي أغراه - إذن - باختيار «لافليش» يقيم فيها ليكتب رسالته الرئيسية؟ لعله هدوء المكان أو عيشه الرخيص، أو لعلها كلية الجزويت هناك وما فيها من معينات على القراءة والدرس، ففي أبهاء ذلك المعهد الهادئ كان فيلسوفنا الشاب يتمشى يوما مع أحد القساوسة يتبادلان الحديث في «المعجزات»، فكان هذا الحديث بداية تفكيره الذي انتهى فيما بعد إلى مقالته المشهورة في هذا الموضوع.
يقول هيوم في خطاب أرسله إلى صديق إنه أثناء مقامه في فرنسا، في «ريمس» أولا وفي «لافليش» ثانيا، فرغ من كتابه «رسالة في الطبيعة البشرية»، ثم يصف هذه «الرسالة» بأنها مشروع ضخم «وضعت خطته قبل أن أبلغ الحادية والعشرين، وأنشأته قبل أن أتم الخامسة والعشرين.»
4
أما وقد أتم هيوم «رسالته» فلم يعد هنالك ما يدعوه إلى إطالة الإقامة في «لافليش»، ولهذا غادرها مقيما في فرنسا نحو العامين قضاهما هنا وهناك، ثم عاد إلى لندن في سبتمبر من عام 1737م، وهنالك أخذ يسعى عند الناشرين، حتى نشر له الجزءان الأول والثاني من «الرسالة» عام 1739م، ثم نشر الجزء الثالث عام 1740م؛ وكان وهو في انتظار النشر لا ينفك مراجعا لما كتب، ليخفف من الآراء الدينية والأخلاقية، وليصقل الأسلوب ويصلح العبارة؛ ومع ذلك الحرص كله فقد أسف فيما بعد أسفا شديدا على تسرعه في النشر؛ لأنه رغم هذا الحرص وهذه العناية، فقد صدرت «الرسالة» وفيها كثير جدا من فجاجة الشباب وسذاجته ... يقول في ذلك: «لقد عاودني الندم مئات المرات ومئاتها على تسرعي بالنشر.» قال ذلك في إحدى رسائله، وفي رسالة أخرى يقول إنه نادم على نشر «الرسالة» إطلاقا، فلم يعد موضع الندم منصبا على مجرد التسرع، وأن التمهل كان أولى، بل إنه ود فيما بعد لو لم ينشر هذا المؤلف قط؛ وهو يعلل إقدامه على النشر تارة بأنه خشي أن يسبقه سابق إلى نشر أفكار شبيهة بأفكاره، وكان يريد لنفسه أن يكون المعلن الأول لهذا الطريق الفلسفي الجديد، وتارة أخرى بأنه خجل أن يظهر أمام أهله وأصدقائه بمظهر من أضاع وقته سدى، فلا أقل من تبرير غيابه وانقطاعه عن العمل بكتاب يقدمه لهم حجة على أن وقته لم يضع هباء.
ومهما يكن من أمر، فقد اشتد به القلق على قيمة عمله؛ إذ هو في انتظار نشره فلم يدخر وسعا في تعديله هنا وتحويره هناك، وحذف هنا وإضافة هناك؛ وكلما اقترب وقت الصدور اشتد به الهلع حتى وصف نفسه بالجبن، كأنما هو لا يقوى على مواجهة الناس برسالته؛ ولكنه مضى في إصلاح عمله مسرعا قبل أن تتناوله المطبعة، قائلا لنفسه إنه لا ينبغي أن يأخذه الزهو بعمله بحيث يتركه معيبا، فلئن كان يزدري مثل هذا الطيش في الآخرين فما أحراه أن يزدريه في نفسه؛ وكتب في خطاب لصديق عندئذ يعبر عن خواطره فقال إن «رسالته» هذه ترفعه آنا فوق السحاب زهوا وشموخا، لكنها آنا آخر تقبضه من الخناق وتملؤه بالشكوك والمخاوف.
Unknown page
وحفزه الحرص والخوف معا أن يستطلع رأي «بتلر» - القسيس والفيلسوف الأخلاقي المعروف في تاريخ الفكر الإنجليزي - فاعجب لهذا الثائر على الفلسفة الدينية والأخلاقية الشائعة في عصره يستشير قسيسا أخلاقيا في قيمة مبادئه! لكنه فعل، وأعجب من ذلك أنه لم يتردد في تغيير ما اقتنع بأنه واجب التغيير.
وأخيرا صدرت «الرسالة في الطبيعة البشرية»
5
لا تحمل اسم صاحبها ولا أي اسم آخر من أسماء العظماء الذين اعتاد المؤلفون أن يستندوا إليهم؛ فقد أراد هذا الفيلسوف الشاب الذي لم يكن قد جاوز الثامنة والعشرين عندما نشر في الناس مؤلفه العظيم، أراد أن يواجه القارئ بكتابه مواجهة مباشرة فيرفعه أو يخفضه تبعا لما يراه في ذاته من قيمة كبيرة أو صغيرة، دون أن يتأثر بهذا الاسم أو ذاك ... ترى هل كان هذا التخفي جبنا أم شجاعة؟ هل جفل الفيلسوف المتردد من مواجهة القراء بشخصه أم أنها شجاعة منه أن يقذف بفلسفته في وجه القراء غير مستندة إلى ناصر أو شفيع؟
وعلى أي حال فقد «ولدت الرسالة ميتة من المطبعة، لم تستثر حتى ولا الهمس بين من يتحمسون لها.» على حد ما قاله هيوم نفسه عنها؛ مع أنه كان يعلق عليها آمالا كبارا، وكان يظن أن عالم الفكر سيرتج لها ارتجاجا؛ لأنها في الحق قد جاءت بالمبتكر الجديد، لكنها «ولدت من المطبعة ميتة» كما يقول؛ ولما أن اشتد به القلق لهذا الإخفاق، لم يطق صبرا على البقاء في المدينة يرقب كتابه كيف يكون وقعه في الناس، فآثر أن يأوي إلى بلده في الريف ريثما تقرر الأيام مصير الكتاب الذي طلع على الناس - كما يقول هيوم نفسه في إحدى رسائله عندئذ - بالرأي الجديد، «فإذا ما استقر به القرار فسيكون من شأنه أن يغير مجرى الفلسفة تغييرا شاملا كأنه الثورة، وأنت تعلم أنه ليس من اليسير استحداث ثورة من هذا القبيل.»
6
لكن الكتاب لم يلق رواجا عند صدور جزأيه الأولين، وكان الرواج والنجاح - عند هيوم - أمرين مرتبط أحدهما بالآخر، فلا نجاح لمذهبه بغير رواج كتابه؛ وقل ما شئت عما أخذه من ضيق نفسي لهذه الهزيمة التي لم يكن يتوقعها، ومع ذلك فقد مضى يعد جزأه الثالث، غير أنه هذه المرة آثر أن يلجأ إلى ناشر آخر، مستعينا في ذلك ب «هتشسن» الذي كان أستاذا للفلسفة في جامعة جلاسجو، وهو الفيلسوف المعروف بمذهبه في الأخلاق.
لا، بل إن الأمر لم يقف عند حد امتناع الرواج، فجاوزه إلى اضطهاد من يقرأ هذا الكتاب من أبناء الجامعات! وإنه ليروي في هذا الصدد أن آدم سمث (صاحب الكتاب المشهور في الاقتصاد) كان تلميذا ل «هتشسن»، فأوصاه أستاذه هذا أن يقرأ «رسالة» هيوم، ففعل، ثم حدث له بعدئذ أن انتقل إلى جامعة أكسفورد، فرآه المشرف عليه هناك يطالع «الرسالة» فوجه إليه أشد اللوم وألذع التقريع؛ لأنه يقرأ كتابا بعيدا عن العرف الجامعي في طريقة البحث وأسلوب التفكير.
أوى هيوم إلى الريف لائذا بهدوئه من الخيبة التي أصابته في كتابه، وجعل يكتب «مقالات في الأخلاق» والسياسة حتى أعد منها ما يصلح كتابا، ودفعه إلى النشر فلقي من الرواج ما لم يكن لكاتبه في حساب! فحفزه ذلك إلى كتابة جزء ثان من هذه «المقالات»، وتحرك الأمل في صدر هيوم من جديد، راجيا أن يكون رواج «المقالات في الأخلاق والسياسة» سببا في لفت الأنظار إلى «الرسالة» التي أهملت ظلما من أئمة الفكر وقادته؛ وعلى كل حال فقد كانت هذه «المقالات» من سمو الفكرة وطلاوة الأسلوب ما استحقت به البقاء؛ ولعلها كانت أول إنتاج أدبي ينتجه كاتب اسكتلندي فيجاوز به حدود إقليمه ليتحدث عنه القراء في سائر أجزاء إنجلترا، بل وفي فرنسا مركز الثقافة في ذلك الحين.
بهذا النجاح الجزئي اكتسب هيوم ثقة بنفسه، ولم يعد يتوارى عن الناس كما كان يفعل؛ وعلى أساس هذه الثقة تقدم إلى كرسي الأستاذية في الفلسفة حين خلا في جامعة إدنبره؛ لكن الجامعة رفضته بسبب آرائه التي وردت في «رسالته»، وعينت «هتشسن» لولا أنه اعتذر بضعف صحته؛ والعجيب الذي يستحق الذكر هنا هو أن «هتشسن» هذا كان بين من أوصى جامعة إدنبره ألا تعين هيوم في كرسي الأستاذية، على الرغم من أنه كان بين الأساتذة القلائل الذين قرءوا «الرسالة» وأعجبوا بها وشجعوا مؤلفها على المضي في بقية أجزائها، لكنه - فيما يظهر - لم يرد أن يشغل الأستاذية من جاءهم من خارج «المهنة» بالرأي الجديد.
Unknown page
وحدث بعد ذلك بقليل أن طلبه قائد عسكري ليكون كاتما لسره في رحلة سيقوم بها في بعض أنحاء أوروبا؛ حتى إذا ما ارتحل معه، عاد وفي نفسه قرار حاسم بأن يتولى «الرسالة» بالمراجعة والتعديل، معترفا بأنه قد تهور في نشرها مستعجلا شهرته، وبأنه كان مدفوعا في عمله ذاك بالشكل أكثر منه بالموضوع، ولو وضع الموضوع نصب عينيه، لتمهل حتى يتقن ويجيد، ويقول: «لقد اقترفت خطيئة يقترفها كثيرون، وأعني بها حماقة الذهاب إلى المطبعة قبل الأوان ...» ولكي يكفر عن هذه الخطيئة أعاد أجزاء «الرسالة» بحيث أخرج كل جزء منها في كتاب مستقل، بعد أن راجعه وجوده؛ بادئا بالجزء الأول الذي أطلق عليه في الإخراج الجديد اسم «بحث في العقل البشري».
7
كان هيوم في «الرسالة» طموحا مسرفا في طموحه؛ إذ أراد أن يطبق مبدأه الجديد على شتى نواحي الطبيعة البشرية من عقل وعاطفة وسلوك؛ لكنه أراد الآن أن يخرج كل موضوع من هذه الموضوعات الثلاثة - وهي التي تكون على التوالي أجزاء «الرسالة» الثلاثة - في بحث خاص مستقل، فقد يجد أن المبدأ الذي ينطبق على المجال العقلي لا ينطبق على العواطف، وأن ما ينطبق على هذه قد لا ينطبق على مجال الأخلاق، وإذن فليختص كل موضوع بكتاب.
وبدأ تنفيذ مشروعه الجديد ب «البحث في العقل البشري» الذي كانت مادته في أساسها هي نفسها مادة الجزء الأول من «الرسالة في الطبيعة البشرية» لكنه كان يختلف من حيث الأسلوب وجودة العرض، حتى إن هيوم مع اعترافه بألا اختلاف في المادة بين «البحث» و«الرسالة» إلا أنه كان يحرص أشد الحرص على أن يقرأه القارئ في الأولى دون الثانية، وكان يريد للنقاد أن يتناولوه في «البحث» لا في «الرسالة» اعتقادا منه بأن ما جاء في «الرسالة» فجا ملتويا قد ورد في «البحث» ناضجا مستقيما.
ومع ذلك فقد ورد في «البحث» موضوعان لم يكونا في «الرسالة»، وهما موضوع «المعجزات» وموضوع «النتائج العملية للديانة الطبيعية»؛ وقد أثارت آراؤه في «المعجزات» ضجة شديدة، ولعله أراد لهذه الضجة أن تثور حتى يستيقظ له من لم يكن قد أيقظته «الرسالة»، أو لعله لم يرد شيئا أكثر من إثبات رأيه مهما يكن متعارضا مع الرأي السائد.
ومهما يكن من أمر فقد أخذت شهرته الآن في الذيوع، وتحرك له النقاد، فنزل ذلك كله من نفسه منزل النشوة؛ وهم بالخطوة الثانية من مشروعه الجديد، وهو إعادة أجزاء «الرسالة» في كتب مستقلة؛ فأخرج في عام 1751م كتابه الثاني «بحث في مبادئ الأخلاق»
8
يعيد به مادة الجزء الثالث من أجزاء «الرسالة»؛ ولقد عبر فيما بعد عن عجبه أن صدر هذا البحث في مبادئ الأخلاق دون أن يسترعي من النقد ما هو جدير به من اهتمام، مع أنه في رأيه أعظم جزء في إنتاجه كله بشتى أنواعه من فلسفة وأدب وتاريخ؛ بل إن المقارنة - في رأيه - لا تجوز بين هذا البحث وأي جزء آخر من إنتاجه؛ لأن بعد الشقة بينهما لا يجعل سبيلا إلى المقارنة العادلة .
وكما كانت الحال في الموازنة بين «بحث في العقل البشري» وما يقابله من أجزاء «الرسالة»، فكذلك الحال في الموازنة بين «البحث في مبادئ الأخلاق» وما يقابله من أجزاء «الرسالة»، من حيث إن «البحث» أوضح رأيا وأجود أسلوبا وأحسن عرضا من جميع الوجوه؛ فها هنا قد أوجز القول وركزه في المهم، وهو فكرة المنفعة التي كانت المحور الذي تدور حوله نظريته الأخلاقية كلها، ركز القول في هذه الفكرة تركيزا أوضحها وبينها حتى لا يختلط الأمر في أفهام القارئين.
وقد ألحق بكتابه «بحث في مبادئ الأخلاق» موضوعا أطلق عليه اسم «محاورة»
Unknown page
9
جعل الفكرة الرئيسية فيها تشابه الطبيعة البشرية رغم ما بين الناس من اختلاف في الرأي والأخلاق والسلوك، «فنهر الراين يجري شمالا، ونهر الرون يجري جنوبا، ومع ذلك فالنهران ينبعان من جبل واحد، وهما يتبعان - رغم اختلافهما في اتجاه السير - قانونا واحدا للجاذبية، وكل ما بينهما من اختلاف في المجرى إنما يرجع إلى اختلاف الميل في الأرض التي يجريان عليها.»
ولم يمض بعد نشره ل «البحث في مبادئ الأخلاق» إلا عام واحد، حتى نشر (سنة 1752م) «مناقشات سياسية»،
10
فكان لها أكبر الأثر في ذيوع اسمه واتساع شهرته؛ وعن هذا الكتاب يحدثنا هيوم فيقول إنه بين مؤلفاته جميعا هو الكتاب الوحيد الذي صادف النجاح فور صدوره، إذ استقبله القراء خير استقبال في إنجلترا وخارج إنجلترا على السواء؛ ولعل العامل الأول في نجاح هذا الكتاب مثل هذا النجاح السريع هو خلوه من الآراء الميتافيزيقية المجردة، واهتمامه بالتاريخ وشواهده الواقعة.
وفي ذلك العام نفسه من حياته أخذت مسألة الدين تشغله، فأثبت آراءه في «محاورات في الديانة الطبيعية»
11
لكنه تردد في نشرها، وزاد إحجاما عن النشر حين نصحه أصدقاؤه بألا ينشر تلك الآراء في الناس؛ ومما يدل على حرصه الشديد على أن تجيء هذه «المحاورات» ناضجة محكمة الرأي، لبثه عدة أعوام يراجعها حينا بعد حين، يصلح منها في هذا الموضع ويحور الرأي في ذلك الموضع؛ ومع ذلك كله فقد حبسها عن النشر، فلم تصدر إلا بعد موته. (3) هيوم المؤرخ
كان هيوم في الريف إذ كان يكتب «مناقشات سياسية» و«محاورات في الديانة الطبيعية»، حتى إذا ما فرغ منهما قصد إلى إدنبره، وهناك وصلته الصلات برجال الكنيسة «المعتدلين» الذين ألفوا جماعة تعمل على رفع رجال الدين في الثقافة وفي مراتب المجتمع؛ كما أرادوا أن يقربوا مسافة الخلاف بين الدولة والكنيسة على أن يكون للقانون المدني الكلمة الأولى.
ها هنا خلا في جامعة إدنبره كرسي «المنطق» الذي كان يشغله آدم سمث (المعروف بكتابه في الاقتصاد) حين انتقل هذا إلى كرسي «الأخلاق»؛ فحاول هيوم للمرة الثانية أن يكون له نصيب في أستاذية الجامعة، وتقدم ليشغل المنصب الذي خلا، وكان صديقه آدم سمث يتمنى أن يراه زميلا له في الجامعة، ومع ذلك فلم يتقدم إلى تزكيته خوفا على نفسه من قالة الناس؛ والحق أننا لا نعلم إن كانت الفلسفة قد خسرت بهذا الرفض أم كسبت؟ أكان خيرا للفلسفة أم شرا عليها أن يوفق فيلسوفنا إلى الأستاذية الجامعية التي كان يصبو إليها؟ أحسبها قد خسرت كثيرا، لأن صاحبنا منذ ذلك الحين حتى ختام حياته لم يكد يكتب في الفلسفة شيئا جديدا يضيفه إلى ما كان قد كتبه فيها من قبل ذلك، فعلى فرض أن التحاقه بالمنصب الجامعي لم يكن ليحفزه إلى إضافة جديدة، فلا أقل من أن يتيح له الفرصة للتهذيب والشرح والتوضيح ... على كل حال قد انصرف هيوم منذ ذلك الحين (1751م) إلى كتابة التاريخ.
Unknown page
ولم يكن اشتغاله بكتابة التاريخ طارئا جديدا كل الجدة على نفسه، بل قد لبث أعواما قبل ذاك يدير في نفسه أملا هو أن تسنح له فرصة للكتابة في تاريخ بلاده، وها هي ذي الفرصة المأمولة قد سنحت حين عين أمينا لمكتبة في إدنبره، تحيط به الكتب والوثائق، ويجد فراغ الوقت بين يديه مواتيا، لأن أمانة المكتبة كانت تقتضيه عملا قليلا بأجر قليل، وإنما دار في نفسه الأمل بكتابة تاريخ بلاده حين نظر فوجد - على حد تعبيره في إحدى رسائله - «أن ميدان النشاط الأدبي في إنجلترا لم يبق فيه مكان خال لمن أراد لنفسه مكانة أدبية إلا مكان المؤرخ.»
12
كتب هيوم تاريخ إنجلترا راجعا به من نهايته إلى بدايته، فأخرج أول ما أخرج منه «تاريخ بريطانيا العظمى» في جزأين يؤرخ بهما للعصر الممتد بين جيمس الأول حتى عهد الثورة في عهد شارل الأول، ثم عقب عليه بكتاب يؤرخ به الفترة السابقة على تلك، وعنوانه «تاريخ إنجلترا في حكم أسرة تيودر»، وأخيرا أصدر كتابا ثالثا يؤرخ به للفترة التي تقع بين غزوة يوليوس قيصر واعتلاء هنري السابع عرش البلاد ... وبهذه الكتب الثلاثة التي ظل يكتبها في السنوات الخمس 1756-1761م كمل له تاريخ إنجلترا، كما أخذت الشهرة والثروة تسعيان إليه، وإن يكن سعيهما هذا قد سار بخطوات وئيدة لم ترض رغبته في النجاح السريع ... فكتبه في التاريخ، شأنها شأن كتابه الرئيسي في الفلسفة «رسالة في الطبيعة البشرية» لم تقع من الناس بادئ ذي بدء بما كان يتوقعه لها؛ وكان يأخذه العجب وتأخذه الحسرة؛ فلماذا لا تستوقف كتبه هذه أنظار الناس ما دام قد جاءهم فيها بالجديد المبتكر؟ إنه لم يكتب التاريخ كما كان يكتبه المؤرخون من قبله؛ إذ لم يكتبه من وجهة نظر متحزبة متعصبة، وكان المألوف قبله أن يكتب المؤرخ تاريخه ليزهى ويفخر؛ إنه كتبه محايدا، فما للناس يهملونه كما أهملوه حين أخرج لهم فلسفة جديدة في «الرسالة»؟ لكنه نسي أن الجدة قد تكون سببا في لفت الأنظار لفتا سريعا كما تكون سببا في انصراف الناس عن هذا الجديد؛ فلئن كان الناس يتوقعون فلسفة من صنف معين، ثم تقدمت إليهم بما ليس يجري هذا المجرى لم تكن بضاعتك مما يقبل عليه الشارون؛ وكذلك إذا كان الناس يتوقعون من التاريخ أن يكون ذا صبغة أدبية، فيه تعبير ذاتي عن نزعة وطنية أو دينية أو غير ذلك، ثم جئتهم بتاريخ «علمي» محايد لا يعبر لهم عن مشاعرهم انصرفوا عنك إلى سواك.
كتب هيوم كتبه التاريخية الثلاثة في خمس سنوات، كما ذكرنا، كان يتعاوره خلالها اليأس والأمل كلما أخرج من تلك الكتب كتابا أو هم بكتابة آخر؛ فلما أن صدر الجزء الأول ولم يأبه له الناس، أخذه الغم حتى فكر في مغادرة بلاده ليأوي إلى قرية هادئة في فرنسا حيث يستتر فلا يرى أحدا ولا يراه أحد؛ لكن الرجاء يعود فيملؤه فيهم بكتابة الجزء الثاني؛ فلا يجد حظا أوفر من سابقه، فيغوص في اليأس من جديد، ويكتب إلى زميل له في لندن يطلب إليه أن يبحث له عن غرفة متواضعة هناك، لأنه صمم أن يترك اسكتلندا ليعيش مغمورا في لندن، فلم يعد به أمل يحفزه إلى نشاط أدبي جديد، ويريد الآن أن ينعم ما بقي له في الحياة من بقية، فيقرأ ويتحدث في استرخاء من لا يرقب شيئا؛ لكن الأمل عاد فعاوده وكتب الجزء الثالث من التاريخ ...
على أن «التاريخ» لم يكن مشغلته الأدبية الوحيدة طوال تلك السنين، بل راجع الجزء الثاني من «رسالة في الطبيعة البشرية» - وموضوعه العواطف - ليخرجه في كتاب جديد؛ لقد أسلفنا للقارئ أن هذه «الرسالة» كانت أولى أعماله الفلسفية، بل هي العمل الأكبر الذي ضمنه فلسفته كلها، فلما أن كسدت في السوق، صمم أن يعيد كتابتها في كتب متفرقة، بحيث يخرج كل جزء من أجزائها الثلاثة في كتاب مستقل؛ وقد كان أن أخرج أولا «بحثا في العقل البشري» معيدا به الجزء الأول من «الرسالة» ثم عقب عليه ب «بحث في مبادئ الأخلاق» معيدا به الجزء الثالث من «الرسالة»؛ وها هو ذا الآن يتناول الجزء الثاني من «الرسالة» فيعيد كتابته ليصدر في كتاب مستقل.
13
ومهما يكن من إهمال الناس لإنتاجه أول صدوره، سواء كان ذلك في الفلسفة أو في التاريخ، فإن ما ينفع الناس مصيره أن يمكث في الأرض، ولا بد أن يأتي يوم يتداركون فيه ما قد أهملوه بالأمس عامدين أو غافلين، فقد أخذ النقاد والعلماء يتنبهون شيئا فشيئا إلى هذا الفكر الجديد. (4) هيوم وروسو
أرسل السفير البريطاني في باريس إلى هيوم يعرض عليه أن يكون سكرتيرا للسفارة هناك؛ فتردد صاحبنا أول الأمر في القبول، لأنه تصور أن ذلك المنصب سيغمسه في مجتمع فيه العظماء وفيه حياة الظهور وأسباب المرح، فظن أن مثل هذه الحياة لم تعد تصلح - كما قال - لمن هو في مثل سنه ومزاجه، وأولى له أن يأوي إلى الريف مرة أخرى لينصرف إلى نفسه هادئا لا يزعجه أحد ولا يزعج أحدا، كما كان يدور في خلده في اللحظة التي جاءته فيها دعوة السفارة.
لكنه عاد فقبل الدعوة وقصد إلى باريس ليجد عجبا؛ إذ ما كان أشد دهشته حين وجد اسمه هناك يملأ الأسماع، وهو الذي ضاق نفسا بما لحظه من إهمال الناس له في بلده، لا يكادون يعبئون بما يكتب على جودة ما يكتبه وجدته؛ نعم أدهشه في باريس أن يرى الجو الفكري هناك مشبعا بذكره وبالإشادة بنبوغه خصوصا في كتبه عن السياسة والدين والتاريخ.
لم يكد هيوم يصل إلى باريس (1763م) حتى أسرع إليه سيدات المجتمع الأدبي، كل واحدة منهن تنافس زميلاتها في أن يكون لها دونهن شرف إقامة الحفل الذي تقدم فيه هذا الفيلسوف الإنجليزي إلى ذوي المكانة الأدبية في فرنسا، إنه مهما بلغ به الظن بنفسه وهو في وطنه، لم يكن قد بلغ به هذا المدى كله، فمن هو حتى يرى نفسه بين يوم وليلة محاطا بهذا التكريم كله من علية القوم في موطن الثقافة الرفيعة؟ ولئن دهش لذلك مرة، فقد دهش كبار موظفي السفارة البريطانية مائة مرة أن يروه وهو الموظف الصغير في سفارتهم قد أصاب من اهتمام القوم، بل من اهتمام القصر الملكي نفسه، بما لم يظفر به أعلام سفرائهم؟ إن كبار رجال السفارة البريطانية في باريس لم يكونوا قد سمعوا به فيلسوفا ولا مؤرخا ولا كاتبا سياسيا؛ ولم يسع هيوم سوى أن يكتب الرسائل إلى أصدقائه في وطنه يعجب لهم فيها كيف يختلف تقدير رجال العلم والأدب في فرنسا عنه في بريطانيا.
Unknown page
لكن هذا التقدير الذي غمره وأسكره سرعان ما ذهبت طلاوته وجدته، وعاد صاحبنا من جديد يتمنى العودة إلى اسكتلندا ليعيش الحياة الهادئة في ريفها كما كان معتزما أن يفعل حين جاءته الدعوة من السفارة البريطانية بباريس ؛ ومع ذلك فقد جاءت رحلته هذه مليئة بالخبرة الجديدة التي لم تكن تطوف له ببال؛ فهؤلاء هن سيدات الطبقة الرفيعة في العاصمة الفرنسية يسعين إليه وهو ثابت على كبريائه وصدوده؛ وقد جعل هذه العلاقات موضوع تفكه في رسائله إلى أصدقائه حينئذ؛ وكانت تأتيه الخطابات من كثيرات فيحرص - كما يقول - ألا يرد على من تكون سنها دون الثلاثين؛ على أن واحدة من هؤلاء السيدات قد استدعت منه الحذر والحرص بدرجة تستلفت النظر، وهي «الكونتيسة بوفليه» التي كانت قد بدأت علاقتها به حتى قبل قدومه إلى فرنسا؛ إذ أخذت تراسله وهو في بريطانيا، فلما جاء إلى فرنسا زادت من صلاتها به زيادة أثارت في نفسه الخوف من جهة، كما أشاعت الشائعات من جهة أخرى؛ وهو يذكر لنا كيف كان يحرص كل الحرص إذا ما أرسل إليها خطابا أو إذا ما حدثها حديثا مباشرا، ألا تفلت منه عبارة تدل على أنه ربما كان يحمل إزاءها عاطفة خاصة؛ وكانت «الكونتيسة بوفليه» هذه هي التي وصلت حبل التعارف بينه وبين كثيرين من أئمة الفكر في فرنسا إذ ذاك، وبخاصة جان جاك روسو الذي لم يكن عندئذ في باريس، فتعارفا بالرسائل أول الأمر ... وكان بين من عرفهم في باريس من رجال العلم والأدب «هلفتيوس» و«بيفون» و«هلباخ» و«ديدرو»؛ أما «مونتسكييه» فقد عرفه قبل قدومه إلى فرنسا.
لم يألف هيوم قبل قدومه إلى فرنسا أن يسمع الثناء عليه من حيث صفاته الشخصية؛ فقد كان القليلون الذين اعترفوا به في وطنه يقدرونه أديبا ومفكرا وفيلسوفا، أما أن يجد من يمتدح فيه صفاته الخلقية من تواضع وبساطة فذلك شيء لم يعرفه إلا في فرنسا؛ فلا عجب أن يزداد كراهية ومقتا لإنجلترا والإنجليز مع أنهم بنو وطنه، لأنهم تنكروا له وبخسوه حقه حتى أوشك أن يفقد الثقة في نفسه لولا هذه الرحلة إلى باريس.
وفي الرابع من يناير عام 1766م عاد هيوم إلى بلاده وفي صحبته روسو ! ذلك أنه لبث يراسل روسو وهو في فرنسا مدى عامين من الأعوام الأربعة التي أقامها هيوم هناك، وحتى حين انقطعت بينهما الرسائل، فقد ظل الود بينهما قائما، على الرغم من أنهما لم يلتقيا؛ فلما سمع هيوم عن روسو أنه يود لو ارتحل إلى إنجلترا ليقيم بها حينا، كتب له من فوره يبدي له استعداده أن يهيئ له وسيلة السفر والإقامة، وقد كان أن أعد له هيوم غرفة في لندن عن طريق أحد أصدقائه هناك، واتفقا على موعد يلتقيان فيه في باريس ليغادراها معا في طريقهما إلى لندن؛ وتم اللقاء وتم السفر، وازداد هيوم بزميله الفرنسي إعجابا، كان بعض الأصدقاء في فرنسا قد حذر هيوم من روسو وشذوذه في معاملة الناس، كما كان يعلم عنه كذلك أنه عليل البدن؛ لكنه - بادئ الأمر - لم يجد منه إلا ما يزيده تقديرا له، ولقد أدهشه أن يرى هذا «العليل» - إذ هما في السفينة من فرنسا إلى إنجلترا - يصعد إلى ظهر السفينة ليقضي الليلة العاصفة الباردة في العراء دون أن يصيبه أذى.
بلغ الزميلان مدينة لندن، فبدت في عيني هيوم مدينة راكدة هامدة بالقياس إلى باريس التي كانت تعج بالحياة وبالثقافة عجيجا؛ وزاد من همه أن عاد فوجد نفسه من جديد نكرة مغمورة لا يحس بوجوده أحد ولا يهتم له أحد، فأين ذلك من باريس التي وضعته في أعلى مكان؟ لكن عزاءه عندئذ كان أن روسو لم يزل في صحبته، وأنه قد أخذ على نفسه أن يكون له في إنجلترا مرشدا ورائدا، لكن حتى هذا العزاء سرعان ما حال ثم زال، ذلك أن روسو لم يشعر بالطمأنينة في لندن، وظل قلقا لا يسلس لرائده القياد في تقديمه للناس، حتى لقد اضطر آخر الأمر أن يغادر لندن إلى مكان في الريف أعده له هيوم بمعونة صديق؛ وبذلك افترقا، بل أخذت الفرقة بين قلبيهما تدب دبيبا سريعا.
كان روسو منطويا على نفسه بطبعه، وجاءت الحياة المنعزلة في إنجلترا فزادته انطواء على انطواء، وهنا أخذ يتوهم الأوهام وتوسوس في نفسه الوساوس؛ فصور له خياله أن هنالك مؤامرة يدبرها له هيوم مع آخرين؛ وكلما حدث بعد ذلك حادث، جعل منه روسو دليلا جديدا يؤيد له صدق ما توهم، فمثلا، لماذا يهتم هيوم - رغم سوء الظن به - بأن يظفر لروسو براتب من حكومة إنجلترا؟ هكذا أخذت أوهامه توهمه حتى بات الوهم عنده يقينا، فأرسل إلى هيوم في 23 يونيو عام 1766م رسالة يقطع بها كل علاقة بينهما، ويرفض أي معونة تجيء إليه عن طريقه.
روع هيوم لهذا الانقلاب العجيب الذي لم يكن عنده قط ما يبرره؛ إنه أسدى إلى روسو جميلا إثر جميل، ففيم هذا النكران؟ وفكر هيوم أن يدافع عن نفسه علنا، وأعد دفاعه، لكنه عاد فآثر الصمت خشية أن يجيء الدفاع عن نفسه مؤيدا للاتهام في أذهان الناس؛ لكن روسو من ناحيته لم يختر الصمت وأرسل إلى ناشر بباريس مقالا عنيفا يهجم به على صديقه القديم وعدوه الجديد اللدود؛ ونشر الناشر هذا المقال نشرا واسعا حتى طرق الأسماع كلها، فلم يجد هيوم عندئذ بدا من نشر دفاعه الذي كان قد أعده وأمسك عن نشره؛ وفرح الناشر بهذا الرد لأنه ألحقه بمقالة روسو في كتيب صغير كان له ذيوع كبير بين القراء، وإن قراءة هذا الكتيب لتمتع من يريد أن يقارن رجلين من معدنين مختلفين التقيا على صعيد واحد، فأما روسو فأبرع في عبارته الأدبية وأحمى في مشاعره، وأما زميله هيوم فأقوى حجة وأعمق نظرا؛ ولا غرابة، ففي هذا الكتيب الصغير التقت العاطفة الملتهبة بالعقل النافذ. (5) الختام في إدنبره
لبثت صديقته الفرنسية «الكونتيسة بوفليه» ترسل إليه الرسائل مغرية إياه بالعودة إلى باريس، لكنه أبى؛ واتصلت الخطابات بينه وبين «إدوارد جبن» - المؤرخ المشهور الذي أرخ لتدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها - وألح عليه «جبن» وغيره من الأصدقاء أن يعود إلى كتابة التاريخ، لكنه كذلك أبى؛ لأنه آثر لنفسه أن يركن إلى حياة الدعة والراحة يختم بها حياته.
وعاد إلى وطنه الأصلي وهو اسكتلندا، حيث أقام في إدنبره، يحيا الحياة التي أرادها، حياة الرغد والتراخي، يشرف بنفسه على طهو ما يشتهيه من ألوان الطعام التي عرفها وأحبها في فرنسا؛ يلقى الناس ويلقاه الناس في سمر وتسلية؛ ولم يكن هيوم قد تزوج، فأخذ على نفسه أن يكفل ابني أخته، وترك داره الصغيرة ليستأجر بدلها دارا أكبر؛ وإنما أقول ذلك لأضيف أن «بوزول» - وهو الذي كتب السيرة المشهورة في آداب العالم أجمع، سيرة صديقه صموئيل جونسن - استأجر «بوزول» هذا تلك الدار الصغيرة التي تركها هيوم، واستضاف بها صديقه وإمام الأدب الإنجليزي إذ ذاك صموئيل جونسن.
ففي هذا المكان الذي كان يزخر بأعلام الأدب والفلسفة وغيرهما من فروع الثقافة، عاش هيوم أخريات سنيه، حتى أخذته العلة المستعصية؛ إذ أصيب في أمعائه بالسرطان، وعلم علم اليقين أن لم يعد بينه وبين ختام الأجل إلا أمد قصير، فكتب سيرته في كتاب «حياتي»، ومات في الخامس والعشرين من أغسطس عام 1776م، وكان قد أوصى بمكان دفنه وبالعبارة القصيرة التي تكتب على شاهد قبره، فلم يشأ أن يكتب على الشاهد إلا اسمه وتاريخ مولده وتاريخ وفاته.
هذا هو فيلسوفنا «ديفد هيوم» الذي وصفه واصف بقوله إن مظهره لم يكن قط يدل على حقيقة مخبره، فوجهه عريض مليء وفمه وسيع، فلا يشير ذلك فيه إلى شيء إلا أنه إلى البلاهة أقرب، وعيناه خاويتان لا تعبران عن روح، وتكوينه الجسماني كله يدل على أنه ريفي ساذج أكثر مما يدل على أنه الفيلسوف المهذب.
Unknown page
14
وأما هيوم نفسه فيصف نفسه في كتابه «حياتي» فيقول: «إنني رجل، بل الأقرب إلى الصواب أن أقول إني كنت رجلا ذا مزاج معتدل، وضبط للعاطفة، وفكاهة صريحة مرحة محببة إلى نفوس الناس؛ وكان في مستطاعي أن أخالط الناس، لا أثير العداوة ولا تثيرني، وتتميز حياتي العاطفية كلها بالاعتدال فحتى حبي للشهرة الأدبية، الذي كان محور حياتي العاطفية كلها، لم يؤد بي إلى مرارة النفس أبدا على الرغم مما كان يصيبني من إخفاق آنا بعد آن؛ ولم تكن صحبتي كريهة لمن كانوا في مقتبل أعمارهم مستهترين أو من كانوا ذوي جد في الدراسة وشغف بالأدب.»
15
واسمع هذه القصة القصيرة لتعلم كم كان محببا إلى نفوس عارفيه، على شرط أن يلاقوه ويتحدثوا إليه؛ فقد كانت تسكن إلى جواره في إدنبره سيدة ذات مكانة في المجتمع، وزادها مكانة أن كانت أما لأبناء اشتهروا شهرة واسعة ببراعتهم في فن العمارة؛ كانت هذه السيدة تسمع عن هيوم ولم تره، وقد طلب إليها أن تدعوه فيمن تدعوهم إلى حفلاتها فرفضت مجيبة بأنها لا تدعو ملحدا إلى دارها؛ فدبر المدبرون أن ترسل إليه الدعوة باسم مستعار، وذهب هيوم إلى حفلة عشاء أقيمت في دارها، وجلس إلى جوارها يتحدث، وهي لا تعلم أنها تتحدث إلى من كانت تكرهه فيلسوفا وكاتبا؛ فقالت عنه فيما بعد إنها أحبت ذلك الرجل الضخم المرح الذي كان يجلس إلى جوارها، وكذلك أعجب به كل من حضر الحفلة ممن لم يكونوا يعرفونه؛ فلما عرفت السيدة أنه هيوم، اعتذرت عما كانت تبديه من نفور إزاءه، قائلة عنه: «إنني لم أقابل في حياتي رجلا يوازيه مرحا وخفة روح وبراءة نفس.»
16
فلسفته
(1) طبيعة المعرفة وتحليلها (1-1) مصدر الأفكار
أولى المقدمات التي يقيم عليها هيوم فلسفته، هي التفرقة بين «الانطباعات» التي ينطبع بها الإنسان انطباعا مباشرا حين يحس شيئا بإحدى حواسه، أو حين يتمرس تمرسا مباشرا بحالة معينة من حالات وجدانه، وبين ما تخلفه تلك الانطباعات عند صاحبها من صور ذهنية أو ذكريات،
1
وهو يطلق اسم «الأفكار» على أمثال هذه الصور والذكريات.
Unknown page
فليس منا من لا يعرف الفرق الواضح بين الإدراك العقلي عند من يعاني لذع الحرارة الشديدة، أو من ينعم بالدفء، وإدراكه العقلي حين يستعيد ذلك الرجل نفسه ذكرى ما قد عاناه من لذع أو ما قد نعم به من دفء؛ فهذه الذكرى إنما تجيء على غرار ما قد أحسه الإنسان عند الانطباع الأول المباشر، لكنها يستحيل أن تبلغ من حيث القوة والوضوح ما قد بلغه ذلك الانطباع؛
2
فالتفرقة إذن واضحة بين إحساسي بالشيء حين أكون على صلة مباشرة به، وبين صورته أستعيدها في ذهني حين لا يكون الشيء نفسه قائما على مشهد مني أو مسمع؛ فها أنا ذا أنظر إلى الغرفة التي أنا الآن جالس فيها، فلا أتردد في أني أحسها بالرؤية إحساسا مباشرا؛ ثم ها أنا ذا أستعيد في ذهني صورة غرفة في منزل صديق زرته بالأمس، فلا أتردد كذلك في أن ما قد استحضرته في الذهن إن هو إلا صورة شيء ليس الآن على صلة مباشرة بحواسي؛ ويستحيل أن يختلط علي الأمر في أي من الحالتين، بل إني لأفرق تفرقة لا موضع فيها لشك بين ما هو «انطباع» وما هو «فكرة» «اللهم إلا إذا اختل العقل عن مرض أو جنون»
3
فعندئذ فقط قد تتشابه علينا الحالات فلا ندري أيكون ما ندركه إحساسا لشيء أمامنا أم تصورا لفكرة في رءوسنا؛ أما في الحالات السوية فالإدراكان متميز أحدهما من الآخر بما بينهما من فرق بعيد في درجة الوضوح، وأقصى ما يمكن أن تبلغه الصورة الذهنية، أو «الفكرة» باصطلاح هيوم، فهو أن تدنو في وضوحها من الأصل، لكنها محال أن تساويه، وإن الإنسان إذا ما أراد أن يصف فكرة في رأسه عن شيء ما، فخير ما يقوله عنها هو أنها تكاد تمثل له الشيء كأنه قائم بذاته على ملمس منه أو مرأى؛ «وكافة ألوان الشعر، مهما بلغت من الروعة، محال عليها أن تصور الأشياء الطبيعية على نحو يزيل الفرق بين الصورة والأصل المصور بحيث يختلط الأمر على القارئ فلا يدري أهي صورة للمنظر الطبيعي أم المنظر الطبيعي نفسه.»
4
هذه التفرقة بين المدرك الحسي وصورته في الذهن، أو قل بين «الانطباع» و«الفكرة» تعم بحيث تشمل سائر الإدراكات العقلية جميعا؛ ففرق بعيد بين الغاضب ساعة غضبه وبينه حين يسترجع بالذاكرة انفعال الغضب الذي كان؛ وفرق بعيد بين إدراكي لعاطفة الحب حين يحكى لي عنها عند شخص آخر، وبين إدراكي لهذه العاطفة نفسها حين أكابدها وأعانيها؛ وهكذا قل في سائر العواطف من حيث الفارق البعيد في إدراكها بين حالتي وقوعها واسترجاعها؛ فأنت حين تستعيد انفعالك بعاطفة سبق لك أن عانيتها ، فقد تكون الصورة المعادة أمينة غاية الأمانة بحيث تجيء طبق أصلها لا تنحرف بنقص أو زيادة، ولكنها مع ذلك فلا بد أن تجيئك وقد خفتت ألوانها عما كانت عليه العاطفة ساعة وقوعها وليس هذا الفرق في نصوع اللون ووضوحه بين الأصل ساعة حدوثه والصورة المسترجعة فيما بعد، مما يتطلب لإدراكه دقة في الملاحظة أو عمقا في التأمل، بل هو فرق صارخ يدركه حتى ذو النظرة العابرة.
5
وإذن ففي مستطاعنا الآن أن نقسم إدراكاتنا العقلية على اختلافها قسمين، يتميز أحدهما من الآخر بالتفاوت في درجة الوضوح وقوة الأثر؛ ونريد أن نطلق اسم «الانطباعات» على أكثرهما وضوحا وأقواهما أثرا، وأن نطلق اسم «الأفكار» على أقلهما في الوضوح وأضعفهما في الأثر؛ فالسمع والرؤية واللمس، وكذلك الحب والكراهية والرغبة والإرادة، تكون «انطباعات» حين تكون جلية واضحة عميقة الأثر أثناء مباشرتها وممارستها، ثم تكون هي نفسها «أفكارا» حين نستعيدها فيما بعد باهتة اللون خافتة الصوت ضعيفة الأثر.
6
Unknown page
فالفكرة من أفكارنا هي - إذن - صورة لانطباعاتنا الحسية أو الشعورية؛ ويستحيل أن نجد بين أفكارنا فكرة واحدة لا يمكن تعقبها إلى الانطباع أو الانطباعات التي أحسسناها أو خبرناها؛ نعم إن الفكر طليق والخبرة المباشرة مقيدة بزمان معين ومكان معين، بمعنى أنني بالفكر أستطيع أن أصور لنفسي كائنات ليست في شكلها الظاهر مما يوجد بين الكائنات الواقعة، على حين أني بالخبرة المباشرة لا أعدو ما هو كائن فعلا؛ وبالفكر أستطيع أن أجاوز حدود مكاني الذي أقيم الآن فيه، بل أجاوز الكرة الأرضية كلها وأتصور نفسي سابحا في الهواء أو سائرا على ما شئت لنفسي من كواكب، أما بجسمي الذي هو موطن الخبرة المباشرة فلا أعدو اللحظة الراهنة ولا المكان المحيط بي؛ أقول إن الفكر حر ينشئ لنفسه ما شاء من صور، على حين أن الخبرة المباشرة مقيدة بما هو واقع هنا والآن، مما قد يوهم المتعجل بأن للفكر مصادر غير الخبرة المباشرة، لكن هذا المتعجل لو أمعن في الأمر لانتهى إلى أن أفكاره كائنة ما كانت يمكن تحليلها وردها خيطا خيطا وعنصرا عنصرا إلى خبرات مباشرة مارسها بالحس أو بالشعور؛ فقد يخيل لنفسه جبلا من ذهب، ثم يقول ها هي ذي فكرة في رأسي ليس لها أصل مما قد وقع في الحس، لكنها في الحقيقة فكرة مؤلفة من عنصرين، الجبل والذهب، وكلاهما قد عرفه بالحس المباشر حين رأى جبلا وشهد ذهبا، ثم جاء الآن فألف بينهما في فكرة مركبة واحدة؛ فأرسل خيالك ما شئت وصور لنفسك العجائب، صور لنفسك حصانا يتحلى بالفضيلة مثلا، فأنت ما تزال في حدود خبراتك، رأيت الحصان وعرفت ماذا من الفعل يكون فاضلا، ثم ألفت بين الخبرتين، «وهكذا تكون كافة أفكارنا التي هي إدراكات خافتة، صورا تحاكي انطباعاتنا التي هي إدراكات ناصعة.»
7
تلك قاعدة عامة نقيم عليها البرهان بحجتين؛ فأولا إذا حللنا أفكارنا بالغة ما بلغت من التركيب أو السمو، وجدنا دائما أنها تنحل إلى مجموعة من أفكار بسيطة كل فكرة منها صورة لانطباع جاءنا في الخبرة المباشرة؛ خذ - مثلا - فكرة «الله» حين نعني بالكلمة كائنا لا نهائي العقل والحكمة والخير وغير ذلك من صفات؛ فهذه المجموعة من الصفات اللانهائية إن هي إلا امتدادات لنفس الصفات التي عرفناها في خبراتنا الإنسانية المباشرة؛ فأنا أعلم من تجاربي متى أسمي الإنسان عاقلا أو حكيما أو خيرا، لكنني أعلم كذلك من تجاربي أن الإنسان العاقل محدود في قدرته العقلية وأن الحكيم محدود الحكمة والخير محدود الخير وهكذا، فما علي بعدئذ إلا أن أمط هذه القدرات المحدودة لأبلغ بها في خيالي صفات لا تقف عند نهايات أو حدود، حتى إذا ما تم لي ذلك جمعت الصفات في كائن أسميته «الله».
8
وأما الحجة الثانية التي نقيمها على صدق ما زعمناه، وهو أن الفكرة من أفكارنا يستحيل ألا ترتد إلى أصول لها بين انطباعاتنا المباشرة، فهي أن من حرم حاسة حرم بالتالي الأفكار التي كان يمكن أن تترتب على انطباعات تلك الحاسة المفقودة، فالأعمى لا يعرف ما اللون والأصم لا يعرف ما الصوت؛ ورد للأعمى بصره وللأصم سمعه تفتح لهما طريقا جديدا تنساب إليهما منه أفكار لم يكن لهما بها عهد؛ وقل مثل ذلك أيضا إذا ما سلمت للإنسان حاسة معينة كالبصر مثلا، لكن بصره هذا لم يقع على شيء معين، فلن تكون له عندئذ فكرة عن ذلك الشيء الذي لم يقع له في خبرته البصرية، وكذلك الذوق فمن لم يذق الخمر - مثلا - لا يعرف ما طعمها؛ وليس الأمر هنا بقاصر على الحواس الظاهرة من رؤية وسمع ... إلخ، بل هو كذلك واقع بالنسبة إلى حياتنا الوجدانية؛ فمن الناس من لا يعرف كيف تكون العاطفة التي تدفع صاحبها إلى قسوة أو انتقام، ومن طبع على الأنانية لا يتصور كيف تكون عاطفة الإيثار.
9
لكن الأمانة تقتضينا أن نضرب مثلا لحالة من الحالات الشاذة التي لا ينطبق عليها المبدأ الذي نذهب إليه وندافع عنه، وأعني بها الحالات التي يكون لدينا فيها فكرة ثم لا يكون لهذه الفكرة أصل حسي في انطباعاتنا؛ والحالة التي نسوقها مثلا لذلك هي درجة معينة من درجات اللون أو من درجات الصوت، لم تقع فيما وقع للعين أو للأذن من ألوان أو أصوات، ومع ذلك قد نكون لأنفسنا فكرة عنها؛ فلا شك أن العين قد انطبعت بمختلف الألوان من أحمر وأصفر وأزرق وما إليها، بحيث أدركنا ما بين هذه الألوان من أوجه الاختلاف الذي يجعل الواحد منها متميزا من الآخر، كما أدركنا ما بينها من أوجه الشبه الذي يجعلها جميعا مما ينطوي تحت اسم واحد هو كلمة «لون»؛ وقل ذلك نفسه في درجات اللون الواحد، فقد رأت عينك - مثلا - درجات مختلفات من اللون الأزرق، بحيث أدركت ما بين هذه الدرجات من أوجه الاختلاف الذي يجعلها متباينة بعضها عن بعض، كما أدركت ما بينها من أوجه الشبه الذي يجعلها على تباينها مما يجتمع تحت اسم واحد هو كلمة «أزرق»؛ فافرض الآن أن هنالك درجة من درجات اللون الأزرق لم تقع لك أبدا في خبراتك الحسية المباشرة، لكنك رأيت ما هو أكثف منها وما هو أخف منها كثافة، ثم افرض أنك قد وضعت كافة درجات اللون الأزرق التي وقعت لك فعلا في خبراتك الماضية، تاركا في وسطها فجوة تمثل الدرجة التي لم تخبرها فيما مضى، ألا ترى أنك تستطيع أن تملأ الفجوة بخيالك، وبذلك تكون لنفسك «فكرة» عن لون معين لم يكن له انطباع حسي في خبراتك المباشرة؟
10
لكن مثل هذه الحالة نادر بحيث لا يجوز أن نسرف في أهميته إسرافا يدعونا إلى نبذ المبدأ الذي ندعو إليه.
11
Unknown page
إنك بهذا المبدأ تستطيع أن تتخلص من كثير جدا من أشباه المدركات العقلية التي يجعلها الميتافيزيقيون موضوعات لأحاديثهم على حين لا تكون في حقيقة أمرها أفكارا مستندة إلى أصول انطباعية مارسناها في خبراتنا المباشرة حسا كانت تلك الخبرات أو شعورا؛ فالأفكار بطبيعتها لا بد أن تكون - كما أسلفنا - أخفت لونا وأضعف أثرا من الانطباع المباشر، وإذا كان ذلك صحيحا عن الأفكار التي هي صور ذهنية تحاكي الانطباعات محاكاة التطابق، فهو أصح بالنسبة إلى الأفكار المجردة التي لا تطابق انطباعات بعينها، بل تحتاج إلى تحليل إلى عناصر أولية، يكون كل عنصر منها صدى لأصل انطباعي؛ إذن فالأفكار المجردة، التي منها تتألف الميتافيزيقا وعليها تدور مباحثها، محتوم عليها أن تكون على كثير من الغموض بالقياس إلى الانطباعات المباشرة، ولذلك فالانزلاق هنا هين والوقوع في الخطأ يسير؛ إذ سرعان ما يختلط علينا الأمر فلا نفرق بين فكرة مجردة مما يمكن تحليله ورده إلى أصول من الخبرة المباشرة، وبين فكرة أخرى مزعومة، نحاول رد عناصرها إلى أصولها الانطباعية الأولى فلا ترتد؛ ولا يخدعنا أن نجد الفيلسوف الذي يستخدم أمثال هذه الأفكار المزعومة يعرفها ويحددها بسلسلة من اللفظ؛ فإذا ما وقفت موقف المرتاب إزاء فكرة مما يسوقه الفلاسفة في مباحثهم، فما عليك إلا أن تسأل: إلى أي انطباع مباشر نستطيع أن نرد هذه الفكرة المزعومة؟ فإذا لم يدلوك على انطباع بذاته من انطباعات الحس أو الشعور كان مصدرا لتلك الفكرة، فلك أن تتنكر لها وأنت على ثقة من صوابك؛ وهكذا يزول عن أفكارنا ما قد يكتنفها من غموض يسبب اختلافنا في الرأي والمذهب، إذا نحن أخرجناها إلى الضوء الواضح، ضوء خبراتنا المباشرة.
12 •••
ذلك هو الأساس الأول الذي يبني عليه هيوم مذهبه الفلسفي، وهو أن كل فكرة صحيحة يمكن ردها إلى انطباعاتنا المباشرة التي كانت بمثابة النوافذ التي دخلت منها الخبرة التي كونت تلك الفكرة، وما ليس يمكن رده من أفكارنا إلى انطباعاته الأولية فليس هو من الأفكار التي يركن إليها على أنها صواب؛ على أن أفكارنا إما أن تكون بسيطة أو مركبة، ونعني بالبسيط ما لا يمكن تحليله، وبالمركب ما يمكن تحليله إلى عناصر أبسط منه؛ فإن كانت الفكرة بسيطة كانت صورة لانطباع معين، كفكرتي - مثلا - عن لون البرتقالة أو عن طعمها، وأما إن كانت الفكرة مركبة فينبغي أولا تحليلها إلى عناصرها، لنرد كل عنصر على حدة إلى انطباعه الذي هو صورة له، كفكرتي عن البرتقالة في مجموعها، فهي فكرة مؤلفة من لون وطعم ورائحة وشكل ... إلخ، فلا بد - إذن - أن أحلل الفكرة إلى هذه العناصر، ليسهل رد كل واحد منها إلى أصله الحسي.
وإن هيوم ليتحدى معارضيه أن يأتوا له بفكرة لا يمكن إرجاعها على هذا النحو إلى أصولها الحسية التي جاءت منها؛ ومن هم معارضوه؟ هم أولئك الذين كانوا يزعمون أن لبعض الأفكار مصدرا غير الانطباعات المباشرة؛ إذ يزعمون أن الأفكار قد تخرج من باطن العقل بغير حاجة منها إلى أصول تأتي من الخارج، وذلك هو مذهب «الأفكار الفطرية» المشهور في الفلسفة؛ فمنذ أفلاطون لم ينفك الفلاسفة عن القول بوجود أفكار تنبع من فطرة الإنسان لا تستند إلى خبرة حسية، بل هي أفكار قد نجاوز بها حدود الخبرة الإنسانية كلها؛ فالأفكار الرياضية المجردة - مثلا - لم تكن عند هؤلاء الفلاسفة مما يستمده العقل من خبرة، وكذلك قل في جواهر الأشياء، فهي أيضا عند هؤلاء الفلاسفة لم تكن مما تجيء به الخبرة المباشرة، فالروح التي هي جوهر الإنسان - مثلا - لا سبيل إلى إدراكها بالخبرة المباشرة، ومع ذلك ففكرتها - عندهم - قائمة في العقل، مستمدة من طبيعة العقل نفسها؛ والعالم الروحاني كله الذي كان يقول به رجال اللاهوت، لا نعرف ما نعرفه عنه بالخبرة المباشرة ، فليس لدي «انطباع» مما جاء عن طريق البصر أو السمع أو اللمس، أعده أصلا لما عندي من أفكار عن الكائنات الروحانية التي أظن أنني على علم بها؛ نعم إنه منذ أفلاطون والفلاسفة «العقليون» لا ينفكون يذكرون لنا أمثلة من الأفكار التي لا يستمدها الإنسان من خبرته الحسية؛ فمن ذا الذي رأى في خبرته الحسية نقطة أو خطا مستقيما يتحقق فيه التعريف الهندسي؟ أليست النقطة الهندسية هي كائن بغير أبعاد، أي إنها لا طول لها ولا عرض ولا عمق؟ فأين شهدت جزءا من مكان بغير طول ولا عرض؟ ثم أليس الخط المستقيم في تعريف الهندسة هو ما له طول بغير عرض - إذ لو كان له عرض لأصبح سطحا لا خطا مستقيما - فأين شهدت مثل هذا الخط المستقيم؟ وقل هذا في الحقائق الرياضية المجردة كلها، دع عنك الكائنات الروحية من أنفس وعقول وملائكة وشياطين وآلهة ... هذه كلها عند الفلاسفة العقليين حقائق لها عندنا أفكار لم تكن «الانطباعات» المباشرة مصدرا لها.
فإذا ما جاء هيوم يقضي ببطلان كل فكرة لا تستند في أصلها إلى انطباع فإنما جاء يقول شيئا يهدم للفلاسفة كثيرا جدا مما ظنوه «أفكارا» وما هو من «الفكر» في شيء، فإن هي إلا ألفاظ يرددونها بغير معنى؛ وكيف يكون للكلمة معنى دون أن تكون مشيرة إلى عنصر أو عناصر مما عسى أن يقع في خبرة الإنسان؟ ماذا «أعني» إذن بهذه الكلمة التي لا تشير إلى مسمى؟
إن الوضعيين المعاصرين ليعدون هيوم أباهم الحقيقي، على الرغم من أنهم لا يتكلمون نفس اللغة التي كان يتكلمها عن «الانطباعات» و«الأفكار»، بل هم يحصرون جهدهم الفلسفي - لا في أبحاث نفسية معرفية كما فعل هيوم - بل في العبارات اللغوية والألفاظ، يحللونها إلى عناصرها، فالأساس بينهم وبين هيوم واحد، أما طبيعة ما يعملونه على هذا الأساس فمختلفة عن طبيعة ما كان يعمله؛ ذلك أن الوضعيين المعاصرين حين يتناولون كلمة بالتحليل، تراهم يلجئون إلى تعريفها، لكن التعريف سيتألف من عدة كلمات، ولذلك فهم يعودون إلى هذه الكلمات نفسها واحدة فواحدة يحاولون تعريفها بكلمات أخرى، وهكذا ... فأين تنتهي سلسلة التعريف؟ أنظل نسير في ألفاظ بعد ألفاظ بعد ألفاظ؟ كلا، بل لا بد أن تنتهي إلى كلمات يكون تعريفها لا بكلمات أخرى بل بالإشارة إلى مسمياتها فيما تحتوي عليه خبرة الإنسان المباشرة؛ وإن شئت فسم هذه الكلمات الأخيرة التي نعرفها بالإشارة إلى مسمياتها، باللامعرفات، أي هي الكلمات التي لا يكون تعريفها بكلمات سواها؛ وبذلك تنقسم الكلمات إلى «معرفات» و«لا معرفات» وبالثانية نعرف الأولى.
فماذا لو صادفت كلمة وأردت تعريفها بكلمات، ثم هذه بأخرى، والأخرى بأخرى، وهكذا دون أن أجد نقطة أقف عندها لأخرج من نطاق الكلمات إلى دنيا الأشياء؟ أعني دون أن أجد النقطة التي أنتهي عندها مشيرا إلى المسميات الواقعة؟ إنها عندئذ تكون كلمة منتحلة مختلقة ليست بذات معنى حقيقي.
فالوضعيون المعاصرون يقابلون بين «اللامعرفات» و«المعرفات» كما كان هيوم يقابل بين «الانطباعات» و«الأفكار»، الأساس واحد لكن العمل مختلف؛ الأساس المشترك بينهما هو المعيار الذي أقيس به مشروعية «الفكرة» وصلاحيتها، فإن كانت الفكرة من أفكاري مشروعة تحتم أن ترتد إلى مصدرها في الخبرة المباشرة وإلا فهي زائفة، هذا هو المبدأ بلغة هيوم، فإذا عبرت عنه بلغة المدرسة الوضعية المعاصرة قلت: إن كانت اللفظة التي أستخدمها مما يمكن تعريفه في النهاية بالإشارة إلى مسماها في عالم الأشياء الواقعة، فهي لفظة مشروعة وإلا فهي لفظة زائفة. (1-2) الألفاظ الكلية المجردة
لو كانت الفكرة من أفكارنا نسخة تطابق انطباعا خبريا صادفناه في حياتنا التجريبية، بحيث إذا وجدنا بين أفكارنا فكرة لا نجد لها الأصل الخبري الذي هي نسخة منه، كانت فكرة زائفة، أقول إنه لو كان الأمر كذلك لنشأ إشكال عسير، هو: كيف - إذن - أفهم اللفظة الكلية المجردة؟ كيف أفهم - مثلا - لفظ «إنسان»؟ ماذا يرد إلى ذهنك مما تعده «معنى» لهذه الكلمة؟ إن من صادفتهم في حياتك من أفراد الإنسان مختلف بعضهم عن بعض في نواح كثيرة، فلا هم ذوو طول واحد ولا لون واحد ولا جنس واحد ولا مجموعة واحدة من العادات السلوكية؛ لكن هؤلاء الأفراد أنفسهم هم الذين انطبعت بهم حواسك انطباعا مباشرا، فإذا كانت الفكرة الصائبة هي تلك التي ترتد إلى انطباع معين، فإلى من من هؤلاء الأفراد ترد فكرة «إنسان» لتقضي في أمرها إن كانت فكرة صحيحة أو لم تكن؟ أتردها إلى فلان؟ لكن فلانا هذا ذو صفات خاصة به لا تتكرر في سواه، فلو جاز أن ترد إليه هو فكرة «إنسان»، فكيف إذن تطلق هذه الكلمة نفسها بعد ذلك على أفراد آخرين؟ إنها إن طابقته هو فلن تطابق أحدا عداه، أي إن هذه الفكرة إن ارتكزت في مبررات وجودها على فلان هذا، فلا يجوز بعد ذلك أن ترتكز على غيره من الأفراد الذين يختلفون عنه.
قد تقول: ولكني أطلق هذه الكلمة «إنسان» على ما هو مشترك بين هؤلاء الأفراد جميعا، بعد تجريدهم من الصفات التي هي فيهم موضع اختلاف، فلا أطلق الكلمة «إنسان» - مثلا - على طول بعينه أو لون بعينه أو جنس بعينه، بل أطلقها على كذا وكذا من الصفات التي هي كائنة في كل فرد من الناس، كصفة التفكير العاقل مثلا ... قد تقول هذا - وقد قاله فيلسوف مثل أرسطو وغيره - لكنك عندئذ تقول ما يستحيل أداؤه؛ كيف تستبعد صفات وتستبقي صفات مع أن هذه وتلك مما يستحيل أن تكون إلا مجتمعة معا؟ فهل رأيت فردا من الناس بغير لون حتى يجوز لك أن تتصور «إنسانا» بغير لون؟ هل رأيت فردا بغير طول معين حتى تنشئ لنفسك فكرة «الإنسان» الذي لا طول له؟
Unknown page
وأعود فأسأل: أين المسمى الذي أطلق عليه اسم «إنسان»؟ ليس في عالم الأشياء شيء مجرد عام، كلها أشياء جزئية فردية، وكان يصح أن أطلق اسما خاصا على كل واحد من تلك الأشياء الجزئية الفردية وينتهي الإشكال، فإلى أي شيء أشير إذن بالكلمة المجردة العامة «إنسان»؟
هذا هو السؤال بعينه الذي انقسم الفلاسفة حياله ثلاثة مذاهب: ففريق يتبع أفلاطون في قوله إنه إذا كان اسم العلم يشير إلى فرد بعينه، فالاسم الكلي المجرد يشير إلى مسمى كلي مجرد، ولكن أين هذا المسمى ولست أرى حولي إلا أفرادا جزئية؟ يجيبك هذا الفريق إنه ليس هنا في هذا العالم الأرضي، ولكنه في عالم آخر، عالم قوامه كائنات من نوع آخر، هي أفكار مجردة وليست هي بالأفراد الجزئية، فلفظ «إنسان» يشير إلى «شيء» حقيقي قائم بذاته في ذلك العالم، هو الفكرة المجردة، أو المثال العقلي الذي صب على غراره هؤلاء الأفراد الذين نراهم هنا في دنيانا هذه؛ ولذلك سمي هذا الفريق من الفلاسفة بفريق «الشيئيين» وكبير مذهبهم هو أفلاطون.
وفريق آخر يتبع أرسطو، يذهب إلى أن الكلمة العامة «إنسان» بالطبع لا تشير إلى زيد وحده أو إلى عمرو وحده من بني الإنسان، لكنها تشير إلى كائن مثلها فيه التعميم والتجريد، لكن هذا الكائن لا هو في دنيا الأفراد الجزئية ولا هو كذلك في عالم فوق هذا العالم كما زعم أفلاطون، إنما هو كائن في عقل أي فرد منا، فعند كل فرد منا فكرة أو تصور مجرد، أقامه في رأسه، هو الذي نشير إليه بالكلمة العامة «إنسان»؛ ولذلك سمي هذا الفريق بالتصوريين.
وفريق ثالث يختلف في الرأي عن هؤلاء وأولئك؛ إذ يرى أن ليس في العالم إلا أفراد جزئية، وأنه من المحال علينا أن نستمد معارفنا إلا من هذا العالم، وبالتالي يتحتم على كل معارفنا أن تجيء فردية جزئية، وإذن فليس في رأسي من الناس إلا صورة فلان أو فلان، فإذا استعملت كلمة «إنسان» العامة فلست أشير بها إلا إلى واحد من هؤلاء الأفراد، أتخذه ممثلا لسائر أشباهه؛ وبهذا يكون اللفظ الكلي «إنسان» هو كأي اسم آخر أسمي به هذا الفرد أو ذاك، ومن ثم سمي هذا الفريق ب «الاسميين».
13
وكان فيلسوفنا هيوم من فريق «الاسميين» بل كان زعيما من زعمائهم؛ وتلك بالطبع نتيجة تلزم حتما عن مذهبه في تحليل المعرفة إلى «انطباعات» و«أفكار»، فليست «الفكرة» عنده إلا «انطباعا» بهت لونه، ليست «الفكرة» إلا نسخة من «انطباع» تأذنا به، لكن الانطباع محال أن يكون إلا لفرد جزئي معين، كيف تنطبع العين - مثلا - إلا بهذا الفرد الجزئي أو ذاك؟ هل ترى العين «إنسانا كليا» أو «مثلثا كليا» أو «قطا كليا» أم ترى هذا الفرد أو ذاك من بني الإنسان، وهذا المثلث أو ذاك، وهذا القط أو ذاك؟ وإذا كانت العين لا ترى إلا أفرادا جزئية أو مواقف جزئية، فالأفكار - بالتالي - لا تكون إلا صورا ذهنية لأفراد جزئية أو مواقف جزئية ... فكيف نفسر الدلالة الكلية التي تكون للفظ الكلي؟
يجيب هيوم عن هذا السؤال
14
بما خلاصته أن الاسم الكلي هو اسم نشير به إلى صورة ذهنية جزئية (أي «فكرة» باصطلاح هيوم) هي بدورها نسخة من انطباع انطبعنا به في خبراتنا المباشرة، والانطباع - بداهة - لا يكون إلا لمؤثر جزئي بكامل فرديته، لا تعميم فيه ولا تجريد.
يقول هيوم: إن الفكرة المجردة «إنسان» تمثل أفراد الناس في مختلف أحجامهم وصفاتهم، وقد يقال إنه لا يمكن أن يتم لها هذا التمثيل إلا بإحدى وسيلتين، فإما أننا نحشد في رءوسنا صورا لجميع أفراد الناس، ثم نشير إليهم جميعا بهذه الكلمة العامة «إنسان» أو أننا نستغني عن كل هؤلاء الأفراد بحيث نجعل هذه الكلمة لا تشير إلى أي منهم على وجه التخصيص؛ والوسيلة الأولى مستحيلة لأنها تقتضي عقلا إنسانيا يحيط بما لا نهاية لعدده من أفراد لهم ما ليس له نهاية من مختلف الصفات، وإذن فتبقى الوسيلة الثانية التي نجعل بها الكلمة الكلية لا تعني فردا معينا بصفاته المعينة دون سائر الأفراد، وهي أيضا مستحيلة لأن تجريد الفرد عن صفاته التي تميزه ضرب من المحال، نعم قد يقال إننا في مأزق لا مفر منه، إذا نحن أخذنا بمذهب يقول إن الكلمة الكلية تشير إلى فرد بعينه ليكون ممثلا لسائر أفراد نوعه، لأننا إما أن نحشد مجموعة الأفراد كلها وهذا محال على العقل الإنساني المحدود، وإما أن نستغني عن الأفراد كلها فنجاوز صفاتها الجزئية الفردية المميزة وهو ما يهدم رأينا ؛ غير أننا نقيم برهانين على صدق ما نذهب إليه، فنبرهن أولا على أنه مما يستحيل استحالة قاطعة أن نتصور أية صفة كما كانت أو كيفا، إلا إن كانت تلك الصفة جزئية فردية، ثم نبرهن ثانيا على أن الفرد الذي نختاره من سائر أفراد النوع، وإن يكن مختلفا عن بقية الأفراد إلا أنه من الممكن استخدامه ممثلا لها.
Unknown page
15
وسنبدأ بدعوانا بأن «العقل يستحيل أن يكون أية فكرة عن كم أو كيف إلا إذا كون فكرة دقيقة عن الدرجة التي يكون عليها ذلك الكم أو ذلك الكيف» فلنا على ذلك حجج ثلاث: أولاها هي أنه مما لا شك فيه أن الأشياء إذا اختلفت أمكن التمييز بينها، وأن ما يمكن التمييز بينه يمكن كذلك فصل بعضه عن بعض بالفكر والخيال؛ والعكس صحيح أيضا، أي إنه إذا أمكننا أن نفصل بالفكر شيئا عن شيء، تحتم أن يكون الشيئان متميزين أحدهما عن الآخر، وأن يكونا بالتالي مختلفين؛ إذ كيف يمكن أن نفصل شيئا عن شيء إذا لم يكن ممكنا أن أميز أحدهما من الآخر، ثم كيف أميز بينهما عل هذا النحو إذا لم يكن بينهما اختلاف؟
فإذا أردنا أن نعرف إن كان في الإمكان أن نجرد صفة من الصفات لنقيمها وحدها منفصلة عن زميلاتها التي كانت مؤتلفة معها في فرد واحد، وجب أن أستيقن أولا من أن هذه الصفة المراد عزلها وتجريدها هي مما يمكن عزله، وقد قلنا إن ما يمكن عزله لا بد أن يكون مما يمكن تمييزه من سواه، ولا يتميز الشيء من الشيء إلا إذا كانا مختلفين؛ خذ خطا مستقيما - مثلا - وانظر هل يمكن أن تعزل الخط عن طوله؟ ذلك محال، لأنه لا تمييز في الخط الذي أمامك بين الخط وطوله، وإذا كان لا تمييز فلا اختلاف وبالتالي لا انفصال لأحدهما عن الآخر، وإذن فلا يمكن أن أجرد «الخط» عن طوله المعين، لأقول إنني سأجعل الصفة الأولى جوهرية عامة في سائر الخطوط، وسأطرح الصفة الثانية باعتبارها عرضا يكون في خط ولا يكون في آخر، وهكذا قل في شتى الصفات، محال أن تعزل الصفة وحدها مجردا إياها من الدرجة التي تكون عليها؛ وعلى ذلك فيستحيل على إنسان أن يتصور خطا مستقيما بغير طول معين، ولا عبرة بعد ذلك بأنه قد يتخذ هذا الخط ذا الطول المعين ممثلا لغيره من الخطوط ذوات الأطوال المختلفة، أم أنه سيترك هذا التمثيل لخط آخر ذي طول آخر.
16
والحجة الثانية هي أنه محال على شيء أن يطبع الحواس، وبالتالي يمثل أمام العقل، إلا إذا كان شيئا فرديا جزئيا له درجة معينة محددة من كم وكيف؛ ولما كانت الأفكار كلها صورا أو نسخا من انطباعاتنا، فما يصدق على هذه يصدق أيضا على تلك؛ إذ الأفكار لا تختلف عن الانطباعات التي هي أصول لها إلا في درجة النصوع والوضوح وقوة الأثر، واختلاف درجة الوضوح لا يعني فيما يعنيه أن يكون الانطباع ذا كم معين وكيف معين وأن تجيء الفكرة التي هي نسخة منه مجردة عن هذا التعين في الكم والكيف.
17
والحجة الثالثة هي أنه من المبادئ التي تقرها الفلسفة عامة أن كل شيء في الطبيعة فرد متميز بفرديته، فمن السخف أن تفترض وجود مثلث في الطبيعة دون أن تكون لأضلاعه وزواياه مقادير معلومة معينة بالنسبة بعضها إلى بعض، كأن يكون - مثلا - مثلثا متساوي الأضلاع أو مختلفها، متساوي الزوايا أو مختلفها، وأن أضلاعه أو زواياه إذا اختلفت فلا بد أن يكون اختلافها بنسبة معلومة متعينة فإذا كان افتراض وجود مثلث في دنيا الأشياء الواقعة لا تكون له أضلاع وزوايا ذوات مقادير معينة محددة، أقول إنه إذا كان هذا القول سخفا، فسخف بالتالي أن تقول ذلك عن «فكرة» المثلث، ما دامت «الفكرة» نسخة من الانطباع الحسي، وما دام هذا الانطباع الحسي لا يكون إلا من شيء قائم فعلا في دنيا الأشياء، شيء له جزئيته وفرديته ودرجته المعلومة المعينة من كيف وكم.
إنه لا فرق إطلاقا بين قولك عن فكرة ما بأنها مجرد فكرة في الرأس، وقولك عنها إنها فكرة تشير إلى شيء في الخارج، لأن الفكرة كائنة ما كانت - ما دامت فكرة مشروعة - فلا بد بحكم طبيعة تكوينها أن يكون لها مقابل في الخارج؛ لأنه لولا وجود الشيء الخارجي لما كان «انطباع» ثم لما كانت فكرة؛ ولما كان محالا على فكرة كائنة ما كانت أن تصور شيئا بغير كم وكيف، فإنه محال عليها كذلك ألا يكون هذا الكم فيها وهذا الكيف ذوي درجة معينة تجعل منها فكرة فردة جزئية متميزة من سواها مهما كان بعد ذلك بينها وبين سواها من أوجه الشبه.
فقل ما شئت عن الفكرة التي تتخذها ممثلة لمجموعة من الفكرات الشبيهة بها، لكنه محتوم عليك أن تسلم بأنها لا بد أن تكون في ذاتها فكرة جزئية؛ وإذن فما نقول عنها إنها فكرة عامة أو فكرة مجردة، إن هي في حقيقة أمرها إلا فرد من سائر الأفراد، وكل ما هنالك أنها اختيرت لتكون ممثلة لسائر الأفراد؛ فهذا التعميم في تطبيقها واستخدامها لا يدخل في طبيعتها شيئا جديدا يغير من كيانها.
18
Unknown page
وإذا كانت طبيعة الفكرة الفردية الواحدة - فكرتي عن زيد من الناس مثلا أو عن مثلث رأيته مرسوما ذات يوم - لا تقتضي بحكم طبيعتها أن تكون ممثلة لغيرها مما يقع معها في نوع واحد، فكيف يحدث أن يجعل الإنسان منها نائبا ينوب عن سائر أفراد النوع في التفكير؟ يقول هيوم في ذلك إننا حين ندرك شبها بين مجموعة أفراد أو مجموعة أشياء، ترانا نطلق عليها اسما واحدا رغم ما بينها من اختلافات في درجة كمها أو كيفها، حتى إذا ما اعتدنا أن نطلق هذا الاسم الواحد على أفراد المجموعة، كان ذكر هذا الاسم بعد ذلك كافيا لاستعادة صورة ذهنية لأحد أفرادها، أو قل لاستعادة «فكرة» واحد من أفرادها - إذ لا فرق بين «الصورة الذهنية لفرد ما» و«فكرتنا عن هذا الفرد» - فهذا الاسم العام قد ارتبط بكل فرد من أفراد المجموعة على السواء، وهو كفيل إذا ما ذكر أن يستثير صورة أي فرد منها، أو يستثير صور أي عدد منها، لكنه في الأعم الأغلب يستثير في أذهاننا صورة فرد واحد، أو قل «فكرة» واحدة من بين عنقود الأفكار، ويكون في ذلك ما يكفي لنفهم معنى الاسم الذي ذكرناه، اذكر - مثلا - كلمة «إنسان» وسيرتسم في ذهنك صورة إنسان معين ببعض تفصيلاته الفردية لينوب عن بقية زملائه، فأين تكون بقية أفكارنا عن بقية أفراد الناس الذين صادفناهم في الحياة؟ إنها موجودة بالقوة، مستعدة أن تثار لو اقتضت الضرورة ذلك؛ نعم قد تكون استثارة جميع الصور الكامنة التي انطبعت في نفسي عن جميع الأفراد مما يتعذر حدوثه أو يستحيل، لكنه يكفينا لكي يكون الاسم العام صالحا للتفاهم أن يرتبط في أنفسنا بعادة التحفز لاستعادة «فكرة» أو بضعة «أفكار» بالقدر الذي يرضي.
19
ذلك لأن ذكر الاسم الكلي إذا ما أثار في عقلي صورة واحدة لفرد واحد من أفراد المجموعة التي أطلقت عليها ذلك الاسم، فقد تشاء المصادفة أن يرد إلى ذهني صورة لفرد لا يحقق الصفات التي أجعلها موضوع تفكيري عندئذ، فها هنا أراني بطبيعتي على استعداد أن أستثير صورة أخرى لفرد آخر. أو صورة ثالثة لفرد ثالث من أفراد المجموعة، لعلني أجد فيه الصفات التي التمستها في الفرد الأول فلم أجدها؛ فافرض مثلا أني ذكرت الاسم «مثلث» فوثب إلى ذهني صورة مثلث متساوي الأضلاع، فلو كانت هذه هي الصورة الوحيدة التي يمكن للفظ «مثلث» أن يثيرها في ذهني، لظننت خطأ أن معنى كلمة «مثلث» هو دائما هذا المثلث الخاص الذي تتساوى أضلاعه وزواياه؛ لكن لا، فسرعان ما تزدحم على عقلي أفكار أخرى لمثلثات أخرى، فترد - مثلا - صورة مثلث متساوي الساقين، وصورة أخرى لمثلث مختلف الأضلاع، كل هذه الصور سرعان ما تتعاقب على ذهني إذا ما ذكرت كلمة «مثلث» فأعلم عندئذ ما معنى الكلمة الصحيح، فلا أقول إن المثلث دائما متساوي الزوايا، أو دائما مختلف الزوايا، بل أعلم أمر المثلث على حقيقته،
20
نعم قد يحدث لأحدنا ألا يجد في خبراته الماضية صورا ذهنية فيها شتى صنوف الأفراد المختلفة، التي تقع تحت اسم كلي واحد، لكن مثل هذا الرجل هو الذي يتعرض للخطأ وللتفكير الناقص لأن الكلمة عنده ستعني مدى أضيق من مداها عند من اتسعت خبراته وعرف إلى أي حد تتنوع أمثلة الأفراد التي نضمها معا في مجموعة واحدة.
صفوة القول في تكوين الكلمات الكلية وطبيعتها، هي أننا إذا ما أردنا أن نطلق واحدة منها على مجموعة أفراد متشابهة من بعض الوجوه، كان علينا أن نستعرض عددا من صنوف هؤلاء الأفراد لنمثل أوجه الخلاف بقدر المستطاع؛ وبعدئذ إذا ما ذكرت تلك الكلمة فربما أثارت فردا واحدا من هذه الأفراد على اختلاف الأفراد فيما بينها، لكننا نكون على استعداد أن نستثير فردا آخر أو أفرادا أخرى من الصور الكامنة، بقدر ما يتطلبه الموقف الذي نكون بصدده؛ على أنه لا ينبغي أن يغيب عنا أبدا أن الفكرة التي يستثيرها اللفظ الكلي هي دائما فكرة جزئية في ذاتها، وإن تكن مستخدمة استخداما يجعلها فكرة عامة بسبب تمثيلها لبقية أفراد مجموعتها؛ إنه لا ينبغي أن يغيب عنا أن الفكرة الواحدة إنما تصبح «كلية» «عامة» «مجردة» لكونها ارتبطت ب «كلمة كلية عامة»؛ الفكرة الواحدة قد تطلق عليها اسم علم تنفرد به فتكون جزئية، وقد تطلق عليها هي نفسها اسما كليا لتستخدمها ممثلة لنوعها فتصبح فكرة كلية.
وقد يسأل سائل: إذا كانت كل فكرة في أذهاننا هي بحكم طبيعتها فكرة جزئية فردية، وأن الكلي المجرد منها لا يكون كذلك إلا بطريقة استعمالها؛ فكيف نفسر عمل العقل حين يجرد جانبا واحدا من فكرة معينة مطرحا سائر الجوانب، كأن يجرد من الكرة استدارتها أو من البرتقالة لونها؟
وجواب هيوم على ذلك هو أنه محال على العقل أن يعزل الاستدارة عن الشيء المستدير، أو اللون عن الشيء الملون؛ محال أن تقوم استدارة وحدها أو أن يقوم لون وحده؛ فإذا ما عرضت أمامي كرة بيضاء مثلا، جاءني انطباع دائري أبيض، بحيث يستحيل علي أن أدرك الاستدارة وحدها دون لونها الأبيض ولا اللون الأبيض وحده دون الاستدارة، لكنني بعد ذلك قد أرى كرة سوداء ومكعبا أبيض ، فأقارنهما بالكرة البيضاء لأدرك موضعين للتشابه في هذه الأشياء الثلاثة، فأرى الكرة البيضاء تشبه السوداء في الاستدارة، ثم أرى الكرة البيضاء تشبه المكعب الأبيض في البياض، فها هنا أبدأ في تمييز الاستدارة من اللون تمييزا عقليا؛ وبعدئذ إذا ما استعدت الكرة البيضاء وحدها فإنني لا يسعني سوى أن أكون عنها فكرة جزئية واحدة يندمج فيها الشكل واللون معا بغير انفصال أحدهما عن الآخر، لكنني في الوقت نفسه أوجه نظري إلى ما بين هذه الفكرة وفكرتي عن الكرة السوداء من شبه، وبهذا أحصل على فكرة الاستدارة؛ وكذلك إذا أردت فكرة اللون الأبيض فلا يسعني سوى أن أستعيد فكرة الكرة البيضاء باستدارتها ولونها معا، لكنني في الوقت نفسه أوجه نظري إلى ما بينها وبين المكعب الأبيض من شبه، وبهذا أحصل على فكرة البياض؛ أما من يطلبون منا أن ننظر إلى الكرة البيضاء وحدها لنجرد الاستدارة عن اللون، فإنما يطلبون منا محالا،
21
لأنه ليس بين الأشياء الحقيقية الواقعة استدارة قائمة بذاتها، وإذن فلا يمكن أن تنطبع حواس الإنسان باستدارة قائمة بذاتها، وبالتالي يستحيل أن تكون هذه الفكرة بين أفكارنا. (1-3) ترابط الأفكار
Unknown page
إنه لا شك في أن أفكارنا مترابطة بعضها ببعض على نحو يجعل الواحدة منها إذا ما حضرت أمام الذاكرة استدعت سواها بطريقة نلاحظ فيها شيئا من الاطراد والانتظام؛
22
وهذا الترابط ملحوظ في سلسلة أفكارنا في جميع حالاتنا، لا فرق في ذلك بين تفكير واع منظم وأحلام يقظة يترك الإنسان نفسه فيها على سجيتها تسلسل الخواطر بغير ضابط، أو أحلام نوم؛ ففي التفكير الواعي المنظم ترانا نرتب أفكارنا ترتيبا يجعل الفكرة اللاحقة ذات ارتباط بالفكرة السابقة، وكذلك في الأحلام بنوعيها: أحلام اليقظة أو أحلام النوم، رغم انسياب خواطرنا انسيابا حرا حتى لقد يبلغ في ذلك حد التخليط، فإنك إذا ما أمعنت النظر بعد ذلك في تسلسل تلك الخواطر المنسابة، وجدت كل واحدة منها ذات صلة معلومة بسابقتها وبلاحقتها على السواء، كأنما كل فكرة ترد إلينا تشد وراءها فكرة متصلة بها على نحو ما ؛ وتتبع محادثة تجري بين مجموعة من الناس أرسلوا أنفسهم في سلسلة الحديث إرسالا، فإنك لا شك واجد أن حلقات الحديث - رغم أنه حديث حر ليس له ضابط - يرتبط سابقها بلاحقها على نظام معين؛ وحتى إن بدا لك في أحد مواضع الحديث أن الحلقة اللاحقة مبتورة الصلة بالحلقة السابقة، وخيل إليك أن حبل الحديث قد انقطع عند ذلك الموضع بأن تدخل فيه أحد المتحدثين بموضوع جديد طارئ قطع الصلة بين ما فات وما هو آت؛ فسل ذلك المتحدث الذي بتر التسلسل بموضوعه الطارئ هذا، تجد أن قد جرى في ذهنه خاطر أو خواطر شديدة الصلة بما قد كان جاريا من أحاديث، ثم استثارت فيه هذه الخواطر الباطنية موضوعه هذا الذي أقحمه على المتحدثين، وبذلك يظل التسلسل بين أجزاء الحديث قائما، وكل ما في الأمر أن جزءا من السلسلة قد تم في رأس أحد المتحدثين.
وإنه لمما يلفت النظر في اللغات المختلفة، أن بينها تقابلا - على بعد ما بينها من صلات قد لا تجعل أهل اللغة الواحدة منها على صلة قط بأهل اللغات الأخرى - إذ ترى أن فكرة ما من أفكارنا المركبة، أعني من أفكارنا التي تأتينا عناصرها البسيطة فرادى ثم تتركب داخل رءوسنا، يطلق عليها كلمة في كل لغة من اللغات، مما يدل على أن العناصر البسيطة التي تجيئنا عن طريق الانطباعات تتركب داخل رءوس الناس على طريقة واحدة؛
23
وإلا فلماذا - مثلا - كان في كل لغة كلمة تدل على «شجرة» على حين أن «الشجرة» فكرتها في الرأس مركبة، عناصرها البسيطة هي انطباع اللون وانطباع اللمس ... إلخ؟ أليس ذلك دليلا على أن هذه العناصر الأشتات ترتبط بعضها ببعض في عقول الناس على صورة واحدة، بحيث ترسم في رءوس الناس فكرة واحدة، أجازت لهم أن يطلقوا عليها كلمة واحدة؟ «وإنه على الرغم من أن الأفكار المختلفة يرتبط بعضها ببعض ارتباطا هو أوضح من أنه تخطئه الملاحظة، إلا أنني لا أجد بين الفلاسفة فيلسوفا واحدا قد حاول أن يحصي أو يصنف شتى المبادئ التي يجري الترابط بمقتضاها؛ وإنه لموضوع جدير باستثارة الرغبة في أنفسنا لبحثه؛ ويبدو لي أن ثمة مبادئ ثلاثة فقط يجري بمقتضاها الترابط بين الأفكار وهي: التشابه، والتجاور في زمن الوقوع أو مكانه، والعلة أو المعلول.»
24
أي إن الفكرة تستدعي فكرة إذا كان بين الفكرتين وجه من الشبه، أو إذا كانتا قد وقعتا في لحظتين من الزمن متتابعين، أو وقعتا معا في لحظة واحدة، أو إذا كانتا قد وقعتا في موضع واحد من المكان أو في موضعين متقاربين، وكذلك تدعو الفكرة فكرة سواها إذا كانت علة لها أو معلولا.
فإذا ما نظرت إلى صورة ما استدعت الصورة إلى ذهنك فكرة الأصل الذي هذه الصورة هي صورته، لما بين الفكرتين من تشابه، وذكر مسكن في عمارة يستدعي المسكن الذي يجاوره،
25
Unknown page
لما بين المسكنين من تجاور في المكان؛ ويكاد يستحيل أن تفكر في جرح بغير أن تفكر في الألم الذي يصحبه لما بينهما من علاقة السبب بمسببه.
تلك هي المبادئ الثلاثة التي تترابط الأفكار على أساسها؛ يذكرها هيوم ويقول إنه لا يدعي أنها هي المبادئ الوحيدة في هذا الصدد؛ فما على القارئ الذي يشك في ذلك سوى أن يستعرض لنفسه ما شاء من أمثلة لترابط الأفكار في رأسه وأن ينعم النظر فيها محللا ما بينها من روابط، لعله يجد مبدأ آخر ينتظم طائفة أخرى من صنوف الارتباط؛ قد يجد مثلا أن «التضاد» بين الفكرتين ربما يكون داعيا لارتباطهما بحيث يستدعي الضد ضده كما يستدعي ذكر اللون الأبيض اللون الأسود؛ غير أن التضاد يظهر بالتحليل أنه مزيج من مبدأي السببية والتشابه؛ لأنه إذا كان ثمة ضدان فإن الضد منهما يفني ضده، أي إنه يكون سببا في فنائه، وفناء فكرة ما قد يستدعي في الذهن ما قد كانت عليه قبل فنائها؛ مثال ذلك الأبيض والأسود؛ فإذا ما وردت إلى خاطري فكرة الأبيض، أدركت على أساس السببية أن وروده إنما كان على حساب فناء فكرة الأسود، وعندئذ أذكر ما قد كان الأمر فأذكر اللون الأسود، وهكذا يتتابع الضدان في الذهن. (2) الإدراك الحسي والذاكرة (2-1) الانطباعات الحسية وأصولها الخارجية
سؤالان يريدان منا جوابا ؛ أولهما خاص باعتقادنا عن شيء ما ندركه بحواسنا أن لوجوده استمرارا واتصالا على الرغم من أنه قد يكون حاضرا أمام الحواس آنا وغائبا عنها آنا آخر، فما الذي يحملنا على مثل هذا الاعتقاد رغم أننا نجاوز به شهادة الحواس؟ فهذا المكتب الذي أكتب عليه الآن موجود بشهادة الرؤية واللمس، لكنني قد أخرج من الغرفة فلا أراه ولا ألمسه ولا أشهد وجوده بحاسة أخرى، ومع ذلك فإني إذا ما عدت إلى الغرفة وعدت إلى رؤيته ولمسه، ملكني الاعتقاد بأنه هو نفسه المكتب الذي كنت قبل ذلك أراه وألمسه، فأنى لي هذا الاعتقاد باستمرار وجوده، مع أنني لو ركنت إلى شهادة الحواس وحدها لقلت إنه مكتب آخر قد بدأت لتوي أدركه بحسي؟
والسؤال الثاني خاص باعتقادنا بوجود الشيء الذي ندركه بالحواس خارج حدودنا، أي إنني حين أنظر إلى هذا المكتب الذي أمامي، يملكني الاعتقاد بأنه ليس مجرد انطباع على شبكية عيني، بل هو كائن مستقل عني موجود خارج نطاقي؛ فما الذي يحملني على هذا الاعتقاد إذا كنت في حقيقة الأمر لا أعلم إلا أن انطباعا حسيا واقع على جسدي؟ أفلا يجوز أن هذا الذي أراه إن هو إلا هذا الانطباع وحده دون أن يكون ثمة في الخارج ما يقابله، كما يحدث أحيانا حين يتوهم الواهم أنه يرى أو يسمع وليس هنالك الشيء الذي يتوهم أنه يراه ويسمعه؟
والسؤالان مرتبطان أحدهما بالآخر، لأنني إذا ما اعتقدت عن شيء ما أنه موجود في لحظة لا يكون انطباعه فيها واقعا على حسي، كأن أعتقد بوجود مكتبي هذا حتى في اللحظة التي أكون فيها جالسا في غرفة أخرى لا أراه ولا ألمسه، على أساس أن له وجودا متصلا غير متقطع بتقطع إدراكاتي الحسية لوجوده، أقول إنني إذا ما اعتقدت ذلك عن هذا المكتب، فقد اعتقدت بالتالي أن وجوده مستقل عن وجودي، وأن وجوده لا يعتمد على إدراكي الحسي المباشر له وجودا وعدما ؛ والعكس صحيح أيضا، بمعنى أنني ما دمت قد اعتقدت أن وجود هذا المكتب مستقل عن وجودي وعن إدراكي المباشر له، فقد اعتقدت بالتالي أن وجوده يظل قائما في حضوري أو غيابي على السواء ... ذانك هما السؤالان اللذان نريد الإجابة عنهما لنعلم ما الذي يحملنا على الاعتقادين معا: الاعتقاد باتصال وجود الشيء الخارجي، والاعتقاد بوجوده مستقلا عنا؛ أهي «الحواس» نفسها التي تحملنا على هذين الاعتقادين؛ أم هو «العقل» أم «الخيال»؟
أما «الحواس» نفسها فيستحيل أن تكون مصدرا لأي من هذين الاعتقادين؛ إذ من الواضح أنني حين أكون غائبا عن هذا المكتب بحيث لا أراه وحين أحكم - رغم غيابي عنه - أنه موجود، فليس هذا الحكم عندئذ مستمدا من حواسي؛ لأنني - بحكم الفرض الذي فرضته - غائب عنه، فليس هو على صلة ببصري أو بلمسي؛ وإلا فلو قلت إنني أرى المكتب حين لا أراه، وألمسه حين لا ألمسه، فذلك يكون مني تناقضا صريحا.
وكما أن «الحواس» لا تكون مصدرا لاعتقادي باتصال وجود الشيء الخارجي أثناء غيابي عنه، فكذلك لا تكون مصدرا لاعتقادي بأن للشيء الذي أدركه بها وجودا خارجيا مستقلا عن وجودي، وذلك واضح كذلك، لأن كل ما تمدني به العين حين تنطبع برؤية هذا المكتب - مثلا - هو ما قد انطبعت به، أي هو الانطباع نفسه، وليس في وسعها أن تمد إدراكها إلى ما وراء ذلك لترى إن كان للشيء نفسه - الذي هو مصدر الانطباع الواقع عليها - وجود مستقل أو لم يكن؛ إن اللقطة الحسية الواحدة لا تدرك إدراكين في وقت واحد: الانطباع والشيء الطابع؛ كل ما هنالك عند الحاسة في اللحظة المعينة هو انطباعها، فإن حكمت بعد ذلك بأن في العالم الخارجي شيئا قائما بذاته هو سبب هذا الانطباع، كان ذلك مني استدلالا عن طريق العقل أو الخيال؛
26
وقد أصيب في هذا الاستدلال أو قد أخطئ، بمعنى أنني قد أدرك انطباعا على حواسي لشيء ما فأستدل وجود هذا الشيء خارج جسمي، وإذا بالأمر وهم، فلا شيء هناك كما توهمت أن يكون؛ لكن الفيصل الذي أقرر به إن كان الاستدلال صائبا أو خاطئا، أي أقرر به إن كان لانطباعي الحسي أصل في الخارج أو هو من خلق أوهامي، هذا الفيصل الذي أقرر به لا يكون في طبيعة الانطباع نفسه، لأن الانطباع لا يختلف في الحالتين؛ فالذي توهمه الأوهام أنه يرى في الهواء طائرا إنما يدرك انطباعا على حسه كالانطباع الذي يدركه إذا ما كان في الهواء طائر فعلا؛ وإذا كان الأمر كذلك فليس في مضمون الانطباع ذاته ما يدل إن كان صورة لواقع أم اختلاقا من الوهم؛ ولا بد - إذن - أن يكون مرجعنا في الحكم الذي نقرر به إن كان الانطباع الحسي ممثلا لشيء خارجي أو لم يكن، إلى عوامل أخرى غير الانطباع نفسه، كأن نرجع إلى علاقاته بسائر الأشياء المحيطة به، لأن الروابط التي تصل الانطباع في الحالة الأولى بما حوله، مختلفة عن الروابط التي تصله بما حوله في الحالة الثانية.
فإذا ما قدمت لنا الحواس انطباعات معينة على أنها صور لأشياء خارجة عنا ومستقلة بوجودها عن وجودنا، كان لا بد لحواسنا من أن تفرق بإدراكها بين طرفين: فالأشياء الخارجية من جهة، وذواتنا المدركة من جهة أخرى، وإلا لما استطاعت أن تقارن وتوازن وتقضي بأن ذلك الطرف شيء قائم بذاته مستقل عن هذا الطرف، غير أن المشكلة ها هنا هي: كيف يمكن أن يكون الإنسان نفسه موضوع إدراك حواسه؟
Unknown page
27
الحق أنه لا معنى لقولنا إن انطباعاتنا الحسية «تخدعنا» أحيانا حين تحملنا على الاعتقاد بأنها تصور أشياء خارجية مع أنها لا تصور شيئا، لا معنى لقولنا هذا، لأن الانطباعات - عند الوعي - على درجة سواء من حيث يقين الإدراك، فلا فرق عند الإنسان المدرك بين انطباع وآخر من حيث إدراكه له ويقينه بأنه هناك في وعيه؛ فها هنا لا تكون تفرقة بين ما هو وهم وما هو حقيقي، لأن كليهما انطباع حاضر في الذات الواعية؛ وإذن فما مصدر الخطأ حين نتوهم أن إدراكنا الحسي يمثل شيئا خارجيا عندما لا يكون كذلك؟ ما مصدر الخطأ إذا كانت الانطباعات الحسية في ذاتها لا تخطئ ولا تخدع؟
ليست هي الحواس - إذن - التي تحملنا على الاعتقاد بأن الشيء الذي نحس انطباعه عليها يتصف وجوده بالاستمرار، كما يتصف باستقلاله عنا؛ لأنه إذا كانت الحواس هي نفسها الدالة على أن الصورة التي تقدمها إلينا إنما هي صورة لأصل خارج عنها، لوجب أن تقدم لنا الأصل وصورته معا، لكنها بداهة لا تفعل.
28
كلا ولا هو «العقل» الذي يحملنا على الاعتقاد بأن الانطباع الحسي الذي يطبع حاسة من حواسنا إن هو إلا صورة لأصل خارج عنا؛ لأنه لو كان العقل هو وسيلة ذلك الاعتقاد للزم أن تكون النتيجة مستمدة من المقدمة؛ لكن الانطباع الحسي باعتباره هو المقدمة التي سنستدل منها، لا يحمل في طيه أبدا ما يلزمنا باستنتاج نتيجة تقول إن وراء هذا الانطباع أصلا مستقلا خارجا عنا؛ وحتى على فرض أن الفلاسفة قد استطاعوا أن يقيموا الحجة على أن الانطباع الحسي يلزم عنه وجود الأصل الذي نشأ عنه ذلك الانطباع، فليست هذه الحجة هي التي تحمل الطفل والساذج بل والكثرة العظمى من الناس - فنحن لا نستثني هنا إلا طائفة الفلاسفة وحدهم - أقول إن هذه الحجة ليست هي التي تحمل هؤلاء جميعا على الاعتقاد بأن انطباعاتهم الحسية صور لأشياء قائمة فعلا ولها وجود مستمر، لا، بل إن هؤلاء جميعا ليدمجون الشيء الخارجي في انطباعه على الحس دمجا لا يسمح حتى بالتفرقة بينهما وجعلهما طرفين: أصل وصورة ... ليس هو «العقل» إذن الذي يحملنا على هذا الاعتقاد، ولكنه «الخيال».
29
ذلك أن الإنسان إذا ما تعود انطباعا معينا يأتيه كلما وجه حاسته وجهة معينة كان أيسر عليه أن يفترض أن هذه الانطباعات المتشابهة التي تعاوده من ذلك المصدر المعين، إنما ترتبط كلها برباط الهوية، أي إنه يفترض أنها في الحقيقة ليست سلسلة انطباعات، كل انطباع منها قائم بذاته مستقل عن سوابقه ولواحقه (كما هي الحال في حقيقة الأمر) بل هي انطباع واحد بذاته يتأثر به كلما وجه حاسته إلى ذلك المصدر؛ مثال ذلك إذا نظرت إلى الشمس أو إلى البحر مرة بعد مرة، فإنني في كل مرة سأتلقى انطباعا حسيا هو في الحقيقة مستقل عن الانطباع الذي تلقيته في لحظة سابقة أو الذي سأتلقاه في لحظة مقبلة لكنني أجد أنه من الأيسر أن أفترض أن هنالك شمسا واحدة وبحرا واحدا، وأن الشمس يأتيني منها انطباع واحد، وأن البحر كذلك يأتيني منه انطباع واحد، بحيث يجوز لي أن أقول إن للشمس وجودا متصلا وكذلك للبحر وجود متصل، لا يتقطع بتقطع إدراكي لهما، فها أنا ذا أفتح عيني للشمس فأراها، ثم أغمضها فلا أراها، لكنها هناك لا تزال في سمائها، لأنني إذا ما عدت ففتحت لها عيني من جديد رأيتها؛ لو أنني اتبعت المنطق العقلي الصارم مع نفسي لقلت إن الانطباع الذي جاءني من الشمس أول مرة هو غير الانطباع الذي جاءني منها في المرة الثانية، ولذلك ففي حدود ما أعلمه من انطباعاتي الحسية هنالك شمسان، ما دام هنالك انطباعان متتابعان، أو هنالك ألف ألف شمس إذا كنت قد تلقيت ألف ألف انطباع من هذا القبيل، ولا يشفع لي أن أقول إنها انطباعات متشابهة كلها؛ لكنني لا ألتزم مع نفسي منطقا صارما هنا، وأدع نفسي للخيال يخيل لي أن هذه الانطباعات كلها هي انطباع واحد، وأنه ما دامت الشمس لا يغير منها أن أفتح عيني أو أغمضها فلا بد أن تكون هنالك شمس واحدة متصلة الوجود، خارجة عني ومستقلة عن إدراكي.
30 (2-2) مبدأ الذاتية
قلنا إن الإنسان إذا ما جاءته سلسلة انطباعات على لحظات من الزمن متتابعة شديدة الشبه بعضها ببعض، فإنه يميل بخياله إلى دمجها بحيث تصبح وكأنها انطباع واحد يدل على شيء واحد؛ فالشمس - مثلا - أراها مرة بعد مرة، وفي كل مرة تطبع عيني بانطباع هو في الحقيقة مستقل عن الانطباع الذي تطبعني به في المرة التالية، لكن الانطباعين يكونان على تشابه شديد، فأدمجهما بحيث أجعلهما وكأنهما انطباع واحد مبعثه شيء واحد في الخارج هو الشمس؛ هذا التوحيد الذي أدمج به ما هو في الحقيقة متعدد، هو الذي يسمى في الفلسفة بمبدأ الهوية أو مبدأ الذاتية.
فلو كان ما أراه انطباعا واحدا في لحظة واحدة، لما كان ثمة داع لهذا المبدأ، لأن المبدأ يقتضي أن تكون هنالك حالتان أو انطباعان على الأقل، يتلو أحدهما الآخر في لحظتين مختلفتين، ثم أقول عن الانطباع الثاني إنه هو هو بعينه الانطباع الأول؛ بعبارة أخرى لو كان هنالك وحدة واحدة لما كانت هنالك «ذاتية» أو «هوية»، لأن الوحدة واحدة بحكم تعريفها، فليس فيها التعدد الذي نحكم على وحداته بأنها تكون فردا، وبالتالي فليس فيها الإشكال الذي يحاول الفلاسفة أن يفسروه بمبدأ الذاتية.
Unknown page