كلمة تصدير
مسألة العنصر
العرب والأجناس
الرق في الإسلام
نشأة بلال
إسلام بلال
صفات بلال
الأذان
المؤذن الأول
تعقيب
كلمة تصدير
مسألة العنصر
العرب والأجناس
الرق في الإسلام
نشأة بلال
إسلام بلال
صفات بلال
الأذان
المؤذن الأول
تعقيب
داعي السماء
داعي السماء
بلال بن رباح «مؤذن الرسول»
تأليف
عباس محمود العقاد
كلمة تصدير
بين الحربين العالميتين شاعت الدعوة العنصرية فبلغت أقصى مداها، وعملت فيها السياسة غاية عملها، وأقحمها الدعاة من مباحث العلم والتاريخ في غير موضعها.
وقد كانت للإسلام كلمة في إنصاف العناصر والأجناس سابقة لكلمة الحضارة العصرية والعلم الحديث، وكان في صحابة النبي عليه السلام رجل أسود هو بلال بن رباح مؤذنه الأول، فكان أثيرا عنده وعند الخلفاء وجلة الصحابة والتابعين.
فالكتابة عن بلال رضي الله عنه في هذا العصر تقع من سلسلة العبقريات والسير الإسلامية في موقعها، وتصادف موعدها من الزمن في أعقاب الحرب العالمية القائمة.
ولهذا كتبت هذه الصحائف في سيرة داعي السماء.
عباس محمود العقاد
سنة 1945
مسألة العنصر
مسألة العنصر - أو الجنس - مسألة اجتماعية كثيرة الورود على ألسنة المعاصرين وأقلامهم، ولكنها على هذا من أقدم مسائل الاجتماع التي وجدت مع وجود القبائل الأولى.
وأكثر الباحثين في المسائل العنصرية من المختصين بها بين الغربيين يردون كلمة العنصر أو الجنس
Race
في لغتهم إلى أصل سامي يرجحون أنه هو اللغة العربية، ويعتقدون أنها مأخوذة من كلمة الرأس التي كانت تميز بين رءوس السلالات الآدمية وغير الآدمية.
ولم يكن اختلاف القبائل وتفاخرها شرا كله في بداية أمره، ولا كان مدعاة للنزاع دون غيره. فمن علماء الاجتماع من يرجع بالوشائج الاجتماعية كلها والآداب الإنسانية برمتها إلى الواشجة الأولى التي نشأت في مبدأ الأمر مع نشوء القبيلة الهمجية، ثم كانت سببا إلى التجاذب والتعارف بينها وبين القبائل الأخرى. ومصداق ذلك في القرآن الكريم حيث جاء في سورة الحجرات:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ... [الآية: 13].
فكانت الواجبات التي تفرضها القبيلة على أبنائها أساسا لجميع الواجبات التي تعلمها الإنسان بعد ذلك، سواء فرضتها عليه القبيلة أو الأمة أو الجامعة العنصرية أو الإنسانية بأسرها.
وقد طبع الناس على التفاخر بما يخصهم ولا يعم غيرهم كائنا ما كان معدنه ومدار الفخر فيه. فشاعت بينهم المفاخرة بالأنساب والأصول، كما شاعت بينهم المفاخرة بمعالم الأرض التي يسكنونها وصنوف الطعام التي يأكلونها، وتفاضلوا بالحقائق كما تفاضلوا بالأساطير والأوهام.
فمن قديم الزمن يفخر كل عنصر بعراقته وامتيازه على غيره، ويزيده إمعانا في عادة التفاخر والمباهاة أن تتاح له فرصة الغلبة والاستعلاء فترة من الزمن، فإن كانت الغلبة قائمة حاضرة فهي آية الفخر وحجة المباهاة، وإن كانت غابرة داثرة فهي عنده علامة على عراقة أصله وحداثة غيره، وأنه أحق من ذلك الغير بالفخر والمباهاة، وإن خدمته الحظوظ والمصادفات في حاضر أمره.
فلم تعرف أمة قديمة قط خلت من مفاخرة بعنصرها واعتداد بنشأتها وبيئتها وبلادها. والذي قال:
بلادي وإن جارت علي عزيزة
وأهلي وإن ضنوا علي كرام
قد جمع هذه الحقيقة من جميع وجوهها، وهو يدري أو لا يدري، فليس من اللازم أن تكون البلاد أطيب البلاد، ولا أن يكون الآل أكرم الناس ليفخر بهم الرجل الذي ينتمي إليهم، وتحسب سمعتهم عليه وسمعته عليهم، فإنه ليعظمهم ويبجلهم فرارا من المهانة التي تصيبه إذا تقاصروا عن شأو العناصر الأخرى في التعظيم والتبجيل ... فهو فاخر بهم إن عظموا مساهمة منه في فخارهم، وفاخر بهم إن هانوا دفعا للهوان عنه إذا اعترف بهوانهم، ولا حساب للبحث أو للرأي في الحالتين إلا بعد حساب العاطفة والشعور.
كان المصري القديم يؤمن بأنه هو الإنسان الكامل، ثم تتلاحق الشعوب بعده إلى أن يأتي اليونان في المرتبة السادسة.
وكان اليوناني القديم يؤمن بأنه هو الإنسان المهذب ومن عداه برابرة لا يدركون مكانه من الفهم والحضارة.
وكان العربي القديم يؤمن بأنه هو الإنسان المبين الكريم، ومن عداه «أعاجم» لا يفقهون ما يقال، ولا يدينون بدين المروءة والأحساب.
وكذلك كان أبناء فارس والهند والصين. بل كذلك كانت كل قبيلة من تلك القبائل حين ينظر إلى نظائرها وإن تلاقت جميعا في أصل قريب من الأحساب والأنساب.
وبقيت هذه الشنشنة بين أمم الحضارة في العصر الحديث فاعتز بها الأوروبيون على أبناء القارات الأخرى، ولكنهم لبثوا فيما بينهم يفاخر كل شعب منهم جاره بالعادات والأخلاق والمآثر وإن تقاربوا في السلالة واللغة والعقيدة، فليس أشد تفاخرا بين الأوروبيين من الطليان والإسبان والفرنسيين، وهم يرجعون بلغتهم إلى اللاتينية، وبعقيدتهم إلى المسيحية الرومانية، وبعناصرهم إلى مزيج متقارب من السلالات، ولكنهم تعلموا - بوحي المصلحة المتفقة - أن يجمعوا فخرهم كله إلى فخر واحد يتقارب فيه الأوروبيون كافة، وهو «اللون الأبيض» أو الانتماء إلى القارة المجتباة بين القارات. وجعلوا هذا اللون الأبيض رسالة يبشر بها الأوروبيون من عداهم من الشعوب الإنسانية، وسموا تلك الرسالة «عبء الرجل الأبيض» أو أمانة الرجل الأبيض، أو تبعته أمام الله لهداية خلقه الذين لم يبلغوا مبلغهم من العلم والارتقاء.
وصدق العالم الإنجليزي الحديث جوليان هكسلي حين قال: إن هؤلاء الدعاة مسبوقون إلى دعواهم قبل ميلاد السيد المسيح؛ فقد سبقهم «أشعياء» من أنبياء إسرائيل فقال في إصحاحه التاسع والأربعين:
اسمعي لي أيتها الجزائر، واصغوا أيها الأمم من بعيد. الرب من البطن دعاني، من أحشاء أمي ذكر اسمي. وجعل فمي كسيف حاد. في ظل يده خبأني وجعلني سهما مبريا. في كنانته أخفاني. وقال لي: أنت عبدي إسرائيل الذي به أتمجد. أما أنا فقلت عبثا: تعبت، باطلا وفارغا أفنيت قدرتي. لكن حقي عند الرب وعملي عند إلهي.
والآن قال الرب جابلي من البطن عبدا له لإرجاع يعقوب إليه فينضم إليه إسرائيل. فأتمجد في عيني الرب وإلهي يصير قوتي. فقال: قليل أن تكون لي عبدا لإقامة أسباط يعقوب ورد محفوظي إسرائيل، فقد جعلتك نورا للأمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض. هكذا قال الرب فادي إسرائيل ...
فرسالة الرجل الأبيض التي تمخض عنها القرن التاسع عشر كله لم يذهب أصحابها إلى أبعد من هذا المدى الذي سبقهم إليه بنو إسرائيل قبل ميلاد السيد المسيح بسبعة قرون. •••
وظلت المفاخر العنصرية كلها من قبيل هذه العادات الاجتماعية التي لا يرجع فيها إلى قياس منطقي ولا موازنة علمية، فكانت أشبه شيء بمفاخرات الصبيان بعضهم لبعض بآبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وجيرانهم وبيوتهم التي يسكنونها ومدنهم التي ينشئون فيها، وكل شيء يتصل بهم وتنعقد فيه المقابلة بينهم وبين غيرهم. وفحوى مفاخر الأجناس من هذا القبيل أن كل جنس هو أفضل الأجناس لغير سبب. وليس هذا من القياس المنطقي ولا الموازنة العلمية في شيء.
ثم اتسع نطاق البحث العلمي في القرن التاسع عشر فأدخل الفوارق بين الشعوب في موضوعاته الكثيرة، وجعل لها علما خاصا أو بابا خاصا من أبواب المعرفة يسمى معرفة الأجناس البشرية.
وانتهى به البحث إلى وجود الفوارق الصحيحة بين خمسة من الأجناس التي ينتمي إليها شعوب البشر كافة، وهي الجنس القفقاسي أو الأبيض، والجنس الزنجي أو الأسود، والجنس المغولي أو الأصفر، والجنس الأسمر أو أهل الملايا، والجنس الأحمر أو سكان القارة الأمريكية الأصلاء.
واختصر بعضهم هذا التقسيم إلى ثلاثة أقسام فجعل الأجناس الصفراء والسمراء والحمراء فروعا من أصل واحد. وهو اختصار له سند معقول.
وقد عني أصحاب هذه التقاسيم بالفروق التي تورث وتنتقل مع الأجيال؛ أي بالفروق التي يسمونها فروقا بيولوجية دون غيرها من الفروق الاجتماعية التي تكسب بالقدوة والمحاكاة.
وتناول العالم اللغوي الألماني ماكس موللر دراسة الأجناس من الناحية التي تعنيه، وهي ناحية المقابلة بين اللغات. فاستخدم كلمة اللغات الآرية وأحياها من جديد، بعد أن سبقه إلى استخدامها السير وليام جونس في أواخر القرن الثامن عشر، وقرر أن لهجات اللغة الهندية الفارسية نشأت من مهد واحد في أواسط آسيا التي كان الأقدمون يعرفونها باسم «أريانا»، وأنها كانت في نشأتها الأولى لغة قبيل واحد من الأجناس البشرية، وكلا القولين اليوم خطأ عند علماء هذه المباحث فيما أثبته جوليان هكسلي من كلامه عن الجنس في القارة الأوروبية.
وأحس العالم الألماني الكبير أن دعوة الجنس الآري ستخرج من حيز التفكير العلمي إلى ميدان الصراع على الشهوات السياسية، فحذر قراءه من الخطأ في تفسير كلامه وعاد إلى التحذير من ذلك في شيخوخته حيث قال: «لقد ناديت مرة بعد مرة أنني إذا ذكرت الآرية فلست أعني الدم ولا العظم ولا الشعر ولا الجمجمة. وإنما أرمي إلى قصد واحد وهو أولئك الذين يتكلمون باللغة الآرية ... ومتى تكلمت عنهم فلست أتبع في ذلك الخصائص التشريحية، ولا أعني أن أبناء السكنديناف ذوي العيون الزرق والشعر الأصفر قد كانوا قاهرين أو كانوا مقهورين، ولا أنهم قد اتخذوا لغة السادة السمر الذين تغلبوا عليهم أو كان الأمر عل نقيض ذلك ... وعندي أن عالم الأجناس الذي يتكلم عن العنصر الآري والدم الآري والعيون الآرية والشعر الآري إنما هو في خطيئته العلمية كاللغوي الذي يتكلم عن معجم مستطيل الرأس أو أجرومية مستديرته على حد سواء.»
وكان القرن التاسع عشر قرن «مذهب النشوء»، كما كان قرن المذاهب العلمية والفلسفية من شتى نواحيها، فما زالت الأقوال في مذهب النشوء تتسع وتتشعب حتى عرض لبعض الباحثين فيه أن الأجناس البشرية تنتمي إلى أصول متفرقة لا إلى أصل واحد أو شجرة واحدة، وأن القردة العليا هي أجناس بشرية سفلى، وأن المغولي والقرد المعروف بالأورانج نبتا من أصل واحد، وأن الزنجي والغوريلا والشمبانزي تنتمي إلى أصل آخر، وكان رأس القائلين بهذا الرأي عالم ألماني من علماء الأجناس هو الدكتور هرمان كلاتش
Klaatsch
أستاذ هذا العلم بجامعة برسلاو الألمانية. فأعلن في أوائل القرن العشرين رأيه هذا وأيده بما بدا له من الشواهد والملاحظات التي كشفت عنها مقابلاته بين أنواع القردة وأنواع الإنسان.
لكن القرن التاسع عشر لم يكن قرن المباحث العلمية ولا قرن النشوء والتطور دون غيرهما. بل كان كذلك قرن التوسع في الاستعمار وتسخير العلم لخدمة المطامع الاستعمارية والمنازعات السياسية ... فظهر من الكتاب من يبشر بالجامعة اللونية أو العصبية الجنسية على أساس اللون والعنصر، وقام في أوروبا من يبشر بامتياز أجناس الشمال على سائر الأجناس البشرية، ومن يرد الفضل في كل فتح من فتوح العلم والثقافة والحضارة إلى أصل الجنس الآري المزعوم في الشمال، وأشهر من اشتهر بهذه الدعوى «آرثر دي جوبينو» في فرنسا، وهوستون شمبرلين الإنجليزي المتجرمن في ألمانيا، ولم تخل أمريكا من نصيبها من هؤلاء الدعاة، وهي ميدان نزاع بين الأجناس البيضاء والحمراء والسوداء، وميدان مفاخرة بين المهاجرين الأوروبيين الذين يمتون بالنسب إلى أصول مختلفة. كالسكسون واللاتين وأمم الشمال والجنوب. فكان لوثروب ستودارد
Lothrop Stoddard
وماديسون جرانت
Madison Grant
على رأس المبشرين بهذه العقيدة في الولايات المتحدة، ولم تكن كراهة الأجناس الملونة هي الباعث الوحيد في نفوس هؤلاء إلى التبشير بمزايا الرجل الأبيض أو مزايا الجنس الآري خاصة من بين الشعوب البيضاء. وإنما كانت كراهتهم للحكومة الحرة - أو حكومة المساواة بين الطبقات - باعثا آخر إلى إنكار صفاء الشعوب التي سمحت بهذه الحكومة الحرة، واتهامها بالنكسة والفساد من جراء امتزاجها بأجناس غير الجنس الآري أو الجنس الشمالي المجيد، فكانت هذه النكسة مدرجة لها إلى النزول عن أوج السيادة والإذعان لشريعة المساواة.
ولا شك أن حروب نابليون بونابرت كانت لها يد قوية في تمكن هذه النزعة بين الأمم الجرمانية خاصة؛ لأنها كانت سلاحها الذي تدرأ العار به عن فخارها القومي في مجال الصراع بينها وبين اللاتين أو بين أمم الشمال وأمم الجنوب، وقد كان نابليون - قائد فرنسا اللاتينية في صراعها مع الجرمان - منحدرا من جنوب الجنوب بالقياس إلى القارة الأوروبية، فكانت صيحة الفخار القومي التي تستثار بها الأمم الجرمانية إلى الوحدة هي تعظيم مزايا الجنس الشمالي الذي ينتمون إليه، واتفق ذلك في عصر البحث عن الأجناس وعصر النشوء والتطور وعصر السباق إلى الاستعمار وعصر الديمقراطية التي تخلف فيها الجرمان عن جيرانهم، فكانت صيحة التفوق العنصري على أشدها بين الألمان، وكادت عقيدة الجنس الآري أن تنحصر فيهم بعد مولدها في بلاد الإنجليز على لسان واحد منهم وهو العلامة ماكس موللر الذي سبقت الإشارة إليه، ومن ثم بدرت دعوة إلى التفوق العنصري لم تكن لها صلة بالثقافة الألمانية الحديثة من قريب أو بعيد. •••
وقد تعددت الأسباب التي ألهجت ساسة الألمان بعد الحرب العالمية الماضية (1914-1918) بمسألة العنصر ودعوى الآرية أو الأقوام الشمالية وما لها من الرجحان على خلائق الله كافة من أوروبيين وغير أوروبيين، سواء في الزمن القديم أو في الزمن الحديث.
فقد احتاج الساسة الألمان إلى محاربة المذهب الشيوعي فوضعوا بإزائه مذهب الاشتراكية «الوطنية» وهي تعتصم بالخصائص القومية في وجه الدولية التي يبثها الشيوعيون؛ وفاقا لعقيدتهم المعروفة، وهي عقيدة الثورة على الأوطان والأديان.
ووافقتهم الخصائص القومية في حربهم للشيوعيين من وجه آخر غير المقابلة بين المذهبين، وذاك هو المقابلة بين عنصر السلافيين وعنصر التيوتون الذي ينتمي إليه الألمان. فكانوا يقولون: إنهم هم حماة الحضارة الأوروبية من زحوف البرابرة التي تهددها من قبل آسيا في الزمن الحديث.
واستغلوا دعوة العنصر الآري استغلالا غير هذا وذاك في محاربة اليهود باسم الساميين.
واستغلوها مع هذا وذاك لاستنهاض نخوة الأمم الجرمانية بعد هزيمتها المنكرة في ميادين القتال، فنفخوا في أوداجها أنها أهل للظفر - وليست بأهل للهزيمة - لأنها خلقت للسيادة وتنزهت في سلالتها الآرية عن شوائب الأجناس، وأدخلوا في روعها أنها كانت وشيكة أن تظفر بأعدائها لولا خيانة العمال من قبل الشيوعية، وخيانة اليهود من قبل الشيوعية تارة ومن قبل أصحاب الأموال تارة أخرى.
فأصبحت دعوة العنصر هوسا جامحا كهوس التعصب في كل عقيدة من العقائد الشعورية، وبلغ من التهوس بالدم الآري المزعوم أنهم جعلوه فلسفة في الحكم وفلسفة في الأخلاق والفنون والآداب، فكانوا يقولون: إن الحكومة بنية حية تنبت من الدم القومي كما تنبت الجوارح في الأجسام، وإن الزعيم تركيب داخل في تلك البنية بتقدير من طبيعة الكون أو طبيعة الخلاق العظيم، وكان هتلر ينادي في كتابه:
إننا معشر الآريين لا نعرف الحكومة إلا كبنية ذات حياة يتلبس بها الشعب من الشعوب ...
فهي شيء لا يدخل في الإرادة ولا في التربية السياسية ولا في نظم التشريع والانتخاب.
وتطوح الغلو بدعاة هذه العنصرية حتى بلغوا بها - مع تلك البواعث النفسية والسياسية - مبلغا لم يسبقهم إليه سابق في عالم البحث ولا في عالم الخيال، فجعلوا أجناس البشر فصائل تتعاقب طبقة تحت طبقة حتى تلتقي بالقردة ولا يبعد أن تناسلها، وجعلوا أنفسهم نخبة مختارة بين فصائل الآرية جمعاء ترتقي إلى الذروة العليا في ذلك الترتيب، وعادوا إلى كل رجل من أصحاب القرائح الخلاقة بين عظماء الأمم فألحقوه بالآريين على وجه من الوجوه، وعادوا إلى كل اختراع من مبتكرات الصناعة وأدوات الحضارة فنسبوه إلى شعبة آرية مقيمة في موطنها أو مهاجرة إلى وطن من الأوطان، فحصروا الخلق والقيادة في الآرية المزعومة دون غيرها، وجعلوا العناصر الأخرى جميعا عالة على الآريين ينتفعون بما يخلقون، ويدينون لسيادتهم طائعين أو كارهين.
ولعل هذا الغلو من جانب دعاة العنصرية قد جنح بنقاد هذا المذهب إلى الغلو في إنكار خصائص الأقوام والأجناس، وهم إذا غلوا في هذا الطرف كان لهم شفيع من الحجج والشكوك أدنى إلى الإقناع من شفيع العنصريين.
وإنما نعرض للبواعث السياسية التي امتزجت بالحقائق العلمية في مسألة الجنس والعنصر؛ لأن الإلمام بهذه البواعث يعين على تجريد الحقائق العلمية من أخلاطها الغريبة ويرجع بها كرة أخرى إلى حيز الدراسة الفكرية والبحث المعقول.
ومن الواجب أن نصغي أولا إلى دواعي التشكيك في تلك الدعوة الجازمة وهي كثيرة، فإنها على التحقيق تدعو إلى الشك في دعوة العنصريين، وتبطل اليقين بكل عقيدة من تلك العقائد التي خيل إليهم أنهم يؤمنون بها؛ لأنهم يشعرون بالحاجة إلى ذلك الإيمان.
فمن دواعي الشك في العنصرية الآرية أن العنصر الآري المزعوم لم يكن له وجود قط كأنه سلالة من السلالات الوراثية على النحو الذي تخيلوه، وإنما كان جامعة لغوية يشترك فيها أقوام مختلفون لا يتأتى ردهم اليوم إلى سنخ واحد، ولا يتشابهون في الخصائص العنصرية إلا كما يتشابه الأقوام الذين يتكلمون اليوم بلغة واحدة على تباين المواطن والألوان.
قال العالم الإنجليزي جوليان هكسلي في كلامه عن العنصر أو الجنس بالقارة الأوروبية: إن دعاة العنصرية يتكلمون عن الجرمان والآريين وأقوام الشمال «أو النورديين» كأنهم سلالة واحدة، وهذا خلط لا مسوغ له من الحقائق. وإنما المقطوع به أن هناك نموذجا بشريا يعرف بالنموذج الشمالي موزعا بين الأقطار الشمالية في أوروبا من الجزر البريطانية إلى التخوم الروسية، وأن هذا النموذج وهو على أقرب ما يكون إلى النقاوة والصفاء في بعض الأقاليم السكندنافية لم ينسب إليه قط فتح من فتوح الحضارة أو كشف من كشوف العلم أو أداة من أدوات الاختراع التي اشتهرت في التاريخ، وقد روجعت مخلفات العصر الحجري التي ترد إلى ما قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة في بريطانيا العظمى؛ فإذا هي تمثل ثقافة من ثقافات البحر الأبيض المتوسط حملها ذووها إلى شبه الجزيرة الأيبيرية - التي نعرفها باسم الأندلس - ثم إلى فرنسا فالجزر البريطانية.
ومن المحقق أن الخطوات الأولى التي خطاها الإنسان إلى الحضارة حين تعلم الحرث والكتابة وبناء المنازل ونقل الأحمال على الدواب قد تقدم بها في جوار البحر الأبيض، حيث تقيم الأمم السمراء التي لم تنسب إلى السلالة النوردية، ومن المحقق كذلك أن مشاهير الجرمان أمثال جيتي وبتهوفن وكانت كانوا مستديري الرءوس ربعة في القوام، وليس نابليون ولا شكسبير ولا أينشتين ولا غاليليو وعشرات من أمثالهم على الصفة التي يزعمونها للنورديين، ومن طرائف المصادفات أن اللون الأشقر والقوام الطويل الرشيق لا يعرفان لزعيم من زعماء الدعوة النوردية أو الآرية المزعومة. فهتلر أسمر وجورنج سمين بادن وجوبلز قصير دميم، وزعماء «الجنكر» من سكان ألمانيا الشرقية تختلط فيهم ملامح السلافيين والتيوتون، وهم أكبر الدعاة إلى السيادة الجرمانية على الأمم قاطبة.
ويتفق علماء الأجناس ووصف الإنسان على توزيع السلالات في العنصر الواحد، كما يتفقون على ندرة النقاوة المحض في عنصر أو سلالة. فالجنس الأبيض في القارة الأوروبية وما جاورها ينضوي إلى عنوان واحد، ولكنه ينقسم إلا السلالات النوردية والألبية وسلالة البحر الأبيض المتوسط، وهذه السلالة الأخيرة تنضوي إلى عنوان واحد ولكنها تنقسم إلى ليبيين وأيبيريين وليجوريين نسبة إلى جبال الألب ما بين البحر وسافونا السفلى، وقد يضاف إليهم البيلاسجيون
Belasgian
الذين ينعزلون وحدهم في بحر «إيجه» على مقربة من اليونان.
والجنس الأسود، على كونه من العناصر المتميزة بين أجناس البشر، يختلف في بعض الصفات وإن تماثل في اللون أو تقارب فيه، فقد عرفت القبائل السوداء في أستراليا ولكنها تخالف القبائل الأفريقية في الخصائص الوراثية؛ بل يقع الخلاف في بعض الملامح والأخلاق بين السود المتجاورين من أبناء القارة الأفريقية أو أبناء الإقليم الواحد منها، فالبوشمان والهوتنتوت كلاهما من سود أفريقية ولكن الأولين قصار وثابون مولعون بالصيد والقتال، والآخرين طوال يرعون الماشية ويميلون إلى الاستقرار، ويجاورهم السود من أبناء قبائل البانتو الذين يعمرون السودان الجنوبي وبعض أقاليم الصحراء إلى الشواطئ الغربية، وهم جماعات شتى بين رعاة رحل مقاتلين وزراع مقيمين موادعين، وليست فوارقهم في اللغات بأقل من فوارقهم الكثيرة في الملامح والسمات والعادات. •••
وبعض هذه الشواهد المتواترة يقرر لنا أن السلالات البشرية لا تبقى على وحدتها وانفرادها مع تعاقب الأجيال واختلاف مطارح الهجرة والانتقال، ولكنها تتوزع وتتفرع وينتشر التوزيع والتفريع في خصائصها ومزاياها. وليس أدعى من ذلك إلى التشكيك في مزاعم العنصريين الذين يحصرون مزايا البشر العليا جميعا في سلالة واحدة تنفرد بها وحدها بين سائر السلالات.
ومن دواعي الشك القوية في مزاعم العنصريين أن كثيرا من المزايا التي يصفون بها سلالة من السلالات يسهل الرجوع بها إلى عواملها المحلية أو الاجتماعية التي لا تحسب من العوامل الوراثية الحيوية. ونعني بها ما يعرف بالعوامل البيولوجية.
فقد زعموا - مثلا - للسلالات الأوروبية أنها انفردت بحب المعرفة النظرية وملكة البحث عن حقائق الأشياء و«التفلسف» المجرد الذي لا يرمي إلى المنفعة القريبة سواء منها ما ينتفع به الأفراد أو ما تنتفع به الجماعات. وقالوا: إن الشعوب الشرقية لا تحب المعرفة هذا الحب ولا تتجرد للمباحث الفلسفية هذا التجرد، ولكنها تعنى بالعلم لتطبيقه في الصناعات ومرافق العيش ومطالب الحياة العملية، ودليلهم على ما يزعمون ذلك الفارق الظاهر بين ثقافة اليونان وثقافة المصريين.
وحقيقة الأمر أن البحث عن أسرار الغيب وقوانين الوجود يدخل في سلطان الكهانات القوية وأن هذه الكهانات القوية ترسخ وتتوطد وتبسط يديها على العقول إلى جانب الدول العظيمة التي لا بد من قيامها في أودية الأنهار الكبيرة. فحيثما وجد نهر كبير في صقع من الأصقاع لم يكن هنالك بد من قيام دولة عظيمة على شطيه تسوس الري والزرع وتصون الأمن وتضمن سلامة المعاملات، ومتى قامت هذه الدولة العظيمة لم يكن لها بد من الاعتماد على دعائم الدين وسلطان الكهانة والتفرد بحق البحث في العقائد والسيطرة على عالم الروح والضمير، وكثيرا ما تجتمع الوظيفتان في شخص واحد كما اتفق لبعض الملوك الأرباب أو «أنصاف الأرباب» في التاريخ القديم، فإذا أصبحت المباحث الغيبية والمعارف التي تتناول أصول الوجود حقا للكهانة تحميه الدولة، فليس من المعقول أن تتسع الحرية للناس يثبتون فيها وينكرون كما تتسع لهم في غيبة الكهانة القوية والدولة العريقة، ولا مناص من اختلاف مقاصد التفكير جيلا بعد جيل بين الأمتين حتى يلوح للنظر العاجل في النهاية أنه اختلاف بين طبيعتين أو معدنين من معادن الخليقة الإنسانية.
وقد كانت أمم الشرق القديم دولا لها كهانات قائمة قبل أن تظهر الفلسفة اليونانية بألوف السنين، فامتد تفكير اليونان إلى محاريب الفلسفة التي كانت حرما منيعا في ظل الكهانات الشرقية لا يتخطاه عامة الناس.
وظهر الفارق من أجل ذلك بين ثقافة اليونان وثقافة الشرقيين، ولو انعكس الأمر بين أرض اليونان وأودية النيل ودجلة والفرات لانعكست الآية بلا مراء.
ومما يؤيد هذه الحقائق أن الكهانة القوية صنعت في أوروبا حين توطدت فيها مثل ما صنعته الكهانات في الشرق القديم. فلما امتد سلطان الكنيسة البابوية على الأمم الأوروبية ضرب الحجر على العقول فأحجم الناس دهرا طويلا عن البحث المجرد والتفكير في حقائق الوجود، وبلغت الكهانة الأوروبية على حداثتها ما بلغته كهانات الشرق بعد أحقاب وأحقاب تتوالى من بداية عهد التاريخ.
كذلك زعم بعض النقاد العسكريين من أهل أوروبا أن الأوروبيين يمتازون على الآسيويين والأفريقيين في معدن الشجاعة والبطولة الحربية، واستدلوا على ذلك بانتصار اليونان مع قلتهم على الفرس مع كثرتهم في معركة ماراتون ومعركة سلاميس.
فالواقع الذي أسفرت عنه دراسات الثقات من النقاد العسكريين المحدثين، أن الفخار الوطني قد لعب لعبته المعروفة بأخبار المعركتين فبالغ فيها جد المبالغة وأضفى عليها ثوبا من الحماسة الخيالية خرج بها من حيز التاريخ الصميم إلى حيز الملاحم الهومرية.
فلم يدر في خلد «دارا» يوما من الأيام أن يستولي على أرض اليونان؛ لأنها أرض جرداء لا تنفعه للزراعة ولا للتجارة ولا يخشى منها الخطر العسكري على دولته المترامية الأطراف، وإنما عناه أن يؤدب إريتريا وأثينا لأنهما تجرأتا على معاونة اليونان الثائرين عليه في آسيا الصغرى، واغتنم لذلك فرصة الشقاق بين المستبدين وأنصار الحرية في أثينا أو قيل إنه تلقى من زعماء الشعب المتمرد وعدا بالانضواء إليه وخذلان أولئك المستبدين.
فأخمد الثورة في آسيا الصغرى ثم زحف على «إريتريا» فعصف بها وأرسل أهلها أسارى وسبايا إلى شطوط الخليج الفارسي يسامون فيها سوم الأرقاء.
ثم تقدم إلى أثينا وفي حسابه أنها منقسمة على نفسها مسرعة إليه بالتسليم ولو من بعض طوائفها وزعمائها، فلما وقع ما لم يكن في حسبان الفرس ولا اليونان واتفقت كلمة الأثينيين على الدفاع عن بلادهم لم يشأ أن يطيل الحصار؛ لأنه لم يقصد إلى إسقاط المدينة ولم يجد في الأمر ما يستحق المطاولة والعناء.
أما معركة سلاميس فقد كانت المصادفة فيها أغلب من التدبير. شغل الفرس بعد معركة ماراتون بالثورة المصرية ثم خرج زركسيس لقتال اليونان في جيش ضخم مختلط الأجناس لكنه دون الضخامة التي صورها اليونان بكثير، وكانت ضخامته واختلاطه عائقا له ولم تكن من مزاياه ومرجحاته؛ لأن قيادة جيش كبير من قبيل واحد أيسر جدا من قيادة نصف هذا الجيش وهو مختلط الأجناس متعدد الأهواء، ولأن الجيش كان مرتبطا بمعونة الأسطول الذي يلازم الشاطئ ويحمل له المئونة والعتاد ويتكفل بنقله في المجازات البحرية، فأصبح الجيش والأسطول معا مقيدين بطريق واحد لا يعدوانه ولا يغيب علمه عن اليونان. ولما التقى الأسطولان في سلاميس كانت كثرة السفن الفارسية عائقا للأسطول أيضا ولم تكن من مزاياه ومرجحاته؛ لأن المكان أضيق من أن يتسع لمناورات الأسطول كله، ولأن زركسيس لم يتقدم إليه إلا لعلمه باختلاف قواد اليونان في إدارة المعركة البحرية، وكان الواقع أنهم مختلفون وأن بعضهم أعلن في مجلس الحرب نية التراجع بمعظم السفن من سلاميس.
فلما نشبت المعركة قبل أن يتم هذا التراجع كانت الكفة الراجحة في جانب اليونان، وأصبح تموين الجيش الفارسي ضربا من المحال بعد ضياع السفن التي مني بخسارتها في المعركة، فعدل زركسيس عن المطاولة في المعركة البحرية وإن كان قد ظفر بالأثينيين في المواقع البرية.
ولا شك أن الذي أصاب الفرس في هذه المعارك قد كان يصيب اليونان لا محالة لو أنهم كانوا في موضعهم وكانوا ينقلون الجيش مثل نقلهم وهو في اختلاطه وتعدد أهوائه.
فليست المسألة كلها مسألة اختلاف في معدن القوم أو مناقب السلالة، ولكنها اختلاف في الأحوال والملابسات، وخليق بالذين ينسون آفة الاختلاط في الجيوش ويحسبون مغبتها على الفرس أو الشرقيين دون غيرهم، أن يذكروا أن الصليبيين على وفرة جموعهم وانتمائهم جميعا إلى العنصر الأوروبي قد أصابتهم الهزيمة على أيدي الشرقيين وهم دولة واحدة تقل عنهم في العدد والعتاد ولم تعوز الصليبيين في تلك المواقع حرارة العقيدة وشدة المراس.
ومع هذا ألا يقول دعاة البدعة الآرية إن الفرس قديما من سلالة الآريين وإنهم أقرب إلى أمم الشمال من يونان الجنوب؟
إن العالم النمسوي فردريك هرتز يذكر أن اختلاط الزنوج بأهل أوروبا كان في الزمن القديم، ومن المفيد في هذا الصدد أن ننقل هنا ما أوردناه في كلامنا على مفاخر الأجناس بالجزء الثاني من «ساعات بين الكتب» وهذا بعض ما جاء فيه:
للزنوج أثر في أوروبا تدل عليه الجماجم التي وجدت في ألمانيا وبلجيكا وفرنسا وكرواتيا ومورافيا، ووجد ما يشابهها منذ ثماني سنوات في أفريقيا الجنوبية. وقد بقي أثر للأقزام السود في جبال الألب إلى عهد بنيني الذي تكلم عن هؤلاء الأقزام وعززت كلامه القصص والأساطير.
ويزعم شمبرلين أن عرفان حقوق الحياة هو مزية الآريين التي لا يعرفها الساميون في الشرق لاستغراقهم في المادة وتقديمهم المال والحطام على الأذهان والأرواح. فيجيبه الأستاذ هرتز بجواب مفحم هو المقابلة البسيطة بين شريعة الرومان وشريعة حمورابي في محاسبة المدينين، فاللوح الثالث من ألواح القانون الروماني يبيح للدائنين أن يقطعوا لحم المدين ويقتسموه بينهم وأن يقتلوه قتلا في مدى سبعة وعشرين يوما من يوم القبض عليه وتكبيله في الحديد والحبال، وأما شريعة حمورابي فهي تقضي بأن يخدم المدين دائنه ثلاث سنوات، والقانون يحميه في خلال هذه الخدمة من سوء المعاملة والإرهاق. زد على هذا أن الفرق واضح بين الشريعتين في أمور أخرى؛ منها أن السارق المضطر معذور في شريعة حمورابي، وهو غير معذور بحال من الأحوال في شريعة الرومان، وأن الأب الروماني يجوز له أن يبيع أولاده، ولا يجوز ذلك للآباء عند البابليين، وأن الزوج البابلي لا يجوز له أن يقتني السراري بغير إذن من زوجته، وليس للزوجة مثل هذا الحق عند الرومان، وأن المدين يحق له أن يطلب الحط من دينه إذا نقصت غلة أرضه وليس في الشريعة الرومانية شيء من هذا القبيل. وهكذا وهكذا من شواهد الرحمة وتقديم الحياة على الحطام في شريعة حمورابي ثم من شواهد القسوة وتقديم الحطام على الحياة في شريعة الرومان.
ويرفع شمبرلين اليونان إلى السماء ويقول إن علومهم وفلسفتهم وفنونهم مرجعها إلى طبيعتهم الآرية التي يمتازون بها على الآسيويين والساميين. فيقول له هرتز: إن أرسطو في زمانه كان يطري مواهب الآسيويين في الفنون ويحكم على أمم الشمال بالعقم الذي لا علاج له في المعارف الفنية والسياسية لعلة الجو التي لا تبديل لها على تعاقب الأزمان، ويقول هرتز أيضا إن ثوسيديد المؤرخ اليوناني ذكر أن اليونان كلها كانت في قبضة البرابرة، وذكر هيرودوت أنه كان يسمع في زمانه لغة البرابرة في بعض أنحاء وطنه، وأن العلماء المحدثين - كرشمر وكيسلنج وفك - أقاموا الأدلة على أن سكان آسيا الصغرى وسكان اليونان كانوا جنسا واحدا من الآسيويين، وأن أسماء بعض المواقع اليونانية لا ترد إلى مصادر من هذه اللغة؛ لأنها مشتقة من اللغة القديمة كما اشتقت منها أسماء الأرباب فيما يقول هيرودوت. والأقوال متفقة على أن طاليس رأس الفلسفة اليونانية من أصل آسيوي سامي وأنه تعلم العلم في البلاد المصرية، وكذلك تتفق الأقوال على أن زينون رأس الفلسفة الرواقية آسيوي الأصل والنشأة، بل يقول فيرث: إن هومر نفسه اسم سامي آسيوي محرف من «زومر» بمعنى المغني أو الزامر، وغير ذلك كثير من الأقوال عن الفلاسفة الآخرين.
ولا يريد هرتز أن يقف في الإنصاف عند شعب من الشعوب ولا جنس من الأجناس؛ لأنه يرى أن الفواصل بين أي شعبين في العالم ليست من البعد والحيلولة بحيث تستعصي على التقارب مع تشابه الأحوال ومؤاتاة الأيام. فهنيبال الزنجي الذي اقتناه بطرس الأكبر ارتقى بذكائه واجتهاده إلى رتبة مهندس في المدفعية وبنى بسيدة من الأشراف، وكان حفيدهما بوشكين أكبر شعراء الروس وأحد كبار الشعراء في الدنيا، وسليمان وهو زنجي آخر كان في البلاط النمسوي في القرن الثامن عشر بنى بسيدة شريفة واقترنت بنته بسيد من الأشراف، وتزوج تاجر من هامبورج بنت سلطان زنجبار فبلغت بأدبها ورجاحة لبها مكانة تغبط عليها في البلاط الألماني وأصبحت صديقة حميمة للإمبراطورة فردريك وكتبت لها ترجمة حياتها التي عنوانها «من قصة أميرة عربية». وقد كان الدم الزنجي يجري في عروق دوماس الكبير ودوماس الصغير كما هو معروف.
يقول هرتز: «لا ترى أحدا يزعم أن هناك فجوة لا تعبر بين الحمص الأحمر والحمص الأزرق أو بين الحصان الأبيض والحصان الأسمر. أما في بني الإنسان فالفرق اليسير - بالغا ما بلغ من التفاهة - كاف لأن ينشئ من الأوهام الجنسية والعصبيات الشعبية أسخفها وأنآها عن الحقيقة. وما الفرق هنا مع هذا إلا اختلاف في الدرجة لا في الجوهر. فقد يرينا المجهر أن الفروق الكثيرة بين ألوان بني الإنسان إنما هي فروق في درجات التجمع والتوزع في مادة صبغة واحدة متماثلة في الجميع.»
كلام إذا رجعنا به إلى الأسانيد والبينات فهو أقوى سندا وأثبت بينة من كلام المغرقين في تمجيد الأوروبيين وتفضيلهم على جميع الشعوب، وإذا رجعنا به إلى الهوى فهو أقرب إلى هوانا وأولى بإصغائنا من كلام أولئك المغرقين.
فلا وقائع التاريخ ولا مباحث العلم ولا مشاهدات العيان تؤيد دعوى العنصريين الذين يستخلصون من النوع البشري كله نخبة واحدة ويفردونها بأفضل المزايا وأشرف الأخلاق بين السلالات الإنسانية.
ولكننا نتجاوز الحد المأمون إذا تجاوزنا هذه الحقيقة إلى ما وراءها، فكل ما هو محقق في صدد المفاخر العنصرية، أن العلم لا يؤيد الامتياز المطلق الذي يدعيه العنصريون لبعض السلالات، ولكنه لا ينفي وجود الاختلاف بين العناصر ولا توارث الخصائص الجسدية وما يتعلق بها من الخصال النفسية. فهذه فروق موجودة يزداد ظهورها في بعض الأفراد وينقص في آخرين ولكنها لا تبطل ولا يتأتى لنا أن نتجاهلها ونتجاوز عنها إلا إذا تجاوزنا العيان وأغضينا عن المحسوس الماثل لجميع الأذهان.
وقد يوجد من العنصرين المختلفين شخصان يتشابهان وتصعب التفرقة بينهما على الباحث المحقق فضلا عن الناظر في عرض الطريق. ولكن التشابه حينا لا يمنع الاختلاف في جميع الأحيان، ولو ذهبنا نبطل المخالفة بين الأنواع كلما وجدت المشابهة بينها لأمكن إنكار الفارق بين الإنسان والحيوان على هذا القياس، فإذا قيل: إن الحيوان يمشي على أربع أمكن أن يقال كذلك: إن بعض الإنسان يمشي على أربع، وإذا قيل: إن الحيوان أعجم أمكن أن يقال كذلك: إن بعض الإنسان أبكم وإن بعض الطير ينطق كما ينطق الإنسان، وإذا قيل: إن الحيوان مسلوب العقل والتفكير أمكن أن يشار إلى أفراد من الناس لا يعقلون ولا يفكرون. وإذا قيل: إن الإنسان والحيوان لا يتناسلان أمكن أن يقال: إن الكلب حيوان والهر حيوان وهما لا يتناسلان.
فوجود المشابهة في بعض الأفراد لا ينفي المخالفة في عامة الأفراد. وقد يتعذر الفارق الحاسم بلغة العلم المقرر ولكنه مع ذلك يبقى فارقا حاسما إلى أن يوجد التعريف.
والحد المأمون الذي لا نريد أن نتجاوزه في هذا الصدد هو ما أسلفناه من أن الدعوى التي تفرد بعض العناصر بأفضل المزايا وأشرف الأخلاق هي دعوى يعوزها الدليل القاطع من وقائع التاريخ ومباحث العلم ومشاهدات العيان. أما الاختلاف بين خصائص الأجناس فهو موجود لا شك فيه وإن تفاوتت درجات ظهوره في بعض الأفراد.
فمن المشاهدات - ومن البديهات معا - أن العزلة في النسب وفي التعرض للمناخ والبيئة وأحوال المعيشة وعادات الاجتماع تعقب العزلة في الصفات الجسدية والخلائق النفسية على السواء.
ومن المشاهدات - ومن البديهات معا - أن الشعب الذي يقضي عشرة آلاف سنة ولاء في مكافحة العوارض الجوية والاحتيال على موانع الطبيعة والتأهب للمفاجآت من جيرانه ومن طوارق الأرض والماء والسماء، لا يشبه شعبا قضى مثل تلك الدهور في الدعة أو في التعويل على المصادفات وهو معفي من الحيلة والجهد في صراع الحياة.
وقد أظهر العلم الحديث أن التوارث في الخلق والخلق منوط بالناسلات
Genes
التي توجد في خلايا الذكور والإناث، وأن هذه الناسلات تتقارب في أفراد القبيل الواحد كما تتقارب في أفراد الأسرة الواحدة. ولكننا لا نعرف اليوم على وجه التحقيق كم من الزمن يكفي لتحويل العوارض التي تنشأ من البيئة والمعيشة إلى موروثات تستقر في تكوين الناسلات وتنتقل من الآباء إلى الأبناء، ولا نعرف على وجه التحقيق هل ما يوجد الآن من اختلاف الناسلات وليد الاستمرار الطويل في عوارض البيئة والمعيشة، أو هو وليد أصل آخر من أصول الاختلاف في التكوين؟
والذي يلوح لنا من المشاهدة المحسوسة، ونعتقد أن العلم وشيك أن يمثله في تجربة من التجارب المقررة - أن فراسة الوجه الإنساني تدل على كثير، وأن هذه الدالة مرتبطة أوثق الارتباط بالأعصاب ثم بالعظام.
فأنت لا تخطئ تاريخ الأمة كلها إذا نظرت إلى وجوه أبنائها، ولا يفوتك أن تعلم أن هذا الوجه السهل الذي تغلب فيه ملامح اللحم والدم على ملامح الأعصاب والعظام هو وجه أناس مارسوا في ماضيهم قليلا من الكفاح وقليلا من التجارب وقليلا من حوافز النفوس، وأن ذلك الوجه الحازم الذي يلفتك إلى متانة الأعصاب والعظام قبل أن يلفتك إلى بضاضة اللحم والدم هو وجه أناس ثابروا على الاعتزام والجلد ولم يستسلموا لسهولة العيش منذ زمن بعيد، وليس في وسعنا، أن نعلم اليوم كيف تورث هذه الملامح الحازمة في الوجوه، فإن اللحم لا ينقلها والدم قد يخزن الناسلات ولكنه لا يخزن القوى التي هي من قبيل الطاقة الكهربائية في الأحياء وغير الأحياء، فأغلب الظن إذن أنها تنقل في مخازن الأعصاب ثم في مخازن العظام، ولعلها تنحصر في الأعصاب على نحو لا يصعب على العلم - فيما نقدره - أن يهتدي إليه، وقد يكون للأعصاب فيها اتصال كبير بالدماغ وسرعة الاستجابة بينه وبين مواطن الانتباه والتنبيه.
ومهما يقل العلم غدا في هذه المسألة فالذي نجزم به منذ الساعة، أن وجوه الأمم التي قضت ألوف السنين في الجلد والاعتزام تخالف وجوه الأمم التي تيسرت لها المعيشة طوال تلك السنين، وأن الاستدلال بملامح الوجوه طبيعة في جميع الأحياء؛ لأن الحيوان ينظر أول ما ينظر إلى وجه الحيوان الذي يقابله ليعلم هل يسالمه أو يناجزه ويتحداه، وإن كانت الوجوه لا تبدي كل ما في النفوس والعقول، فهي كذلك لا تخفي كل ما في النفوس والعقول.
وحسبنا الآن أن العلم يثبت كما تثبت المشاهدة أن خصائص الأجناس تورث إلى زمن بعيد ولا سيما حين ينحصر التزاوج في أبناء القبيلة الواحدة أو الوطن الواحد، وأن بعض العادات الاجتماعية التي تنجم من تشابه المعيشة تثبت في الأفراد بعد زوال أسبابها إلى حقبة طويلة، وأن الأبناء ينقلونها عن الآباء بالقدوة والتلقين وإن لم ينقلوها بالوراثة كما تنقل الخصائص التي تتمثل في الناسلات.
وليس بنا هنا أن نبسط القول في خصائص الأجناس جميعها؛ لأن الجنس الأسود هو الذي يعنينا منها في هذا الكتاب، وهو من الأجناس التي يسهل تمييزها بالخصائص الموروثة وعادات القدوة والمعيشة، والاختلاف في وصفه أقل من الاختلاف في وصف غيره من الأجناس البشرية الخمسة أو الثلاثة على قول بعض المتأخرين.
ونحن ننقل هنا شذرات من أوصافه في كتل علم الأجناس وعلم الإنسان ونصحح بعضها ببعض ونضيف إليه ما نعلمه من خصائص هذا الجنس بالمعاشرة والاختبار.
قال الدكتور سايس
Sayce
صاحب كتاب أجناس العهد القديم:
إن الزنجي مستطيل الوجه شديد بروز الفكين مع ضمور في الذقن، أنفه أفطس واسع المنخرين، وشفتاه غليظتان، وأسنانه كبيرة جيدة، وضرس العقل منها يظهر سريعا ويذهب أخيرا، وهو بسيط الجمجمة طويل الذراعين، وربلات ساقه معيبة، وقصبة رجله منبسطة مع انقباض في الإبهام، ومادة الصبغة السوداء في الزنجي كما أسلفنا تسري إلى عضلاته وقد تسري إلى دماغه، وهو بالقياس إلى الأدمغة الأخرى بسيط التلافيف. وميله إلى الفنون قليل ما عدا الموسيقى فهو مغرم بها أشد غرام، ومن عاداته أن يتأثر بالشعور دون التفكير. ويقال: إن أبناء الزنوج قلما يتقدمون بعد الرابعة عشرة، ويغلب عليه الكسل والإيمان بالخرافة ومن طبعه العطف والوفاء. وهما خصلتان ترغبان من قديم الزمن في اقتنائه واستخدامه. فمنذ عصور الفراعنة في الأسرة الأولى كانوا يبعثون الحملات إلى بلاد كوش لاستجلاب العبيد منها، وكان عدد الزنوج المجلوبين كبيرا على الأغلب في جميع الأزمان، ولعل عبد ملك الذي أنقذ حياة النبي أرميا كما جاء في الإصحاح الثاني والثلاثين كان من الزنوج وكذلك الكوشي جد اليهودي الذي جاء ذكره في الإصحاح السادس والثلاثين إذ يقول: «فأرسل كل الرؤساء إلى باروخ يهودي بن نثنيا بن شلميا بن كوشي قائلين: الدرج الذي قرأت فيه في آذان الشعب خذه بيدك وتعال.»
ومع قدم الاتصال بالحضارة المصرية تلك القرون الطوال لم يتعلم الزنجي منها على الأرجح غير صهر الحديد، فجاء عصر الحديد معقبا لعصر الحجر توا في تاريخ بعض القبائل بغير توسط من عصر الشبه أو النحاس.
والزنجي مقلد شديد الميل إلى التقليد. ولهذا يلفت النظر أنه لم يظهر قط رغبته في الرسم خلافا للمصري المثقف؛ بل خلافا لأبناء قبائل البوشمان المقيمين بأقصى الجنوب في القارة الأفريقية، فإن رسوم الحيوان على الجدران التي تحتمي بها قبائل البوشمان حية ملهمة ومنها ما ليس يخجل الفنان الأوروبي إذا نسب إليه، وهي على الجملة تفضي بنا إلى سؤال عن قدم الجنس الزنجي في التاريخ.
ففي جنوب مصر تشاهد الصخور الرملية التي تغطيها رسوم الحيوان والإنسان ومنها الحديث الذي لا شك في حداثته والقديم الذي لا شك كذلك في قدمه، ويرى على الصخر الواحد شيء من تلك الرسوم ونقوش ترجع إلى الأسرة الخامسة، فأما النقوش الأخيرة فيبدو عليها تغيير قليل من أثر العوارض الجوية حتى ليخيل إلى الناظر إليها أنها من عمل أمس القريب، وأما الرسوم الأولى فيبدو مما أصابها من أثر العوارض الجوية أنها قد مضى عليها ردح طويل من الزمان، ويرى - عدا هذا - بين الرسوم رسم الزرافة كثير التكرار، فإذا لاحظنا أن ذلك الإقليم كان أرضا قاحلة من بداية التاريخ المصري، دل حضور الزرافة في رسومها على عهد بعيد القدم كانت فيه تلك الأرض بطاحا مروية بالماء تغطيها أشجار الحسك التي يرعاها الزراف. وينتشر رسم النعامة في تلك الرسوم كما ينتشر رسم الزرافة مع اختفاء رسم النعامة من المقاطع الهيروغليفية التي تتمثل فيها الطيور المصرية على وفرة ملحوظة، وخليق بهذا أن يدلنا على أن النعامة لم تكن معروفة عند مخترعي الكتابة المصرية الأولى، وأن سيرفلاندرس بتري على حق حين يستخلص من هذا أن الرسوم التي ذكرناها هي بقايا متخلفة مما قبل التاريخ لأسلاف المصريين في وادي النيل. وتؤيد رأيه كشوف السائحين في جهات أخرى من أفريقية الشمالية حيث تشاهد أمثال تلك الرسوم في جنوب تونس ومراكش. وقد أستطيع الاهتداء إلى تاريخها التقريبي من حالة واحدة أمكن العثور عليها، فإن الدكتور بونيه
Bonnet
وجد في وهران الأداة الحجرية التي كانت تنقش بها تلك الرسوم ملقاة تحت بعض الصخور التي عليها تلك الرسوم ووجد على مسافة غير بعيدة منها المصنع النيولوتي الذي تصنع فيه تلك الآلات، ومن ثم يفهم أن الرسوم ترجع إلى العهد السابق لاستبدال الآلات المعدنية بالآلات الحجرية، وهو عهد في مصر جد بعيد.
فمن المحتمل إذن على ما يظهر أنه في العهد الذي كانت فيه الصحراء الكبرى مخصبة وكانت دال مصر ذراعا من البحر الملح كان جيل من الناس قريب إلى جيل البوشمان ينزل في أفريقية الشمالية بين السواحل الأطلسية وشواطئ نهر النيل، ولعل قبائل الأكاسيين وغيرها من قبائل الأقزام المستديرة الرءوس في أواسط أفريقية بقية ذلك الجيل القديم، وقد أجلتهم عن مواطنهم غارات الزنج ولم تزل بهم غارات قبائل البانتو أو الكافرين حتى ألجأتهم إلى جنوب القارة الأفريقية، وقد كانوا جسديا دون أعدائهم في القوة وإن لم يكونوا دونهم في المزايا الأدبية، وكانوا على كل ذوي ملكة فنية تعوز الزنج والكافرين على السواء وهي ملكة الرسم؛ إذ لم يكن في وسع الزنجي أن يرسم أو يتمم رسوم الصخور في بلاد البوشمان ولا رسوم الصخور في أفريقية الشمالية.
وقد كانت الجبال التي تحد الصحراء من الشمال مسكن قبائل من اللوبيين منذ عهد سحيق في القديم، وقد وصفنا هذا الجيل آنفا وبينا أنه ينتمي إلى سلالة مميزة بين سلالات الجنس الأبيض، وربما شاهدنا اليوم في قرى إنجلترة وأيرلندة فروعا من تلك القبائل على حسب الملامح الظاهرة، والنموذج العتيق الذي تبديه لنا تلك القبائل تؤكد لنا الآثار المصرية كما تجلوه الملامح البيضاء التي بقيت له إلى الآن ...
وكلام الدكتور سايس هذا في أوصاف الجنس الزنجي وتاريخه العريق قليل الخطأ كثير الصواب، أو هو من أصح ما كتب في هذا الموضوع، ويزاد عليه من كتب الأجناس الحديثة أو كتب علم الإنسان أوصاف أخرى يعد بعضها من قبيل التصحيح وبعضها من قبيل التكملة، نأتي عليها بإيجاز.
فاللون الأسود في الأجناس السوداء لا يتعمق إلى ما وراء البشرة الظاهرة ثم تتساوى ألوان الجسم الإنساني في جميع الأجناس، وإنما يأتي السواد من صبغة في الغشاء الذي يلي البشرة الظاهرة، ولا يسري على ما وراءه إلا عرضا في قليل من الأفراد.
وقد نفهم دلالة الضيق والسعة في تركيب الجمجمة إذا فهمنا أن جمجمة الجنس الأبيض بين الأوروبيين ليست أوسع الجماجم الإنسانية ولا أوسع من جماجم غيرها من الأمم التي لا تجاريهم في الحضارة، فإذا حسبنا قطر الدماغ من الأمام إلى الخلف مائة فنسبة العرض إليه في الزنجي سبعون وفي الأوروبي ثمانون وفي الساموي من أبناء الجزر المعروفة غرب المحيط الهادئ خمسة وثمانون.
والزنجي طويل الذراعين تصل ذراعه إلى الركبة في بعض الأحيان. وشعره الصوفي المعروف هو أوضح العلامات المميزة له بين جميع الأجناس.
أما مزاياه الثقافية فيجب أن نتذكر حين نقابل بين تخلفه وتقدم الأجناس الأخرى أنه قد بلغ من الثقافة كل ما يحتاج إليه، وأن العبرة بالمجهود العقلي الذي يتطلبه فهم أمر من الأمور لا بالطبقة الثقافية التي تحسب لذلك الأمر في سلم الثقافة العامة. فالمعادلات الرياضية العليا أرقى في سلم المعرفة من الجمع والطرح في الحساب، ولكن المعادلة الرياضية العليا لا تتطلب من ذهن المهندس المتعلم جهدا أكبر من جهد الرجل الزنجي حين يفهم أن خمسة في خمسة تساوي خمسة وعشرين. ولا سيما إذا كانت نهاية العدد عنده هي مجموع أصابع اليدين والرجلين؛ أي عشرين.
وقد عرف أن الزنجي في قبائل «الوي» التي تقيم عند «سيراليون» قد اخترع نوعا من الكتابة يوائم حاجاته ولا يرجع إلى أساليب الكتابة الأخرى التي عرفت في بلدان الحضارة.
أما حظه من الفنون فليس بالحظ القليل إذا نظرنا إلى حاجاته الطبيعية ودواعيه الضرورية إلى المعيشة الاجتماعية. ولعل «هافلوك إيليس» حين قال: «إنه قد سلك سبيله إلى الحضارة راقصا.» قد لخص ملكاته الفنية أجمل تلخيص.
فالرقص لا يكون بغير نغمات، والمرح المطبوع في الزنجي هو مبعث وحيه الذي ألهمه الرقص والغناء، فهو عظيم الولع بالأغاني سريع الأذن إلى التقاطها حين يسمعها مرة أو مرات قليلة، وينبغي أن نفرق بعض التفرقة بين ملكة الموسيقى وملكة الغناء والإيقاع؛ لأن الأصوات الموسيقية تبلغ من التراكب والتنوع مبلغا يبعدها من الإيقاع الذي يصاحب حركات الأجسام في الرقص الفطري أو الرقص الحديث.
والزنجي يحب الغناء الراقص ويبرع فيه، وقد عرف به حيث نزل من بلاد العالم في عصور التاريخ، ومن هذا رقص النوبة الذي علمنا - في سيرة النبي عليه السلام - أنه دعا السيدة عائشة رضي الله عنها إلى التفرج به والنظر إليه، وكان يعرف بالزفيف لسرعته وتوالي الحركة فيه.
ولما اشتغل الزنجي بالفنون الأخرى كصنع التماثيل كان الإيقاع رائده الأول في هذه الصناعة التي قد يظهر للوهلة الأولى أنها بعيدة عن الغناء؛ لأن النسب التوقيعية كانت تغلب في التماثيل الزنجية على مشاهدات الحياة، وكانت منذ وجدت تنقل الشبه فتحسن نقله، ولكن على نمط واحد يقل التصرف فيه، وهي لا تزال اليوم بحيث وجدت منذ آلاف السنين.
وشيوع التماثيل وصوغ المعادن ونسج الثياب الموشاة بالخطوط والأشكال مع ندرة الرسم في قبائل الزنج أمر لا غرابة فيه؛ لأن تقليد الجسم في أبعاده الثلاثة أسهل من تقليده في بعد واحد، وهو التقليد الذي يوجب التصرف لتمثيل العرض والطول والقرب والبعد حيث لا عرض هناك ولا اقتراب ولا ابتعاد.
ولتماثيلهم - مع غلبة الإيقاع عليها - سمة أخرى تعرف بها بين سائر التماثيل القديمة، وهي سمة الخوف والتخويف، وهي كذلك سمة لا غرابة فيها إذا نظرنا إلى الأخطار التي تحدق بالزنجي بين الوحوش والحيات وآفات الأرض وصواعق السماء، ونظرنا إلى الغرض الذي يتوخاه من صنع كثير من تماثيله، وهو لبس الوجوه والأقنعة التي تخيف أعداءه في ميدان القتال.
ولم تزل فنون القتال عند الزنجي ضربا من الفن الجميل؛ لأنها تمزج بين الحركة الرياضية وبين الرقص والإيقاع والغناء. وليس أشبه بمناظر الرياضة البدنية من منظر الزنجي وهو يقذف بالرمح ويوازن بين وضع يديه وكتفيه وبين وضع صدره وكشحه حين يقذف به فيقع حيث أراد، كأنه قد ركزه في الهدف بيمناه.
والزنجي شجاع مقدام لا يهاب الموت ولا ينكص عن الألم، وقد تلهبه السياط ويسيل الدم من إهابه الممزق وهو صابر لا يتلوى ولا يتأوه؛ لأنه يحسب الفرار من الألم كالفرار من الموت جبنا لا يجمل بالرجال، وقد عودته مجالدة الوحوش والأفاعي والمحاذرة الدائمة من المتربصين به أن يقسو عليها وأن تقسو عليه، وأن يحتمل القسوة على نفسه كذلك ... وفيه إلى جانب الصبر والشجاعة عناد شديد حين يخشى أن يتهم بالجبن إذا صدع بالأمر فرارا من العذاب.
وهو مصدق وفي يؤمن بالعقائد التي توارثها عن أسلافه وأكثرها من قبيل السحر وعبادة الأرواح الخفية، وتقديس الرقى والتعاويذ التي تعصمه من فعل تلك الأرواح.
والوفاء فيه طبيعة لأنه نشأ على طاعة الرئيس في القبيلة وطاعة الساحر الذي يعلمه ويحميه، وقلما يغدر أو يخون إذا وجد من يكسب ثقته ويشتمل على عطفه وولائه، وإنما يغدر ويخون إذا توجس وسلبت منه الطمأنينة، فإنه ليرجع إذن إلى حياة المخاوف والأخطار التي علمته الحذر الدائم بين الوحوش والآفات، أو بين الأسرار الغوامض التي يتكفل الساحر بجلائها له على ما يعتقد ويروم، فيعمل في حالة التوجس وسلب الطمأنينة عمل الطريد المطارد أو عمل الهاجم الذي يتوقع الهجوم من كل مكان، فلا يبالي ما يصنع وهو غاضب يائس محروم من العطف والحنان.
وينبغي - قبل مراقبة الزنجي وتسجيل غرائبه - أن ننسى أننا نراقب خلقة غريبة تخالف ما طبعنا عليه؛ لأننا حريون أن نستغرب كل شيء إذا نحن توقعنا الغرابة والاستغراب، فيمر بنا العمل الذي يعمله أبناء لغتنا وعنصرنا دون أن نلتفت إليه، ثم يمر بنا هذا العمل بعينه حين يعمله الغريب فنسرع إلى التنبه له ونحسبه من البدوات التي لا تصدر إلا عن أمثال ذلك الغريب، وكثير من غرائب الزنوج أو غرائب الأجناس عامة لا تحسب من قبيل الغرائب إلا على هذا الاعتبار. •••
ولو شاء الناس لالتفتوا إلى هذه الملاحظة في الحقائق الاجتماعية الكبيرة كما يلتفتون إليها كل يوم في الحقائق الاجتماعية الصغيرة، فإننا نسمع العامة في كل مكان يتحدثون عن بعض المشهرين بالسوء فيقولون عنه: «إن صوفته حمراء.» ويعنون بذلك أنه يفعل الشيء الذي يفعله غيره فسرعان ما يتنبه إليه الناس ويتعقبونه بالذم والتشهير، ويمضي غيره بفعلته دون أن يتنبه أحد إليه فضلا عن ذمه والتشهير بسمعته، وهم يستعيرون هذا الوصف من لغة الرعاة الذين يفردون الخروف «الأحمر» بالزجر والعقاب وهو لا يصنع شيئا غير الذي يصنعه إخوته في القطيع من ذوات الفراء السود، ولكنه يظهر وهي لا تظهر، فيعاقب وحده وتنجو هي من الملاحظة والعقاب.
والجنس الأسود له غرائبه الكثيرة في الأخلاق والعادات، ولكننا إذا بدأنا بالاستغراب أو كان الاستغراب سابقا للمراقبة كنا خلقاء أن نجد الغرابة حيث لا غرابة على الإطلاق، وحسبنا أنه يخالف الناس في أصول الطباع وهو لا يفعل إلا ما يفعله في مكانه سائر الخلق من أبناء آدم وحواء.
أما مداركه العقلية فمن الواجب قبل الحكم على طاقتها الأصيلة أن نذكر الضرورات المختلفة التي باعدت بينه وبين أجيال البشر الأخرى في مواطن الإدراك، وهي مباحث العلوم والصناعات.
فليس من قصور العقل وحده أن نجد الزنجي مقصرا عن الأجناس البيضاء والسمراء في علوم الهندسة والفلك والطبيعة والكيمياء؛ لأن حياته لم تلجئه قط إلى الملاحة في البحار الواسعة فيعرف ما عرفته الأمم الأخرى من حركات الأجرام السماوية ومن علوم الفلك والظواهر الجوية والأنواء، ولم تلجئه قط إلى إقامة الصروح ومزاولة البناء بالأحجار فيعرف من قواعد الهندسة وصناعات النحت والعمارة ما عرفته الأمم التي تهيأت لها الوسائل ودفعتها الضرورات إلى التشييد والتعمير، ولم تلجئه قط إلى توقيت مواعيد الري ولا السيطرة على مجاري الماء فيتعلم الهندسة ويدرك خصائص الجوامد والسوائل ويراقب أسباب الخصب والقحط مراقبة المدير المسئول عن عواقب الإهمال في هذا التدبير، ولم تلجئه قط إلى الافتنان في طهو الغذاء ونسج الكساء وصوغ الآنية والأدوات التي تستخدم في هذه الأغراض، ولم تلجئه قط إلى تفتيق الحيلة في حفظ الطعام وادخاره وصيانته من العطب والفساد، ولا ألجأته إلى تفتيق الحيلة في ابتداع أفانين الحرب من مطاولة للحصار وتنويع للأسلحة واعتماد على أسلوب في الكر والفر غير أساليب الأحياء المحدقة به في الجرأة تارة والاستخفاء تارة أخرى؛ لأن أبناء القارة أجمعين درجوا على نمط واحد في الهجوم والدفاع واستخدام السلاح وتشابهوا في مواقع واحدة يسكنها المغيرون والمدافعون، فلا حاجة بهم إلى التفوق والاحتيال على مختلف المواقع والأسلحة والأساليب.
وكل ما احتاجوا إليه من ضرورات المعيشة وجدوه سهلا ميسرا غنيا عن الجهد والحيلة في مواعيده التي تعودوها، فإذا بقي من وراء ذلك سر يجهلونه أو محذور يتقونه فهنالك الساحر كفيل به يكفيهم مؤنته إذا صدقوه وأطاعوه، ومن ثم عاشوا حياتهم كلها وقضوا عصور التاريخ وما قبل التاريخ وهم بين الدعة والطمأنينة إلى العيش، وبين القتال والجلاد، وبين التصديق والتعوذ بالرقى والطلاسم. ولزموا هذه الحالة أعواما بعد أعوام وأحقابا بعد أحقاب، بغير حاجة إلى التبديل أو التجديد.
فالأمم التي عرفت الهندسة والفلك والعمارة والكيمياء وأدوات البذخ والرفاهة إنما عرفتها لأنها لا تستطيع أن تعيش في بيئتها حقبة طويلة بغيرها، ولو عاشت في القارة الأفريقية كما عاش الزنوج لأهملتها ولم تفكر فيها، ولا شك أن الزنوج لو بدءوا الحياة الاجتماعية حيث بدأها أولئك الأقوام لاخترعوا وفهموا فهمهم وعرفوا معرفتهم وأعادوا سيرتهم بغير فارق كبير في جوهر الأمور.
أما الطب ومداواة الأمراض فكل ما حذقه الإنسان الفطري بمعزل عن الأمور الأخرى فقد حذقه السود وبرعوا فيه، ولم تفتهم خاصة لازمة لهم من خواص العشب والنبات أو خواص الإيحاء والتأثير بالعقيدة والتنويم.
ونحن لا نعني بهذه المقابلة بين ضرورات السود وضرورات غيرهم من أجناس البشر أن الفرق بينهم وبين تلك الأجناس معدوم أو قريب التحصيل والاستدراك، ولكننا نعني أنه يرجع إلى أسباب تجوز عليهم كما تجوز على غيرهم فهم وسائر البشر في أصولها سواء.
ولو نظرنا إلى النصيب الذي تيسر لهم من الثقافة الأدبية، فحصلوه وأجادوه لعلمنا أنهم حريون أن يبلغوا بالعطف والمعاملة الحسنة شأوا محمودا في مجال الآداب والعلوم، فقد نبغ منهم في العربية شعراء معدودون من طراز عنترة وسحيم عبد بني الحسحاس ونصيب والأغربة المشهورين الذين أجادوا الحماسة كما أجادوا الغزل والنسيب، وبين غزلهم والأغاني المرقصة التي عكف عليها السود من آلاف السنين صلة قريبة لا تصعب النقلة فيها، ولكن الطبقة الفنية - والنفسية - التي ارتفعوا إليها في ذلك الغزل تدل على أن الآباد الطوال التي قضوها في المعيشة الآبدة لا تحجبهم عن الظرف الاجتماعي إذا وجدوا السبيل إليه، وما أحسب شاعرا من شعراء الحضارة يترفع عن توقيع هذه الأبيات التي نظمها سحيم لمعشوقة مريضة فقال:
ماذا يريد السقام من قمر
كل جمال لوجهه تبع
ما يرتجي؟ خاب! من محاسنها
أما له في القباح متسع؟
غير من لونها وصفرها
فارتد فيه الجمال والبدع
لو كان يبغي الفداء قلت له
ها أنا دون الحبيب يا وجع
ففي هذه الأبيات من روح الفكاهة ودعابة الظرف والفطنة إلى محاسن الملاحة المريضة والخبرة بتدليل النساء غير قليل. •••
ويبدو لنا أن فوارق الإدراك لم تضل العقول في أمر الجنس الأسود، كما ضللها ذلك اللون الماثل للنظر قبل مثول الفوارق العقلية والخلقية للبصائر والأفكار، فعاملتهم الأمم منذ أقدم العصور معاملة لا هوادة فيها وانطلق النخاسون في طريق البحر الأحمر وبحر الهند ونهر النيل يحملونهم إلى بلاد العرب وما بين النهرين كما يحملونهم إلى مصر واليونان والرومان.
ولم تكد الدنيا الجديدة تنكشف لأبناء الدنيا القديمة حتى شاطرتها في هذا السباء الذي بدأت به أقدم الأمم من ألوف السنين، ولعل فضائل هذا الجنس - وفي مقدمتها الوفاء والصبر والقناعة - كانت أسرع من نقائصه في الجناية عليه؛ ولهذا تمادى النخاسون في نقل السود إلى أمريكا وانقطعوا عن نقل الهنود الحمر إلى أوروبا بعد سنوات قليلة، لإخفاق التجربة وضياع الأمل في صلاح هؤلاء الهنود «للتطبيع» والعمل المفيد.
وخلاصة ما يقال في تاريخ الجنس الأسود: أنه جنس قديم معرق في القدم يوغل في أصوله إلى ما قبل التاريخ بزمن بعيد، وأنه جنس قد وقف به النماء عند حدود الفطرة الأولى؛ لأن معيشته في القارة الأفريقية لم تلجئه إلى كشف العلوم وتعمير المدن واختراع الصناعات وتدبير وسائل الادخار والحيطة للمستقبل البعيد، ولكنه عرف كثيرا من الفضائل والملكات التي توائمه في بيئته المستقرة؛ لأنه عرف النضال والمرح والإيمان، فعرف الشجاعة والوفاء والصبر على الألم، واستنبط الفنون التي توافق مرحه وإيمانه بالمجهول.
وكأنما اتفقت عليه منذ القدم عوادي الإجحاف، ولم يسعده حظه بباعث واحد من بواعث الإنصاف والرعاية، فاصطلحت عليه أسباب الجشع والاستغلال وغرابة المظهر وقلة الحيلة في الدفاع وسهولة التطبيع والتعويد، وجعلته هدفا يسيرا للقناصين والنخاسين الذين يحفزهم الطمع ولا يزعهم عنه وازع من وشائج العطف أو زواجر الأخلاق.
ومضى العهد به على ذلك عصورا طوالا بعد عصور طوال إلى عصرنا هذا الذي نحن فيه، فقامت الثورات بعد الثورات باسم الإنسان وحقوقه، واشتعلت في الكرة الأرضية حربان عالميتان في النصف الأول من هذا القرن العشرين، ولا تزال الكلمة الباقية التي تقال لإنصافه وحماية حوذته أكبر وألزم من الكلمة التي قالتها الحضارة الحديثة إلى الآن.
ففي هذه السنة التي نحن فيها (1945) انعقد مؤتمر الجماعات التي تشتغل بالتبشير في الجزر البريطانية ووجه إلى العالم نداء شديدا أهاب فيه بأمم الحضارة إلى محو الفوارق القائمة بين البيض والسود في المستعمرات البريطانية، وأعلنت لجنة الكنائس البريطانية موافقتها على قرار المؤتمر وهي ترجو معه «أن تنجز الأمم المتحالفة وعودها المتكررة بالتسوية بين الألوان والعناصر في فرص التعليم والحياة».
ولا تزال الفوارق الجنسية قائمة في الولايات المتحدة على تعدد الدعوات فيها إلى المساواة والإعراض عن المزاعم العنصرية التي روجها خصوم الدولة الأمريكية في الحرب العالمية الحاضرة، ففي الولايات الجنوبية تقوم الفوارق بين البيض والسود بنصوص القوانين والأوامر الحكومية، ولا يباح للسود الجلوس مع البيض في المركبات العامة ولا النزول معهم في الحانات والفنادق، ولا تعليم أبنائهم في المدارس التي يتعلم فيها أبناء البيض، ولما صدر القانون الذي يخول الطفل الأسود حقا في التعليم كحق الطفل الأبيض مع انفصال المدارس والجامعات - تبين من التنفيذ أن المساواة صورة لا حقيقة، وأن التلميذ الأبيض يكلف الدولة في تسع ولايات من ولايات الجنوب نحو تسعة وخمسين ريالا في السنة ولا تزيد كلفة التلميذ الأسود فيها على تسعة عشر ريالا، على الرغم من نص القانون، وتبين أن الفارق في ولاية مسيسبي يتجاوز ذلك كثيرا؛ لأن الدولة تنفق على الطفل الأبيض ريالين وخمسين ريالا ولا تزيد نفقة الطفل الأسود على سبعة ريالات ونصف ريال.
وقد ألغي في ولايات الشمال معظم القوانين التي تنص على التفرقة بين البيض والسود، ولكن هذه التفرقة ما تزال قائمة بحكم العرف والعادة على نحو لا يقل في صرامته عن صرامة القانون، فلا يرى الأسود نازلا بفندق من الفنادق الكبيرة أو جالسا في مطعم من المطاعم الفاخرة، وإن كان من أصحاب الثراء. •••
وإبطاء الحضارة الغربية كل هذا الإبطاء في تقرير مبدأ الإنصاف - فضلا عن تنفيذه - هو المقياس الصادق لسبق الشريعة الإسلامية في هذا المضمار الإنساني المتوعر المهجور من قديم الدهور، فإنها خلصت إلى أدب الإنصاف والمساواة بين بني الإنسان منذ أربعة عشر قرنا بغير ما حافز من المصالح الاقتصادية أو من عادات العرف والأخلاق، بل خلصت إليه على كره من تلك المصالح وعلى رغم من تلك العادات. واجترأت على سلطان المادة الطاغية بسلطان الروح الرفيع، ولا يحسب الدين دينا ما لم يكن له سلطان روحي يغلبه على طغيان المصالح والشهوات. •••
وقد كان هذا السلطان الروحي هو السلطان الذي أذعن له السادة والعبيد عند ظهور الدعوة الإسلامية بين قبائل البادية العربية، واشتمل على بلال بن رباح صاحب هذه السيرة وهو مولى ضعيف غريب في أرض الحجاز، كما اشتمل على أبي بكر والفاروق وعثمان بن عفان وهم سادات مكة وأقطاب قريش.
والذي يعنينا في هذه المقدمة عن تاريخ الأجناس والجنس الأسود؛ خاصة أن نجمع الملتقي بينها وبين صاحب هذه السيرة بلال.
وليس الملتقى بينها بعسير.
فمن مجمل الصفات المتواترة التي وصف بها بلال يتراءى لنا أنه قريب الملتقى بخصائص الجنس الأسود التي أجملناها في هذه الصفحات.
ولا نحب أن نقول: إن الذي يتصف بتلك الصفات لن يكون حتما لزاما إلا من الجنس الأسود بخصائصه المعلومة، فلا يزال من الجائز جدا أن يكون بلال على تلك الصفة - فيما عدا اللون - ولا يكون من القبائل الأفريقية السوداء، ولكن الذي يقال ولا يتجاوز حد الصحة في المقال أنه لو لم يكن كذلك لكان هذا من غرائب المصادفات، ولا داعية عندنا الآن لتقدير تلك المصادفات.
فلو لم يكن بلال أسود الإهاب لكانت في صفاته النفسية علامات لا تستغرب في الأجناس السوداء؛ لأنها من خصائصها المميزة التي تبرز فيها عند مراقبتها على الإجمال. ومنها حب الإيقاع الموسيقي وسليقة الإيمان والتضحية والعناد والصبر على عذاب الجسد والوفاء لمن يستولي منه على مكان الثقة والإعجاب.
ولكن الجنس الأسود لا يحتويه كله على ما يظهر من بعض صفاته الجسدية فيما عدا لون السواد، فلم يوصف بالفطس ولا بغلظ الشفتين ولا بالشعر المتقبض المتصوف الذي خص به الزنوج، والذين يشاهدون على هذا التكوين بين أمم أفريقية الشرقية كثيرون حتى هذه الأيام، وتحقيق تاريخهم يدل على امتزاج قديم بالأجناس السامية أو بالعربية منها على التخصيص؛ لأن رحلات العرب إلى سواحل أفريقية الشرقية قديمة قبل الإسلام بزمن بعيد.
ومن علماء الأجناس من يربط بين جلة الأحباش وجلة العرب - ولا سيما اليمانية - برباط وثيق؛ لأن عبور أهل اليمن إلى الحبشة وعبور أهل الحبشة إلى اليمن ميسران معهودان من أقدم العصور.
وقد قيل في تاريخ بلال: إنه من الموالي المولدين بمكة أو بالسراة اليمانية، فأصدق ما يقال فيه: أنه من سلالة زنجية سامية، وأنه على أقرب ما يكون الزنج من خلائق العرب أو المستعربين.
العرب والأجناس
ألممنا في فصل سابق بأقوال بعض العلماء في مسألة العنصر وفوارق الأجناس، فأيا كان قول العلم في هذه العصبية العنصرية - أو الجنسية - فالقول الذي لا ريب فيه أن هناك شيئين مختلفين يدوران حول هذه العصبية، ويلتبسان في بعض الأحوال فتجب التفرقة بينهما: وهما المفاخرة الجنسية والعداوة الجنسية.
فقد تكون مفاخرة جنسية ولا عداوة.
وقد تكون عداوة جنسية ولا مفاخرة.
لأن المفاخرة طبيعة الجماعات حيث كانت من قديم أزمانها، وقد توجد المفاخرة في الأمة الواحدة بين أهل الحضر وأهل القرى، أو بين أبناء الشمال وأبناء الجنوب، وقد تتفاخر البطون من القبيلة الواحدة ولا تتعادى، وقد تتعادى ولا تتفاخر، وقد تتفاخر وتتعادى في آن، وهي من جنس واحد وقبيلة واحدة.
وعندنا في مصر مفاخرات كثيرة بين أبناء القاهرة وأبناء الإسكندرية، وبين أبناء الصعيد وأبناء الريف، ومفاخرات أخرى حول اللهجات والأذواق والأطعمة لا تتجاوز الفكاهة إلى الجد في عامة أوقاتها.
ومثلها متكرر يشاهد بين أبناء الأقاليم الإنجليزية أو الفرنسية أو الإيطالية أو الألمانية، وحيثما تعددت الجماعات في صقع واحد ولو من أرومة واحدة.
وقد تتجاوز العناصر ألوف السنين ولا تتجاوز المنافسة بينها حدود المفاخرة اللسانية والمنافرة الكلامية، ولكنها تتجاوز المفاخرة العنصرية إلى العداء العنصري كلما اندفعت إلى التنازع بينها على مغنم واحد لا يتأتى لإحداها بغير القضاء على الأخرى أو إذلالها، ويستحكم العداء بينها على الزمن إذا تداولت بينها الذحول والغارات فلا يهمها المغنم يومئذ كما يهمها الثأر والانتقام.
والعرب قد عاشت في جزيرتها بمأمن من سطوة جيرانها إلا في أطراف الجزيرة، حيث لا يبلغ النزاع بينهم وبين أولئك الجيران مبلغ الإبادة والاستئصال.
وعاشوا ثمة وهم يحسون مكان جيرانهم ويحس جيرانهم مكانهم، فوجدت بينهم أسباب المفاخرة ولم توجد بينهم أسباب العداء اللدود.
وأملى التاريخ على العرب وجه المفاخرة إملاء لا اختيار لهم فيه.
فقد كان جيرانهم الفرس والروم والأحباش أصحاب ثروة ودولة ومعاش ومتاع، وكانوا يعيرون جيرانهم العرب شظف العيش وسوء الطعام والكساء، وكان العرب لا يجهلون حظ هاتيك الدول من الجاه والترف وغزارة الأمواه والأزواد، فإذا فاخروهم تركوا المفاخرة بطعام أمتع من طعامهم وكساء أنفس من كسائهم وحطام أوفر من حطامهم، ورجعوا إلى فخرهم الذي يملكونه ولا يهابون المقالة فيه، وهو فخر الفصاحة وعراقة الأحساب والأعراض.
فهؤلاء كلهم عند العرب أعاجم!
وهؤلاء كلهم عند العرب أخلاط لا حساب عندها للحسب العريق.
وقد رضوا عن أنفسهم بهذا الفخر واستطاعوا المقالة فيه، ولم ينشب بينهم وبين مفاخريهم من العناصر الأخرى قتال طويل يبيدون فيه أو يبادون، فوقفوا بالمفاخرة دون اللدد في الخصومة الدموية، ونقلت عنهم وعن مفاخريهم أحاديث مستطرفات في هذا الصدد هي أقرب إلى مساجلات الأدباء في موقف الدعابة منها إلى المنازعات التي تسفك فيها الدماء.
إن فخر الروم والفرس ببياض الألوان قال العرب: تلك وجوه مقشرة!
وإن فخر الروم والفرس بالخوان الحافل فخر عليهم العرب بالجود وبذل الموجود.
وساجلوا وسوجلوا في هذا المجال فأثبتوا بحق أنهم أصحاب فصاحة وأصحاب أعراق.
لكنهم لم يعرفوا قط عداء العنصر أو عداء الجنس كما عرفه البيض والحمر في القارة الأمريكية، أو كما عرفه الأوروبيون والأصلاء في القارة الأسترالية، أو كما عرفه السلافيون والتيوتون في أوروبا الشرقية، أو كما عرفه الإسرائيليون والكنعانيون أو عرفه المغاربة والإسبان في زمن من الأزمان.
وإذا سمعت الزراية بالعبيد على لسان العربي فآخر شيء يتبادر إلى الذهن أنهم يقصدون عداء الألوان والأجناس، أو يخصون اللون الأسود بذلك الازدراء أو ذلك العداء.
فقد غلبت على بعض العرب أنفسهم سمرة تضرب شديدا إلى السواد، وكان من سادتهم من وصف بحلكة اللون وشابه الزنج بالإهاب الخشن والبشرة الفاحمة.
فإذا قالوا: «العبد» فهم لا يقصدون الزنجي ولا يخصون سواد اللون بالمهانة، ولكنهم يقصدون كل أسير لم يفك إساره وكل جليب يباع ويشرى في الأسواق، ومنهم صفر الوجوه وبيض الوجوه.
ويقصدون على الأخص كل إنسان مجهول النسب لا ينتمي إلى أصل من أصولهم المشهورة ... إذا لم يكن في وسعهم أن يجهلوا مفخرة النسب، وقد فرضتها عليهم معيشة البادية ومفاخرة الحاضرة مئات السنين.
فلا يزدرى العبد عندهم لأنه حالك اللون ولا لأنه من جنس يعادونه ويعاديهم، ولكنه يزدرى لعلة اجتماعية لا لعلة عنصرية، وقد تزول هذه العلة من حيث لا تزول علل العناصر وعداوات الأجناس.
وجاء زمن على الدولة العربية بعد اتساعها وسطوتها كثر فيه جلب الزنوج السود من القارة الأفريقية إلى فرضات البحار المقاربة للعاصمة العربية، وأكبرها البصرة في ذلك الحين، فشجر بين الزنج والعرب يومئذ عداء الأجناس في عصوره الحديثة والقديمة، ونشبت فتنة الزنج بالبصرة على مثال الفتن الجنسية التي نشهدها اليوم أو توصف لنا في التواريخ، ولكنها كانت غاشية عابرة لسبب عابر، فذهب أثرها بعد ذهابها بسنوات.
أما في غير تلك الآونة فقد كان الزنج قلة في بوادي الجزيرة وحواضرها، وكان الرجل العربي يولد الجارية السوداء ويتبنى وليدها إذا نجب وصلحت حاله وظهرت منه الفروسية والفصاحة، وربما كان له عبد يحمد خصاله فيعقته ويستلحقه ويزوجه بنته أو ذات محرم منه، ولا يمنعه أن يصنع ذلك عداء الجنس أو بغضاء اللون، بل يمنعه عرف اجتماعي توجد له النظائر في كل عرف يدور حول الزواج، ولو بين الأقرباء.
وعلينا أن نحترس كثيرا من نسبة كل عبد أسود يذكر في أيام العرب إلى الزنج أو أبناء حام كما يعرفون في علم الأجناس.
فلعله كان ساميا عبر إلى أفريقية كما عبر الإثيوبيون، ولعله أن يكون خلاسيا من الساميين والحاميين، ويغلب على الظن أن بلالا - صاحب السيرة في هذا الكتاب - كان حاميا حبشيا ولم يكن زنجيا خالصا من السود؛ لأن العرب يحسنون وصف الملامح التي تميز الأجناس والسلالات، ولم يذكروا من أوصاف بلال الفطس ولا الشعر الصوفي «المفلفل» اللذين يميزان معا سلالة حام.
وقد كان بلال من أضنك العبيد حالا قبل الإسلام، وكانت حال العبيد هي السوأى بين طبقات المجتمع العربي في الجاهلية ظلما للضعيف لا عداوة للجنس أو كراهة للسواد، فقد كان شأن العبيد كشأن كل صعلوك وضيع النسب قليل العضد غير محسوب له حساب في شريعة الثأر والدية، وكان العبيد أسوأ حالا من وضعاء النسب؛ لأنهم لا ينسبون إلى أحد معروف، ولا يردع الظالم عن ظلمهم شرع ولا عرف ولا عقيدة، فكانوا ضحايا الظلم والتفرقة في المنازل والأقدار، وكان خلاصهم كله في عقيدة تنكر الظلم لأنه قسوة كما تنكره لأنه ينقض شريعة المساواة.
وقد تكفل الإسلام بهذا الخلاص من جانبيه، لأنه ينكر ظلم القسوة، وينكر ظلم الإجحاف والمحاباة.
فحق له أن يلبي دعوته، وأن يدعو إليه.
الرق في الإسلام
كان الإيمان بالروح أول خطوة صحيحة في طريق الحرية الإنسانية أو طريق الحكومة الديمقراطية كما نسميها اليوم.
لأن الإيمان بالروح يعلم الإنسان التبعة وأن
كل نفس بما كسبت رهينة [المدثر: 38]، وهذا هو أساس التكاليف والحقوق.
ولأنه يوحي إلى العقل عقيدة المساواة بين جميع الناس أمام الله وأمام شريعة الله.
ولو جاء الإيمان بالروح سابقا للرق لامتنع الاعتراف به في الأديان التي تأمر بهذه العقيدة؛ لأن بيع الإنسان بيع السلع الصماء لا يوافق الإيمان بروح يتساوى فيها السادة والعبيد، فضلا عن الإيمان بتفضيل روح العبد الصالح على روح السيد الذي يعوزه الصلاح.
ولكن الأديان «الروحية» جاءت بعد ظهور الرق في المجتمع الإنساني بآلاف السنين، وكان الرق في تلك الأحقاب الطوال قد امتزج بنظام الثروة ونظام المعاملات، فأصبح اقتلاعه دفعة واحدة من أعسر الأمور، ولم تكن أذواق الناس وأخلاقهم في العصور القديمة قد بلغت من اللطف والتهذب مبلغ الترفع عن تسخير الآدميين كما يسخر الحيوان أو كما تسخر الآلة الصماء. فدارت الأديان «الروحية» حول المشكلة ولم تقابلها وجها لوجه في معظم الأحوال، ولم تكن للعبيد أنفسهم أنفة تعزف بهم عن هذه المنزلة التي فرضتها عليهم ضرورات الزمان، ومن كانت لهم الأنفة لم تكن لهم القدرة على التمرد والعصيان وتبديل المصالح والآداب.
ومع هذا لم يكن للمصلحين الدينيين بد من التوفيق بين عقيدة الروح وإباحة بيع الإنسان وشرائه كما تباع الآلات.
فكان من توفيقاتهم في هذا الباب أن العبد عبد بجسده حر بروحه أمام الله، وأنه في هذه الدنيا عبد وفي الآخرة سيد قد يرتفع إلى مراتب القديسين.
وكتب القديس بولس إلى أهل (أفسس) رسالة أوصى فيها العبيد بالإخلاص في الولاء لساداتهم كما يخلصون في الولاء للسيد المسيح، وكان الحواري بطرس يأمر العبيد بهذا الأمر ويلزمهم الخشية من سادتهم كأنها أدب من آداب الدين الصحيح، وجاءت الكنيسة فأقرت نظام الرق واعتمده أحبار رومة في المناشير والعظات، وأيده توماس الأكويني كبير فلاسفة النساك والقسيسين وتلميذ أرسطو الذي اشتهر بالعلم والتقوى في القرن الثالث عشر للمسيح. فاستند إلى أقوال رسل المسيحية، كما استند إلى أقوال أرسطو في كتابه عن السياسة؛ لأن أرسطو اعتبر الأرقاء في حكم الآلات التي تراد لعمل من الأعمال، ولم ير في نظام الرق شيئا يعاب، فما دام في الناس من يعجز عن كفالة نفسه فعليه أن يعيش في كفالة سواه، وتبعه تلميذه الناسك؛ لأن الزهد في الحياة يجعل القناعة بأبخس المنازل أمرا سائغا لا غضاضة فيه، بل لعله من المأثور المحمود عند من يرفضون الحياة ... وقد واجه الرق بهذا المزاج فحسبه من الحرمان الذي لا يناقض الخطة المثلى في آداب الديانة وفضائل السلوك، وسهل عليه أن يجد للرق مصدقا من أسر الضرورات وتقييد بعض الحركات ببعض في نواميس الطبيعة وخصائص التكوين.
ومن أعجب العجب أن البلاد التي شاع فيها تحريم قتل الحيوان حتى ما يؤذي منه ولا يفيد - قد بلغت عقائدها القسوة القصوى في معاملة الأرقاء، فإن أناسا من براهمة الهند كانوا يضربون الذلة على العبيد المعروفين باسم السودرا؛ لأنهم خلقوا من أسفل أعضاء الآلة فلا تبرحهم وصمة الذل ما لبسوا ثوب الحياة، فأيسر ما يعاقب به الرقيق على إغضاب سادته أن يسل لسانه أو يقتل بعد التمثيل به على مشهد من الناس.
وكانت الحضارة تلطف من هذه القسوة بعض التلطيف فتجري العادة أحيانا في الأمم المتحضرة بالشفقة على العبيد والجواري وتخويلهم بعض حقوق المساواة. فكان المصريون الأقدمون يجيزون معاملة الإماء كما تعامل الزوجات الحرائر، ويحكمون بالقتل على من يقتل الرقيق في غير جريرة، ويلزمون الرجل في موقف الحساب بعد الموت أن يبرئ ذمته من إيذاء العبيد والإساءة إليهم، ويجعلون هذا الإبراء جوازا لا مناص منه إلى حظيرة الأرباب.
ومن مصر أخذ العبرانيون تحريم القسوة على العبيد والأجراء؛ لأنهم كثيرا ما كانوا يؤدون في مصر عمل الأجراء إن لم يكن عمل العبيد. فجنحت بهم الرغبة والقدوة إلى إنصاف الأرقاء والأحلاس، وأنكروا الإرهاق كما أنكروا الضرب والإيذاء في معاملة الأجراء.
وقال هيرودوت: إن الفرس في زمانه كانوا يمنعون عقاب العبد على الهفوة الأولى، ولكنهم يبيحون للسيد أن يقتل عبده أو يعذبه إذا أذنب مرة بعد أخرى، وكانت شريعة الفرس أرفق بالعبد على الجملة من شرائع اليونان والرومان؛ لأنها كانت ترخص له في الراحة وتكره العدوان عليه، وربما سرى إليهم أدب الشريعة هذا من عادة التسري واقتناء الزوجات من الإماء، ووافق ذلك معيشة الحضارة في المدن الكبيرة، وقلة الحاجة إلى إرهاق الأرقاء لتحصيل ضرورات المعيشة، ولعلهم قد استفادوا أيضا من سنن العبرانيين في معاملة الرقيق، لطول العشرة بين اليهود وبين شعوب النهرين.
ولم تسلم أمة قط من إقرار نظام الرق وازدراء العبيد على اختلاف عناصر الأمم وأجناسها.
فما قيل عن فضل أمم الشمال الأوروبية على أمم الجنوب كافة في هذه المسألة خطأ ظاهر في البحث عن حقائق الأسباب؛ لأن أمم الشمال لم تخل من نظام الرق سموا في الأخلاق أو تفردا بالصفات الإنسانية التي تدعى للشماليين في الزمن الأخير، ولكنها خلت من نظام الرق؛ لأن اقتناء الأرقاء في تلك البلاد الباردة يكلفها أكثر مما يحط عنها، فهي فضيلة الضرورات لا فضيلة الأخلاق، وهي مزية البقاع لا مزية عناصر الشمال.
وما زال الرقيق محروما من المساواة الإنسانية إلى هذا اليوم في الأمم الأوروبية والأمريكية. وكانت القوانين إلى القرن الثامن عشر تجيز قتل العبيد في المستعمرات إذا هربوا من الأسر أو أغلظوا لمواليهم في الكلام، ولم يكن على السيد الذي يقتل مولاه إرهاقا أو تعذيبا عقاب منصوص عليه.
تلك كانت حالة الرقيق جملة في القرون الأولى وفي القرون الحديثة، وقبل ظهور الأديان «الروحية»، وبعد ظهور تلك الأديان.
ومن الأسباب التي تذكر لتحسين أحوال الأرقاء ومنع الاتجار بهم في العصر الحديث: أن اقتناء العبيد كان ييسر لبعض البلاد أن تنافس البلاد التي تستخدم العمال الأحرار في الصناعة وتبذل لهم أجرا لا يطمع العبيد السود في مثله، وكان اقتناء العبيد يضير أولئك العمال الأحرار في الوقت الذي عرفوا فيه حقوقهم ونهضوا للمطالبة بها، وساعدهم على المطالبة بها أصحاب الأموال الذين لا يستفيدون من تسخير الأرقاء.
ومهما يكن الرأي في حقيقة هذه الأسباب فهي مما يدخل في التقدير عند بيان فضل الإسلام وسبقه للحضارة الحديثة إلى أرفع الآداب وأكرمها في مسألة الرق ومعاملة الأرقاء.
فلم تكن معاملة الأرقاء على الوجه الذي أمر به الإسلام مصلحة اقتصادية على فرض من هذه الفروض، بل ربما كان من المصلحة إبقاء الرق على نظامه الأول ليفرغ الأرقاء لأعمال المعيشة والسخرة، ويفرغ الأحرار لأعمال الجهاد والرئاسة.
كذلك لا يقال: إن الإسلام تهيب النظام القائم في المجتمعات القديمة كما تهيبتها الأديان الروحية فدارت حول المشكلة ولم تقابلها وجها لوجه في معظم الأحوال، ولم تأخذ بأيدي العبيد إلا بما كانت تفرضه عليهم من الطاعة وتزجيه إليهم من العزاء المنظور في الدار الآخرة.
فلا يقال: إن الإسلام قد منع رق المسلم وقصر الرق على الأسرى وأوجب لهم حسن المعاملة؛ لأنه كان دينا يؤمن بالروح، ولا توافق بين الإيمان بالروح وبين بيع الآدميين كما يباع الحيوان ... فإن الواقع أن أديانا «روحية» كثيرة قد وفقت بين الأمرين على نحو من التوفيق.
ولا يقال: إن الإسلام قد جاء بآداب الرفق بالرقيق بعد ذهاب الحاجة إلى تسخير الأرقاء وتبدل الأحوال الاقتصادية في مجتمعات المشرق والمغرب ... فإن الواقع أن هذه الحاجة ظلت قائمة في البلاد الشرقية والغربية إلى زمن يذكره الأحياء، ولا تزال قائمة حتى اليوم في بعض الأنحاء.
فإنما هو إذن فضل خالص من علل المادة ودواعي الثروة الاجتماعية، وإنما هو نصر صريح في عالم الروح يحسب للدين الإسلامي وحده بين سائر الأديان.
كان في وسع الدعوة الإسلامية أن تمر بنظام الرق في العالم العربي وفي العالم بأسره ثم تتركه حيث كان فلا يحسب عليها ذلك - في حينها - إغضاء معيبا تسأل عنه؛ لأن مسألة الرق لم تبلغ يومئذ أن تكون من المسائل الناطقة التي يؤول السكوت عنها بالإغضاء أو المداراة.
ومن المحقق أن الدعوة الإسلامية لم تكن تخسر شيئا لو أنها أهملت مسألة الرق في أول ظهورها؛ لأن المسلمين على نقيض ذلك كانوا يتجشمون خسارة لا يطيقونها في إعتاق العبيد والإماء. كلما ساءت حالهم عند سادتهم بدخولهم في دين الإسلام. وكان أبو قحافة يمثل الرأي الحصيف وهو يأخذ على ابنه الصديق بذل المال الكثير في سبيل رهط من الضعاف المهازيل يثقلون كاهله ولا يغنون عنه أقل غناء.
فلم يكن ثمة من باعث إلى النظر في إنصاف الأرقاء وهدم نظام الرق القديم غير باعث الفضيلة المثالية، التي تعنى بطلب الكمال ولا تحفل بالمصلحة المادية أقل احتفال.
وقد تبدل نظام الرق على يد الإسلام في أوسع نطاق للتبديل، أو على أعمق أساس يبنى عليه كل تبديل في أمثال هذه الأنظمة الاجتماعية؛ لأنه عمد إلى أساس التفرقة بين الأجناس والأقوام فمحاه أو عفى عليه.
وعلم الناس أن المؤمنين إخوة، وأنه لا فضل لمسلم على مسلم بغير التقوى، وألقى إليهم في الأحاديث القدسية أن «الجنة لمن أطاعني ولو كان عبدا حبشيا، والنار لمن عصاني ولو كان شريفا قرشيا» أو كما قال.
وحصر الرق مع هذا في سبب واحد من أسباب الاسترقاق، وهو الأسر في ميادين الحروب، فلا يملك الرجل أو المرأة بالنخاسة والاختطاف، ولا يعد من العبيد إلا من وقع أسيرا في ميدان القتال إلى أن يفدي نفسه أو يفديه من يفديه.
وقد مضت مئات السنين بعد ظهور الدعوة الإسلامية فبطل نظام الاسترقاق أو بطلت الحاجة إليه، ولا يزال الأسر مشروعا والفداء واجبا، ولو بتبادل الأسرى، أو بشرط من الشروط التي تقوم مقام الفداء، ولا يقع في العقل نظام غير هذا النظام ما بقيت الحروب وبقي الأسر والاستئسار مقبولين في شرعة المتحاربين.
ولم تنته عناية الإسلام بمسألة الرق بتضييق نطاقه وحصره في هذا السبب الوحيد من أسباب الاسترقاق، بل أمر المسلمين بقبول الفداء أو المن وهو الإعتاق بغير فداء:
فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها [محمد: 4].
وأوجب على المسلم أن يقبل من الأسير تنجيم فديته حتى يستوفيها على سنة الرفق والسماحة:
والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم [النور: 33].
وقد جعل الإعتاق حسنة تكفر عن كثير من السيئات، وفرضها على الذين يخالفون بعض أحكام الدين كما فرض الصدقات وإطعام المساكين، وجعل وصية الرفق بهم مقرونة بوصية الرفق بالآباء والأقربين:
وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا [النساء: 36].
وكانت وصية النبي للمسلمين قبيل وفاته: «الصلاة وما ملكت أيمانكم.» وتكررت منه عليه السلام أحاديثه في هذا المعنى، حتى قال في بعض تلك الأحاديث: «لقد أوصاني حبيبي جبريل بالرفق بالرقيق حتى ظننت أن الناس لا تستعبد ولا تستخدم.»
وتجاوز الإشفاق على الأرقاء من سوء المعاملة إلى الإشفاق عليهم من الكلمة الجارحة، فكان عليه السلام يقول: «لا يقل أحدكم: عبدي وأمتي. وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي.»
أما ضرب الرقيق بغير تأديب محتمل فهو ذنب كفارته العتق، أو كما قال عليه السلام: «من لطم مملوكه فكفارته عتقه.» فإذا قتله فهو يقتل به في قول أشهر الفقهاء.
وقد فضل الإسلام الزواج بالأمة المؤمنة على الزواج بالحرة المشركة. وأوجب عتق الأمة متى ولدت للرجل واعترف بأبنائها.
وقد أعتق النبي عليه السلام مملوكه زيدا وزوجه بعقيلة حرة من عقيلات بيته، وتبناه وأقام ابنه أسامة من بعده واليا على جيش الشام وهو دون العشرين، وفي الجيش نخبة من أجلاء الصحابة منهم عمر بن الخطاب.
وكانت معاملة النبي للأرقاء في ملك يده وفي ملك غيره تفوق سماحة هذه الوصايا على فرط ما فيها من السماحة بالقياس إلى آداب ذلك العصر، وإلى آداب جميع العصور، فكان يؤاكلهم ويلبي دعوتهم إلى الطعام ويقول للمسلمين: «هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، ويلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم.»
وأكرم ما قال في هذا الباب - وكله كريم: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد.» •••
هذه الوصايا والمعاملات كانت كلها من فيض الآداب العلوية الرفيعة، ولم يكن شيء منها قط من إملاء الضرورات الاجتماعية أو المصالح الاقتصادية، بل هي ولا شك قد تقررت على الرغم من ضرورات الاجتماع ومصالح الاقتصاد التي كانت غالبة في تلك الآونة على الجزيرة العربية وعلى غيرها من أرجاء العالم المعمور.
وهي لم تتقرر - بالبداهة - دفعة واحدة في مستهل الدعوة الإسلامية، ولا تقررت كلها أو بعضها قبل إسلام بلال وزملائه من الموالي والإماء. فقد تتابعت الأحكام الإسلامية في معاملة الرقيق على أثر قيام الحرب بين المسلمين والمشركين، وبعد ظهور حالة الأسرى والمستأسرين في معارك الفريقين.
فمن الخطأ أن يقال: إن أحكام الرقيق هي التي جلبت إلى الإسلام من دخل فيه من الموالي والإماء، أو إنهم سيقوا إلى الدخول فيه طلبا لراحة الجسد وهربا من مظالم السادة ومتاعب التسخير.
إن يكن هناك أثر للمعاملة الحسنة في إقبال بلال وزملائه على الإسلام، فهو على التحقيق أثر المثال الرفيع الذي تمثلوه في معاملة النبي عليه السلام لصحبه ومواليه، ولكل ضعيف منتم إليه. ولم يكن سرا مجهولا بينهم أن النبي عليه السلام أحسن إلى مولاه زيد بن حارثة فأنساه أباه وذويه، وجاءه هؤلاء يفتدونه ويعرضون عليه الحرية والعودة إلى أحضان أهله، فآثر صحبة النبي على نعمة الحرية بين معشره الأولين وفي ظلال وطنه الذي فارقه مكرها منذ سنين.
فهذا المثال الرفيع قد كان له ولا ريب أثره البالغ في تحبيب الإسلام ونبي الإسلام إلى الأرقاء وغير الأرقاء.
ولكن طلب الإسلام عند أولئك الأرقاء لم يكن طلبا لراحة الجسد ولا مفاضلة بين سيد وسيد أو معيشة ومعيشة.
فإننا لا نعرف في تواريخ العقائد الدينية أن أحدا يقبل على الدين مساومة على الراحة ورفاهة العيش، ولم يكن طلاب الراحة ورفاهة العيش قط أعوان عقيدة ناشئة في عهدها الأول وهي مقدمة على المغامرة والجهاد تتطلب الضحايا وتفرض على الأتباع ألوان الفداء.
وفي حالة بلال وزملائه خاصة، لم يكن الإسلام راحة لهم ولا انتقالا من جانب الخطر إلى جانب السلامة والأمان، بل كان على نقيض ذلك انتقالا من جانب السلامة والأمان إلى جانب الخطر الذي لا يدفعه عنهم دافع. لأن العربي يحميه من الضيم آله وعشيرته ولا يبلغ الأمر مبلغ الخطر على حياته وماله إلا في قتال صريح بعد يأس من الوفاق، ولا حاجة إلى قتال صريح أو غير صريح لإهدار دم العبد المملوك المرهون بمشيئة مولاه. وأهون من ذلك عند مولاه تعذيبه وإعناته وحرمانه الراحة وضرورات الحياة.
كذلك لم يكن طلب الإسلام عند هؤلاء الأرقاء طلبا للنقلة من رق ثقيل إلى رق خفيف، أو من سيد قاس إلى سيد رحيم؛ لأن الإسلام في مبدأ أمره لم يكن ليخرجهم من ربقة الأسر عند سادتهم الأقوياء، ولم يكن العتق جزاء موعودا لمن يغضب سيده المشرك ويرضي النبي عليه السلام بالدخول في دينه. فإنما جاء العتق مصادفة واتفاقا بعد تشديد العذاب على أولئك الضعفاء المساكين، وقد كان العذاب يقينا لا شك فيه، ولم تكن النجاة إلا وعدا مأمولا لم تبد تباشيره للعيان.
فمن الخطأ، كما أسلفنا، أن يعلل إيمان العبيد والإماء بأحكام الإسلام في معاملة الأرقاء، أو بالطمع في الراحة والمساومة على حسن المعاملة ، فإنما عرفت تلك الأحكام بعد ابتداء الدعوة الإسلامية بزمن طويل، وإنما كان العناء والخطر أول ما يصيب العبد الذي يصبأ عن دين مولاه، وكانت الراحة آخر ما يرجوه من أمل بعيد، إن سلمت له الحياة.
وما زالت العقائد أكرم على ضمير الإنسان من هذه المساومات التي تلازم الأسواق وتعرض في صفقات البيع والشراء، وما زال قلق النفس هو الباعث لها وطمأنينة النفس هي البغية منها، وتهون في سبيلها بعد ذلك مطالب العيش وراحة الأجساد.
وآية ذلك أنه لم يؤمن إنسان قط لغنيمة تخصه ولا تعم سواه.
إنه ليساوم في سوق التجارة على الغنيمة التي تخصه دون غيره، ولكنه إذا آمن بعقيدة من العقائد التي تتناول الحياة والموت فلا بد من غاية تعمه وتعم غيره على السواء، ولا بد من الأمل العام الذي يتخطى مصالح الفرد ومساومات الآحاد.
وبلال حين آمن بالإسلام قد آمن حقا بالدين الذي ينصف العبيد، ولكنه قد آمن به على السنة التي ترضي الكرامة الإنسانية لا على سنة المساومة والمصافقة، أو هو قد آمن به إنسانا كما آمن به السادة الأحرار القادرون على شراء العبيد والإماء.
وأقل ما يقال في تعليل إسلامه: إنه إعجاب نفس طيبة بنفس عظيمة، وإنه إيثار للخير الكبير على الخير الصغير، وإنه استقامة طبع تهتدي إلى الصراط المستقيم، وإنه شوق إلى الحق الذي يريح النفوس وليس بشوق إلى الرفاهة التي تريح الأجساد.
ومما لا شك فيه أن إرضاء الكرامة بالمساواة بين جميع المسلمين، كان أحب إلى أولئك العبيد والإماء من كل راحة يرجونها بعد الدخول في الدين الجديد، أيا ما كانت الثقة بتحقيق ذلك الرجاء. في أجل قريب أو بعيد.
وقد غبرت القرون على وصايا الإسلام بالرقيق، وعمل بها من المسلمين من عمل وخالفها من خالف، واحتال عليها من احتال، على عهد الناس بجميع الأوامر أو النواهي التي تشرعها العقائد والأديان.
ولكنها، سواء روعيت أو خولفت، قد كانت كسبا عمليا له أثر من النفع الواقع في تاريخ بني الإنسان، وقد بقي لها هذا الأثر إلى أن بطل الأسر وبطل الرق بشتى ذرائعه ودواعيه، وارتفعت للحرية الفردية والحرية القومية صيحة لم ترتفع لها قط في زمن من الأزمان.
فبعد وصايا الإسلام بألف ومائتي عام، وفي العصر الذي راحت فيه أوروبا تنكر الرق وراح فيه اليونان يطلبون الاستقلال نزل بمصر فوج من الأسرى اليونان يزيدون على خمسة آلاف وخمسمائة، ووزعهم الولاة على بيوت السراة وذوي الثراء في القاهرة والإسكندرية، تم عقد الصلح وقضت شروطه برد الأسرى إلى بلادهم وإعتاق من بيع منهم بمال الحكومة المصرية لا بمال الأسير أو بمال ذويه، فآثروا البقاء جميعا في البيوت التي نزلوا بها نزول العبيد، ولم يقبل منهم العتق غير أربعمائة أو دون ذاك، كما جاء في بيان المندوب الإنجليزي الذي نيط به تنفيذ تلك الشروط.
ومهما يقل القائلون في تعليل ذلك الإيثار، فالأمر الذي لا ينكر في هذا المقام ولا ينسى أن أولئك الجند الأوروبيين الذين أسروا وهم يعلنون قضية الاستقلال، ما كانوا ليحمدوا البقاء عند سادتهم المسلمين لو كانت وصايا الإسلام بالأرقاء قد ذهبت ذهاب الكلام في الهواء.
فالعقائد الكبرى قد تتكلم بلسان الفضائل المثالية في نشأتها الأولى، وقد ينشدها المؤمنون بها حبا للمثال الأعلى وطموحا إلى الكمال، ولكنها لا تلبث بعد ذلك أن توزن بالميزان وتشخص للعيان.
نشأة بلال
اتفقت الأقوال على أن بلالا كان من أبناء الحبشة المولدين، وجاء في وصفه أنه رضي الله عنه كان «آدم شديد الأدمة نحيفا طوالا أجنأ - أي فيه انحناء - كثير الشعر خفيف العارضين».
وهي أوصاف تعهد في سلالة المولدين من السود والساميين، وقد كانوا كثيرين بين الحبشة واليمن من قديم الزمن، فليست أوصافه المتفق عليها أوصاف الزنج ولا أوصاف أبناء سام، وسواده وكثرة شعر رأسه مع خلوصه من فطس الأنف وتقبض الشعر تدل على أنه مولد من السلالتين. وقد زعم بعضهم أنه كان ينطق السين شينا على عادة السود، فنفى الثقات هذا الزعم وأكد نفيهم أنه كان يقيم الأذان وفيه السين والصاد.
ويختلف في مولده فيقال: إنه ولد في مكة ويقال: إنه ولد في السراة، وربما رجح القول الأخير؛ لأن السراة أقرب إلى اليمن والحبشة، ولأن بلالا رضي الله عنه رجع إليها حين فكر في الزواج.
وأرجح الأقوال في سنة مولده أنه ولد قبل الهجرة بنحو ثلاث وأربعين سنة، ثم تختلف الأقوال حتى يبلغ التفاوت بينها زهاء عشر سنين.
وأبوه وأمه معروفان: أبوه يدعى رباحا وأمه تدعى حمامة، وكان ينبز بابن السوداء إذا غضب منه غاضب، ولعل أمه كانت من إماء السراة أو إماء مكة، إذا صح أنه لم يولد بالسراة.
ويحسب بعض الإفرنج الذين كتبوا عنه أنه تلقى من أمه كلمات التوحيد، كما كان يفهمه المتدينون والمتدينات بالمسيحية من أبناء الحبشة، وأنه من ثم أسرع إلى تلبية الدعوة المحمدية حين جهر النبي عليه السلام برسالة التوحيد، وهو حسبان جائز ولكنه بعيد؛ لأن الأحباش في ذلك الزمن إنما كانوا يفهمون المسيحية على نحو أقرب إلى الوثنية، ولا يرحبون برسالة التوحيد المحمدية ذلك الترحيب.
ويذكر لبلال أخ يسمى خالدا ويكنى بأبي رويحة، والأغلب في الروايات المختلفة أنه كان أخاه في الإسلام على سنة المؤاخاة بين الصحابة التي سنها عليه السلام، وقيل: إن له أختا تسمى غفرة هي مولاة عمر بن عبد الله مولى غفرة المحدث المصري، ولا خبر عنها غير ذلك فيما روي من أخباره.
وكانت نشأة بلال بمكة في بني جمح من بطون قريش المشهورة.
وفي بني جمح هؤلاء نشأ أبو محذورة أحد الثلاثة المختارين من مؤذني النبي عليه السلام، وهم بلال وأبو محذورة وعمرو ابن أم كلثوم ... ولا يدرى أمن محض المصادفة أن كانت نشأة اثنين من الثلاثة في بني جمح، أم كان لهؤلاء القوم بعض عناية بالصوت والغناء. وإنما المعروف عن القوم أنهم كانوا أصحاب الأزلام والأيسار في الجاهلية وأنهم كانوا من حزب عبد الدار حين شجر الخلف بينه وبين عبد مناف، فكان بينهم وبين بني عبد مناف خلاف قديم.
وإذا كان لنشأة بلال بين هؤلاء القوم أثر مقدور في بغضه لعبادة الجاهلية وإقباله على الإسلام فذلك هو اطلاعه بين القوم على أسرار الأزلام والأيسار وما يلزمها أحيانا من الغش والتلبيس، وأن القوم فيهم مجافاة عن الرحمة والنزعة الروحية باعدت بينهم وبين خلائق عبد مناف - جد النبي عليه السلام - منذ القطيعة الأولى بين الأحزاب القرشية، وخليق بأمثال هؤلاء ألا يألفهم الضعفاء.
ولم يعلم على التحقيق من كانوا سادة بلال وأبيه من بني جمح هؤلاء. فقيل إنه كان عند عقيلة من عقائلهم، وقيل إنه كان عند أيتام لأبي جهل، وقيل إنه كان عند أمية بن خلف وبعض ولده، واتفقت الأقوال على أن الصديق رضي الله عنه هو الذي استنقذه من أيديهم بعد ما عاينه من تعذيبهم إياه لدخوله في الإسلام. فاشتراه بخمس أواق من الذهب وقيل بسبع أواق وقيل بتسع أواق. وزعموا أن سيده أراد أن ينغص الصفقة على الصديق بعد شرائه فقال له: لو أبيت إلا أوقية لبعناك! فقال له الصديق: لو أبيتم إلا مائة لاشتريته ...! ويزعم بعض الرواة أن الصديق استبدله بغلام له جلد من عبيده، وهي رواية يشك فيها كثيرا؛ لأن الصديق لم يكن ليسلم المشركين رجلا من أتباعه ليستنقذ به رجلا غيره، وأدنى من ذلك وأشبه بخلائق الصديق رضي الله عنه أنه اشتراه بأمر النبي عليه السلام، وأنه عليه السلام عرض عليه الشركة فيه ليخفف عنه عبء نفقته ونفقة المستضعفين من أمثاله، فقال له: لقد أعتقته يا رسول الله. وعمل بعد ذلك خازنا له ثم خازنا للنبي ومؤذنا للمسلمين بعد إقامة الأذان.
واستراح بلال بعد عتقه من إيذاء السادة للعبيد ولكنه لم يسترح ولا استراح غيره من إيذاء الأحرار للأحرار ولا سيما المستضعفين الذين لا تحميهم العصبية ولا الخوف من الثأر. فقد كان المشركون يتعقبون المسلمين بكل ما استطاعوا من عنت ومساءة، واشتدوا في ذلك حتى هموا بقتل النبي عليه السلام، وجمعوا كلمة القبائل على هذه النية ليفرقوا دمه الزكي بينها فلا تقوى هاشم وحدها على محاربتها أو تصمد لعداوتها. فأشفق النبي الكريم على صحبه وأذن لهم في الهجرة قبله، وكان بلال ممن هاجر إلى المدينة على إيثار منه للبقاء في مكة. فلما وصل النبي عليه السلام وصاحبه الصديق إلى المدينة كانت «أوبأ أرض الله من الحمى» ولكنها أرحم بهم من جيرة المشركين في مكة. ونزل الصديق وعامر بن فهيرة وبلال في بيت واحد فأصيبوا جميعا بالحمى - ولعلها الملاريا كما رجحنا في غير هذا الكتاب - فكان بلال إذا تركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته يترنم بصوته الجهوري قائلا:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بفخ وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة
وهل يبدون لي شامة وطفيل
وهي مواضع ومنابت بمكة وجوارها تشوقها بلال في العلة لما ابتعد عنها، وليس أعجب في الوفاء لموطن الصبا من هذا الوفاء؛ لأن بلالا قد لقي عند تلك المواطن والمنابت قسوة في جاهليته وتعذيبا في إسلامه وخطرا على حياته، ولكنه عاش فيها مع الصبا الأول وعاش فيها مع الإيمان الأول، فهي حبيبة إليه أثيرة لديه، وإن لقي الحفاوة والسلامة في الهجرة منها إلى غيرها.
وقد لزم بلال النبي والصديق بالمدينة ومكة وسائر المغازي والأسفار بعد ذلك. وكان لمسجد المدينة الذي اشترك النبي عليه السلام في بنائه حظ الأذان الأول، فكان لبلال حظ السبق بهذا الأذان. ولم يزل له حظ التقدم على سائر المؤذنين في حضرة النبي حتى قبض عليه السلام، وميز بالتقدم عليهم لتقدمه في الإسلام ولجهارة صوته وحسن أدائه، وإن كان تقدمه في الإسلام هو أرجح المزيتين التي استحق بها التفضيل والتكريم.
كان إذا فرغ من الأذان وأراد أن يعلم النبي عليه السلام أنه قد أذن وقف على الباب وقال: حي على الصلاة! حي على الفلاح! الصلاة يا رسول الله. فإذا خرج رسول الله فرآه بلال ابتدأ في الإقامة.
وقيل في خصائص أذانه: إنه كان يؤذن حين تدحض الشمس ويؤخر الإقامة قليلا. أو ربما أخرها قليلا، ولكن لا يخرج في الأذان عن الوقت. وربما ترنم ببعض الشعر وهو صاعد للأذان رثاء لحاله وطلبا للتوبة والرحمة من الله. ومن ذاك أنه سمع وهو يقول:
ما لبلال ثكلته أمه
وابتل من نضح دم جبينه
وكان من عمل بلال في صحبة النبي عليه السلام قبل بناء المصلى أنه كان يحمل العنزة بين يديه ويركزها حيث تقام الصلاة، وكانت هذه العنزة إحدى عنزات ثلاث أهداها نجاشي الحبشة إلى النبي عليه السلام، فأمسك واحدة لنفسه وأعطى كلا من علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب واحدة، واختص بلالا بحمل العنزة بين يديه أيام حياته، فكان يحملها في العيدين وفي أيام الاستسقاء ويركزها حيث تقام الصلاة، وقيل: إنه كان يمشي بها بين يدي الصديق في خلافته، ثم جعل سعد القرظ يمشي بها بين يدي عمر وعثمان بوصاة من بلال، وهي العنزة التي احتفظ بها الولاة يمشى بها بين أيديهم بعد عهد الخلفاء.
وقد آخى النبي في المدينة بين المهاجرين والأنصار، فآخى بين بلال وخالد أبي رويحة الخثعمي، وقيل بل بينه وبين أبي عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، أو بين أبي عبيدة بن الجراح، وهو على ما يظهر لبس في الأسماء، والأول هو الأرجح لبقاء الصلة بين بلال وأبي رويحة إلى أن فرقت بينهما الوفاة.
ويبدو من أحاديث النبي عليه السلام لبلال أنه كان يصطفيه؛ لأنه أهل لاصطفاء التربية والتعهد بالنصيحة والتعليم، فكان يقول له: يا بلال! أفضل عمل المؤمن الجهاد في سبيل الله، وكان يقول له: عش فقيرا يا بلال ومت مع الفقراء، وربما عهد إليه في تفريق ما يفضل من المال عنده وقال له: انظر حتى تريحني منه. فيرى بلال القدوة في سيده ونبيه فإذا هو من خيرة المقتدين، ويظل على هذه القدوة حتى فارق الحياة.
وقد أري النبي عليه السلام أنه سمع دف نعلي بلال بين يديه في الجنة، فسأله بعد الصلاة: يا بلال! حدثني بأرجى عمل عملته عندك في الإسلام منفعة، فإني سمعت الليلة دف نعليك بين يدي في الجنة ... فلم يذكر بلال زهده ولا جهاده ولا صبره على العذاب ولا أمانته وتسليمه. بل قال: «ما عملت عملا في الإسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهورا تاما في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي.»
فكان اصطفاء النبي هذا الصديق المؤمن الأمين اصطفاء المربي الكبير للرجل تثمر فيه التربية والقدوة الحسنة كما يثمر فيه الصنيع الجميل، ويحب للطف محضره كما يحب لخلوص طويته وفضائل نفسه، وقد كان كالحارس الملازم لشخص النبي عليه السلام في طويل صحبته بين الحرب والسلم والإقامة والسفر، ولكنه عليه السلام لم يكن يتخذه حارسا يحميه كما يحمي الحراس الأمراء والسلاطين، وإنما كان يستصحبه في إقامته وسفره استصحاب الحراس لأنه كان يستريح إلى رؤيته والشعور بصدق مودته ووفائه، وكانت مودة بلال لمولاه وهاديه تبدو منه حيث يريد وحيث لا يريد، فإذا اشتد الهجير في رحلة من الرحلات أسرع إلى تظليله بثياب الوشي والنبي لا يسأله ذلك، وإذا تهيئوا للقتال ضرب له قبة من أدم يرقب الموقعة منها، وجعل يتردد بينها وبين الميدان ليطمئن عليه ويتلقى الأمر منه، فلم يفرقهما موقف ضنك ولا موقف خطر، ولم ينقض يوم إلا جمعتهما فيه الصلوات الخمس ومجالس العظة والحديث، ما لم يكن في غيبة قصيرة لشأن من شئون الدين الذي لم يكن له شأن سواه.
ولما فتحت مكة أمره النبي عليه السلام أن يقيم الأذان على ظهر الكعبة فأقامه والمشركون وجوم يغبطون آباءهم لأنهم لم يشهدوا ذلك اليوم ولم يسمعوا ما سمعوه فيه، ودخل النبي الكعبة، فكان في صحبته ثلاثة هم عثمان بن طلحة صاحب مفاتيحها وأسامة بن زيد ابن النبي بالتبني، وبلال.
وما زال يصحب النبي مجاهدا حتى قبض عليه السلام، فأقام الأذان بعد وفاته أياما على أرجح الأقوال ثم أبى أن يؤذن وأصر على الإباء، لأنه كان إذا قال في الأذان «أشهد أن محمدا رسول الله» بكى وبكى معه سامعوه، فلم يطب له المقام حيث كان يصحب النبي ويراه ثم هو بعد لا يصحبه ولا يراه، وآثر الاغتراب على فرط حبه لمكة والمدينة، وآثر الجهاد على فرط حاجته إلى الراحة في غرة الستين، واتفقت أرجح الأقوال على أنه استعفى الصديق من الأذان معه واستأذنه في الخروج إلى الشام مع المجاهدين. فأذن له بعد إلحاح منه، واشترك في معارك لا نعلمها على التفصيل، ثم سكن إلى ضيعة صغيرة بجوار دمشق يزرعها ويعيش من غلتها، ولم يسمع عنه خبر بعد ذلك إلا يوم أذن للخليفة الفاروق بدعوة من كبار الصحابة والتابعين، ويوم تصدى لمحاسبة خالد في مجلس الحكم بين يدي أبي عبيدة.
وأدركته الوفاة في نحو السبعين - لأنه كان ترب الصديق على أرجح الأقوال - وقيل: إنه مات في طاعون عمواس، وقيل سنة عشرين للهجرة أو إحدى وعشرين. واستعذب الموت؛ لأنه سيجمع بينه وبين النبي وصحبه كما كان يقول في ساعات الاحتضار، فكانت زوجته تعول إلى جانبه وتصيح صيحة الوله: واحزناه! فيجيبها في كل مرة: بل وافرحاه! غدا نلقى الأحبة؛ محمدا وصحبه.
وكانت وفاته بدمشق فدفن عند الباب الصغير، وقبره رضي الله عنه معروف يزار.
وليس أدل على قدر بلال عند الصحابة والتابعين من ذلك الوجد الذي اختلجت به حناياهم وهو يؤذن لهم في دمشق بعد انقطاعه عن الأذان تلك السنين الطوال. بكى عمر وبكى معه الشيوخ الأجلاء حتى اخضلت اللحى البيض واضطربت الأنفاس التي لا تضطرب في مقام الروع. ولو بدا لهم أنهم يستمعون إلى صوت آدمي ينطلق من حنجرة من اللحم والدم لما اختلجوا تلك الخلجة ولا تولاهم ما تولاهم يومئذ من الوجد والرهبة، ولكنهم أنصتوا لوحي الغيب حين أصغوا إليه، وقام في أفئدتهم أنه صوت جدير بمحضر النبي عليه السلام يسمعه معهم كما سمعوه معه آونة من الزمان. فهم إذن في عليين أو أقرب من عليين، وهم إذن على مسمع ومشهد من ذات الله جل وعلا وذات النبي عليه السلام في جواره، وهم إذن أرواح علوية يضيق اللحم والدم بفيضها الإلهي فترجف من الوجد وتنكسر الأجساد بالبكاء مغلوبة في عالم الأرواح وآفاق السماء.
رحم الله بلالا ... إنه كان داعي السماء ليرفع أبناء الأرض بدعوتها. وقد رفعتهم في ذلك اليوم إلى الأفق الأعلى؛ إلى الحضرة التي ترتجف فيها الأجساد لأنها غريبة في ذلك الجوار. •••
وحق للمسلمين في ذلك العهد أن يقرنوا بين محضر النبي وصوت بلال حيث كان. فمن سيرة بلال الوجيزة نعلم أنه كان يأوي إلى كفالة النبي في حياته البيتية كما كان يأوي إليه في حياته الدينية. وأن أحدا من الصحابة لم يكن يذكرهم بالنبي عليه السلام كما كان يذكرهم به مؤذنه وصاحبه ووليه طوال حياته حيث يرونه أو حيث يستمعون إليه، وقد شغل النبي بمعيشته في بيته كما شغل بعتقه ورزقه وتقويم دينه، ففي روايات مختلفة أنه تزوج بوصية منه عليه السلام، وفي إحدى هذه الروايات:
إن بني أبي البكير جاءوا إلى رسول الله عليه السلام فقالوا: زوج أختنا فلانا، فقال لهم: «أين أنتم عن بلال؟» ثم جاءوا مرة أخرى فقالوا: يا رسول الله، أنكح أختنا فلانا، فقال لهم: «أين أنتم عن بلال؟» ثم جاءوا الثالثة فقال لهم: «أين أنتم عن بلال؟ أين أنتم عنه؟ رجل من أهل الجنة فأنكحوه.»
والظاهر أنه تزوج غير مرة وأنه مات بغير عقب، فقد جاء في رواية قتادة أنه تزوج أعرابية من بني زهرة، وجاء في رواية أخرى أن له زوجة تدعى هندا الخولانية، وهي من خولان اليمن لا من خولان الشام؛ لأنها كانت معه قبل هجرته إلى الشام.
ذكره ابن إسحاق فيمن حضر بدرا فقال: وبلال مولى أبي بكر. مولد من مولدي بني جمح اشتراه أبو بكر من أمية بن خلف وهو بلال بن رباح لا عقب له.
نعم ولكنه أعقب الميراث الذي يتصل بالأذان في كل مكان ... فلا ينساه من يسمع الأذان ويرجع به إلى أول من نادى به قبل أجيال وأجيال.
إسلام بلال
كل إيمان فهو شيء يتجاوز الفرد الواحد ولا ينحصر في مصلحته العاجلة أو الآجلة.
فليس بإيمان ذلك الذي يخص فردا واحدا ولا يتجاوزه إلى غيره في زمنه أو بعد زمنه، وليس بإيمان ذلك الذي يدور على المصلحة الفردية وإن تعدد فيه الأفراد؛ لأن الإنسان قد يضحي بالمصلحة في سبيل الإيمان، ولا يفعل ذلك وهو يحسب حساب المصالح ولا يتجاوزها.
وقد يضحي الإنسان أحيانا بالإيمان في سبيل المصلحة العاجلة أو الآجلة، ولكن ذلك لا ينفي أن الإيمان شيء أكبر من المصلحة عاجلها وآجلها، وإنما يدل في هذه الحالة على أن ذلك الإنسان يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وأنه ضعيف اليقين ضعيف الاستعداد للإيمان.
فالإيمان لا يقوم على أساس المصلحة العاجلة أو الآجلة.
ويكفي أن يضحي الناس بمصالحهم في سبيل إيمانهم - ولو في بعض الأحيان - لتقرير هذه الحقيقة من وراء الجدل والخلاف.
لأننا نفهم أن ينسى الرجل إيمانه في سبيل مصلحته فنقول: إن المصلحة عزيزة عليه وإن الإيمان ضعيف في نفسه.
ولكننا لا نفهم أن ينسى الرجل مصلحته في سبيل إيمانه إلا على وجه واحد، وهو أن الإيمان والمصلحة معدنان مختلفان، وأن المصلحة عزت أو هانت هي شيء غير الإيمان.
ولا يقال إن مصلحة الآخرة تدخل في حساب الرجل فينسى من أجلها مصالحه الدنيوية. فإن تصديقه بمصلحة الآخرة هو نفسه إيمان بالغيب، وهو سابق لحصول المصلحة على كل حال.
ومع هذا وجد في زماننا هذا أناس - كأتباع كارل ماركس - يؤمنون بالمادة وينكرون كل شيء غير هذه الدنيا المحسوسة، ويقولون إن الأديان والمذاهب والآداب وكل ما يحيك بضمير الإنسان إن هي إلا صورة من حياته المادية التي لا بعث بعدها ولا محل للروح فيها، ومنهم مع ذلك من يدخل السجن ويتعرض للنفي ويجازف بالحياة ويفقدها في سبيل إيمانه بمعتقده وإنكاره لمعتقد الآخرين ... وليس بالمعقول أن يفقد الإنسان الحياة لأنه يطمح إلى الطعام الهنيء والعيش الرغيد، وليس بالمعقول من باب أولى أن يفقد الحياة ليأتي بعده من ينعم بالطعام الهنيء والعيش الرغيد وهو تحت التراب. فإذا هو أقدم على فقد الحياة فالمسألة عنده ليست مسألة حساب وموازنة أو مسألة مصلحة كبيرة بإزاء مصلحة صغيرة، ولكنه إنما يفعل ذلك لأنه بإزاء قوة تمضي به حيث شاءت ولا يمضي بها حيث شاء، أو لأنه في حالة نفسية غير حالة الحساب والموازنة ووضع الأرقام بإزاء الأرقام .
وقد شوهدت في الدنيا عبادات كثيرة وعقائد لا تحصى، ولكن لم تشاهد قط عقيدة تقبل التضحية بالحياة وهي خلو من إيمان بحق وثورة على باطل، ولم تشاهد قط عقيدة تقبل التضحية بالحياة وهي قائمة على منفعة تخص صاحبها ولا تتجاوزه إلى الآخرين. ومتى تجاوزت المنفعة فردا واحدا وأصبحت قابلة للتعميم بين الأفراد الآخرين؛ فهي إذن مسألة حق سابق لوجود المنافع وسابق لوجود الأفراد.
فالإيمان أبدا هو شعور بالحق وليس شعورا بالمصلحة على وجه من الوجوه.
وقد تقف المصلحة في سبيل العقيدة قبل الإيمان بها؛ لأن المصلحة موجودة والإيمان غير موجود. ولكنهما متى وجدتا معا فهما شيئان وليسا بشيء واحد. ويظلان أبدا شيئين من معدنين مختلفين وإن تلاقيا في الطريق إلى مدى بعيد.
وإن إسلام بلال رضي الله عنه لمن الشواهد الكثيرة التي تقرر هذه الحقيقة في الأذهان.
وقد عنينا بأن نبين مزايا الإسلام في معاملة الأرقاء. ولكننا عنينا مع ذلك بأن نبين حقيقة أخرى لا بد من تبيينها في هذا المقام، وهي أن المعاملة نفسها ليست هي سبب دخول الأرقاء في الإسلام، وإنما هو «الحق» والشعور بجمال هذا الحق أو وجوب تغليبه على الباطل، ولو لقي الأرقاء في سبيله ما هو أقسى عليهم من معاملة المشركين للعبيد والإماء.
كان أول من أسلم ثمانية هم أولئك النخبة الأبرار: خديجة وأبو بكر وعلي وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد.
قال رواة صدر الإسلام: أما أبو بكر فمنعه الله بقوته وكذلك من كان لهم قوم يحمونهم. وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد وأصهروهم في الشمس، فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم على ما أرادوا من الكفر وسب النبي عليه السلام، إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله وهانت على قومه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد. أحد. ولا يزيد.
وجاء في طبقات ابن سعد بإسناده ما فحواه: إنه كان من المستضعفين من المؤمنين، وكان يعذب حين أسلم ليرجع عن دينه فما أعطاهم قط كلمة مما يريدون ، وكان الذي يعذبه أمية بن خلف ...
وكانوا إذا اشتدوا عليه في العذاب قال: أحد. أحد. فيقولون له قل كما نقول. فيقول: إن لساني لا يحسنه. وكانوا يأخذونه فيمطونه ويلقون عليه من البطحاء وأنطاع الأدم ويريدونه على أن يذكر اللات والعزى فلا يذكرهما ويقول: أحد. أحد. فأتى عليه أبو بكر فسألهم علام تعذبون هذا الإنسان! واشتراه بسبع أواق وأعتقه.
ومما جاء في الطبقات أن أبا جهل جاءهم بالعشي فجعل يشتم سمية ويرفث، ثم طعنها فقتلها فهي أول شهيد في الإسلام. وهانت على بلال نفسه في الله حتى ملوه، فجعلوا في عنقه حبلا ثم أمروا صبيانهم أن يشدوه بين أخشبي مكة فلم يزدهم على كلمته التي كان يرددها ولا يمل من تردادها: أحد. أحد.
وكانوا يضربونه ويلقونه على الرمال الكاوية في وقدة الهجير ثم يضعون الحجارة على صدره وهو لا يجيبهم إلى كلمة مما يسألونه، ولا يسكت ولا يكف عن الجهر بالتوحيد. •••
هذه صورة بلال رضي الله عنه في مبدأ إسلامه وهو يتلقى العذاب ويتعرض للموت ولا يصل به الإسلام إلى الوعود - فضلا عن تحقيق الوعود - في معاملة المستضعفين من العبيد والإماء؛ لأن أحكام الإسلام في معاملة الأسرى والأرقاء على التعميم لم تكن معروفة مفصلة في ذلك الحين.
وإن آخر ظن يخطر على بال المرء إذ يرى بلالا على تلك الصورة المؤلمة، أنه يرى أمامه رجلا وازن بين سوء المعاملة في الجاهلية وحسن المعاملة في الإسلام، فاختار المعاملة الحسنة ودخل في الدين الجديد من أجلها.
لأن إسلام بلال لم يكن مخرجه من رق سادته المشركين، ولم يكن سوء معاملتهم إياه قبل الإسلام شيئا يذكر إلى جانب ذلك العذاب الأليم الذي كان يسامه بعد إسلامه، ولو كان حسن المعاملة همه من الدين الجديد لانتظر حتى يسلم سادته فيطمع عندهم في تلك المعاملة الحسنة، أو لانتظر حتى يمتنع جانب المسلمين بالعدد الكثير فيجهر بالإسلام بين مئات وألوف، ولا يعجل إلى دخول الدين الجديد بين نفر من المغلوبين المطاردين، سواء من الأحرار أو العبيد.
وأعجب شيء أن يخطر للعقل أن الإسلام قد سوى بين العبيد والأحرار فآمن به العبيد، ولا يخطر له أن هذه التسوية تغضب الأحرار فتحميهم الأنفة أن يدخلوه، وقد دخله الأحرار كما دخله العبيد في مبدأ التبشير بالدين الجديد.
فإن كانت لبلال وصهيب وأمثالهما مصلحة في الإيمان بذلك الدين؛ لأنه يسوي بينهم وبين أبي بكر وحمزة وعثمان وعلي والفاروق، فما مصلحة هؤلاء في النزول بأقدارهم إلى حيث يتساوون بعبيدهم المستضعفين؟ وهم أولئك ذوو الحمية التي تشمخ برءوسهم على رءوس الأحرار من أبناء كل قبيل لا يضارعهم في العزة والجاه!
فعن الحق وسكينته في النفوس فلنبحث في تعليل الإيمان بكل عقيدة جديدة وكل مصلحة إنسانية فوق مصالح الأفراد، وإنما يوجد الإيمان حين يوجد للنفس حق محبوب وباطل مكروه، ولو ضاعت في سبيل حب الحق وكراهة الباطل كل مصلحة عاجلة أو آجلة أو ضاعت الحياة بغير أمل في الجزاء.
فلا العبيد آمنوا لأن الإسلام يسوي بينهم وبين الأحرار، ولا الأحرار آمنوا لأن الإسلام يسوي بينهم وبين العبيد؛ لأن قصارى هذه التسوية أنها مصلحة لفريق من الناس، وما زال الإيمان والمصلحة شيئين مختلفين ومعدنين متباينين. فالمصلحة شيء تحتويه حياة الفرد وقد تحتويه حصة قليلة من حياته، أما الإيمان فهو أبدا شيء يتجاوز الفرد الواحد، وقد يبذل في سبيله المصلحة والحياة.
أولم يوجد في الوثنية وفي بعض الأديان الكتابية أناس يؤمنون بالأرباب، وهم يؤمنون أن الأرباب تفرق بين أقدارهم وأقدار سادتهم في الحياة وبعد الممات؟
أولم يكن بلال يؤمن باللات والعزى وغيرها من أرباب الجاهلية وكان لا يرجو نصفة منها ولا تسوية بينه وبين ساداته المتجبرين عليه وعلى سائر الضعفاء؟
فلما ساء ظنه بهذه الأشتات من الأرباب كان حسن ظنه بالإله «الأحد» هو الذي سوأ ظنه بدين الجاهلية، وكانت وحدانية الله العلي الأعلى هي التي تجري على لسانه وتعمر قلبه وتعينه على شدته وهو يتلظى من ألم العذاب بين يدي سادته القساة.
فكانت الوحدانية هي الكلمة الواحدة التي لخص بها فضل الدين الجديد على الدين المهجور ، وقد ألهم هذا التلخيص الصادق الوجيز إلهام الإيمان الذي يهدي العقل إلى موقع الهدى من أوجز طريق، فلو أنه كان يقول «الرحيم» في موضع «الأحد» لجاز أن يقال: إن في الآلهة الوثنية من يتصف بالرحمة، أو لجاز أن يقال إن الرحمة بدرت إليه في تلك اللحظة لأنه يشتكي القسوة والعذاب. ولكنه لما ردد كلمة الوحدانية ولم يردد غيرها كان قد هدي إلى الصفة الوحيدة التي لا يدعيها المدعون لأرباب الجاهلية، كما هدي إلى الصفة الوحيدة التي تجعل الإيمان إيمانا بالحق ولا تجعله انتظارا لرحمة أو غفران أو جزاء.
ولا نريد أن نقول: إن الإيمان والمصلحة لا يجتمعان، ولا أن نقول: إن المؤمن لا تخطر له المصلحة بحال أو إنها لا شأن لها البتة في تحويل العقائد والعبادات. فإن المصلحة قد تعوق كثيرا من الناس عن قبول دين جديد، وقد تنبه الأذهان إلى الإصغاء الذي يتبعه الارتياح والتصديق، وقد تكون مصلحة فرد ومصلحة ألوف من الناس، فيستطاع الجمع بينها وبين الإيمان بالخير العميم.
ولكن الذي نقوله: إن المصلحة غير الإيمان وإنهما قد يفترقان كما يتفقان، ولو كانت المصلحة هي الإيمان لوجدت المصلحة ولم تكن هناك حاجة إلى وجود إيمان على الإطلاق ... كفى أن يسعى الإنسان إلى مصلحته دون أن يجعل الإيمان سبيلا إليها، وكفى أن يلتزم المصلحة ولا يتعداها إلى الشعور الذي يحبب إليه الموت. فأما وقد وجد الإيمان في كل زمن من الأزمان، ووجد مع انتظار الجزاء ومع اليأس من كل جزاء، فلا معنى لأن يقال: إن فردا من الأفراد قد آمن لأن له مصلحة في إيمانه، فإنه يضم إلى المصلحة شيئا آخر إذن حين يدعمها بالإيمان.
كلا. ليست صورة بلال على رمال البطحاء الموقدة في قيظ الصحراء صورة الرجل الذي طلب الخلاص من قسوة السادة. لأن الخلاص هو كل ما يعنيه.
وليست صورته وهو يكرر «أحد. أحد» بصورة الرجل الذي دخل الدين الجديد وهو يجهل الفارق الصحيح بين الدينين. ولا يعرف للدين الجديد فضلا إلا الرحمة بالعبيد في الأرض أو في السماء.
لقد كادوا يقتلونه وهو لا يجيبهم إلى تعظيم آلهتهم ولا يؤثر السكوت. ولعلهم لم يبقوا عليه إلا لشحهم بثمنه أن يضيع عليهم إن قتلوه. ولعل أبا جهل قد قتل سمية؛ لأنها جارية عجوز لا تصلح للبيع ولا للمبادلة. ولم يقتل بلالا ولا عمارا ولا صهيبا لأنهم رجال عاملون يباعون ويشترون ... ولكنهم لا شك كانوا قاتليه آخر الأمر إن يئسوا منه ولم يجدوا من المشركين من يشتريه وهو صابئ عن دين الجاهلية، فلم يكن إسلامه سبيل رفق ولا تخفيفا من عناء. بل كان سبيل عذاب ومخاطرة بالراحة والحياة.
وأي عذاب ذلك العذاب؟
حسبنا أن نعلم أن رفقاء بلال جميعا قبلوا ما سامهم المشركون أن ينسبوا به - ومنهم عمار بن ياسر - لنعلم أنه كان عذابا يفوق طاقة الإنسان.
إن عمارا لم يكن يهاب الموت في هرمه، ولكنه ضاق - في صباه - بذلك العذاب الأليم.
كان يجاهد مع علي رضي الله عنه وقد أناف على التسعين، وقد شهد المغازي في عهد النبي وعهود الخلفاء، وكان عليه السلام يقول: «إن عمارا ملئ إيمانا إلى مشاشه.» ويجعله قدوة للمسلمين في الهداية، فيوصيهم أن يقتدوا بأبي بكر وعمر وأن يهتدوا بهدي عمار. وهو أيضا لم يجذبه إلى الإيمان طلب راحة وطمع في حسن معاملة؛ لأنه كان يرى طريق الراحة والغنيمة مع معاوية وينضوي إلى جانب علي ليموت تحت لوائه في صفين، وما كان علي لو انتصر بمغدق عليه مالا، ولا بمطمعه في عيش أرغد من عيشه، وهو عيش الكفاف.
وقد كان عمار رضي الله عنه ممن يصدق عليهم القول بأنه قد وهب عبقرية الإيمان. لأن إيمانه كان ذلك الإيمان الخالص الذي يوصف بأنه الإيمان حبا للإيمان. لا حبا بما وراءه من رضى أو جزاء. وآية المؤمن الموهوب أنه لا يرضى العيش بغير العقيدة ولا يطيب له البقاء وهو مخالف لما يعتقد. فيقبل على الموت كراهة للبقاء في دنيا لا تواتيه على اعتقاده. وليس يقبل على الموت طلبا للجنة كما يقول، فإن من المؤمنين بالعقائد المادية كما أسلفنا من يموت في سبيلها ولا أمل له في حياة بعد الحياة، وإن الجنة لحبيبة إلى كل إنسان يصدق بها. فليس الفرق بين رجل يجاهد ورجل لا يجاهد أن هذا يكره الجنة التي يحبها ذاك، وإنما الفرق بينهما هو قوة الإيمان أو هبة العقيدة، وهي قد كانت في عمار على أقوى ما تكون في إنسان.
ومع هذا خف الموت على نفس عمار فسعى إلى لقائه عشرات المرات منذ غزا مع النبي إلى أن نيف على التسعين ومات تحت لواء علي بمعركة صفين، ولكنه ثقل عليه ذلك العذاب الأليم الذي صبر عليه «بلال» وظل صابرا عليه بغير أمل في الخلاص القريب.
وكل طمع في حسن المعاملة يزول ويبطل في مثل ذلك العذاب الذي ضاقت به طاقة عمار.
نعم يزول ويبطل لولا إيمان يهون معه الموت ويهون معه العذاب، ويهون معه سوء المعاملة وحسنها على السواء.
نعم إن العبيد كانوا أسرع من الأحرار إلى دخول الدين الجديد، ولكن الذي يفهم من ذلك - أو ينبغي أن يفهم منه - أن المصلحة لم تكن عقبة بين العبيد وبين الإصغاء إلى الدعوة الجديدة، وأن الأحرار كانت لهم مصالح تحجبهم عن جمال تلك الدعوة وعن التأمل في صدقها وبطلان ما هم عليه، وفرق عظيم بين القول بأن المصلحة لم تكن عائقا عن فهم الدين والدخول فيه، وبين القول بأن الدين هو المصلحة التي أرادها المؤمنون، إذ لو كانت المصلحة هي المراد بالعقيدة لما وجدت العقيدة على الإطلاق، ولو وجدت المصالح كما هي موجودة في الدنيا بغير اعتقاد على الإطلاق في شيء من الأشياء.
لقد كانت في نفس بلال حاجة إلى الولاء والإخلاص، فصدق النبي الكريم؛ لأنه كان أهلا لولائه وإخلاصه، وكان خليقا أن يطمئن إليه ويشعر بالسكينة في الإصغاء إلى قوله والاقتداء بعمله.
وسمع رجلا ينادي بأن الناس أمة واحدة وأن المؤمنين إخوة، وهو في الذؤابة العليا من بني هاشم أو في الذؤابة العليا من قبائل العرب جمعاء، فكان هذا سبب التصديق والإيمان، وكانت دعوة الرجل الحسيب النسيب التي لا مصلحة له فيها هي البرهان الأول على صدق العقيدة. ولولا انعدام المصلحة في دعوة ذلك الرجل الحسيب النسيب لما أسرع بلال إلى تصديقه والجنوح إليه.
فأما وقد جنح إليه وآمن بدعوته فالمسألة بعد ذلك لن تكون مسألة موازنة بين المعاملات أو مساومة على الزيادة والنقصان، ولكنها أصبحت مسألة راحة بالإيمان أو راحة بغير الإيمان، ولم تكن لبلال راحة بغير ذلك الإيمان بعد أن جنح إليه ومزجه بقلبه وضميره. فصبر في أيام معدودات على عذاب لم يكن ليلقاه من المشركين مدى العمر لو بقي على دينهم كما كان ... وقد صبر على بلاء الجسد؛ لأنه مستريح القلب والضمير.
على أن المعاملة الحسنة قد جاءت إلى بلال من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب كأحسن ما تصبو إليه الأحلام ويتعلق به الرجاء.
فبلغ من تعظيمه أنه كان ندا لأعظم المسلمين في حياة النبي عليه السلام وحياة الصديق والفاروق، بل كان الفاروق رضي الله عنه يقول: «أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا.» ويقصده بهذا اللقب الرفيع، واتفق يوما أن أبا سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو بن الحارث ورهطا من سادة العرب طلبوا لقاء الفاروق وطلبه معهم بلال وصهيب. فأذن لهما حتى يستمع لما يريدان ويفرغ بعدهما لعلية القوم. وغضب أبو سفيان وقال لأصحابه: لم أر كاليوم قط، يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه؟ وكان سهيل أحكم منه وأدنى إلى الإنصاف فقال لهم: «أيها القوم! إني والله أرى الذي في وجوهكم. إن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم. دعي القوم - إلى الإسلام - ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم. فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركتم!» •••
جمال هذا الأدب هو الذي يهون في سبيله الموت وسوء المعاملة والعذاب الأليم، وهو الذي يوحي العقيدة إلى النفس فترتفع بها فوق المصالح والمساومات. ولقد كان هذا أدب النبي فأحبه الأحرار وأصغوا إليه وصدقوه ... ولقد تمت أداة العقيدة حين تم الحب والإصغاء والتصديق. فما يزال بنو الإنسان على هذا الشأن إلى آخر الزمان: ليس بينهم وبين الفداء إلا قضية يحبونها وداع يصدقونه. وما يكونون يوما أحوج إلى الإيمان منهم يوم تعز عليهم القضية التي تحب والداعي الذي يصدق. فإذا بلغت بهم هذه الحاجة مداها فليس أمامهم محيص من إحدى غايات ثلاث: فناء، أو حياة كحياة الحيوان، أو إيمان يوجد حيث كان.
صفات بلال
كان بلال رجلا على سواء الفطرة.
وآية ذلك أنه كان كما ينبغي أن يكون كل رجل قوي الطبع من بني جلدته وفي مثل نشأته، يمر بالحوادث التي مر بها ويمارس التجارب التي مارسها.
وقد تقدم في صفات الموالي الأفريقيين أنهم ينقمون الإساءة على المسيء ويحفظون الحسنة لمن يحسن إليهم ويملكهم بمهابته وطيب سجاياه.
وهكذا كان بلال رضي الله عنه في مجمل صفاته: كان متصفا بأجمل صفات بني جلدته: وهي الأمانة والطاعة والولاء والصدق مع الولاء، وكانت فيه مع ذلك قسوة وعناد في موضع القسوة والعناد، ولكنه لم يكن بالمبتدئ في قسوته ولا بالمكابر في عناده. إنما كان لقسوته عذر أو سبب، وكان لعناده فضل الإصرار على الإيمان بالصواب.
قال ابن الرومي:
إذا الأرض أدت ريع ما أنت زارع
من البذر فيها فهي ناهيك من أرض
ولا عيب أن تجزي القروض بمثلها
بل العيب أن تدان دينا فلا تقضي
فالذين أساءوا إلى بلال كانوا لا يحمدون أثر الإساءة فيه، وكانوا يطلبون منه الرضا حيث أسلفوا له المساءة، فلا يجدون الرضا حيث طلبوه؛ فإذا بهم ينحلونه صفاتهم ويعيبونه بمساءتهم، وينكرون صحبته كما ينكر صحبتهم. ومن ذاك أن مشتريا أراد أن يساوم فيه سيدته «قبل أن يفوتها خيره وتحرم ثمرته» فقالت له متعجبة: وما تصنع به؟ إنه خبيث ... وإنه. وإنه إلى آخر ما وصفت به سخطه على سوء المعاملة وسوء العشرة.
ومع هذا قد أجمع الذين وصفوا بلالا على أنه كان طيب القلب صادق الإيمان، وأنه أبعد ما يكون عن خبث أو كنود، وإنما هو بشرة سوداء على طبع صاف يرى الناس وجوه أعمالهم فيه.
وقد كان أكرم صفاته الفطرية مما يوافق الطاعة وصدق الولاء، فكان إيمانه القوي بالله ، وإخلاصه المكين لرسول الله، هما الذروة التي ترتقي إليها محاسن بني جلدته، ومحاسن كل مولى مطيع، سواء أكان ولاؤه ولاء تابع لمتبوع أم ولاء معجب بمن يستحق الإعجاب.
كان حبه لرسول الله هو لب الحياة عنده، وهو معنى الدنيا والآخرة في طوية قلبه، وعاش ومات وهو لا يرجو في دنياه ولا بعد موته إلا أن يأوي إلى جواره وينعم برضاه.
وحضرته الوفاة فكانت امرأته تئن وتغلبها النكبة في قرين حياتها فتصيح: واحزناه.
وكان هو يجيبها في سكرات الموت: بل وافرحتاه! غدا نلقى الأحبة. غدا نلقى الأحبة، محمدا وصحبه.
على هذا عاش وعلى هذا مات، وما كان له علاقة تربطه بهذا الكون العظيم إلا وهي في جانب منها علاقة بمحمد رسول الله ومحمد سيده ومولاه.
وتلك الزوجة الوفية البارة كانت ترضيه في معظم حالاتها، وكانت لا تخليه من مناكفة في بعض حالاتها؛ كما يتفق أحيانا في كل عشرة بين الزوجين وفي كل صلة بين إنسانين، فكان يقبل منها كل ما يسر ويسوء إلا أن تمسه في لب اللباب وأصل الأصول ومناط الحياة والكرامة عنده: وهو إخلاصه لرسول الله وصدق الرواية عنه. فاستعظمت يوما ما يحدثها به عن رسول الله فإذا به يثور ويغضب ويهم بالبطش بها ثم يدع المنزل محنقا مقطبا حتى يلقاه الرسول، فيلمح ما به من تغير حال ويعلم سره فيشفق أن يدعه على ما هو فيه وأن يدع لزوجه مظنتها في صدقه.
ويذهب معه إلى بيته فيقول للمباركة: «ما حدثك عني بلال فقد صدق. بلال لا يكذب، فلا تغضبي بلالا.»
فإذا المولى الأمين هانئ قرير.
وقد أثر عنه هذا الصدق بين الصحابة فكانوا يشكون في أبصارهم ولا يشكون في روايته ونقله. ويروون عنه رواية اليقين في شئون الصلاة والصيام.
ففي صحراء العرب حيث يضيء النهار إلى ما بعد غروب الشمس وتشيع لمحات النور قبل مطلعها كان بعض المسلمين يترددون في مواعيد السحور والإفطار فيقولون: إنا لنرى الفجر قد طلع، أو يقولون: ما نرى الشمس ذهبت كلها بعد، فإذا سمعوا من بلال أن رسول الله أكل أو أنه ترك رسول الله يتسحر فالقول ما قال بلال، وليس للشك في ضوء النهار مكان.
وقد لزمت بلالا عادة الصدق في كل كلام يبلغه المسلمين عن النبي أو يبلغه إليهم في شأن من عامة الشئون وخاصتها، فلما رجاه أخوه في الإسلام - أبو رويحة - أن يسفر له في زواجه عند قوم من أهل اليمن لم يزد على أن قال: «أنا بلال بن رباح وهذا أخي أبو رويحة، وهو امرؤ سوء في الخلق والدين، فإن شئتم أن تزوجوه فزوجوه، وإن شئتم أن تدعوا فدعوا ...»
فزوجوه فكان حسبهم عنده أن يقبل الوساطة ولا يرده أو يموه عليهم أوصافه!
وقد كان من ولائه لأبي رويحة هذا أن ضم ديوان عطائه إليه حين خرج إلى الشام. فلما دون الفاروق دواوين الصحابة سأله: إلى من تجعل ديوانك يا بلال؟ قال: «إلى أبي رويحة لا أفارقه أبدا؛ للأخوة التي كان رسول الله عقد بينه وبيني.»
وذاك أن رسول الله قد آخى بينهما قبل الهجرة إلى المدينة كما آخى بين غيرهما من صحابته الأوفياء. فكانت أخوة العمر عنده من فضل الولاء لرسول الله. وكان أحب الناس إليه وأولاهم برعيه من أمره رسول الله أن يحبه ويرعاه. •••
وقد عرف له النبي عليه السلام هذه الخصال التي تتجمع كلها في صفة الأمانة - وهو هو قائد الرجال الخبير بمناقب النفوس - فأقامه في موضع الثقة وائتمنه على مال المسلمين وعلى طعامه ومؤنته وشخصه، واستصحبه في غزوه وحجه وحله وترحاله، وأسلمه العنزة يحملها بين يديه أيام العيد والاستسقاء، ولم يعرف أحد من الصحابة لازمه عليه السلام كما لازمه هذا المؤذن الذي يقيم معه الصلاة وهذا الأمين الذي يحفظ له المال والطعام، وهذا الرفيق الذي كان يظله بالقبة الستار من لفحات الهجير في رحلات الصيف، وربما تقدمه فركب ناقته «القصواء» التي قلما كان يركبها سواه عليه السلام، ولم يدخل الكعبة معه بعد فتح مكة غير عثمان بن طلحة صاحب مفاتيحها، وأسامة بن زيد مولاه، وبلال.
ودامت هذه الصحبة حتى قبض عليه السلام وحتى دفن في ثراه. فكان بلال هو الذي ذكر واجب الحنان المكلوم في ذلك الموقف الأليم، فحمل القربة ودار حول ذلك الثرى الشريف يبلله بالماء. •••
وعلى هذا الحنان في طويته لمولاه العظيم كان للرجل ضمير يعرف الإصرار على الرأي كأشد ما عرف مؤمن بعقيدة ونافر من رذيلة.
وربما كان في الإصرار شيء من عناد بني جلدته أبناء الحبشة المولدين وأبناء السلالة السوداء. إلا أن العناد خصلة ذات لونين أحدهما يحمد ويفيد وثانيهما يذم ويضير.
فالعناد أحد لونيه ثبات على الصواب والعقيدة. وفي لونه الآخر ثبات على الخطأ والهوى، ولم نعرف من العناد في تاريخ بلال إلا أجمل اللونين وأشبههما بقوة الآسر وخلائق الأمناء.
من ذلك عناده للمشركين حين ساموه العذاب ليفتنوه عن دينه ويكرهوه على سب نبيه كما تقدم في وصف إسلامه، ومنه إصراره على ترك الأذان لغيره حين وقر في نفسه أن أذانه بعد رسول الله نقص في الوفاء، وربما كان منه إصراره على الجهاد والسفر من المدينة إلى الشام حين سأله الخليفة البقاء، فقال له في رواية مشهورة:
إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني، وإن كنت أعتقتني لله عز وجل فذرني أذهب إلى الله عز وجل.
وأبى إلا أن يمضي حيث أراد.
ولا شك أن الرحمة بالأعداء أمر لا ينتظر من رجل طال عهده وعهد قومه وآبائه بقسوة الطغاة وعذاب اللؤماء، فإن رحمة رجل كهذا لمن أحسنوا إليه وسالموه خلق مفهوم لا غرابة فيه، أما الخلق الذي يستغرب منه حقا فهو رحمته في ميدان قتال أو رحمته خاصة لمن أفرط في الإساءة إليه.
ولهذا لا نستغرب ما روي عن بلال بعد وقعة خيبر وما روي عنه بعد وقعة بدر مع المشركين. ومنهم أظلم الناس له وأقساهم عليه.
فلما افتتح النبي حصن القموص بخيبر جيء له بصفية بنت صاحب الحصن وقريبة لها دون سنها. فأرسلهما عليه السلام مع بلال إلى رحله. فمر بهما بلال على القتلى من قومهما فصاحت البنت الصغيرة صياحا شديدا ولطمت على وجهها. وعلم النبي بما صنع فقال له عاتبا: أنزعت منك الرحمة يا بلال حين تمر بجارية حديثة السن على القتلى؟ فكان عذر بلال الذي اعتذر به جوابه: يا رسول الله ما ظننت أنك تكره ذلك وأحببت أن ترى مصارع قومها!
أما في وقعة بدر فقد كان عذره أوضح وأسلم من عذره في وقعة خيبر.
فقد رأى أمية بن خلف وابنه بعد الوقعة في صحبة عبد الرحمن بن عوف يقودهما كما يقاد الأسرى، وقد كانا أشد الناس إيذاء للمستضعفين من المسلمين كما تقدم، وكان بلال أوفر المسلمين نصيبا من ذلك الإيذاء اللئيم. فما وقعت عينه على أمية حتى صاح بالمسلمين من حوله: رأس الكفر أمية بن خلف. لا نجوت إن نجا. ولم يغن عنه دفاع عبد الرحمن بن عوف، بل جعل بلال يهم بقتله ويصيح: لا نجوت إن نجا. لا نجوت إن نجا. حتى اجتمع حولهم خلق كثير، وضرب أحدهم ابن أمية فوقع صريعا فإذا بأمية يصيح من الفزع صيحة لم يسمع بمثلها. قال عبد الرحمن بن عوف: انج بنفسك ولا نجاء بك! فوالله ما أغني عنك شيئا، ولكن المقاتلين هبروهما بأسيافهم قبل أن يخلص له سبيل إلى الفرار.
وقد يزيد في وضوح العذر لبلال من هذه القصة أن أمية هذا كان من أحق الناس بالبغض وقلة الرحمة؛ لأنه كان يعذب المستضعفين تعذيب الجبان اللئيم لا تعذيب الساخط الغيور على عقيدة، وكان يرهب القتال ولا يعرض حياته لمغامرات الحرب التي أقدم عليها شجعان المشركين. فما هو إلا أن سمع بنذير النبي إياه بالقتل حتى ارتعدت فرائصه وراح يسأل عن المكان الذي توعده بالقتل فيه، فصارح قومه بالقعود عن القتال وأنه لا يخرج لحرب المسلمين في غزوتهم تلك وهو مقصود بذلك الوعيد، ولم يتحرك للخروج حتى جاءه أبو جهل بين الملأ بمجمرة يبخره بها، وقال له: تجمر يا هذا فإنما أنت من النساء.
ولما نشبت المعركة ببدر كان هو وابنه في طليعة الناكصين عن القتال، ثم قتل ابنه فكانت صيحته عليه صيحة فزع لا تسمع في ميدان. فإنما كان تعذيبه المسلمين من لؤم الجرأة على الضعيف وهو آمن في عقر داره، ولم يكن من لدد العقيدة التي يغار عليها الرجل الشجاع ويلقى الموت هو وأبناؤه من أجلها غير وكل ولا هياب. وليس أحق من مثل هذا ببغضاء المنتقم في ساعة القصاص، وكفى لبلال عذرا في هيجة غضبه عليه أنه يعلم إنذار النبي إياه بالقتل وأن أبا بكر هنأه بعد قتله فقال:
هنيئا زادك الرحمن خيرا
لقد أدركت ثأرك يا بلال
وفي غير هذه الهيجة التي تدرك أحلم الناس في مواطن النقمة وحومة الحرب لم تكن شدة بلال غير حمية الرجل الفطري الذي تبدو منه القسوة وهو لا يعنيها، وكان في جملة أحواله مثلا للخلق الوديع والطيبة الرضية وحلاوة النفس والاتضاع، فكان يخجله أن يسمع الناس يحمدون بلاءه في صدر الإسلام ويقدمونه على أجلاء الصحابة لثباته وصبره، فيطرق ويقول: «إنما أنا رجل كنت بالأمس عبدا.» وكانت قلة دعواه نفحة من نفحات تلك الطيبة الرضية. فلم يعرف عنه أنه تصدى لتعليم الناس ما يجهلون من أحاديث النبي عليه السلام بعد ملازمته الطويلة وكثرة سائليه والواثقين بصدق ما يرويه، ولم يزد في إخباره عن النبي على ما يعنيه من إقامة الصلاة والأذان أو مواعد الإفطار والصيام. •••
وكان بلال ابن قومه في خلقين آخرين يعرفان في بعضهم، قدماء أو محدثين، وهما فراسة النظر وحب الراحة أو الضيق بالجهد الشديد.
أرسله النبي عليه السلام مع رعية السحيمي ليرد له ابنه الذي أسره المسلمون، فلم يفته وهو يقص نبأه على النبي أن يقول: والله ما رأيت واحدا منهما مستعبرا إلى صاحبه! فقال النبي: ذاك جفاء الأعراب.
ووكل إليه النبي وهو مقبل إلى وادي القرى بعد وقعة خيبر أن يوقظه لصلاة الصبح - وكان الحر شديدا، فنام حتى طلعت الشمس. ثم صلى عليه السلام بمن معه وإن أحدهم ليسلت العرق عن جبينه من حر ذلك اليوم، فلما سلم قال: كانت أنفسنا بيد الله فلو شاء قبضها وكان أولى بها . ثم التفت إلى بلال فهتف به: مه يا بلال. فبادر بلال معتذرا وهو يقول: بأبي وأمي. قبض نفسي الذي قبض نفسك! فتبسم عليه السلام.
وإنما تدل هذه السهوة - وإن لم تتكرر - على إيثار الراحة؛ لأنها غلبت كل حذر من تفويت صلاة الفجر حاضرة على النبي وصحبه، وهو حذر كان ولا شك في نفس بلال شديدا، بل أشد من الشديد. •••
وآخر ما يروى من أعمال بلال وقفته مع خالد بن الوليد حين أمر الفاروق بسؤاله عن الهبات التي كان يهبها لبعض الشعراء. فقد سكت خالد وأبو عبيدة يسأله عن تلك الهبات أهي من ماله أم من مال المسلمين؟ وهو معرض لا يجيب. فوثب إليه بلال ثم تناول عمامته ونقضها وعقله بها وخالد لا يمنعه. وسأله: ما تقول؟ أمن مالك أم من إصابة؟ فعند ذلك أجاب خالد: بل من مالي فأطلقه وعممه بيده، وهو يقول: «نسمع ونطيع لولاتنا ونفخم ونخدم موالينا.»
ذلك آخر ما روي من أعمال بلال في خدمة الخلافة، ولكنه يجمع أعماله كلها وخلائقه كلها في عمل واحد وخلق واحد، وهو الطاعة الجريئة التي لا تنسى التفخيم والتعظيم إلا في سبيل طاعة أكبر منها وأوجب. فلم يكن أسرع منه بين شهود الموقف إلى محاسبة خالد بأمر الخليفة وأمر الله، ولم يكن أسرع منه إلى السرور بتفخيمه وتعظيمه حين فرغ الحساب.
كانت طاعته للمرء الذي يطاع والأمر الذي تجب له الطاعة وهي طاعة القوي الشريف، وليست بطاعة المسخر الضعيف، وقد عصى سادته والموت جاثم على صدره، وفرض الطاعة على من يهابه العصاة. فكان سيد المطيعين، ولا يشرف الإنسان إن لم يكن سيد الآمرين إلا أن يكون سيد المطيعين.
الأذان
أشبه الأشياء بالدعوة إلى الصلاة دعوة تكون من معدن الصلاة، وتنم على صوت من أصوات الغيب المحجب بالأسرار: دعوة حية كأنما تجد الإصغاء والتلبية من عالم الحياة بأسرها، وكأنما يبدأ الإنسان في الصلاة من ساعة مسراها إلى سمعه، ويتصل بعالم الغيب من ساعة إصغائه إليها.
دعوة تلتقي فيها الأرض والسماء، ويمتزج فيها خشوع المخلوق بعظمة الخالق، وتعيد الحقيقة الأبدية إلى الخواطر البشرية في كل موعد من مواعد الصلاة، كأنها نبأ جديد.
الله أكبر، الله أكبر.
تلك هي دعوة الأذان التي يدعو بها المسلمون إلى الصلاة، وتلك هي الدعوة الحية التي تنطق بالحقيقة الخالدة ولا تومئ إليها، وتلك هي الحقيقة البسيطة غاية البساطة، العجيبة غاية العجب؛ لأنها أغنى الحقائق عن التكرار في الأبد الأبيد، وأحوج الحقائق إلى التكرار بين شواغل الدنيا وعوارض الفناء.
المسلم في صلاة منذ يسمعها تدعوه إلى الصلاة؛ لأنه يذكر بها عظمة الله، وهي لب لباب الصلوات.
وتنفرج عنها هدأة الليل فكأنها ظاهرة من ظواهر الطبيعة الحية تلبيها الأسماع والأرواح، وينصت لها الطير والشجر، ويخف لها الماء والهواء، وتبرز الدنيا كلها بروز التأمين والاستجابة منذ تسمع هتفة الداعي الذي يهتف بها: «إن الصلاة خير من النوم.»
فتخرج كلها إلى الحركة بعد لمحة أو لمحتين، وتقول كلها: إن الحركة صلاة خفية بيد محرك الأشياء، وإن الصلاة خير من النوم.
وإذا ودع بها الهاتف ضياء النهار واستقبل بها خفايا الليل فهو وداع متجاوب الأصداء، وكأنه ترجمان تهتف به الأحياء أو تهمس به في جنح المساء. وكأنه ينشر على الآفاق عظمة الله فتستكين إلى سلام الليل وظلال الأسرار والأحلام.
وإنها لتسمع بالليل ثم تسمع بالنهار.
تسمع والنفوس هادئة كما تسمع والنفوس ساعية مضطربة: توقظ الأجسام بالليل وتوقظ الأرواح بالنهار، فإذا هي أشبه صياح بسكينة، وأقرب ضجيج إلى الخروج بالإنسان من ضجيج الشواغل والشهوات.
حي على الصلاة!
حي على الفلاح!
نعم هذا هو الفلاح جد الفلاح؛ لأن كل فلاح بغير الإيمان هو الخسار كل الخسار. •••
وما يعرف وقع الأذان من شيء كما يعرف من وقعه بمعزل عن العقيدة ومعزل عن العادة والسنة المتبعة، أو كما يعرف من وقعه في بداءة الأطفال وبداءة الغرباء عن البلاد، وعن عقيدة الإسلام.
ففي الطفولة نسمع الأذان ولا نفهمه، ولكننا نميزه حين يحيط بنا بين دعوات هذه الأرض وبين صيحات اللعب وصيحات البيع والشراء، ونؤخذ به ونحن لا ندري بم نؤخذ، ونود لو نساجله ونصعد إليه ونستجيب دعاءه، ويفسره المفسرون لنا «بأمر الله» فنكاد نفهم كلمة الأمر ونكاد نفهم كلمة الله، ولكننا نحار في البقية ونحيلها إلى الزمن المقبل ... ثم نقضي السنوات بعد السنوات من ذلك الزمن المقبل ونحن نتعزى من حيرة الطفولة بأننا ما نزال حائرين، وإن سميت الحيرة بأسماء بعد أسماء وأطلق عليها عنوان بعد عنوان.
وفي الذكريات أصداء تكمن في النفس من بعيد، ويلتفت المرء لحظة من اللحظات فكأنما هو قد فرغ من سماع تلك الأصداء منذ هنيهة عابرة، ثم التفت على حين غرة ليرقب مصدر ذلك الصدى الذي سرى إليه.
إن أبقى هذه الأصداء في كل ذاكرة لهي صيحة الأذان الأولى التي تنبهت إليها آذان الطفولة لأول مرة، وما تزال تبتعد في وادي الذاكرة ثم تنثني إليه من بعض ثنياتها القريبة، فإذا المرء من طفولته الباكرة على مدى وثبة مستطاعة، لو تستطاع وثبة إلى ماض بعيد أو قريب.
أما الغرباء عن البلاد وعن عقيدة الإسلام فما يلفتهم شيء من شعائر العبادة الإسلامية كما يلفتهم صوت الأذان على المنائر العالية، كيفما اختلف الترتيل والتنغيم.
يقول إدوارد وليام لين صاحب كتاب «أحوال المصريين المحدثين وعاداتهم»: إن أصوات الأذان أخاذة جدا، ولا سيما في هدأة الليل.
ويقول جيرار دي نرفال في كتابه «سياحة بالمشرق»:
إنني لأول مرة سمعت فيها صوت المؤذن الرخيم الناصع خامرني شعور من الشجو لا يوصف. وسألت الترجمان: ماذا يقول هذا الهاتف؟
فقال: إنه ينادي أن لا إله إلا الله. قلت: فماذا يقول بعد هذا؟
فقال: إنه يدعو النيام قائلا: يا من ينام توكل على الحي الذي لا ينام ...
وأنشأ الكاتب المتصوف «لافكاديو هيرن
La Fcadio Hearn » رسالة وجيزة عن المؤذن الأول - أي بلال بن رباح - ستأتي ترجمتها بعد هذا الفصل فقال:
إن السائح الذي يهجع لأول مرة بين جدران مدينة شرقية، وعلى مقربة من إحدى المنائر، قلما تفوته خشعة الفؤاد لذلك الجمال الموقور الذي ينبعث به دعاء المسلمين إلى الصلاة ... وهو لا شك يستوعب في قلبه - إذا كان قد هيأ نفسه للرحلة بالقراءة والمطالعة - كل كلمة من كلمات تلك الدعوة المقدسة، ويتبين مقاطعها وأجزاءها في نغمات المؤذن الرنانة، حيثما أرسل الفجر ضياءه المورد في سماء مصر أو سورية وفاض بها على النجوم. وإنه ليسمع هذا الصوت أربع مرات أخرى قبل أن يعود إلى المشرق ضياء الصباح: يسمعه تحت وهج الظهيرة اللامعة، ويسمعه قبيل غياب الشمس والمغرب يتألق بألوان القرمز والنضار، ويسمعه عقيب ذلك حين تنسرب هذه الألوان الزاهية في صبغة مزدوجة من البرتقال والزمرد، ثم يسمعه آخر الأمر حين تومض من فوقه ملايين المصابيح التي ترصع بها تلك القبة البنفسجية فوق مسجد الله الذي لا يزول. ولعله يسمع في المرة الأخيرة عند نهاية التنغيم كلمات مقنعة بالأسرار جديدة على أذنيه، فإذا سأل عنها ترجمانه كما فعل جيرار دي نرفال أجابه ولا شك بتفسير كذلك التفسير: يا من تنام توكل على الحي الذي لا ينام ... عظات جليلة تعيد إلى الذاكرة تلك الآيات التي ينقشونها في المشرق على بعض الحجارة الكريمة ومنها
لا تأخذه سنة ولا نوم ... فإن كان الترجمان ممن يعون طرفا من تاريخ الإسلام فلعله ينبئه أن المؤذن الأول - أول من رتل الدعاء إلى الصلاة - كان الخادم المقدس الذي اصطفاه نبي الإسلام لهذه الدعوة، بلال بن رباح، صاحب الضريح الذي يشار إليه للسائح في ناحية من دمشق حتى هذا اليوم.
وقد لمسنا نحن أثر الأذان البالغ في روع كثير من السائحين والسائحات الذين ينزلون ببلدتنا أسوان خلال الشتاء، أو يمرون بها في الطريق من السودان وإليه.
فإنهم كانوا يصلون إلى أسوان وقد سمعوا الأذان مرات في القاهرة والإسكندرية، وربما سمعوه في غيرهما من البلدان الإسلامية، ولكنه كان يفاجئهم بجدة لا تبلى كلما طرق أسماعهم بالليل أو النهار - ولا سيما في أيام الجمعة. وكان من المصادفات الطيبة أن مؤذن الجامع الأكبر بالمدينة كان حسن الصوت منطلق الدعاء، يمزج الغيرة الدينية بالغيرة الفنية في أذانه، فكان يخيل إلينا وهم يصغون إليه أنهم يتسمعون هاتفا من هواتف الغيب يطرق الأسماع في وقت رتيب، أو يترقبون طائرا من طوائر الهجرة التي تأتي في الأوان، ولكن كما يأتي كل شيء غريب.
وكان من عادات المؤذنين التي لبثوا يعيدونها في شهر رمضان إلى عهد قريب أن يدقوا طبول السحور على المنائر العالية في الهزيع الأخير من الليل. فشكا بعض النازلين بالفنادق القريبة من المنارة وترددوا في تبليغ شكواهم إلى رجال الحكومة؛ لأنهم حسبوا هذه الطبول شعيرة من شعائر الإسلام، فلما سأل عنها بعض مثقفيهم وقيل لهم: إنها عادة من عادات البلد وليست شعيرة من شعائر الدين تقدموا برجائهم وقالوا: إننا لا نشكو من الأذان؛ لأنه لا يقلقنا ولا يزال يسري إلينا في ساعة الفجر كما يسري الحلم الجميل، ولكننا نقلق من هذه الطبول التي تدق فوق رءوسنا، وكنا نحتملها لو علمنا أنها شعيرة لا تبديل لها. ولكننا علمنا أنها تبدل في كل بلد إسلامي على حسب عاداته، وأن المدن الكبرى تستبدل بها طبولا صغيرة تدق على الأبواب: فاسمحوا لنا أن نهدي إلى البلد بعض هذه الطبول.
وكانت هذه الطبول مما يباع في كل موسم للسائحين على أحجام مختلفة؛ لأنها كانت تستخدم في عهد الدراويش بالسودان، إما لجمع الجند أو لتنبيه الغافلين أو للتوقيع والتنغيم، وكانت ملابس الدراويش وأسلحتهم وأدوات معيشتهم مما يبحث عنه السائحون في أسواق البلدة، فتبرعوا بالطبول الصغيرة فرحين؛ لأنها تنقذهم من قرع الطبول حين يختلط بأصوات المؤذنين، فيقلقهم ويشوه عندهم جمال الأذان الخفيف على أسماع النيام. •••
وقد كانت هذه الطبول وشيكة في بداية الأمر أن تقوم مقام الأذان في دعوة المسلمين إلى الصلاة.
إذ لم يكن الأذان كما نسمعه اليوم معروفا قبل انتشار الإسلام في مكة والمدينة، وإنما كان المسلمون طائفة قليلة يدعون إلى الصلاة الجامعة بالنداء الذي يسمع من قريب، فلما صرفت القبلة إلى الكعبة فكر المسلمون في دعاء إلى الصلاة يسمعه المنتشرون بالمدينة من بعيد.
ومن جملة الروايات التي جاءت في طبقات ابن سعد وغيرها يفهم أنهم كانوا قبل أن يؤمر بالأذان ينادي منادي النبي عليه السلام: الصلاة جامعة! فيجتمع الناس ... فلما صرفت القبلة إلى الكعبة تذكر المسلمون الأمر فذكر بعضهم البوق وذكر بعضهم الناقوس وذكر بعضهم نارا توقد كنار القرى، ثم تفرقوا على غير رأي، ومنهم عبد الله بن زيد الخزرجي ... فلما دخل على أهله فقالوا: ألا نعشيك؟ قال: لا أذوق طعاما. فإني قد رأيت رسول الله قد أهمه أمر الصلاة، ونام فرأى أن رجلا مر وعليه ثوبان أخضران وفي يده ناقوس. فسأله: أتبيع الناقوس؟ فقال: ماذا تريد به؟ قال: أريد أن أبتاعه لكي أضرب به للصلاة لجماعة الناس. فأجابه الرجل: بل أحدثك بخير لكم من ذلك. تقول: الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة حي على الفلاح. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله. ونادى الرجل بذلك النداء وهو قائم على سقف المسجد، ثم قعد قعدة ثم نهض فأقام الصلاة.
فلما استيقظ عبد الله بن زيد من منامه ذهب إلى النبي عليه السلام فقص عليه ما رأى، فقال له: قم مع بلال فألق عليه ما قيل لك، وجاء الفاروق بعد ذلك فقص على النبي مناما يشبه ذلك المنام.
وجرى الأمر في الدعوة إلى الصلاة منذ ذلك اليوم على الأذان كما نسمعه الآن، وزاد بلال في أذان الصبح «الصلاة خير من النوم» فأقرها النبي عليه السلام، وبقي النداء في الناس بالصلاة الجامعة للأمر يحدث فيحضرون له يخبرون به مثل فتح يقرأ، أو دعوة يدعون إليها، وإن كان في غير وقت الصلاة.
ولا اختلاف في صيغة الأذان بين الطوائف الإسلامية جمعاء ... إلا أن الشيعة يضيفون إليه، «حي على خير العمل» مع حي على الصلاة وحي على الفلاح. ويردد المالكية التكبير مرتين بدلا من أربع مرات.
ولا اختلاف كذلك في جواز التلحين والترجيع في الأذان ما لم يخل بنطق الكلمات ومخارج الحروف. إلا أن الحنابلة يعلنون الأذان بغير تلحين، ويتصرف الأحناف في بعض الترجيعات.
وقد ندب بلال بن رباح للأذان من لحظته الأولى، فلم يسمع لأحد أذان قبله ولم يسبقه إلى ذلك سابق في تاريخ الإسلام، وهو شرف عظيم؛ لأن محمد بن عبد الله كان إمام المسجد الذي كان مؤذنه بلال بن رباح.
ومن المتفق عليه في أقوال الصحابة أن بلالا كان محبب الصوت إلى أسماع المسلمين، وأنهم كانوا يقرنون دعوته بصلاة النبي بهم فيزيدهم هذا خشوعا - لسماع صوته - فوق خشوع.
على أننا نقرأ في أنباء فتح مكة أن رهطا من المشركين كانوا ينكرون نداءه ويتساءلون: أما وجد محمد غير هذا العبد ينهق على ظهر الكعبة؟! وكانوا يستكبرون من رجل كائنا من كان أن يعلو ظهر البيت الذي لم يصعد إليه أحد في الجاهلية. فهالهم أن يروا «عبدا» يصعد إليه ويجهر بذلك النداء.
قال بعضهم للحارث بن هشام: ألا ترى إلى هذا العبد أين صعد؟ فلجأ الرجل إلى حكمة المضطر وقال: «دعه، فإن يكن الله يكرهه فسيغيره.»
وكان الحارث بن هشام وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد جلوسا بفناء الكعبة يوم أمر النبي بلالا أن يصعد إلى ظهر الكعبة فيقيم الأذان.
قال عتاب: لقد أكرم الله أسيدا ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه، وقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته، وأنكر أبو سفيان ما سمع، أو قيل في بعض الروايات: إنه جمجم قائلا: «لا أقول شيئا، ولو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصا.»
وقبل أن نحيل هذا الإنكار إلى شيء يؤخذ مأخذ النقد ينبغي أن نذكر أن ذلك الوصف جاء من المشركين الذين كانوا خلقاء أن ينكروا أول أذان يرتفع في سماء مكة ولو ترنمت به الملائكة وتجاوبت به سواجع الأطيار، وأنهم سمعوه زعيقا و«نهيقا» كما قالوا؛ لأنهم سمعوا شيئا لا يطيقونه ولا يستريحون إليه. وكانت بهم عنجهية السادة في النظر إلى العبيد، وكان لبلال عندهم وتر معروف بمن قتل من سادات مكة في غزواته مع النبي عليه السلام.
فإذا رددنا إعجاب المسلمين بصوت المؤذن الأول إلى الخشوع ثم إلى ذكرى النبي الحبيب، ورددنا كره المشركين إياه إلى النفرة ثم إلى العنجهية والعداء. فقد بقي شيء واحد يتفق عليه هؤلاء وهؤلاء وهو جهارة الصوت وابتعاد مداه في أجواز الفضاء، ولا حاجة بنا إلى العناء في الموازنة بين خشوع المسلمين وعداء المشركين لنقول: إن اختيار النبي إياه يدعوه ويدعو المسلمين دعوة عامة يسمعها كل يوم خمس مرات - هو الشهادة لصوت المؤذن الأول بالسلامة من النفرة والنشوز المعيب. فما عهد محمد عليه السلام خاصة إلا أنه كان يحمد المنظر الحسن. وكان ينكر كل نكير ويستريح إلى كل جميل.
المؤذن الأول
كتب عن الخلفاء الراشدين وكبار القادة والولاة من صحابة النبي عليه السلام كلام كثير باللغات الأوروبية في أثناء الكتابة عن تاريخ الإسلام. ولكن الذي كتب عن الصحابة ممن لم يتولوا الحكم ولا اشتركوا في السياسة العامة - كبلال بن رباح - جد قليل، وبين هذا القليل الذي كتب عن بلال خاصة فصل في اللغة الإنجليزية للأديب القصصي لفكاديو هيرن
Lafcadie Hearn
الذي عمل حينا في الصحافة الأمريكية، وقضى زمانا في جزر الهند الغربية التابعة لفرنسا ثم جال بين بلاد الشرق، واستقر باليابان وبنى فيها بزوجة يابانية ومات هناك سنة 1904، بعد أن قضى حياته الأدبية كلها هائما بنفحات الشرق الروحية؛ سواء هبت عليه من بلاد العرب أو من الصين أو اليابان.
ولا شك أن ترجمة هذا الفصل إلى العربية ترده إلى اللغة التي هي أحق به وأولى. وتعد مناسبة نقله إلى العربية سانحة كل السنوح في صدد الترجمة لبلال رضي الله عنه برسالة مستقلة به مقصورة عليه. وهو عدا ذلك فصل قيم يفيض بالعطف الإنساني والروح الشعرية والفكاهة الأدبية، ويضيف كثيرا إلى علمنا بأثر الأذان الإسلامي في نفوس الأدباء الغربيين، ولا سيما الأدباء من طراز هيرن الذين أظمأتهم الحضارة العصرية وتشوقت نفوسهم إلى الري الروحاني من ينابيع أخرى غير ينايع أمريكا وأوروبا.
وقد مهد هيرن لفصله عن «المؤذن الأول» بأبيات الشاعر إدوين أرنولد
Edwin Arnold
التي يقول فيها مخاطبا العزة الإلهية:
لو أن عابديك اليوم على الأرض طاف بهم طائف من الفناء فجاءة وصمت كل مؤذن يرفع الصوت بالتكبير في سكينة السماء، لما خلت الدنيا بعد هذا من آيات تشهد بوجودك على الأرض وفي أغوار الماء. نعم ... ولو ذهبت هذه وذهبت الأرض معها لبقيت لك آيات في أعالي السماء أعظم وأسمى؛ إذ كل شارقة فوقنا من تلك الشموس التي تشتعل إلى مطلع النهار، وتلك الكواكب التي يعود بها الليل كل مساء - هي يا رب «دراويشك» التي تدور في حلقة الذكر حول عرشك الوضاء.
ثم قال هيرن: إن السائح الذي يهجع لأول مرة بين جدران مدينة من مدن الشرق على مقربة من إحدى المنائر على المساجد الجامعة قلما تفوته خشعة الفؤاد لذلك الجمال الوقور الذي ينبعث به دعاء المسلمين إلى الصلاة، وهو لا شك يستوعب في قلبه - إذا كان قد هيأ نفسه للرحلة بالقراءة والمطالعة - كل كلمة من كلمات تلك الدعوة المقدسة، ويتبين مقاطعها وأجزاءها في نغمات المؤذن الرنانة حيثما أرسل الفجر ضياءه المورد في سماء مصر أو سورية وفاض بها على النجوم. وإنه ليسمع هذا الصوت أربع مرات أخرى قبل أن يعود إلى المشرق ضياء الصباح: يسمعه تحت وهج الظهيرة اللامعة ويسمعه قبيل غياب الشمس والمغرب يتألق بألوان القرمز والنضار، ويسمعه عقيب ذلك حين تنسرب هذه الألوان الزاهية في صبغة مزدوجة من البرتقال والزمرد، ثم يسمعه آخر الأمر حين تومض من فوقه ملايين المصابيح التي ترصع بها تلك القبة البنفسجية فوق مسجد الله الذي لا يزول، ولعله يسمع في المرة الأخيرة عند نهاية التنغيم كلمات مقنعة بالأسرار جديدة على أذنيه، فإذا سأل عنها ترجمانه - كما فعل جيرار دي نرفال - أجابه ولا شك بتفسير كذلك التفسير: يا من تنام توكل على الحي الذي لا ينام ... عظات جليلة تعيد إلى الذاكرة تلك الآيات التي ينقشونها في المشرق على بعض الحجارة الكريمة، ومنها «لا تأخذه سنة ولا نوم»، فإن كان الترجمان ممن يعون طرفا من تاريخ الإسلام فلعله ينبئه أن المؤذن الأول - أول من رتل الدعاء إلى الصلاة - كان الخادم المقدس الذي اصطفاه نبي الإسلام لهذه الدعوة - بلال بن رباح - صاحب الضريح الذي يشار إليه للسائح في ناحية من دمشق حتى هذا اليوم.
أما بلال هذا فكان أسود أفريقيا من أبناء الحبشة قد اشتهر بقوة يقينه وهو يتخذ دين الإسلام، وبغيرته على الدعوة النبوية وجمال النغم في ترجيع صوته؛ ذلك الصوت الذي تناوله ومد فيه وكرره كل مؤذن في الإسلام منذ أكثر من ألف ومائتي عام.
وقد رجع بلال أذانه قبل أن ترتسم في الذهن صورة المنارة الأولى، وقبل أن يؤثر القوم اختيار المؤذنين من العميان مخافة أن يرمق المؤذن بعينه منظرا محرما وهو يطل من عل على سقوف المدينة.
واليوم ترتفع إلى السماء منائر لا عداد لها في كل موطن من مواطن الإسلام حتى واحات الصحراء، وقد تقوم على بناء بعضها أيد جاهلة بميزان البناء فيخيل إلى من يراها أنها تتلوى من الوجد، كمئذنة «أوجلة» التي رآها فكتور لارجو
Largau
في سنة 1877.
أما الكلمات التي يرددها المسلمون في أنحاء عالم الإسلام من حيث تقوم بنى القرميد التي ترفع على قبور الصحراء إلى تلك المنائر السحرية الحالمة التي ترتفع على مسجد «أجرا» عند ضريح «تاج محل» بالهند - فهي بنصها وفصها تلك الكلمات التي ترنم بها صوت بلال المكين.
ولا تزال للمؤذن شروط ترعى حتى اليوم ليسمح له بأداء الأذان.
فعليه أن يحفظ القرآن وأن ينزه اسمه وسمعته عن كل سوء، وأن يكون له صوت واضح جهير ولهجة فصيحة ومخارج للحروف صحيحة، ولكن شروط الصوت الحسن التي كانت تطلب من المؤذن في صدر الدعوة المحمدية والمسلمون على ذكر من صوت بلال قد كانت أندر وأصعب مما اكتفي به بعد ذلك. وقد روى الشاعر الفارسي الأشهر مصلح الدين السعدي في كتابه بستان الورد غير نادرة واحدة تدل على آراء أبناء عصره فيما يرجع إلى اختيار المؤذنين وقراء آي الذكر الحكيم.
قال في بعض تلك النوادر: إن مؤذنا في سنجار تعود أن يؤدي الأذان أداء صحيحا ولكن بصوت كريه إلى كل من سمعوه، وكان صاحب المسجد أميرا عادلا لا يسيء في عمل من أعماله، فلم يشأ أن يجرح فؤاد المؤذن المسكين، وخاطبه على نحو يرضيه فقال له: يا سيدي. إن لهذا المسجد مؤذنين أقدمين يعطى كل منهم خمسة دنانير. فهل لك في عشرة دنانير تأخذها أنت على أن تترك لهم مهمة الأذان فيه؟ فقبل الرجل عرض الأمير وغادر المدينة إلى حيث شاءت له المقادير.
إلا أنه لم يلبث غير قليل حتى قفل إلى الأمير قائلا: لقد ظلمتني يا مولاي إذ قد زينت لي أن أترك هذا المسجد من أجل عشرة دنانير. فإنهم قد عرضوا علي عشرين دينارا حيث كنت على أن أفارقهم فأبيتها ... فابتسم الأمير وقال: لا يخدعوك إذن ... فإني لأحسبهم معطيك خمسين دينارا أو يزيد على ذلك إذا أصررت على البقاء هناك!
وفي الكتاب نادرة أخرى لا تقل عن هذه في طرافتها، يزيدنا فهما لها أن نذكر أن الأسلوب العربي المأثور في تلاوة القرآن يكاد يعلو على كل أسلوب معروف في التلاوات الدينية. وخلاصة النادرة أن قارئا من حفاظ الكتاب كان يجود الآيات بصوت غير جيد. فمر به رجل فطن وسأله: كم أجرك على هذه القراءة؟ فقال الحافظ: لا شيء! قال الرجل: وفيم إذن عناؤك هذا؟ قال: حبا لله! قال الرجل الفطن: حبا لله إذن لا تقرأ يرحمك الله. •••
وبدأ بلال حياته عبدا؛ لأنه كان وليد جارية حبشية، ولم يعرف عن نشأته في الطفولة غير النزر اليسير. ومن وصف سير وليام موير إياه يظهر أنه كان فاحم السواد كثيف الشعر وكانت لوجهه ملامح الزنوج، وأنه كان طويلا أجنأ كأنه الجمل، لا يروق النظر ولكنه شديد الأسر مفتول الجسد متين الأعصاب.
وقد كان لدعوة محمد الأولى أثر عميق في قلوب عبيد مكة؛ لأن هؤلاء القوم الغرباء في ربقة العبودية بين أناس غير أهلهم قد تلقوا ولا ريب دعوة النبي إلى الأبوة العليا التي تكلأ الناس جميعا كما يتلقى الجريح بلسم الشفاء والحزين سلوة العزاء.
ولعل بلالا كان أول من دان بالإسلام من بني جلدته، ولذاك قال النبي عنه: إنه أول ثمرة من ثمرات الحبشة، ولعل العبد الصغير قد تلقن من والدته السوداء شيئا من تلك الخواطر الفجة التي شاعت في الحبشة باسم الديانة المسيحية في القرن الرابع فهيأت ذهنه لقبول وحدانية الإسلام.
وما هو إلا أن بدأت فترة الاضطهاد حتى انصب أشده وأقساه على هؤلاء العبيد. فقد كانت سنة العرب منذ عهد بعيد أن يحمي الرجل ذوي قرباه ولو كلفته حمايته بذل الحياة. فمن سفك دم عربي فهو غير آمن أن يرتد عليه أهله بالثأر وأن يستتبع ذلك حربا سجالا بين العشيرتين إلى زمن طويل. ومن ثم كان محمد وصحبه الأحرار يأمنون بعض الأمان على أنفسهم من سطوة التنكيل العنيف. ولم يكن للعبيد مثل هذه الحماية، فتعاورتهم الأيدي بالضرب وتلقوا نذر الموت وذاقوا أمر العذاب معرضين لنيران القيظ في شمس الجزيرة العربية السافعة. فكانت غواية الماء البارد والظل الوارف والطعام الشهي تحت هذا العذاب الذي يضاف إليه عذاب الجوع والظمأ أشد من أن تدفعها عزيمة أولئك المساكين ... فما زالوا واحدا بعد واحد يتفوهون بالعبارات التي كانت تملى عليهم سبا لنبيهم ولو خرجت من الشفاه دون القلوب، وجعلوا يقسمون باللات والعزى على صدق ما يقولون، وطالما عاد بعضهم فبكى ندما على ما فرط منهم في تلك المحنة النكراء.
ولكن النبي قد استنزل لأولئك المساكين عزاء وافيا بما ذكره القرآن عنهم، حيث جاء فيه:
إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون * من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم [النحل: 105-106].
وقد ظل بلال وحده ثابت القلب واللسان فلم يصبأ ولم ينل من عقيدته ألم الضرب ولا حر الظمأ ولا طول التعريض للشمس على بطاح مكة المتلهبة، وعجزت كل هذه المحن أن تثني عزيمته الحديدية، فلم يكن له من جواب على كل أمر يتلقاه من معذبيه إلا أن يردد قوله: أحد! أحد! مشيرا إلى واحدانية الله الذي ليس له شريك.
هذه الفترة في حياة بلال أيام دخوله في الإسلام هي التي اختارها الشاعر الفارسي فريد الدين العطار للإشادة بها في كتابه منطق الطير، فقال:
إن بلالا قد تلقى على جسده الهزيل ضربات العصي من الخشب، والسياط من الجلد، فتمزق إهابه وسال الدم من جراحه، ولم يمسك قط عن توحيد الله الذي لا إله غيره.
واتفق ذات يوم - والحبشي المسكين يتلظى من ألم ذاك العذاب - أن عبر به رجل نحيف البدن صغير القد جميل الملامح واسع الجبين فشهد فيمن يشهدون ثبات بلال وشدة عذابه.
وكان ذاك الرجل النحيف هو التاجر عبد الله بن عثمان أبي قحافة، ويعرف في التاريخ الإسلامي باسم أبي بكر صديق النبي الحميم وزميله في ذلك الكهف الذي تقول الرواية إن العناكب نسجت على مدخله خيوطها لتخفي اللاجئين إليه عمن يتعقبونهما، ويدعى أبو بكر أيضا بالصديق أي المخلص الوفي، وكان أبا السيدة عائشة التي قدر لها أن تقترن بالنبي وقدر لأبيها أن يخلف النبي على رعاية شأن المسلمين بعد وفاته، وكان إلى ذلك الحين قد أنفق كثيرا من ثروته التي تبلغ أربعين ألف درهم في شراء العبيد الذين سيموا العذاب على أيدي ساداتهم من أجل دخولهم في دين الإسلام، ومعظمهم رجال مهازيل أو نساء، فكان أبو قحافة يؤاخذه؛ لأنه ينفق ماله في إعتاق النساء والضعفاء ويقول له: هلا أنفقته في إعتاق الأقوياء الذين يشدون أزرك ويدرءون عنك عدوك؟ وكان أبو بكر يجيبه: كلا. يا أبت. إنما أريد بهم وجه الله.
ويقول الرواة: إن هذا البذل السخي في سبيل التقوى قد أفقر الرجل حتى لبس الثياب الخشنة من شعر المعز الذي يلفق بالسلا.
فلما شهد بلالا في ذلك العذاب لم يطل صبره على رؤيته بتلك الحال وأخذ لتوه يساوم أمية بن خلف وأبي بن خلف في ثمنه فباعاه بعباءة وعشرة دنانير.
وقليلا ما كان يخطر على بال أحد من شهود تلك الصفقة، أن يوما من الأيام سيأتي على أمية وابنه يسألان فيه الرحمة من عبدهما الذي ضنا عليه بكل رحمة فلا ينالانها. فما انقضت عشر سنين على ذلك اليوم حتى ظفر بلال بصاحبيه وسنحت فرصته بعد وقعة بدر الحامية، فوقعت عليهما عيناه بين أسرى قريش، وشفى قلبه أن ينظر إليهما وهما يذبحان على مشهد منه؛ لأن الإسلام لا يأمر الذين يدينون به أن يجزوا الشر بالخير.
وقد كان بلال في الحقيقة أول عبد قيم أطلقه أبو بكر، فأرسله عتيقا لوجه الله.
وكان بلال رجلا قويا، فلا يفهم وصفه بالهزال في قصيدة الشاعر الفارسي إلا على معنى الهزال الذي توصف به الطبيعة البشرية بالقياس إلى قوة الروح.
ولم يلبث لسان الكذب والوشاية أن قال قولته في السبب الذي بعث أبا بكر إلى شراء الحبشي المعذب، فزعم من زعم أنه توخى الفائدة ولم يتوخ التقوى والصلاح، وكانت هذه الأكذوبة خليقة أن تسري مسراها في البيئة التي عهدت ذلك التاجر الورع زمانا وهو الأريب الخبير بتصريف التجارة، ولكن محمدا كان ينكر ما يلغطون به ويوسع القائلين به تأنيبا وملامة، وفي ذلك يقول الكتاب من سورة الليل:
والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى * وما خلق الذكر والأنثى * إن سعيكم لشتى * فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى * وما يغني عنه ماله إذا تردى * إن علينا للهدى * وإن لنا للآخرة والأولى * فأنذرتكم نارا تلظى * لا يصلاها إلا الأشقى * الذي كذب وتولى * وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى [الليل 1-21].
ومن ثم أصبح بلال خادما أمينا لمحمد «عليه السلام»، وكتب له أن يسهم بنصيب في نشر دعوة الإسلام.
وتزعم بعض الروايات أن بلالا عاد بعد هجرة النبي فوقع في أسر قريش فعذبوه وضاموه، ولكنها رواية لا يوثق بها في رأي المراجع التي تعتبر حجة في تاريخ الدعوة الإسلامية، وإنما نلتقي ببلال مرة أخرى بعد عتقه في المدينة حيث كان المؤذن الأول بعد الاتفاق على الأذان. •••
ولم يكن الأذان معروفا في مستهل الدعوة الإسلامية حين كان المؤمنون فئة قليلة تقيم إلى جوار نبيها، وإنما كان الأذان صيحة مسموعة ينادي بها المنادي إلى الصلاة الجامعة.
ثم عرف الأذان بعد بناء مسجد المدينة وتحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة وكعبتها. إلا أن بيت المقدس لم يزل له شأن في المأثورات الإسلامية ولم يزل عزيزا في قلوب المسلمين.
ألا يذكر الذاكرون من علامات الساعة الكبرى أن عيسى ابن مريم سيقبل عند حلول الساعة إلى مسجد بيت المقدس قبيل صلاة الفجر، فيشرق المسجد بطلعته ويتقدم إلى محراب الإمام فيبهت أولئك الذين يزعمون أنهم من أتباعه حين يعلن بينهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟
أما كيف خطرت فكرة الأذان فقد كان ذلك بتوفيق عجيب، وفحواه أن النبي حين فرغ من بناء مسجده - الذي يعد على زهادة بنيانه مثالا للأسلوب العربي في البناء - تبين على الأثر أن دعوة المسلمين إلى الصلاة على النحو الذي اتبعوا قبل ذلك ليست مما يوائم أحوال المسلمين في ذلك الحين! لأنها خلو من ذلك الجلال الذي لا غنى عنه في إقامة الفرائض العامة والشعائر العلنية.
وخطر للنبي في بداءة الأمر أن يتخذ بوقا للدعوة إلى الصلاة، ولكنه لم يشأ أن يحول القبلة عن بيت المقدس ثم يتخذ لدعوة الصلاة أداة كان يستخدمها اليهود في بعض الصلوات.
ثم خطر له أن يتخذ للدعوة ناقوسا يدق في ساعات معلومات، ولكنهم لم يجدوا في المدينة من يصنع الناقوس المطلوب.
وإنه ليوشك أن يتخذ للدعوة ناقورا من الخشب؛ إذ سنحت فكرة الأذان لبعض الصالحين في رؤيا المنام.
فقد رأى ذلك الرجل الصالح فيما يرى النائم أنه لقي على مقربة من داره - وهو يسري في ضوء القمراء - رجلا طوالا في ثياب خضر بيده ناقوس جميل، وبدا له أنه قارب الرجل الطوال يسأله أن يبيعه الناقوس. فتبسم الرجل الطوال وراح يسأله: ولأي شيء تريده؟ فقال له: إنما أشتريه للنبي عليه السلام ليدعو به المسلمين إلى الصلاة.
قال الرجل الطوال، وكأنه يزداد في مقاله طولا: كلا. بل أخبرك بما هو أصلح وأجدى. فخير من ذاك أن ينادي مناد بالدعاء إلى الصلاة من سقف المسجد كما أصنع. وانطلق في ندائه بصوت رنان عجيب سماوي الجلال يبعث الوجل الأقدس في فؤاد سامعه، وهو يردد ذلك الأذان كما يردد اليوم من شاطئ أفريقية العربي إلى تخوم هندستان:
الله أكبر ...
الله أكبر ...
أشهد أن لا إله إلا الله ...
أشهد أن محمدا رسول الله ...
حي على الصلاة ...
حي على الفلاح ...
لا إله إلا الله.
فهب من رقاده والنغم العجيب يتردد في أذنيه، وبادر إلى النبي فقص عليه رؤياه، فسمعها منه النبي كما يسمع الرؤيا الصادقة التي تأتي بالهداية من الله، وتذكر تلك الهبة الصوتية النادرة التي خص بها مولاه الوفي بلال، فأمره أن ينادي إلى الصلاة بتلك الكلمات التي سمعها المسلم الصالح في منامه، وكان الليل في هزيعه الأخير فوعى المؤذن الأول واجب صناعته الجديدة قبل مطلع الفجر، وما هو إلا أن طلعت بشائر النور الأولى حتى نهض أهل المدينة من نومهم على صوت الحبشي الساحر يردد الأذان من مشرف عال بجوار المسجد. فكان ذلك فاتحة تاريخ المنارة الجميلة التي تتسم بها قبل غيرها ملامح العمارة في المدن الإسلامية، وكان مصعد بلال في تلك الليلة إلى الشرفة المضاءة بنور الكواكب على سقوف المدينة هو أول خطوة على سلم المنارة الباقية قبل ألف ومائتي عام. •••
في خلال تلك القرون جميعا لم يعرف الإسلام يوما واحدا لم ترتفع فيه صيحة الأذان إلى الله.
ولا تزال نغمات الأذان تعلم طريق الساعات لسكان مدائن شتى لا عداد لها. وفي المأثورات أنها ستكون علامة للساعة التي تقوم فيها القيامة ويظهر فيها المهدي المنتظر - مسيح الديانة الإسلامية - فيعلن الأذان بصوت جهوري يدوي في أنحاء العالم بأسره!
وما برحت دعوات الصلاة تستجاب في العالم الإسلامي بدقة يدهش لها السياح ويعجبون.
وقد اشتهرت هذه الدقة عن المسلمين في استجابة داعي الصلاة حتى استخدمت أحيانا في الإضرار بهم والإغارة عليهم. فاتفق في نيسابور - تلك المدينة المحببة إلى عطار الروح الشاعر المعروف باسم العطار - أن الأذان أعلن لأول مرة غدرا وختلا للإيقاع بمن يستجيبون إليه، إذ حدث في السنة الثامنة من القرن السابع أن أغارت على المدينة جموع جنكيزخان، وكان من عادة هذه الجموع التي درجت على الاستئصال والتخريب عادة فريدة بين الأمم في قسوتها وغدرها؛ وهي أن يعودوا إلى المدينة فجأة بعد تخريبها ليعملوا السيف فيمن رجع إليها من أهلها مطمئنا إلى جلاء العدو عنها أو فيمن يقبلون على الأنقاض المحترقة ليستخرجوا نفائس الأعلاق منها. فلما عادوا إلى نيساوبر على هذا النحو أمر الزعيم المغولي بإقامة الأذان فأقبل إليه بهذه الحيلة كثيرون ممن كانوا يعتصمون بالمخابئ والزوايا المهجورة، وصدق المؤرخ الفارسي حين قال في وصف هذه الجموع:
إنهم يقصدون إلى إبادة نوع الإنسان وفناء العالم ولا يقصدون إلى السيادة أو الغنيمة.
إن جو المأثورات - بما يحفه من الأشعة والهالات - ليرن فيه صوت بلال أبدا كما رن في الحلم صوت ذلك الغريب في الأكسية الخضر منبعثا من عالم فردوسي إلهي مسربل بالضياء.
وليس في مقدورنا بعد انقضاء تلك المئات من السنين أن نعرف حقيقة صوت المؤذن الأفريقي، ولا أن نقوم مزاياه الموسيقية التي لا شك فيها، ولكننا إذا صح لنا أن نستدل بما قيل في وصفه على طبقته الموسيقية فالأغلب الأقرب إلى الحقيقة أنه كان من طبقة «الباريتون» المعروفة لدينا بالامتداد والغزارة خلافا للنغمة العربية التي تعرف بشيء من الحدة والنعومة.
ولا يعوزنا السبب لأن نشك في أن أحدا من المشهورين بين أرباب صناعة الغناء في الجاهلية كان من ذلك العنصر - العربي - الذي وصفه سائح فرنسي فقال: إنه شعب صخاب، وقد أنبأنا الدكتور بيرون
في كتابه الممتع عن النساء العربيات الذي نشر بالجزائر سنة 1848 أن معظمهم كان عبيدا وأن جميع العبيد قبل الدعوة المحمدية كانوا على وجه الإجمال من الحبش أو الزنوج، ولا يبعد أن تكون القينتان المشهورتان باسم جرادتي عاد - ولا يزال لأغانيهما بقية مروية - فتاتين حبشيتين.
وتقول الأخبار: إنهما كانتا لعبد الله بن جدعان من سلالة عاد، وإن فترات التاريخ العربي لم تخل من عتقاء أو خلاسين نبغوا في الشعر أو في الفن أو الغناء، ومن هؤلاء الأغربة السود ذلك الأسود الذي نظم إحدى المعلقات ورويت له أغان وأناشيد بين أحسن القصيد، ونعني به عنترة بن شداد.
ومنهم خفاف الشاعر الفارسي ابن عم الخنساء، والشنفرى الذي لم يكن حظه من الشعر بالقليل، وقد شهر الحرب وحده على قبيلة كاملة ثأرا لحميه الذي قتلوه؛ لأنه ارتضى لبنته زوجا من غير أكفائها وأقسم لا يهدأن أو يقتل منهم مائة بقتيله. فأصاب تسعة وتسعين منهم ثم أصابوه وقطعوا رأسه وجاء رجل منهم فركله بقدمه العارية فجرح في قدمه وفسد جرحه فمات. فقيل: إن الشنفرى بر بقسمه وهو قتيل.
ويروى عن النبي أنه ود لو شهد عنترة بن شداد، ولعله لم يكن يود ذلك إعجابا بشعره كما وده لعلمه بجدوى ذلك الفارس الشاعر لدعوته؛ إذ يجنح إليها ويقود لها عتقاء الصحراء جميعا تحت لواء نبي يبشر بالمساواة.
وطوت روح الإسلام شيئا فشيئا قصيد الصحراء الجميل بألوانه الساخنة التي تشبه ألوانها، وحرارته التي تشبه حرارة رمالها ووقدته التي تشبه وقدة سمائها، ولكن الأغربة لم تزل تغني وإن كفت عن نظم المعلقات! ولم يكن بالقليل عدد المغنين السود أو الخلاسيين الذين نبغوا في القرون الثلاثة الأولى بعد ظهور الإسلام، فسعيد بن مذحج الذي صادر الخليفة عبد الملك ماله؛ لأنه فتن أبناء الأشراف بسحر غنائه فأجزلوا له العطايا وضيعوا تراثهم عليه، كان عبدا من عبيد مكة، وأبو محجن نصيب بن الزنجي لقد لقي الحظوة من أمراء كثيرين وحكام مختلفين منذ أيام عبد الملك إلى أيام هشام. وقد حشا يزيد الثاني فاه درا في يوم من الأيام.
وأبو عباد معبد - أمير الغناء في عصره - أطرب ثلاثة من الخلفاء، وغشي على يزيد من الطرب وهو يستمع لغنائه، ومنحه خلفه اثني عشر ألف دينار جائزة واحدة، ومشى في جنازته الوليد الثاني هو وأخوه في ثياب السواد حدادا عليه، وكان قد مات في قصره.
ويبدو أن سلامة الزرقاء - التي بلغ ثمن القبلة منها أربعين ألف درهم - كانت من سلالة السود، وكانت سلامة القس وحبابة صاحبتها من جواري المدينة المولدات، وتروى قصة من أشجى القصص العربية عن غرام يزيد بحبابة هذه وموته حزنا عليها.
والأدلة كثيرة على أن أصوات الجواري السود وأساليبهن في الغناء كان لها سحر ملحوظ في نفوس ساداتهن المسلمين، كما يؤخذ من مطالعة أدباء العرب والفرس في بعض الأحيان. وقد قيل: إن إسماعيل بن جامع أعظم المغنين في عصر الإسلام الذهبي أعطى جارية سوداء أربعة دراهم لينقل عنها نغما غريبا سمعها تترنم به وهي تحمل الجرة على رأسها. ثم وضع في ذلك النغم دورا سمعه الخليفة هارون الرشيد فقال: إنه لم يسمع مثله قط في جماله وابتكاره وأجازه عليه بأربعة آلاف دينار ومنزل نفيس الأثاث والرياش.
ويقص علينا السعدي - الشاعر الفارسي - أنباء أخرى نعلم منها أن أرباب الغناء من السود قد بقيت لهم منزلتهم في هذا الفن إلى ما بعد صدر الإسلام، ومن تلك الأنباء قصة رواها في كتابه بستان الورد من أحوال الدراويش وكان لها شاهد عيان.
قال:
خرجت إلى الحجاز في رفقة من الشبان الأذكياء، وكانوا يترنمون في الطريق بين حين وحين ببعض الأشعار الصوفية، وكان بيننا رجل من الأتقياء ينكر سلوك الدراويش؛ لأنه يجهل حالهم ولا يعرف نجواهم، فلما بلغنا نخل بني هلال برز لنا من خيام بعض العرب غلام أسود يتغنى بصوت يستنزل الطير من السماء، ونظرت إلى جمل صاحبنا التقي قد أخذه الصوت الساحر فألقى براكبه إلى الأرض وهام في الصحراء، فصحت بالرجل: يا هذا! إن صوت هذا الفتى قد عمل في الحيوان الأعجم ولم يعمل فيك.
وذاك أنه كان من عادات العرب القديمة أن يحفزوا الإبل إلى المسير والصبر على السفر بألحان الحداء، وقد روى جنتيوس
Gentius
معقبا على هذه الواقعة في ترجمته لبستان الورد (أمستردام 1654) قصة أخرى أعجب من الأولى فقال:
إن مؤلفا من الثقات نزل بضيافة رجل في الصحراء ضاعت منه جميع إبله، فجاءه عبد زنجي وسأله أن يتشفع له عند مولاه في ذنبه، فلما حضر الطعام أبى المؤلف الضيف أن يمد يده إليه أو يصفح صاحب الدار عن ذنب مولاه. فقال له صاحب الدار: إن هذا العبد خبيث ضيع عليه ماله ورده إلى أسوأ الحال، وقد منحه الله صوتا جميلا فأقمته حاديا لإبلي فأجهدها بسحر حدائه حتى قطعت في يوم واحد مسيرة ثلاثة أيام. ولكنها لم تلبث أن نفقت جميعا ساعة وضعت عنها أحمالها لفرط ما نالها من الإعياء، وقد وجب لك حق الضيف فتقبلت شفاعتك وأعفيت هذا العبد الخبيث من الجزاء.
ومن النوادر التي تروى في هذا المعنى وتدل على شأن الحداة في المشرق: نادرة حكاها جلال الدين في تاريخه حيث قال:
إن المنصور أجاز سالما الحادي بنصف درهم؛ لأنه أطربه بحدائه حتى أوشك أن يسقط عن جمله، فقال سالم: لقد حدوت لهشام فأجازني بعشرة آلاف!
فمما لا شك فيه أن المغنين في الجاهلية وفي الصدر الأول من الإسلام كانوا على الأكثر من العبيد والمولدين، وأن هؤلاء العبيد السود كانوا من ذوي الهبات الصوتية العجيبة وبلغوا الرفعة بمهارتهم في الصناعات الموسيقية، فلا داعي للشك في ملكة الغناء عند بلال ولا في قيام المأثورات عن صوته الحسن على أساس صحيح ... ويبقى أن ننظر هل هو الذي أبدع لحن الأذان الذي مضى عليه المؤذنون من بعده أو أنه قد أدى الأذان كما أمر به وأوحي إليه.
وعلينا أن نذكر «أولا» أن العرب الأقدمين مع حساسيتهم الموسيقية لم ترتفع الموسيقى بينهم فوق طبقة التجويد الصوفي إلا في الفرط النادر، وغاية ما بلغوه في هذا الباب يشبه الصدحات الكورسيكية الحديثة بما فيها من الزركشة والترديد على هوى المغني أو على هوى السامعين، فتعاد الكلمة الواحدة مرة بعد مرة بتمويه وتجويد ومد وقصر يطول التكرار فيه حتى ليستغرق إلقاء القطعة الواحدة من النظم بضع ساعات.
ولا تزال هذه النزعة في الغناء باقية على حالها بين العرب المحدثين، فقد صدق بيرون
حين سأل: أي سائح في مصر لم يسمع كلمة يا ليل تعاد مرة بعد مرة نصف ساعة أو تزيد؟
والأغلب أن الأنغام العربية لم تكن لتزيد في عهد الدعوة المحمدية على ثلاثة أنواع متميزات: وهي ما يسمى بالنغم البسيط ويغنى به في مقام الوقار ومعارض البطولة أو السهولة كغناء الحرب والحداء.
وما يسمى بالنغم المركب وهو يتألف من حركات عدة وترجيعات صوتية كثيرة، وما يسمى بالخفيف وهو يستخف السامع إلى الطرب ويهزه ويحرك أشجانه ويخرجه عن الوقار.
ولما كان بلال عبدا وكان ولا ريب في بعض أوقاته يسوق الإبل فقد كان على الأرجح يتغنى بالحداء ويعالج النغم البسيط، ولكنه - بسليقته الأفريقية التي طبع عليها أبناء جلدته - ربما وجد من وقته متسعا لترديد الأصوات المركبة واستطاع من ثم أن يلقي الأذان في ألحانه المعروفة.
فلا يخفى أن النغم الذي يسمع في المنام قلما يثبت في الذاكرة، وأن النغم الذي سمعه المسلم الصالح من الطيف الغريب صاحب الثياب الخضر يصعب أن يعلق بذاكرته ويجري على لسانه وهو يقص رؤيته على النبي (صلوات الله عليه).
فلا يبعد إذن أن يكون بلال قد سمع الأذان وصاغ منه اللحن الذي أوحته إليه سليقته الأفريقية الآبدة فأقره النبي عليه كما أقره على ما أضافه بعد ذلك إلى أذان الصبح حيث زاد عليه «الصلاة خير من النوم».
ولا جرم يقره محمد على أسلوب ترتيله وهو الذي كان يقربه إليه ويسأله الرأي في مهمات الأمور. وقد كان يؤثره على غيره من المؤذنين، فلم يكن يؤذن لأحد الرجلين اللذين ندبا للأذان بعده أن يدعو إلى الصلاة وبلال قادر على الدعاء إليها. •••
ولزم بلال النبي عن كثب طوال حياته، فكان يوقظ النبي بعد الأذان أحيانا بآية من الآيات أو بكلمة من جوامع الحكمة والتقوى. فإذا اجتمع المصلون بالمسجد اتجهت الأنظار نحو الأفريقي الواقف بالصف الأول ليتلوه في حركات الصلاة، فإن من واجب المؤذن بعد إعلان الأذان أن يصحب الإمام بالتكبير والدعاء كما يصنع الشماس مع الأسقف في الصلاة المسيحية.
ولما تعاظمت قوة الإسلام تعاظمت معه مكانة بلال وعهدت إليه أمور أهم وأكبر من الأذان، فكان خازن بيت النبي وأمينه على المال الذي يصل إلى يديه، وتلقى من النبي مفاتيح الكعبة يوم دخل مكة في موكبه الظافر، وكان هو الذي أقام الأذان على أعلى مكان في تلك البنية التي اشتهرت الآن في أنحاء الكرة الأرضية. وكان هو الداعي إلى الصلاة يوم حضر إلى المدينة ملوك حضرموت للدخول في الإسلام، وكان هو الذي يدعو إلى الصلاة حين يحتشد فرسان الإسلام بالصحراء لقتال عابدي الأوثان.
وتروى عنه أخبار شتى بعد وقعة بدر وفتح خيبر تشف عن بغض شديد لأعداء وليه والمحسن إليه لا حاجة بنا في هذا المقام إلى تفصيلها، وأجمل من هذا أن نذكر للأسود الأمين غيرته على شخص النبي يوم ذهب معه في حجة الوداع فظل يحرص على راحته طوال الطريق ويمشي إلى جانبه مظللا إياه بستار في يده يحميه وهج الظهيرة، ولعله في تلك الرحلة قد عبر في الوادي المقدس تلك الأماكن التي كان سادات قريش يعذبونه هو في حر شمسها.
ثم توفى محمد «عليه السلام» فسكت الصوت العجيب ودعي مؤذنون آخرون لدعاء المسلمين إلى الصلاة. لأن بلالا عاهد نفسه ألا يؤذن لإمام بعد نبيه ووليه.
ولا نعلم كم من الوقت قضاه بلال في صحبة أبي بكر بالمدينة، ولكنه ولا ريب كان في موضع الرعاية والكرامة بين المسلمين، وكان له من جلالة القدر في أنظارهم ما خوله أن يخطب امرأة عربية حرة لأخيه الأسود، وهي رعاية عظمى بين قوم لا يزالون يفخرون بصحة النسب ويسمون أنفسهم بالأحرار أي الخلص من النسب الخليط.
ويؤخذ من بعض الأنباء أن بلالا قد تولى بعض مهام الدولة بعد الخليفة الأول. فلما أراد الخليفة العادل الصارم في عدله - عمر بن الخطاب - أن يحاسب «سيف الله» خالد بن الوليد على بعض أعماله كان بلال هو الذي نزع عمامة خالد وأوثق يديه أمام جماعة المسلمين بالمسجد وهو يردد مشيئة أمير المؤمنين.
ولكننا لا نسمع بعد هذه القصة عن بلال إلا القليل، حتى وصل عمر إلى الشام فنعلم أنه كان يصحب الجيش وأنه كان قد منح بجوار دمشق قطعة من الأرض واعتزل الحياة العامة كل الاعتزال.
وكان معظم الصحابة قد فارقوا الدنيا، ولحق أبو بكر وخالد بالنبي في رضوان ربه، كما لحق به آخرون ممن جاهدوا معه في معارك الإسلام الأولى. ولم يكن الجيل الجديد على نمط الجيل الذي تقدمه في المعيشة، فزالت أو كادت تزول من حياة العرب تلك البساطة البدوية التي درجت عليها، وظهرت بينهم بدع من الترف الآسيوي لم تكن معهودة فيما مضى، وتدفقت أموال فارس على المدينة كأنها سيل من الذهب حتى دمعت عينا الخليفة عمر وهو ينظر إليها ويخشى منها الفتنة والحسد على رعاياه.
وفي خلال ذلك كانت العقيدة التي تعذب بلال من أجلها ودان بها زمنا وهي لا تتجاوز حي أبي طالب، قد جاوزت البرور والبحار إلى سورية وفلسطين وفارس، وشهدها قبل أن يسلم روحه إلى ذلك الذي لا ينام وهي تسلك سبيلها إلى القارة الأفريقية فتضمها إلى فتوح الإسلام. وبهذا أصبحت دعوته الأولى - دعوة الأذان - مستجابة بين أقوام من المتعبدين من تخوم الهند إلى شواطئ الأطلس، وقرع فرسان الصحراء العربية أبواب كابل ... ولعل ولدا من ذرية بلال قد عاش حتى رأى الدولة تمتد على بقاع الأرض مسيرة مائتي يوم بين المشرق والمغرب. وإن ما بلغته الفتوح الإسلامية - حتى في السنة الثانية عشرة للهجرة - لخليق أن يستجيش في صدر الشيخ الهرم حمية الدين التي عمر بها ما بين جانحيه. •••
سكت صوت بلال عن ترديد الأذان بعد نبيه ووليه؛ لأنه رأى - في حسبانه التقي - أن الصوت الذي أسمع نبي الله ودعاه إلى بيت الصلاة لا ينبغي أن يسمع بعد فراق مولاه. ولنا أن نتخيله في مأواه بالشام وإنه ليدعى مرارا إلى ترديد ذلك الدعاء الذي أعلنه لأول مرة تحت قبة السماء المضاءة بمصابيح الكواكب، وإنه ليضطر مرارا إلى الإباء والاعتذار لأولئك الذين كانوا يجلونه إجلال القديسين وبودهم لو بذلوا أموالهم كلها ليسمعوه.
إلا أنه لما ذهب عمر إلى دمشق توسل إليه رؤساء القوم أن يسأل بلالا إقامة الأذان تكريما لمحضر أمير المؤمنين، فرضي بلال وكان أذانه الأخير. •••
لقد كانت غيرة فتيان الدين الجديد في تلك الأيام غيرة يوشك ألا تعرف الحدود، ومن المحقق أن النبأ الذي سرى بينهم مبشرا باستماعهم إلى أذان بلال قد أذكى في نفوس أهل المدينة الوردية الشذى حمية مفرحة لا نظن أن العالم المسيحي قد شهد لها مثيلا في غير أيام الصليبيين.
فلما شاعت البشرى بين أبناء المدينة بسماع صوت المؤذن النبوي لاح للأكثرين ولا شك أن الظفر بسماع هذا الصوت غنيمة مقدسة تكاد تضارع الظفر بسماع صوت النبي عليه السلام ... وأنها أفخر أحدوثة في الحياة تروى بعد السنين الطوال للأبناء والحفدة. وقد يكون في المدينة من تلقى النبأ بشعور لا يتجاوز التطلع والاستشراف، ولكن الأكثرين الذين تزاحموا في صمت وخشوع واجفي القلوب مرهفي الآذان لسماع «التكبيرة» المعروفة قد خامرهم ولا ريب شعور أعمق وأقوى من أن يلم به النسيان. وتزكي روايات العيان هذا الاعتقاد؛ لأننا نعلم من تلك الروايات أنهم بعد لهفة الانتظار في تلك اللحظة لم يلبثوا أن سمعوا رنة الصوت الجهوري تشق حجاب السكون، وتتعاقب من حنجرة الشيخ الأفريقي بتلك الكلمات المحبوبة الباقية، حتى بكى عمر ومن معه وتحدرت الدموع على وجوه أولئك الأبطال المجاهدين، وارتفع لزفراتهم نشيج عال غطى في المسجد على دعاء الأذان الأخير.
أي فنان موسيقي أو دارس لتاريخ الموسيقي ليود لو يسمع كيف كان صدى بلال في ذلك الأذان، وأن يسمع الكلمات الخالدات كما كانت تسمع من أول المؤذنين!
ولا حاجة بنا إلى أن نقول: إنها أمنية مستحيلة؛ لأن فن النوتة أو تدوين الأنغام لم يكن معروفا يومئذ بين العرب ولم تكن لهم وسيلة لنقل الصوت من جيل إلى جيل غير تعليق الذاكرة، فليس في وسعنا أن نجزم كل الجزم بما بقي أو بما تبدل من تلحين بلال للأذان. ولكننا نرجع إلى الظن وقد يغني في هذا الباب. ولدينا من الأسباب ما يكفي لترجيح بقاء الأصوات نيفا وألف سنة محفوظة في الذاكرة بغير تدوين، ولعلنا نستطيع القول بأن بعضا من النغمات العبرية بقيت بهذه الوسيلة من أيام سليمان ، وليست غيرة العرب على المأثورات الدينية بأقل من غيرة العبريين، فلا جرم تسنح لأنغام الأذان فرصة للبقاء في الذاكرة كالفرصة التي سنحت لأناشيد إسرائيل.
فمن الجائز أن الأذان الحديث فيه على الأقل نغمات مشابهة للنغمات التي ابتدأ بها بلال إذ كانت الكلمات نفسها باقية بغير تبديل.
ولعل مصر التي فتحت وبلال بقيد الحياة - مصر بلد الخلود الذي لا يقبل التبديل - قد حفظت دعوة الصلاة كما كانت ترتل في العشرة الثانية بعد الهجرة المحمدية، وقد سمعت الأذان من مؤذنين سمعوه من بلال.
ويرضينا أن نعتقد أن بلالا نفسه قد أدى الأذان على نحو يشبه أداءه المسموع في مصر الحديثة كما سجله فيلوتو
Villoteau ، وهو أنغام تذكر السامع برسوم العمارة العربية وتنقسم إلى أجزاء وأجزاء، مما يقع موقع الغرابة في تأثيره على مسامع الغربيين.
وقد كان المؤذن الذي سمعه فيلوتو أقرب إلى التفنن من المؤذن الذي سجل لين
Lane
نغماته في كتابه عن المصريين المحدثين، فإذا بها تنتهي وفي السمع انتظار لبقية تالية ... ولعلنا نؤثر أن يكون تلحين بلال من قبيل ذاك الأذان لما فيه من تجزئة النغم التي يألفها العرب وتشبه تلك الخفايا المستغربة في الأصداء الأفريقية. إلا أن النغم الآخر مع هذا يعبر عن بساطته عن جمال ووقار، ويوحي إلى معنى العبادة الخالدة التي لا نهاية لها والتي هي أبدا في ابتداء بغير ختام، كما يوحي إلى صلاة معلقة تتصل بما بعدها ولو كانت هي آخر صلاة.
تعقيب
من الصفحات التي مرت بنا - مترجمة من الإنجليزية عن الكاتب الألمعي لفكاديوهيرن - يتبين للقارئ منزعه الأدبي في الكتابة والتصوير. وهو على الأغلب منزع الخيال والمجاز والعطف على الحياة الشرقية التي تمتزج بتواريخ الروحيات والدينيات على الإجمال، وهو مع تحقيقه في مراجعة المصادر التي اعتمد عليها لم يخل من هفوة هنا أو هناك لا يعيبها سوء النية الذي تشف عنه أقوال الكثيرين من المستشرقين، وإنما يوقعه في الخطأ حب المجاز أو الاسترسال في صقل موضوعه وتجميل صورته، فلا يستغني هذا المقال الممتع الذي حيا به ذكرى المؤذن الأول عن تعقيب نصحح فيه من مقاله ما يحتاج إلى التصحيح أو الاستدراك.
فمن هفواته العرضية إشارته إلى «عقب» بلال رضي الله وليس له عقب، كما ورد في ابن هشام نصا، وكما يفهم من السكوت عن ذكر بنين له أو بنات في كل ما قرأناه عنه.
ومن هذه الهفوات العرضية اعتقاده أن أبا رويحة كان أخا لبلال من أبويه أو من أحدهما، وهو على أرجح الأقوال أخوه في الإسلام على سنة المؤاخاة التي كان النبي (صلوات الله وسلامه عليه) يعقدها بين الصحابة من أنصار ومهاجرين.
غير أن هفوته الظاهرة هي مذهبه في تعليل كثرة المغنين والمغنيات بين الموالي في بلاد العرب وقلتهم بين أبناء البلاد الأصلاء، فإنه يجنح في كلامه إلى تعليل هذه الكثرة بنقص في الأداة الصوتية، أو في القدرة الفنية عند العربي الأصيل، وأن الموالي والجواري من السود والأحباش سلموا من هذا النقص فكثر اشتغالهم بفن الغناء في الحجاز ثم في غيره من الأقطار الإسلامية.
وظاهر أن هذا التعليل بعيد من الصواب؛ لأننا نسمع العرب اليوم في حديثهم وندائهم كما سمعوا قبل الإسلام فلا نجدهم قاصرين في الجملة عن أداء صوت من الأصوات أو الارتفاع في جهارة الصوت وقوته إلى طبقة من الطبقات، ولكنهم كانوا يعرضون عن صناعة الغناء؛ لاعتقادهم في بداوتهم أنها صناعة أنثوية لا تليق بالفارس المقدام ولا بالرجل الكريم، وأن المنادمة والتسلية بجمال المسمع أو جمال المنظر أدنى إلى عمل النساء منها إلى عمل الرجال، وكانوا أهل حرب أو تجارة فلا يحمدون من الرجل الكريم أن يشتغل بعمل غير القتال أو تسيير القوافل بين رحلتي الصيف والشتاء، وكثيرا ما كان تسيير القوافل بالتجارة ضربا آخر من ضروب القتال.
وتوارثوا هذا الاعتقاد إلى ما بعد أيام الدولة الإسلامية، فكان الغناء مقصورا على الموالي والجواري أو على المخنثين الذين يتشبهون بالنساء في المظهر والكساء، ولهذا كانوا يرسلون الشعر ويطلون الوجوه وعنهم أخذ الأوروبيون هذه العادة وعمموها في أزياء أصحاب الفنون من موسيقيين ومصورين وممثلين، وظل إرسال الشعر وطلاء الوجه شائعا بينهم إلى زمن قريب، بعد أن نقلوه من الأندلس ونقله الأندلسيون عن أهل الصناعة في مدن الحجاز.
فكثرة المغنين بين الموالي والجواري إنما ترجع إلى هذه العلة لا إلى عجز الأداة الصوتية في العرب الأصلاء. وقد كانت لهم صناعة غناء لا ينكرونها وهي الحداء والنصيب وما إليه، فكانوا يبلغون بها أقصى مدى الصوت الإنساني في العلو والقوة والامتداد، وقد سمعناهم في البادية مع القمراء، فكانت أصواتهم الجهيرة تملأ الصحراء، وهي في الغناء أعسر مكان على امتلاء.
وصوت بلال رضي الله عنه لم يطلب مع هذا للآذان؛ لأنه عرف قبل ذلك في أفانين الغناء، ولعله رعى الإبل وحداها في بوادي الحجاز أو في الطريق بين الحجاز واليمن وبين الحجاز والشام، ولم يذكر قط أنه اشتغل بغير هذا الضرب من الغناء قبل الإسلام أو بعد الإسلام، فإنما عرفت جهارة صوته في الحرب والسلم وحداء الطريق، فاختاره النبي عليه السلام للأذان، وكانت تقواه وغيرته على الصلاة والعبادة ولزوم المسجد من أسباب ذلك الاختيار.
Unknown page