٤٣ - ودليلٌ آخرُ، وهو أنه لو كان القصْدُ بالنَّظم إلى اللفظِ نَفْسِه، دونَ أن يكونَ الغرضُ ترتيبَ المعاني في النَّفس١، ثم النطقَ بالألفاظ على حَذْوها، لَكانَ يَنْبغي أن لا يَخْتلف حالُ اثنين في العِلْم بحُسْن النظُم أو غير الحسن فيه، لأنهما يحسبان بِتَوالي الألفاظِ في النُّطق إحساسًا واحدًا، ولا يَعْرِفُ أحدُهما في ذلك شيئًا يَجْهلُهُ الآخرُ.
بيان معنى "النظم":
٤٤ - وأوْضحُ من هذا كلِّه، وهو أنَّ هذا "النظْمَ" الذي يتواصَفُه البلغاءُ، وتَتَفاضَلُ مراتِبُ البلاغةِ من أجلهِ، صَنْعةٌ يُستعانُ عليها بالفكرةِ لا مَحالة. وإذا كانت مما يُستعانُ عليها بالفكرةِ٢، ويُسْتخرَجُ بالرَّويَّة، فينبغي أن يُنْظَر في الفِكَر، بماذا تلبس؟ أبا المعاني أم بالأَلفاظ؟ فأَيُّ شيءٍ وجدْتَه الذي تلبِّس به فِكَركَ من بينِ المعاني والألفاظِ، فهو الذي تَحَدثُ فيه صَنْعتُك٣، وتَقع فيه صياغتُك ونظمُك وتصويرُك. فَمُحالٌ أن تتفكَّرَ في شيءٍ وأَنت لا تَصنَعُ فيه شيئًا، وإنما تَصْنع في غيرِه. لو جازَ ذلك، لجازَ أن يُفكِّر البنَّاءُ في الغَزْل، ليَجْعل فكرَهُ فيه وُصلةً إلى أن يُصْنَعَ من الآجُرّ، وهو من الإِحالةِ المُفْرطة.
٤٥ - فإِنْ قيلَ: "النظْمُ" موجودٌ في الألفاظِ على كلَّ حالٍ، ولا سبيلَ إلى أن يُعْقَل الترتيبُ الذي تزعُمُه في المعاني، ما لم تَنْظم الألفاظَ ولم ترتَّبْها على الوجه الخاص.
_________
١ في "ج" أسقط "في النفس".
٢ في المطبوعة: "عليه بالفكرة".
٣ في "ج": "صنيعتك"، وضبطها.
1 / 51