Daci Sama
داعي السماء: بلال بن رباح «مؤذن الرسول»
Genres
ولما اشتغل الزنجي بالفنون الأخرى كصنع التماثيل كان الإيقاع رائده الأول في هذه الصناعة التي قد يظهر للوهلة الأولى أنها بعيدة عن الغناء؛ لأن النسب التوقيعية كانت تغلب في التماثيل الزنجية على مشاهدات الحياة، وكانت منذ وجدت تنقل الشبه فتحسن نقله، ولكن على نمط واحد يقل التصرف فيه، وهي لا تزال اليوم بحيث وجدت منذ آلاف السنين.
وشيوع التماثيل وصوغ المعادن ونسج الثياب الموشاة بالخطوط والأشكال مع ندرة الرسم في قبائل الزنج أمر لا غرابة فيه؛ لأن تقليد الجسم في أبعاده الثلاثة أسهل من تقليده في بعد واحد، وهو التقليد الذي يوجب التصرف لتمثيل العرض والطول والقرب والبعد حيث لا عرض هناك ولا اقتراب ولا ابتعاد.
ولتماثيلهم - مع غلبة الإيقاع عليها - سمة أخرى تعرف بها بين سائر التماثيل القديمة، وهي سمة الخوف والتخويف، وهي كذلك سمة لا غرابة فيها إذا نظرنا إلى الأخطار التي تحدق بالزنجي بين الوحوش والحيات وآفات الأرض وصواعق السماء، ونظرنا إلى الغرض الذي يتوخاه من صنع كثير من تماثيله، وهو لبس الوجوه والأقنعة التي تخيف أعداءه في ميدان القتال.
ولم تزل فنون القتال عند الزنجي ضربا من الفن الجميل؛ لأنها تمزج بين الحركة الرياضية وبين الرقص والإيقاع والغناء. وليس أشبه بمناظر الرياضة البدنية من منظر الزنجي وهو يقذف بالرمح ويوازن بين وضع يديه وكتفيه وبين وضع صدره وكشحه حين يقذف به فيقع حيث أراد، كأنه قد ركزه في الهدف بيمناه.
والزنجي شجاع مقدام لا يهاب الموت ولا ينكص عن الألم، وقد تلهبه السياط ويسيل الدم من إهابه الممزق وهو صابر لا يتلوى ولا يتأوه؛ لأنه يحسب الفرار من الألم كالفرار من الموت جبنا لا يجمل بالرجال، وقد عودته مجالدة الوحوش والأفاعي والمحاذرة الدائمة من المتربصين به أن يقسو عليها وأن تقسو عليه، وأن يحتمل القسوة على نفسه كذلك ... وفيه إلى جانب الصبر والشجاعة عناد شديد حين يخشى أن يتهم بالجبن إذا صدع بالأمر فرارا من العذاب.
وهو مصدق وفي يؤمن بالعقائد التي توارثها عن أسلافه وأكثرها من قبيل السحر وعبادة الأرواح الخفية، وتقديس الرقى والتعاويذ التي تعصمه من فعل تلك الأرواح.
والوفاء فيه طبيعة لأنه نشأ على طاعة الرئيس في القبيلة وطاعة الساحر الذي يعلمه ويحميه، وقلما يغدر أو يخون إذا وجد من يكسب ثقته ويشتمل على عطفه وولائه، وإنما يغدر ويخون إذا توجس وسلبت منه الطمأنينة، فإنه ليرجع إذن إلى حياة المخاوف والأخطار التي علمته الحذر الدائم بين الوحوش والآفات، أو بين الأسرار الغوامض التي يتكفل الساحر بجلائها له على ما يعتقد ويروم، فيعمل في حالة التوجس وسلب الطمأنينة عمل الطريد المطارد أو عمل الهاجم الذي يتوقع الهجوم من كل مكان، فلا يبالي ما يصنع وهو غاضب يائس محروم من العطف والحنان.
وينبغي - قبل مراقبة الزنجي وتسجيل غرائبه - أن ننسى أننا نراقب خلقة غريبة تخالف ما طبعنا عليه؛ لأننا حريون أن نستغرب كل شيء إذا نحن توقعنا الغرابة والاستغراب، فيمر بنا العمل الذي يعمله أبناء لغتنا وعنصرنا دون أن نلتفت إليه، ثم يمر بنا هذا العمل بعينه حين يعمله الغريب فنسرع إلى التنبه له ونحسبه من البدوات التي لا تصدر إلا عن أمثال ذلك الغريب، وكثير من غرائب الزنوج أو غرائب الأجناس عامة لا تحسب من قبيل الغرائب إلا على هذا الاعتبار. •••
ولو شاء الناس لالتفتوا إلى هذه الملاحظة في الحقائق الاجتماعية الكبيرة كما يلتفتون إليها كل يوم في الحقائق الاجتماعية الصغيرة، فإننا نسمع العامة في كل مكان يتحدثون عن بعض المشهرين بالسوء فيقولون عنه: «إن صوفته حمراء.» ويعنون بذلك أنه يفعل الشيء الذي يفعله غيره فسرعان ما يتنبه إليه الناس ويتعقبونه بالذم والتشهير، ويمضي غيره بفعلته دون أن يتنبه أحد إليه فضلا عن ذمه والتشهير بسمعته، وهم يستعيرون هذا الوصف من لغة الرعاة الذين يفردون الخروف «الأحمر» بالزجر والعقاب وهو لا يصنع شيئا غير الذي يصنعه إخوته في القطيع من ذوات الفراء السود، ولكنه يظهر وهي لا تظهر، فيعاقب وحده وتنجو هي من الملاحظة والعقاب.
والجنس الأسود له غرائبه الكثيرة في الأخلاق والعادات، ولكننا إذا بدأنا بالاستغراب أو كان الاستغراب سابقا للمراقبة كنا خلقاء أن نجد الغرابة حيث لا غرابة على الإطلاق، وحسبنا أنه يخالف الناس في أصول الطباع وهو لا يفعل إلا ما يفعله في مكانه سائر الخلق من أبناء آدم وحواء.
Unknown page