الكلام في إعجاز القرآن من التمهيد:
٢٩ - وجملةُ الأمر أنك لن تَعْلَم في شيءٍ منَ الصناعات عِلْمًا تُمِرُّ فيه وتُحلْي، حتى تَكونَ ممن يَعْرفُ الخطأَ فيها مِن الصَّواب، ويَفْصِلُ بينَ الإِساءةِ والإِحسان، بل حتى تُفاضِلَ بينَ الإِحسان والإِحسان، وتَعْرِفَ طبقاتِ المُحْسنين.
وإِذا كان هذا هكذا، علمْتَ أنه لا يكفي في علمٍ "الفصاحةِ" أن تَنْصُبَ لها قياسًا ما، وأن تَصِفها وصْفًا مُجْملًا، وتقولَ فيها قولًا مُرْسَلًا، بل لا تكونُ مِن مَعرفتها في شَيءٍ حتى تُفصِّل القولَ وتُحصِّلَ، وتضعَ اليدَ على الخصائصِ التي تَعْرِضُ في نَظْم الكَلِم وتَعُدُّها واحدةً واحدة، وتُسمّيها شيئًا شيئًا، وتكونُ معرفتك معرفة الصنع الحاذف الذي يعلم علم كل خيط من إلا بريسم الذي في الدِّيباج، وكلَّ قطعةٍ منَ القِطَع المنجورة في الباب المقطع، وكل جره منَ الآجرِّ الذي في البناء البديع.
وإِذا نظرتَ إلى "الفصاحة" هذا النظرَ، وطلَبْتَها هذا الطلبَ، احتجْتَ إلى صبرٍ على التأمُّل، ومواظَبةٍ على التدبُّر، وإِلى هِمَّة تَأْبى لكَ أن تَقْنَع إلاَّ بالتَّمام، وأنْ تَرْبَعَ إلاَّ بَعْد بلوغِ الغاية١، ومتى جَشَّمْتَ ذلك٢ وأَبيْتَ إِلاَّ أن تكونَ هنالك، فقد أَمَمْتَ إلى غرضٍ كَريم٣، وتعرَّضْتَ لأمرٍ جَسيم، وآثَرْتَ التي هي أتَمُّ لدِينِكَ وفَضْلِك، وأَنْبَلُ عندَ ذوي العقول الراجحة لك، وذلك أنْ تَعرِفَ حُجَّة الله تعالى منَ الوَجْه الذي هو أَضْوَأُ لها وأنوه لها٤،
_________
١ "ربع يريع ربعًا"، كف وتوقف وانتظر وتحبس.
٢ "جشم الأمر يجشمه جشمًا، وتجشمه تجشمًا"، تكلفه على مشقة يعانيها فيه، ويحمل نفسه عليها.
٣ "أممت"، قصدت.
٤ في "س": "وذلك أنك تعرف ... وأنوه بها".
1 / 37