Daci Sama
داعي السماء: بلال بن رباح «مؤذن الرسول»
Genres
ولو جاء الإيمان بالروح سابقا للرق لامتنع الاعتراف به في الأديان التي تأمر بهذه العقيدة؛ لأن بيع الإنسان بيع السلع الصماء لا يوافق الإيمان بروح يتساوى فيها السادة والعبيد، فضلا عن الإيمان بتفضيل روح العبد الصالح على روح السيد الذي يعوزه الصلاح.
ولكن الأديان «الروحية» جاءت بعد ظهور الرق في المجتمع الإنساني بآلاف السنين، وكان الرق في تلك الأحقاب الطوال قد امتزج بنظام الثروة ونظام المعاملات، فأصبح اقتلاعه دفعة واحدة من أعسر الأمور، ولم تكن أذواق الناس وأخلاقهم في العصور القديمة قد بلغت من اللطف والتهذب مبلغ الترفع عن تسخير الآدميين كما يسخر الحيوان أو كما تسخر الآلة الصماء. فدارت الأديان «الروحية» حول المشكلة ولم تقابلها وجها لوجه في معظم الأحوال، ولم تكن للعبيد أنفسهم أنفة تعزف بهم عن هذه المنزلة التي فرضتها عليهم ضرورات الزمان، ومن كانت لهم الأنفة لم تكن لهم القدرة على التمرد والعصيان وتبديل المصالح والآداب.
ومع هذا لم يكن للمصلحين الدينيين بد من التوفيق بين عقيدة الروح وإباحة بيع الإنسان وشرائه كما تباع الآلات.
فكان من توفيقاتهم في هذا الباب أن العبد عبد بجسده حر بروحه أمام الله، وأنه في هذه الدنيا عبد وفي الآخرة سيد قد يرتفع إلى مراتب القديسين.
وكتب القديس بولس إلى أهل (أفسس) رسالة أوصى فيها العبيد بالإخلاص في الولاء لساداتهم كما يخلصون في الولاء للسيد المسيح، وكان الحواري بطرس يأمر العبيد بهذا الأمر ويلزمهم الخشية من سادتهم كأنها أدب من آداب الدين الصحيح، وجاءت الكنيسة فأقرت نظام الرق واعتمده أحبار رومة في المناشير والعظات، وأيده توماس الأكويني كبير فلاسفة النساك والقسيسين وتلميذ أرسطو الذي اشتهر بالعلم والتقوى في القرن الثالث عشر للمسيح. فاستند إلى أقوال رسل المسيحية، كما استند إلى أقوال أرسطو في كتابه عن السياسة؛ لأن أرسطو اعتبر الأرقاء في حكم الآلات التي تراد لعمل من الأعمال، ولم ير في نظام الرق شيئا يعاب، فما دام في الناس من يعجز عن كفالة نفسه فعليه أن يعيش في كفالة سواه، وتبعه تلميذه الناسك؛ لأن الزهد في الحياة يجعل القناعة بأبخس المنازل أمرا سائغا لا غضاضة فيه، بل لعله من المأثور المحمود عند من يرفضون الحياة ... وقد واجه الرق بهذا المزاج فحسبه من الحرمان الذي لا يناقض الخطة المثلى في آداب الديانة وفضائل السلوك، وسهل عليه أن يجد للرق مصدقا من أسر الضرورات وتقييد بعض الحركات ببعض في نواميس الطبيعة وخصائص التكوين.
ومن أعجب العجب أن البلاد التي شاع فيها تحريم قتل الحيوان حتى ما يؤذي منه ولا يفيد - قد بلغت عقائدها القسوة القصوى في معاملة الأرقاء، فإن أناسا من براهمة الهند كانوا يضربون الذلة على العبيد المعروفين باسم السودرا؛ لأنهم خلقوا من أسفل أعضاء الآلة فلا تبرحهم وصمة الذل ما لبسوا ثوب الحياة، فأيسر ما يعاقب به الرقيق على إغضاب سادته أن يسل لسانه أو يقتل بعد التمثيل به على مشهد من الناس.
وكانت الحضارة تلطف من هذه القسوة بعض التلطيف فتجري العادة أحيانا في الأمم المتحضرة بالشفقة على العبيد والجواري وتخويلهم بعض حقوق المساواة. فكان المصريون الأقدمون يجيزون معاملة الإماء كما تعامل الزوجات الحرائر، ويحكمون بالقتل على من يقتل الرقيق في غير جريرة، ويلزمون الرجل في موقف الحساب بعد الموت أن يبرئ ذمته من إيذاء العبيد والإساءة إليهم، ويجعلون هذا الإبراء جوازا لا مناص منه إلى حظيرة الأرباب.
ومن مصر أخذ العبرانيون تحريم القسوة على العبيد والأجراء؛ لأنهم كثيرا ما كانوا يؤدون في مصر عمل الأجراء إن لم يكن عمل العبيد. فجنحت بهم الرغبة والقدوة إلى إنصاف الأرقاء والأحلاس، وأنكروا الإرهاق كما أنكروا الضرب والإيذاء في معاملة الأجراء.
وقال هيرودوت: إن الفرس في زمانه كانوا يمنعون عقاب العبد على الهفوة الأولى، ولكنهم يبيحون للسيد أن يقتل عبده أو يعذبه إذا أذنب مرة بعد أخرى، وكانت شريعة الفرس أرفق بالعبد على الجملة من شرائع اليونان والرومان؛ لأنها كانت ترخص له في الراحة وتكره العدوان عليه، وربما سرى إليهم أدب الشريعة هذا من عادة التسري واقتناء الزوجات من الإماء، ووافق ذلك معيشة الحضارة في المدن الكبيرة، وقلة الحاجة إلى إرهاق الأرقاء لتحصيل ضرورات المعيشة، ولعلهم قد استفادوا أيضا من سنن العبرانيين في معاملة الرقيق، لطول العشرة بين اليهود وبين شعوب النهرين.
ولم تسلم أمة قط من إقرار نظام الرق وازدراء العبيد على اختلاف عناصر الأمم وأجناسها.
Unknown page