50

Dam Wa Cadala

الدم والعدالة: قصة الطبيب الباريسي الذي سطر تاريخ نقل الدم في القرن السابع عشر

Genres

لم يدرك مكتشف هذه البوابات وظيفتها، وكذلك من قالوا إن الدم ينبغي أن ينزل إلى الأسفل بفعل وزنه: إذ كان في الوريد الوداجي صمامات باتجاه الأسفل تمنع صعود الدم إلى أعلى.

كان هارفي يجمع أدلة على أن الصمامات تضمن تدفق الدم في اتجاه واحد؛ إلى القلب؛ إذ يجري الدم من الرأس إلى أسفل الوريد الوداجي عبر الصمامات المتجهة لأسفل بينما يصعد الدم من الساقين وأسفل الجسم عبر الصمامات المتجهة لأعلى في باقي الأوردة. وكان هذا مخالفا تماما للتوقعات. فالدم - على كل حال - كان من المفترض أن يتدفق من الكبد إلى سائر الجسم عبر الأوردة، أي في الاتجاه المعاكس. ورأى هارفي أن التفسير الوحيد لما اكتشفه هو أن الدم يجري في دورة عبر الجسم.

والتقى هارفي قبل وفاته بوقت قصير رائد الاكتشافات الأيرلندي شديد الثراء روبرت بويل الذي سجل محادثتهما:

أذكر أنني عندما سألت هارفي رجلنا المشهور - في النقاش الوحيد الذي أتيح لي معه (وكان قبل وفاته بفترة قصيرة) - عن ماهية الأشياء التي دفعته للتفكير في جريان الدم في دورة؟ فأجابني بأنه عندما راقب الصمامات في الأوردة الموجودة في مواضع عديدة من الجسم، لاحظ أنها في وضع يسمح بمرور الدم باتجاه القلب لكنها تمنع مرور الدم الوريدي في الاتجاه المعاكس: لقد شجعه ذلك على تصور أنه ليس هناك سبب أكثر حكمة من ذلك، لأن الطبيعة لم تصنع مثل هذه الصمامات الكثيرة دون علة: وليس أفضل من ذلك علة، وحيث إن الدم لا يمكن ضخه عبر الأوردة إلى الأطراف بسبب الصمامات التي تعترض مساره، فمن الواجب أن يضخ عبر الشرايين ويعود عبر الأوردة التي لا تمنع صماماتها مرور الدم في هذا الاتجاه.

شكل 2-2: رسم ويليام هارفي للذراع والصمامات. نسخت بتصريح من قسم المقتنيات الخاصة بمكتبة لين الطبية، جامعة ستانفورد.

عندما نشر هذا المفهوم الثوري انقسمت الآراء. إذا كان هارفي على صواب ، فذلك يعني أنه قد تلزم مراجعة جميع نظريات الصحة والطب الأساسية. ومما لا يثير الدهشة، لاقى ذلك معارضة كبيرة وصلت في بعض الأماكن إلى مقاومة صريحة. وهناك مؤشرات كثيرة على أن هارفي أرجأ نشر أفكاره بضع سنوات ريثما تزداد ثقته. ولم يمر وقت طويل قبل أن تلقى الفكرة قبولا واسعا.

كان هارفي مدركا لحجم عمله إدراكا واضحا؛ ففي الفصل الأول من كتاب «حركة القلب»، ناقش هارفي بثقة الاكتشافات الهامة التي أقنعته بأن الدم يجري بالفعل من الأوردة إلى الشرايين عبر القلب. أما في الفصل الثامن، فكان أكثر تحفظا. وعند اتجاهه إلى طرح تصوره عن جهاز دوري، يعبر عن مخاوفه قائلا:

لكن ما تبقى ليقال عن كمية الدم الذي يمر وعن مصدره غير مألوف ولم يسمع به لدرجة أنني لا أخشى الأذى بسبب حقد بعض الحاقدين فحسب، بل أرتعش رعبا من أن أكسب عداوة البشرية جمعاء، أخشى ذلك بشدة حتى إن الممارسة والعادة تحولت إلى طبع ثان في. إن المعتقدات بمجرد زرعها تضرب بجذورها عميقا، ويسيطر احترام القديم على كل الناس. مع ذلك فقد قضي الأمر، وأنا أضع ثقتي في محبتي للحقيقة وفي حيادية العقول المثقفة.

لقد كانت مخاوفه في محلها؛ فبعد نشر كتاب «حركة القلب» شكا هارفي من الانخفاض الملحوظ في عدد المرضى الذين كانوا على استعداد للحصول على استشارته الطبية. وقد أخبر أوبري ذات مرة بانتشار إشاعة بين العوام في البلدة أنه «مخبول»، لكنه كان شخصيا مقتنعا بأن الأطباء كانوا ينشرون إشاعات مغرضة لأنهم شعروا بالغيرة من اكتشافاته. وللأمانة، قليلون هم من أعربوا عن تقديرهم لمهاراته الطبية على أي حال؛ لذا لم يكن على الأرجح غيابه عن ممارسة الطب خسارة كبيرة للمجتمع.

رغم أن العديد من العلماء رحلوا قبل أن تحظى أفكارهم الثورية بالقبول، فقد كان من حسن حظ هارفي أنه جاء بفكرته في سن صغيرة وعاش حتى عامه الثمانين. وكان هذا وقتا كافيا ليتأكد الآخرون من فكرته وتحظى بالقبول بين معظم المشتغلين بالعلوم والطب.

Unknown page