Daci Sama
داعي السماء: بلال بن رباح «مؤذن الرسول»
Genres
فلما ساء ظنه بهذه الأشتات من الأرباب كان حسن ظنه بالإله «الأحد» هو الذي سوأ ظنه بدين الجاهلية، وكانت وحدانية الله العلي الأعلى هي التي تجري على لسانه وتعمر قلبه وتعينه على شدته وهو يتلظى من ألم العذاب بين يدي سادته القساة.
فكانت الوحدانية هي الكلمة الواحدة التي لخص بها فضل الدين الجديد على الدين المهجور ، وقد ألهم هذا التلخيص الصادق الوجيز إلهام الإيمان الذي يهدي العقل إلى موقع الهدى من أوجز طريق، فلو أنه كان يقول «الرحيم» في موضع «الأحد» لجاز أن يقال: إن في الآلهة الوثنية من يتصف بالرحمة، أو لجاز أن يقال إن الرحمة بدرت إليه في تلك اللحظة لأنه يشتكي القسوة والعذاب. ولكنه لما ردد كلمة الوحدانية ولم يردد غيرها كان قد هدي إلى الصفة الوحيدة التي لا يدعيها المدعون لأرباب الجاهلية، كما هدي إلى الصفة الوحيدة التي تجعل الإيمان إيمانا بالحق ولا تجعله انتظارا لرحمة أو غفران أو جزاء.
ولا نريد أن نقول: إن الإيمان والمصلحة لا يجتمعان، ولا أن نقول: إن المؤمن لا تخطر له المصلحة بحال أو إنها لا شأن لها البتة في تحويل العقائد والعبادات. فإن المصلحة قد تعوق كثيرا من الناس عن قبول دين جديد، وقد تنبه الأذهان إلى الإصغاء الذي يتبعه الارتياح والتصديق، وقد تكون مصلحة فرد ومصلحة ألوف من الناس، فيستطاع الجمع بينها وبين الإيمان بالخير العميم.
ولكن الذي نقوله: إن المصلحة غير الإيمان وإنهما قد يفترقان كما يتفقان، ولو كانت المصلحة هي الإيمان لوجدت المصلحة ولم تكن هناك حاجة إلى وجود إيمان على الإطلاق ... كفى أن يسعى الإنسان إلى مصلحته دون أن يجعل الإيمان سبيلا إليها، وكفى أن يلتزم المصلحة ولا يتعداها إلى الشعور الذي يحبب إليه الموت. فأما وقد وجد الإيمان في كل زمن من الأزمان، ووجد مع انتظار الجزاء ومع اليأس من كل جزاء، فلا معنى لأن يقال: إن فردا من الأفراد قد آمن لأن له مصلحة في إيمانه، فإنه يضم إلى المصلحة شيئا آخر إذن حين يدعمها بالإيمان.
كلا. ليست صورة بلال على رمال البطحاء الموقدة في قيظ الصحراء صورة الرجل الذي طلب الخلاص من قسوة السادة. لأن الخلاص هو كل ما يعنيه.
وليست صورته وهو يكرر «أحد. أحد» بصورة الرجل الذي دخل الدين الجديد وهو يجهل الفارق الصحيح بين الدينين. ولا يعرف للدين الجديد فضلا إلا الرحمة بالعبيد في الأرض أو في السماء.
لقد كادوا يقتلونه وهو لا يجيبهم إلى تعظيم آلهتهم ولا يؤثر السكوت. ولعلهم لم يبقوا عليه إلا لشحهم بثمنه أن يضيع عليهم إن قتلوه. ولعل أبا جهل قد قتل سمية؛ لأنها جارية عجوز لا تصلح للبيع ولا للمبادلة. ولم يقتل بلالا ولا عمارا ولا صهيبا لأنهم رجال عاملون يباعون ويشترون ... ولكنهم لا شك كانوا قاتليه آخر الأمر إن يئسوا منه ولم يجدوا من المشركين من يشتريه وهو صابئ عن دين الجاهلية، فلم يكن إسلامه سبيل رفق ولا تخفيفا من عناء. بل كان سبيل عذاب ومخاطرة بالراحة والحياة.
وأي عذاب ذلك العذاب؟
حسبنا أن نعلم أن رفقاء بلال جميعا قبلوا ما سامهم المشركون أن ينسبوا به - ومنهم عمار بن ياسر - لنعلم أنه كان عذابا يفوق طاقة الإنسان.
إن عمارا لم يكن يهاب الموت في هرمه، ولكنه ضاق - في صباه - بذلك العذاب الأليم.
Unknown page