والذي لا يُشك أنه كانَ ميدانَ القومِ إِذا تجارَوْا في الفَصاحة والبيان، وتنازَعوا فيهما قَصَبَ الرَّهان، ثم بَحث عنِ العِلل التي بها كانَ التباينُ في الفَضْل، وزادَ بعضُ الشعر على بعضٍ١ كان الصادُّ عن ذلك صادًَّا عن أَن تُعرَف حجةُ الله تعالى، وكان مَثلُه مَثلَ مَن يتصدَّى للنّاسِ فيمنعُهم عَن أنْ يحفظوا كتابَ الله تعالى ويقوموا به ويتلوه ويقرِئُوه، ويصنعُ في الجملةِ صَنيعًا يؤدِّي إِلى أَنْ يَقلَّ حفَّاظُه والقائمونَ به والمُقرئون له. ذاك لأنَّا لم نتعبَّدْ بتلاوتِه وحِفْظه، والقيامِ بأَداء لفظهِ على النَّحو الذي أُنزل عليه، وحراستِه من أن يُغَيَّر ويُبدَّل، إلاَّ لتكونَ الحِجةُ بهِ قائمةً على وجهِ الدَّهر، تُعرَف في كل زمانٍ، ويتوصَّلُ إِليها في كلَّ أَوان، ويكونُ سبيلُها سبيلَ سائرِ العلوم التي يَرويها الخلَفُ عن السَّلف، ويأَثُرُها الثاني عن الأول، فمَنْ حال بيننا وبين ما له كانَ حفْظُنا إيْاهُ، واجتهادُنا في أن نؤدِّيَه ونَرعاه، كَان كَمن رامَ أن يُنْسيناه جُملةً ويُذْهبه من قلوبنا دَفعةً، فسواءٌ مَنْ منَعكَ الشيءَ الذي تنتزع منه الشاهدُ والدَّليلُ، ومَنْ منعَكَ السبيلَ إِلى انتزاعِ تلك الدَّلالةِ، والاطَّلاعِ على تلك الشَّهادةِ، ولا فرقَ بينَ مَن أعدمَك الدواءَ الذي تَسْتَشفي به من دائَك، وتَسْتبقي به حشاشةَ نَفْسك، وبينَ مَن أعدمَكَ العلْمَ بأنَّ فيه شفاءً، وأن لك فيه استبقاء.
الرد على حجج المعتزلة في الإعجاز:
٨ - فإِنْ قال منهُم قائلٌ: إِنّك قد أغْفلتَ فيما رتَّبْت، فإنَّ لنا طريقًا إِلى إِعجازِ القرآنِ غيرَ ما قلتَ، وهو عِلْمُنا بعَجْز العرَب عن أن يأتوا بمثلِه وتَرْكِهم أن يعارضُوه، مع تكرارِ التّحدَّي عليهم، وطولِ التقَّريع لهم
_________
١ سياق الكلام من أول الفقرة: "وذاك أبا إذاكنا نعلم .... كان الصاد عن ذلك ... ".
1 / 9