وقال آخر: إنها آمال يا سي الشيخ، مجرد آمال.
وألح حمدي مرة أخرى أن يسمعهم قصيدته «الأمل الضائع»؛ وهي تلك التي نظمها يوم علم بزواج أخيه من هنية، ذلك اليوم البغيض الذي أرسل إليه فيه الحاج والي خطابا يدعوه أن يذهب إلى القرية ليحضر الكتاب فلم يذهب، ومكث يومين في حجرته لا يبرحها لا عمل له إلا نظم هذه القصيدة، واستقبال مفيدة كلما عن لها أن تزوره.
وألقى حسين القصيدة، وكان ذهنه مشغولا في أثناء إلقائها بالتحسر على آماله؛ آمال الإنسان وآمال الشاعر فيه. أتضاءلت الآمال حتى لم تصبح إلا هذه القصيدة؟ أتراها تضاءلت فأصبحت قصيدة أم تعاظمت فأصبحت قصيدة؟ أيهما أعظم، الآمال المنهارة أم القصيدة الرائعة؟ أهي رائعة؟! لقد قلت شيئا على كل حال، وإني أحس ما فيها من ألم - إن لم أقل شعرا - وأنا أرى أخي ينتهب آمالي، فأنا لن أقول من بعد شعرا أبدا. أكان يعرف ما بنفسي؟ ألم أكن أخفي حبي لا يدريه أحد؟ وماذا يهم إن كان يعرف أو لا يعرف، لقد حطم لي هذا كل شيء، ولا يهمني إن كان يعلم أو كان لا يعلم؛ النتيجة واحدة. وكان يلقي القصيدة والدمعة تنحدر من عينيه على خده وهو مشغول أن يزيلها، بل لعله أرادها أن تنسكب في هذه المرة، فلعلها تستطيع أن تكسبه شكل شاعر إن كان لم يستطع أن يقول شعر شاعر.
وكانت القصيدة صادقة، وكان شكل حسين ودمعته والأفكار التي تمور برأسه وهو يلقي القصيدة؛ كل هذا جعل الجو المحيط به يستجلب إعجاب أصدقائه، حتى صفق بعضهم حين انتهى منها. وقال الشيخ فهمي عبد القادر: لا بد أن تنشر هذه القصيدة.
وانتفض حسين من أحلامه، ومسح دمعته وقال: تنشر! وكيف تنشر؟! - إنني أعمل مصححا في جريدة «الورود»، وأستطيع أن أقدم هذه القصيدة لرئيس التحرير. - صحيح؟! - أي والله. - أأنت تعرف رئيس التحرير؟ - نعم. - أتستطيع أن تنشر هذه القصيدة. إنني لا أريد أجرا على نشرها ...
وقاطعه الشيخ فهمي عاجبا: أجرا! إنك ستعشينا على حسابك يوم تنشر القصيدة. يظهر أنك لا تقدر معنى نشرك قصيدة في مجلة «الورود»؛ معناها أنك ستصبح أحد شعرائها، مثلك مثل محمود أدهم وأمين كامل.
وقال حسين في لهفة: محمود أدهم! أتعرفه؟ - أراه كل يوم. - ما أسعدك! أنا معجب بشعره الغنائي كل الإعجاب. - غدا تعرفه. - يا ليت.
وقال حمدي: متى ستنشر القصيدة يا شيخ فهمي؟
وقال الشيخ فهمي في شعور عميق بالأهمية: كل آت قريب يا شيخ حمدي، كل آت قريب.
الفصل الثاني والعشرون
Unknown page