Darb Iskandariyya
ضرب الإسكندرية في ١١ يوليو
Genres
وقبل أن ينتصف القرن الثامن عشر كانت أوربة كلها تتطلع إلى دولة فتية نبغت في وسطها، هي الدولة البروسية: ارتفع بها فردريك الكبير إلى مصاف الدول الكبرى، وقام على أمورها بعده بفترة وجيزة وزيرها القدير بسمارك صاحب السياسة التي وسمت يومئذ بسياسة الدم والحديد، وكان من مطامحه أن يضم إلى وطنه شعوب أوربة الجرمانية باسم ألمانيا العظمى، ونظر إلى الشرق فطمع في الدولة النمسوية؛ لأنها شائخة تتداعى، ونظر إلى الغرب فطمع في هولندة لأنها أصغر من أن تحمي نفسها في مصطرع الدول المحيطة بها. ولاح له أن تصفية الدولة العثمانية خير طريقة إلى المساومة على صفقته الرابحة، فإذا شجع روسيا على احتلال الآستانة ومضائق البسفور والدردنيل، وشجع إنجلترا على احتلال مصر وقناة السويس، أمكنه أن يستلحق الجرمان الأوروبيين شرقا وغربا بغير عناء. وتبقى فرنسا فلا يضيره أن يدفع اعتراضها بالسماح لها إلى حين بضم بلجيكا من جانب حدودها، ويتسنى له من ثمة أن يقبض على ميزان الفصل بين الخصوم والنظراء، فلا تستغني دولة من الدول عن مجاملته وخطب وده. ولولا أن دهاة إنجلترا وروسيا كانوا يحذرونه ولا يطمئنون إلى تحريضه، لاندفعوا حيث أراد أن يدفعهم، ولكنهم راوغوه ولم يقنطوه وتخادع له بعضهم ليخدعوه، فلم يزل يلعب لعبته بين إنجلترا وروسيا وفرنسا حتى بطلت الغاية منها فانقلب على الجميع واحدة بعد أخرى.
من مخازي هذا الدور - دور المسألة الشرقية - فضائح المذابح التي تعللت بها الدول لتحقيق غاياتها المرسومة، وقد لوحظ عليها أنها تحدث دائما في مكانها المطلوب وعند الحاجة إليها، فحدثت في أرمينية عندما شرعت روسيا في استلحاقها، وحدثت في لبنان عندما تهيأت فرنسا لبسط نفوذها عليه وتنصيب ولاته باختيارها، وحدثت في الإسكندرية والأسطول البريطاني يتحفز على شواطئها، وكانت حجة مشتركة تسعف المحتجين بها في ساعتها وفي مكانها.
وقد ثبت من الحوادث التي جرى التحقيق فيها بأعين العالم وسمعت فيها شهادات الأجانب أنفسهم، أن الاعتداء فيها كان يبدأ من ناحية الأجانب الذين كانوا يصولون على أبناء البلاد بامتيازاتهم المجحفة. وعرف في التاريخ أن الأرمن كانوا يعيشون مع جيرانهم الترك في سلام ومودة، وكان الترك يسمونهم «بملتى صادقة» ثقة بهم واطمئنانا إليهم، ومن دلائل ذلك في مصر إيثار بوغوص وأرتين ونوبار بمناصب الوزارة في أيام محمد علي وإسماعيل، وإيثار أسطفان وأرام في أيام عباس الأول، وقد أدى البحث في مذابح سنة 1895 إلى الوقوف على سبب هذه المذابح، وهو يعزز ما اشتهر من شعور الترك نحوهم، فقد سافر مئات من الترك في تلك السنة إلى الحجاز وتركوا أبناءهم ونساءهم في رعاية جيرانهم من الأرمن المقيمين معهم في بلادهم، فما هو إلا أن أبعدوا في السفر حتى اندس المحرضون من الخارج بين تلك القرى يحرضون الأرمن على الفتك بجيرانهم الموكولين إلى رعايتهم، فاعتدوا على الأرواح والأعراض وانقضوا على الصغار والشيوخ يقتلونهم أو يشردونهم. وسكت المؤرخون الغربيون عن هذه الحقائق ولم يذكروا من أخبار أرمينية غير ما سموه بالمذابح المسيحية، وتواطئوا على إخفاء الأخبار الصحيحة، كما جاء في دائرة معارف أفريمان من مادة تركيا بمجلدها الثاني عشر. ويستطيع من شهدوا في مصر عدوان المعتدين على المصريين عقب الحرب العالمية الأولى أن يعلموا سهولة هذا العدوان على من يسميهم أولئك الكتاب الغربيون بضحايا العسف والاضطهاد.
أما مذابح لبنان فقد حدثت في الوقت الملائم أيضا، لأنها لبثت بالانتظار - إذا صح هذا التعبير - حتى خرجت فرنسا وإنجلترا متفقتين من حربهما مع روسيا لصد روسيا عن بلاد الدولة العثمانية، وإبطال دعواها في حماية الملة، وانعقد مؤتمر باريس (1856) لإبرام الصلح وتقسيم ما تيسر تقسيمه من بلاد الدولة في أوربة وآسيا، وبعد هزيمة النمسا سنة 1858 واشتعال الحرب البروسية النمسوية وإلحاح الضرورة على نابليون الثالث لتوطيد مركزه بين المحافظين المتدينين مستعينا بهم على الغلاة من أنصار الجمهورية - سنحت الفرصة «لحامي الملة»، فجاءت مذابح لبنان في سنة 1860 ملبية لكل طلب موافقة لكل خطة. وتلاها ارتياد المعاهد الفرنسية لمدن لبنان وسورية تثبيتا للثقافة الفرنسية والثقافة العربية في وقت واحد؛ إذ كانت يقظة العرب لازمة لتقويض أركان الدولة وتقريب المسلمين مع المسيحيين إلى سياسة فرنسا باسم الدين من ناحية، واسم العلم والحضارة من ناحية أخرى، ثم نسيت ثقافة العرب، بل حوربت، بعد قضاء المأرب من تركة «الرجل المريض». •••
إن سياسة الدول في المسألة الشرقية درس تطبيقي مفصل لمذهب القائلين بالسياسة الجغرافية
Geopolitics ، وخلاصته أن مركز الأمة الجغرافي يملي عليها سياستها على اختلاف الحكومات والمعتقدات.
فالسياسة الروسية في عهد «بطرس الأكبر» هي بعينها سياسة الشيوعيين الذين يحاربون الملة، ولكنهم يحذون حذو العاهل القديم في مراميه ومساعيه للسيادة على مضائق البسفور والدردنيل والإشراف على البحر الأحمر وخليج البصرة وطريق الهند ومسالك إيران.
وفرنسا طمحت إلى ضم بيت المقدس ومصر على عهد ملوكها القديسين؛ لأن «لويس التاسع» كان يزعم أنه «أمين الأمة العيسوية»، كما قال في خطابه إلى الملك الكامل «أمين الأمة المحمدية»، ثم طمحت إلى هذه الغاية في عهد «لويس الخامس عشر»، قبيل الثورة وفي إبان حركة التمرد والإلحاد. ثم جاء نابليون الأول إلى مصر، وهو يقول للمصريين بعد افتتاح منشوره: «بسم الله الرحمن الرحيم ... الذي لا ولد له ولا شريك في ملكه، إنه أعظم احتراما للنبي والقرآن الكريم من المماليك، ويطلب إلى العلماء والأعيان أن يبلغوا أمتهم أن الفرنسيين مسلمون مخلصون ... يحبون الدولة العلية.»
يقول هذا في مصر وهو لم يبرح فرنسا حتى كان قد أقنع حكومة الإدارة «بأن مصر موصل تجاري بين الشرق والغرب ... وأنها إذا افتتحت وبقيت فيها فرنسا خمسين سنة غنيت فرنسا بما تأخذه من محاصيلها وما تبيعه في أسواقها ... ولم تقم لإنجلترا قائمة في بلاد الهند بعد احتلال شواطئ البحر الأحمر وشق القناة بين النيل والسويس ...»
ثم انفصلت فرنسا عن الكنيسة ولم تزل إلى أواخر القرن التاسع عشر تدعي لنفسها حق حماية المسيحيين في المشرق، ثم احتلت ما احتلته من هذا المشرق بحجة جديدة غير الحجة الدينية، وهي حق الدول الكبرى في الوصاية على الأمم الصغرى بانتداب من أمم الحضارة.
Unknown page