Dam Wa Cadala
الدم والعدالة: قصة الطبيب الباريسي الذي سطر تاريخ نقل الدم في القرن السابع عشر
Genres
قديم أم محدث؟
إذن هل كان هارفي مفكرا مؤمنا بالمعتقدات القديمة بنى عمله على جدليات فلسفية، أم كان عالما عصريا يعتمد على التجربة والقياس الدقيق؟ بداية، استمد هارفي مبادئه الإرشادية الرئيسية من معتقدين قديمين: الأول - كما رأينا - كان الاعتقاد بأن الجسم يعمل كعالم صغير بالنسبة إلى باقي العالم. والثاني هو أن الجسم قد صمم بعناية؛ فكل جزء في الجسم لم يكن ليوجد لولا أن خلقه الرب ووضعه في الجسم. ومثل كثيرين من أهل تلك الحقبة، اعتبر هارفي التشريح فرعا من دراسة علم اللاهوت:
لطالما كان فحص الجسم مصدر سرور لي؛ ومن ثم طالما اعتقدت أنه بالإضافة إلى قدرته على إمدادنا بفهم عميق لألغاز الطبيعة البسيطة، سنرى من خلاله صورة أو انعكاسا لصورة الخالق القدير نفسه.
وفي كتاب «حركة القلب»، يعلق هارفي على الحجم الكبير نسبيا للبطينين وللأوعية الدموية المتصلة بالقلب بأنه «بما أن الطبيعة لا تفعل شيئا عبثا، فإنها لم تكن لتجعل حجمه كبيرا نسبيا دون هدف ...»
وتبين الطريقة التي وصل بها هارفي إلى استنتاجاته أنه لم يكن يهتم كثيرا بقياس أي شيء بعناية؛ إذ لم ير هارفي - كما كان حال بقية معاصريه - أي فائدة من وراء القياسات الدقيقة؛ فقد كانت تقديراته لمعدل تدفق الدم عبر القلب أبعد ما يكون عن الدقة، رغم أنه ربما كان من السهل عليه أن يقيس الأحجام بدقة أكبر، ويراقب عدد ضربات القلب في الدقيقة، محققا درجة كبيرة من الدقة. لقد اهتم هارفي بالقضية الفكرية أكثر من القياسات التفصيلية، وبذلك توصل إلى الاستنتاجات الصحيحة بناء على بيانات خاطئة.
ربما لم يسبق هارفي عصره إلا ببضع سنوات فقط؛ فبينما كان يدرس القلب، كان جاليليو جاليلي يطور وسائل لاستخدام القياسات والحسابات الدقيقة لدراسة الكون - العالم الكبير - إلا أن جاليليو لم يكن قد نشر عمله بعد؛ لذا لم يكن هارفي في وضع يسمح له بتبني منهجيته الدقيقة وتطويعها بما يتلاءم مع علم وظائف الأعضاء.
كان هارفي يعيش ويدرس عند مفترق طرق من الفلسفة. فقد كان يستخدم الجدل المنطقي لوضع النظريات ثم يجري تجارب بدائية ليرى إذا كانت هذه النظريات توافق الواقع. لقد دحض هارفي بشدة أي رأي يقول إنه ينتمي إلى أخوية الأطباء حديثة الظهور آنذاك، حيث قال إنه مقارنة بأرسطو لم يكن هؤلاء المدعون سوى «حثالة». ومن منظور القرن الحادي والعشرين يمكن اعتبار هارفي أحد آخر القدماء أو أحد أوائل المعاصرين أو - ما هو أفضل - جسرا بينهما.
وعندما ننظر إلى عمل دوني سنجد أنه بينما زعم أنه جزء من عالم التساؤل والاكتشاف الجديد، لم تكن له محاولات جدية للاعتماد على القياس؛ إذ بدا متراخيا فيما يتعلق بتسجيل ملاحظات تفصيلية. لكن في حالة دوني - مع ذلك - يزيد احتمال وجود مؤشر على نزعته المتعالية نحو التفصيل، بدلا من تأمل خاص للفلسفة التي ينبني عليها عمله.
حركة الدم بفعل الفوران
إذا كان الدم يجري في دورة عبر الجسم، فلا بد من شيء يحركه. لقد كان الرأي السائد هو أن أي ضغط في الجهاز الدوري سببه «الفوران». ويستخدم مصطلح الفوران للإشارة إلى تمدد اللبن أو العسل عند وضعه في إناء وتسخينه على الموقد. فبمجرد وصوله إلى نقطة الغليان تتكون الرغوة فوقه، وإن لم يكن الشخص حذرا فإن السائل يرتفع إلى حافة الإناء ويفيض إلى الخارج. وسيحدث الشيء نفسه مع إناء مملوء بالدم إن حاولت غليه. لقد اعتقد جالينوس وهؤلاء الذين جاءوا من بعده أن وظيفة القلب الأساسية هي تسخين الدم. ويتسبب الفوران الناتج في زيادة حجم الدم، فيجبره على الجريان في الشرايين. وكانت زيادة الضغط داخل القلب هي ما يجعله يتمدد بانتظام. فطبقا لما قاله جالينوس، كان القلب غرفة تسحب الدم، ثم تعمل كسخان.
Unknown page