بسم الله الرحمن الرحيم
(قال) الشيخ الإمام العلامة بدر الدين أبو عبد الله محمد بن أبى بكر المخزومي رحمه الله تعالى ورضى عنه: الحمد لله الذي شرح صدورنا لسلوك عروض الإسلام، وجعل أفكارنا قافيةً لآثار العلماء الأعلام، تمسكًا من محبتهم بأوثق الأسباب، وتبركا بفضلهم الوافر الذي لا يعقله إلا العالمون أولو الألباب، أحمده حمد من ذللت له الصعاب فنجا من مهالكها، وظفر بكنوزها، ورامت المشكلات أن تتحجب عنه فاطلع على خباياها وكشف له عن رموزها. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، الذي نهى عما شان، وأمر بما زان، فقال وقوله الحق (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الخليل الأعظم، والسيد الذي لم تنزل مناقبه في أبيات الشرف تحل، وفي أسلاك السؤدد تنظم، الذي أفاض على أهل البسيطة مديد فضله وبسيطه، ونهك المشركين حتى أصبحت دائرة السوء بهم محيطة:
يالهُ من رسولِ حقٍ كريمٍ ... للعدى والهدَى مُبيدٍ مُفيدٍ
إنْ أكنْ بالمديح أشعُر فيه ... فاعترافى بالعجز بيتُ القصيدِ
صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ذوى الشيم التي هي فاعلات لكل جميل وكافلات للظفر من مراقبة الحق بغاية التأميل، الذين أتقنوا تأسيس الدين، وأحسنوا توجيه النفوس إلى مكارم الأخلاق، وقيدوا الأوقات على هذا الصنع الجميل وما جرى مجراه فشكر لهم ذلك التقييد على الإطلاق.
ووالى الصلاة وسلم وشرف ومجد وكرم.
أما بعد، فلا يخفى أن العروض صناعة تقيم لبضاعة الشعر في سوق المحاسن وزنًا، وتجعل تعاطيه بالقسطاس المستقيم سهلًا بعد أن كان حزنا. وقد كنت في زمن الصبا مشغوفا بالنظر إلى محاسن هذا الفن، مولعًا بالتنقير عن مباحثه التي طن على أذنى منها ما طن، أطيل الوقوف بمعاهده، وأتردد إلى بيوت شواهده، وأسبح في بحاره سبحا طويلا، وأجد التعلق بسببه خفيفا، وإن كان الجاهل يراه سببًا ثقيلا، إلى أن ظفرت في أثناء تصفحي لكتب هذا بالقصيدة المقصورة المسماة بالرامزة، نظم الشيخ الإمام البارع ضياء الدين أبى محمد عبد الله بن محمد الخزرجى نور الله ضريحه، وأمد بمدد الرحمة روحه، فوجدتها بديعة المثال بعيدة المنال، ورمت أن أذوق حلاوة فهمها فإذا الناس صيام، وحاولت أن أفترع أبكار نعانيها فإذا هي من المقصورات في الخيام.
وطمعت منها في لين الانقياد فأبدت إباءً وعزا، وسامتها الأفهام أن تفصح عن المراد فأبت أن تكلم الناس إلا رمزًا، فطفقت أطلق النوم لمراجعتها وأنازل السهر لمطالتعها، مع أنى لا أجد شيخا أتطفل بقدرى الحقير على فضله الجليل، ولا أرى خليلًا أشاركه في الفن، وهيهات عدم في هذا الفن الخليل.
ولم أزل على ذلك إلى أن حصلت على حل معقودها، وتحرير نقودها، وسددت سهام البحث إليها، وعطرت المحافل بنفحات الثناء عليها، فقتلتها خبرًا وأحييت لها بين الطلبة ذكرا، وعلقت عليها شرحًا مختصرًا يضرب في هذا الفن بسهم مصيب، ويقسم للطالب من المطلوب أوفى وأوفر نصيب.
ثم قدم علينا بعض طلبة الأندلس بشرح على هذه المقصورة للإمام العلامة قاضي الجماعة بغرناطة، السيد الشريف أبى عبد الله محمد بن أحمد الحسيني السبتى، ﵀ عليه ورضوانه، فإذا هو شرح بديع لم يسبق إليه، ومؤلف نفيس ملأه من بدائع الحل بما يستحليه ذوق الواقف عليه، ووجدته قد سبقني إلى ابتكار ما ظننت أنى أبو عذرته، وتقدمني إلى الاحتكام في كثير مما خلت أنى مالك إمرته، فحمدت الله إذ وفقني لموافقة عالم متقدم، وشكرته على ما أنعم به من ذلك، ولم أكن على ما فات من السبق بمنتدم، لكنني أعرضت عما كنت كتيته، وطرحته في زوايا الإهمال واجتنبته، إلى أن حركت الأقدار عزمي في هذا الوقت إلى كتابة شرح وسيط، فوق الوجيز ودون البسيط، جمعت فيه بين ما سبق إليه من المعنى الشريف، وما سنح بعده للفكر من تالد وطريف، وبعض ما وقفت عليه لأئمة هذا الشآن، متحربًا لمازان متحربًا عما شان، معترفا بعجز الفكر وقصوره، وكلال الذهن وفتوره.
ولما حوى هذا الشرح عيونا من النكت تطيل على خفايا المقصورة غمزها، وتكشف للأفهام حجبها المستورة وتظهر رمزها، سميته (بالعيون الغامزة على خبايا الرامزة) والله أسأل أن ينفع به ويصل أسباب الخير بسببه، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
1 / 1
قال الناظم رحمه الله تعالى:
وللشعرميزانٌ تسمى عروضُهُ ... بها النقصُ والرجحانُ يدريهما الفتى
أقول: أورد كلامه في هذا البيت على وجه يشعر بتعريف العروض، وكأنه يشير إلى ما عرفه به بعض الفضلاء حيث قال: (العروض آلة قانونية يتعرف منها صحيح أوزان الشعر العربي وفاسدها) .
فغن قلت: الشعر في هذا التعريف مقيد بالعربي وهو في البيت غير مقيد به، فأنى يشعر كلام الناظم بذلك؟ قلت: لام التعريف من قوله للشعر هي للعهد الذهني، وذلك أن الشعر الذي يعرض فيه العروضيون كلامهم إنما هو العربي، ولما كان الناظم ذمنهم علم بقرينة الحال أن مراده بالشعر ما هو معهود في الأذهان من الشعر المتعارف عند القوم الدائر فيما بينهم، وليس إلا العربي.
وقد ذكروا في وجه تسمية هذا العلم بالعروض وجوهًا أقربها أن العروض اسم لما يعرض عليه الشيء، فنقل إلى هذا الفن لأنه يعرض عليه الشعر، فما وافقه فصحيح وما خالفه ففاسد.
وقال بعض شارحي الساوية: الذي وقع في خاطري أنه سمي بالعروض لأن الخليل ألهمه في العروض، وهي مكة، فسماه بها تبركا وتيمنا، ورغم أن هذا أجود مما ذكروا.
فإن قلت: ماذا أراد الناظم (بالنقص والرجحان)؟ قلت: الظاهر أنه أراد بالنقص مخالفة الطريقة العربية في وزن الشعر، وبالرجحان موافقتها فيه، فما خرج عن أوزان العرب كان ناقصًا أي لا يعتبر، وما جرى على أسلوبها كان راجحًا، أي معتبرًا معتدًا به عند أئمة هذا الشآن.
وقال الشارح الشريف: (يريد أن صناعة العروض لما كانت هي الآلة التي يعرف بها صحة أوزان الشعر كانت له كالميزان الذي يظهر لك اعتدال الشيئين من استواء كفتيه، ويبين التباين برجحان إحداهما على الأخرى أو نقصها عنها) .
قلت: قضية هذا أن يكون النقص والرجحان جميعًا مشارًا بهما إلى مخالفة شعر العرب، وفيه ما فيه فتأمل.
فإن قلت: كيف يضبط يسمى؟ بالتاء المثناة من فوق، أم الياء آخر الحروف؟ قلت يجوز الأمران معًا، وذلك أن كل لفظتين وضعتا لذات واحدة إحداهما مؤنثة والأخرى مذكرة، وتوسطهما ضمير، جاز تأنيث الضمير وتذكيره. ذكره ابن الحاجب في شرح مفصل.
ولا يخفى أن الميزان مذكر والعروض مؤنث، وأن المراد بهما في هذا المقام واحد، وهو ما وضعنا له من هذا العلم، فقوله (يسمى) محتمل الضمير، فإن اعتبرت تذكير الميزان جعلت الضمير مذكرًا، وإن اعتبرت التأنيث باعتبار العروض جعلته مؤنثًا، والتأنيث هنا أحسن لأن العروض مؤنثة، وهي في المعنى خبر عن الميزان، والخبر محط الفائدة. وإلى نحو ذلك أشار ابن الحاجب حيث تكلم على قول الزمخشرى في المفصل بأثر تعريفه للكلام: (ويسمى الجملة) .
والضمير المجرور من قوله (بها) يجوز أن يعود على العروض، وأن يعود على الميزان باعتبار كونه آلةً، أو باعتبار أن المراد به العروض، وهي مؤنثة كما سبق. فإن قلت هل من فرق بين التقديرين؟ قلت: نعم، فإنا إن أعدنا الضمير على العروض كانت الجملة بأسرها وهي قوله (بها النقص والرجحان يدريهما الفتى) لا محل لها من الإعراب، وإن أعدناه على الميزان كان لها محل من الإعراب، وهو الرفع على أنها صفة ثانية للميزان، فحرره.
وأما الشعر فقال الخليل: هو ما وافق أوزان العرب، ومقتضاه أنه لا يسمى شعرًا ما خرج عن أوزانهم، بل وأن لا تكون أوزان العرب نفسها شعرًا، إذ الموافق للشيء غيره، فلو دخلت أوزان العرب فيه لزم مغايرة الشيء لنفسه وهو باطل. وبعضهم عرفه بأنه: (الكلام الموزون، المقصود به الوزن المرتبط لمعنى وقافية) . قال: فالوزن تساوي شيئين عددًا وترتيبًا. قال: والقصد مخرج لما ورد في القرآن والحديث من آيات وكلمات موزونة. قال: وقولنا المرتبط لمعنىً مخرج لما لا معنى له من الكلام الموزون، نحو ما أنشده القللوسى:
وجهُكَ يا عْمرو فيه طولُ ... وفي وجوه الكلاب طولُ
والكلبُ يحمى عن المواشي ... ولستَ تحمي ولاتصولُ
مستفعلن فاعلن فعولن ... مستفعلن فاعلن فعول
بيت كما أنتَ ليس فيه ... شيءٌ سوى أنه فضولُ
قلت: قوله (الكلام) يغني عن قوله (المرتبط لمعنى) ضرورة لا كلام إلا وهو مرتبط لمعنى، إذ لو خلا عن معنى يرتبط له لم يكن كلامًا.
1 / 2
قال: وقولنا (وقافية) تحرز من الموزون وليس مقفى، نحو ما أنشده القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب الإعجاز له:
ربّ أخٍ كنتُ به مغتبطًا ... أشد كفِّى بُعَرى صُحبتهِ
تمسكًا مني بالودِّ ولا ... أحسبُه يَزهد في ذي أملِ
قلت: يلزم عليه أن لا يكون ما فيه عيب الإكفاء والإجازة شعرًا.
واللازم باطل، فإنه شعر بالإجماع، وإن كان معيبًا، وبعد هذا كله فهو منطبق على ما كان من الكلام بالمثابة المذكورة، وهو خارج عن الأوزان العربية، والقوم يأبون ذلك، فإن موضوع هذا العلم عندهم الكلام الموزون بشيء من هذه الأوزان المخصوصة المقررة فيه. ولو قيل: (الشعر كلام وزن على قصد بوزن عربي لكان حسنًا) فقولنا (كلام) جنس يشمل المحدود وغيره، وتصدير الحد به مخرج لما لا معنى له من الألفاظ الموزونة. وقولنا (وزن) فصل يخرج الكلام المنثور. وقولنا (على قصد) يخرج ما كان وزنه اتفاقيًا، كآيات شريفة اتفق جريان الوزن فيها كذلك، كما في قوله تعالى (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وكلمات شريفة نبوية جاء الوزن فيها اتفاقيًا غير مقصود، كما في قول النبي ﷺ:
هل أنتِ إلا إصبعٌ دميتِ ... وفي سبيل اله ما لقيتِ
فمثل ذلك لا يسمى شعرًا، نعود بالله من ذلك. وكذا لو وقع من متكلم لفظ موزون لم يقصد كونه على طريقة الموزون كما يتفق لكثير من الناس، ويقع مثل ذلك حتى لعوام لا شعور لهم بالشعر، ولا إلمام لهم بالوزن البتة، وقد عمد قوم من الشعراء إلى آيات شريفة أدرجوها في أشعارهم إخلالًا منهم بما يجب من مراعاة الآداب والوقوف عند حدود الله، كقول ابن العفيف التلمساني يتغزل:
يا عاشقين حاذروا ... مبتسمًا عن ثغرهِ
فطرفه الساحرُ مْذ ... شكتكمُ في أمرهِ
يريد أن يخرجِكُم ... من أرضكم بسحرهِ
وكقول أبي نواس فيما حكى عنه موطئًا للآية الشريفة التي تلوناها آنفًا.
خُطّ في الأرداف سطرٌ ... في عروض الشعر موزونْ
وهذا من أفحش السخف وأقبحه، والتهاون بالوقوع في ذلك يجر إلى الانسلال من الدين والعياذ بالله تعالى.
والعجب من قوم يروج عليهم مثل هذا الصنع القبيح، ويستلذون سماعه، ويرونه من الظرف واللطافة، ويعمرون مجالسهم وأنديتهم بمثل ذلك. أولئك لا خلاق لهم في الدنيا والآخرة.
فإن قلت: قد جعل علماء البديع تضمين المتكلم كلامه، شعرًا كان أو نثرًا، شيئًا من القرآن- لا على أنه منه- من المحاسن، وسموا بالاقتباس، كما هو معروف، ومعنى قولهم (لا على أنه منه) أن يورد الكلام المقتبس على وجه لا يكون فيه إشعار بأنه من القرآن، بأن لا يذكر فيه: قال اله تعالى، ونحوه، على ما صرح به التفتازانى، قلت: ذلك محمول على ما إذا لم يؤد الاقتباس إلى إخراج القرآن الشريف إلى معنى غير لائق بجلالته، وأما إذا استعمل على ما فيه إخلال بإجلاله وتعظيمه، فلا يشك مسلم في منع ذلك وتحريمه، وربما أدى إلى الكفر والعياذ بالله. ومن ذا الذي يفهم عن علماء الإسلام أن (الاقتباس) من البديع مطلقًا، سواء كان على وجه حسن أو غيره، كيف ما كان؟ هذا ما لا سبيل إليه أبدًا. أو هو محمول على ما إذا ذكر المتكلم كلامًا وجد نظمه في القرآن فأورده غير مريد به القرآن.
قال الشيخ بهاء الدين السبكي في (شرح التلخيص): فلو أخذ مرادًا به القرآن كان ذلك من أقبح القبيح، ومن عظام المعاصي، نعوذ بالله منه. قال: وهذا هو معنى قول المصنف، يريد صاحب التلخيص، (لا على أنه منه) .
قلت: ولوسلم أن المراد بالاقتباس ما ذكر، وهو الأخذ من القرآن لا على أن المراد به التلاوة، فلا يكون ذلك عذرًا لمن فعله على وجه المجون والسخف الذي يتعاطاه المفحشون من الشعراء، ولا ترتفع به الملامة عنه، ولا يسقط بذلك ما يتوجه عليه شرعًا من تأديب وزجر وإقامة حد، ولو فتح باب لقبول العذر لمثل هذا لتطرق إلى الدخول منه كل مريض القلب، منحل عرى الدين، واتخذه ذريعة إلى الاسترسال في الاستخفاف بالشريعة، والعياذ بالله والله أسأل أن يوفقنا لاتباع سبيل السلف الصالح في القول والعمل بمنه وكرمه.
1 / 3
وقولنا (بوزن عربي) يشمل ما كان من نظم العرب أنفسهم وما كان منظومًا من كلام المحدثين على طريقتهم، وهو مخرج لما خالف أساليب أوزانهم، ومثل ذلك بعض المتأخرين بقول البها زهير كاتب الملك الصالح حيث قال:
يامنْ لعبتْ به شَمُولٌ ... ما ألطفض هذه الشمائلْ
نشوانُ يهزّه دلالٌ ... كالغصن مع النسيم مائلْ
قلت: ليس هذا من الأوزان المهملة بل هو من بحر الوافر، غير أنه أعقص الجزء الأول والرابع، معقول الثاني والخامس، والعروض والضرب مقطوفان. تقطيعه هكذا:
يا مَنْلَ عِبَتْبهِي شمُولُنْ ... ما أَلطَ فَها ذِهِشْ شمائلْ
مفعولُ مفاعلن فعولن ... مفعول مفاعلن فعولن
أعقص معقول مقطوف ... أعقص معقول مقطوف
فإن قلت: هذان البيتان من قصيدة مطولة، وكلها جاء على هذا النمط، وليس الوافر مستعملًا على هذا الوجه، قلت: هو من التزام مالا يلزم، وذلك لا يخرجه عن كونه عربيًا، ألا ترى لو أن ناظمًا نظم قصيدةً من بحر الطويل والتزام في جميع أبياتها قبض الجزء الخماسي حيث وقع لم يكن ذلك مخرجًا لها عن أن تكون من ذلك البحر، مع أنك لا تكاد تجد عربيًا يلتزم مثله.
فإن قلت: العقص إنما يكون في صدر البيت، وهو الجزء الأول منه، لا في أول العجز، قلت: لا نسلم، فقد قيل: إن كلا من أول الصدر وأول العجز محل للخرم بشرطه، فإذا خرجت هذه القصيدة بناءً على هذا القول لم يستنكر. وسترى الكلام على ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
وأول العجز محل للخرم بشرطه، فإذا خرجت هذه القصيدة بناءً على هذا القول لم يستنكر. وسترى الكلام على ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
وأول العجز محل للخرم بشرطه، فإذا خرجت هذه القصيدة بناءً على هذا القول لم يستنكر. وسترى الكلام على ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقال:
وأنواعُه قلْ خمسة عشرَ كلُّها ... تُؤلفُ من جزئين فرعْينِ لاسِوى
أقول: المراد (بالأنواع) الأوزان التي نظم العرب عليها أشعارهم. وتسمى بحورًا وأصولًا وأعاريض وأنواعًا وشطورا. وكونها (خمسة عشر) هو مذهب الخليل.
وزاد الأخفش بحرًا آخر ذهب إلى أنه مستعمل، وتبعه على ذلك جماعة وهو بحر المتدارك، وستقف عليه إن شاء الله تعالى. والخليل يرى أنه من المهملات.
وقوله (كلها) يحتمل أن يكون تأكيدًا لأنواعه، ويحتمل أن يكون تأكيدًا لضمير محذوف، أي قل هي كلها خمسة عشر، على رأي من أجاز حذف المؤكد وبقاء توكيده، على كلا الاحتمالين يضبط قوله (تؤلف) بتاء مثناة من فوق ليس إلا، ويحتمل أن يكون (كلها) مبتدأ مخبرًا عنه إما بقوله (خمسة عشر)، والجملة خبر المبتدأ الأول وهو (أنواعه)، وإما بقوله (تؤلف)، فيجوز حينئذ ضبط (تؤلف) بالتاء والياء، أي يكون مستندًا إلى ضمير مؤنث رعايةً لمعنى (كل)، أو ضمير مذكر رعاية للفظها.
هذا على رأي الجمهور في تجويز الوجهين إذا كانت (كل) مضافةً إلى معرفة، وزعم ابن هشام في (المغنى) أن الصواب في ذلك أن لا يعود الضمير عليها من خبرها إلا مذكرًا مفردًا على لفظها.
وسكن الناظم عين (عشر)، وهو مما يجوز في عد المذكر من أحد عشر وثلاثة عشر إلى تسعة عشر. والجزآن اللذان ذكر أن أنواع الشعر كلها تؤلف منهما يحتمل أن يريد بهما جزئي التفعيل الخماسي والسباعي كما ستعرفه.
والمراد بفرعيتهما كونهما متفرعين عن الأسباب والأوتاد. ويحتمل أن يريد بهما السبب والوتد أنفسهما، وإطلاق الجزء على كل منهما معروف عند أهل الصناعة، والمراد حينئذ بكونهما فرعين أنهما يتفرعان عن الحرف الساكن والحرف المتحرك.
1 / 4
فإن قلت: إلى ماذا أشار بقوله (لا سوى)؟ قلت: إما على أن المراد بالجزئين لفظا التفعيل الخماسي والسباعي، فأشار به إلى نفي أن تكون البحور مركبة بحسب الأصالة من غير الجزأين الخماسي والسباعي، فلا يركب شيء منها في دائرته من سواهما. وإما على أن المراد بالجزئين السبب والوتد، فأشار به إلى نفي الفاصلتين الصغرى والكبرى، فإن بعض العروضيين ذهب إلى عدهما فيما تتفرع عنه الأجزاء، وهو باطل، لأن الصغرى مركبة من سبب ثقيل فسبب خفيف، فلا حاجة معهما إلى عدها، والكبرى لا تكون إلا في جزء مزاحف، وهو مستفعلن الذي يخبل بحذف سينه وفائه فينقل إلى فعلن، فهذه الأحرف الأربعة المتحركة إنما اجتمعت فيه بعد التغيير، وليس الكلام فيه، إنما الكلام في الجزء الأصلي السالم من التغيير، والله أعلم قال:
وأولُ نُطْق المرءِ حرفٌ محركٌ ... فإنء يأتِ ثانٍ قيل ذا سببٌ بدَا
خفيفٌ متى يسكنْ وإلا فضُّدهُ ... وقُلْ وتدٌ إنْ زدتَ حرفًا بلا امتِرا
أقول: قد عرفت أن الأجزاء التي يزن بها العروضيون مركبة من السبب والوتد، فشرع الناظم في الكلام عليهما أولًا، ثم على الأجزاء ثانيًا.
ومن المعلوم أن الحرف الذي ينطق به أولًا لا بد أن يكون متحركًا ضرورة أن الابتداء بالساكن متعذر، فإذا ابتدأ الناطق بحرف فهو متحرك، ثم إذا أضاف إليه حرفًا ثانيًا فمجموعها يسمى عندهم سببًا. لكن إن كان ذلك الحرف الثاني ساكنًا فهذا السبب هو السبب المسمى بالسبب الخفيف لخفته بسكون آخره، وإن كان ذلك الحرف الثاني متحركًا فهو السبب الثقيل وهو المراد بقوله (وإلا فضده)، أي وإلا يسكن الثاني فهو ضد الخفيف، أي ثقيل، سمي بذلك لثقله بحركة آخره. فإن زاد الناطق حرفًا ثالثًا فمجموع تلك الأحرف الثلاثة يسمى وتدًا.
وليس المراد أن الوتد عين السبب بزيادة حرف عليه، وإنما المراد أن الناطق متى أتى بحرف محرك ثم بحرفين بعده فذلك هو الوتد. وإنما خصوا الثنائي بلفظ السبب، والثلاثي بلفظ الوتد، لأن الثنائي رأوه معرضًا للزحاف والتغيير، فلا يكاد يثبت على حالة فشبهوه بالحبل الذي يقطع مرةً ويوصل آخرى، والحبل يسمى سببًا، والثلاثي غير معرض للزحاف وإن عرضت له علة دامت، فشبهوه بالوتد الثابت في الأحوال كلها قال:
وسمِّ بمجموعٍ فعلْ وبضدِّه ... كفعلَ ومن جنسيهما الجُزء قد أتَى
خماسيةُ قل والسباعيّ ثم لا ... يفوتُك تركيبًا وسوف إذنْ تَرَى
أقول: قد سبق أن الناطق إذا نطق بثلاثة أحرف أولها متحرك سمي مجموعها وتدا، لكن إن كان الحرف الثاني متحركًا والثالث ساكنًا مثل فعل بتحريك العين وإسكان اللام سمي وتدًا مجموعًا، للجمع بين متحركيه، وإن كان الثاني ساكنًا والثالث متحركًا مثل فعل بتسكين العين وتحريك اللام سمي وتدًا مفروقًا، لفرق الساكن بين متحركيه، وهو معنى قول الناظم (وبضده كفعل) أي وسم بضد المجموع، وهو المفروق، ما كان مماثلًا لفعل.
ويقع في عبارة كثير من القوم ومنهم الشارح الشريف: (الوتد المجموع حرفان متحركان بعدهما ساكن، والوتد المفروق حرفان متحركان بينهما ساكن) . ولا أراها موفية بالمقصود، بل هي فاسدة لأن مقتضاها أن يكون كل م الوتدين عبارة عن حرفين، وهو باطل، فإن قلت: قولهم (بعدهما ساكن) أو (بينهما ساكن) وقع صفةً للحرفين المتحركين، ولا يلزم من تقييدهما بهذه الصفة دخول متعلقهما مع الموصوف في الإخبار عن المسند إليه الذي هو قولهم الوتد المجموع أو المفروق.
فإن قلت: اجعله على حذف حرف العطف، أي وبعدهما ساكن أو وبينهما، فيلزم أن يكون المخبر به عن الوتد ثلاثة ضرورة وجود حرف العطف المشترك.
قلت: مثله لا يجوز في السعة على ما هو مقرر في النحو.
وضمير الاثنين في قول الناظم (ومن جنسيهما) عائد على السبب والوتد، أي أن الجزء من حيث هو أعم من أن يكون خماسيًا أو سباعيًا أتى من جنسي السبب والوتد، أي تركب منهما، فلا يخلو منهما جزء من أجزاء التفاعيل الأصلية كما تراه.
ولا ينبغي أن يكون قوله (خماسية) فاعلًا لقوله (أتى) لما يلزم عليه من عيب التضمين، وإنما يجعل فاعل (أتى) ضميرًا يعود على الجزء، ويكون (خماسية) فاعلًا بفعل محذوف يدل عليه الملفوظ به، أي أتى خماسية.
1 / 5
وقوله (ثم لا يفوتك تركيبًا) أي إذا عرفت الأسباب والأةتاد، وتقرر عندك أن الجزء مركب منهما، خماسيًا كان أو سباعيًا، فلا يفوتك بعد هذا تركيبه، وكيفية العمل فيه، وسوف ترى ذلك عند تعداد الأجزاء، وفاعل (يفوتك) ضمير يعود على الجزء و(تركيبًا) منصوب على التمييز عن الجملة، وهو فاعل في الأصل على ما هو معهود في نظائره، نحو تصبب زيد عرقًا. قال:
فعولن مفاعيلن مفاعلتن وفا ... ع لاتن أصول الست فالعشر ماحوى
أصابتْ بسهميهما جوارحنا فدا ... راكوني بهمَّة كوقعيهما سوا
فما زائرتي فيهما حَجَبَتهُما ... ولايدُ طولا هنّ يعتادُها الوفا
أقول: اختار العروضيون للأجزاء الدائرة بينهم في وزن الشعر الفاء والعين واللام اقتفاءً لأهل الصرف في عادتهم وزن الأصول بهذه الحروف، فحذوا حذوهم في مطلق الوزن بها لما كان على ثلاثة أحرف مع قطع النظر عن الأصالة والزيادة، وأضافوا إلى ذلك من الحروف الزوائد سبعةً وهي الألف والياء والواو والسين والتاء والنون والميم.
ويجمع هذه الأحرف قولك (لمعت سيوفنا) . وتسمى عندهم بأحرف التقطيع. وما أحسن قول الشيخ برهان الدين القيراطى:
ومليحٍ علمَ الخليل يعانِى ... ليته لو غدا خليلَ خليعِ
رمتُ وصْلًا منه فقال لحاظِى ... ناطقاتٌ بأحرف التقطيعِ
إذا عرفت ذلك فالأجزاء الموضوعة في الأصل سالمةً من التغييرات الطارئة عشرة في التحقيق، وثمانية في اللفظ. وقسمها الناظم تبعًا لجماعة من العروضيين إلى أصول وفروع، فالأصول منها أربعة والفروع ستة.
الأصل الأول (فعولن) وهو مركب من وتد مجموع فسبب خفيف، وله فرع واحد وهو فاعلن. وكيفية تفريعه عنه أن تقدم السبب على الوتد فتقول (لن فعو) فيحدث الفرع المذكور وهو فاعلن.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون فاعلن مركبًا من وتد مفروق وهو (فاع) فسبب خفيف وهو (لن) فلا يكون على هذا التقدير فرعا عن هذا الأصل كما ادعوه؟ قلت (فاعلن) حيث وقع يجوز حذف ألفه زحافا، وهو المسمى عندهم بالخبن، فلزم أن يكون ثاني وتد مفروق كما توهمته لامتنع حذفه، لأن ثاني الوتد لا يزاحف.
وأجاب المحلى عن ذلك بأن (فا) خلف عن (لن) (وعلن) خلف عن (فعو)، وإنما يخلف الشيء مثله، فيلزم على هذا السياق أن يكون (فا) سببًا خفيفًا (وعلن) وتدًا مجموعًا، فصح التفريع. قلت: هذا كما تراه تكريرًا لعين الدعوى لا جواب عن إشكال المعترض فتأمله.
الأصل الثاني (مفاعيلن) وهو مركب من وتد مجموع فسببين حفيفين، ويتفرع عنه جزآن، أحدهما (مستفعلن) المجموع الوتد، وكيفية تفريعه عنه أن تقدم السببين معًا على الوتد، فتقول (عيلن مفا) فيحدث عنه هذا الفرع.
وثانيهما (فاعلاتن) المجموع الوتد أيضًا، وكيفية تفريعه عنه أن تقدم السبب الأخير على الوتد فتقول (لن مفاعى) فيحدث الفرع المذكور.
الأصل الثالث (مفاعلتن) وهو مركب من وتد مجموع فسبب (ثقيل) فسبب (خفيف)، وله فرع واحد مستعمل وهو (متفاعلن) وصفة تفريعه عنه أن تقدم السببين بحالهما على الوتد فتقول (علتن مفا) فيحدث هذا الفرع.
وله فرع آخر مهمل لم تنظم العرب عليه شيئًا، وذلك بأن تقدم السبب الخفيف خاصة فتقول (تن مفاعل) فيصير الوتد المجموع مكتنفا بسببين خفيف مقدم وثقيل مؤخر. ويعبر العروضيون عن هذا الفرع المهمل (بفاعلاتك) . وسيأتي الكلام عليه وعلى سبب إهماله إن شاء الله تعالى.
الأصل الرابع (فاع لاتن) المفروق الوتد، وهو مركب من وتد مفروق فسببين خفيفين، وكثير يفصل العين عن اللام في الكتابة إيذانا للناظر فيه من أول الأمر بأن وتده مفروق، وليحصل الفرق بينه وبين (فاعلاتن) المجموع الوتد خطا.
وله فرعان أحدهما (مفعولات)، وكيفية تفريعه عنه أن تقدم السببين الخفيفين معًا على الوتد، فتقول (لاتن فاع) فيحث هذا الفرع. وثانيهما (مستفع لن) المفروق الوتد، وكيفية تفريعه عنه أن تقدم السبب الأخير على الوتد فتقول (تن فاع لا) فيحدث هذا الفرع.
وإنما جعل الجماعة هذه الأربعة أصولًا لأن الأسباب لضعفها إنما تعتهد على الأوتاد، وما يكون معتمدًا عليه حقيق بالتقدم ليعتمد ما بعده عليه.
فكانت قضية البناء على هذا الأصل أن تكون أصول التفاعيل هي هذه الأجزاء الأربعة فقط، لأنه شيء من الأجزاء مصدرًا بوتد غيرها.
1 / 6
فإن قلت: فما وجه ترتيب الأصول على هذا النمط المسرود؟ قلت الخماسي أخف من السباعي فاقتضى ذلك تقديم (فعولن) والسبب الخفيف بالنسبة إلى الثقيل مقدم عليه لخفته فاقتضى ذلك أن يقدم (مفاعلين) من السباعية على (مفاعلتن)، ثم الوتد المجموع أقوى من المفروق فاقتضى ذلك تقديم (مفاعلتن) على (فاع لا تن) المفروق الوتد.
واعلم أن الناظم ﵀ لفظ بصيغ الأصول الأربعة وقال إنها أصول للفروع الستة، وترك التلفظ بصيغ الفروع اتكالًا على اشتهارها، أو على توقيف المعلم للناظر في كتابه. وأشار إلى أن الأجزاء العشرة محويةٌ في البيتين الأخيرين من هذه الأبيات الثلاثة التي أنشدناها.
فقوله «أصابت» وزنه فعولن أشار به إلى الأصل الخماسي، وبالألف إلى أنه الأول.
وقوله «بسهميها» وزنه «مفاعيلن» أشار به إلى هذا الأصل الموازن له من السباعية، وأشار بالباء إلى ثاني الأجزاء.
وقوله «جوارحنا» وزنه «مفاعلتن» أشار به إلى هذا الجزء السباعي الموازن له وأشار بالجيم إلى أنه الجزء الثالث.
وقوله «داركوني» وزنه «فاع لاتن» ويجب أن يكون هذا مفروق الوتد لأنه بصدد تعداد الأجزاء على الترتيب، وسياقه مقتضٍ لتقديم الأصول، «وفاع لاتن» الأصلي مفروق الوتد كما سبق. وأشار بالدال إلى أنه الجزء الرابع.
وقوله «همة» وزنه «فاعلن»، ومن هنا أخذ في تعداد الفروع وهذا فرع «فعولن» الأصل الأول، وأشار بالهاء إلى أنه خامس الأجزاء.
وقوله «وقعيهما» وزنه «مستفعلن» وهذا فرع عن الأصل الثاني وهو «مفاعيلن»، فيجب أن يكون مجموع الوتد كأصله، والواو إشارة إلى أنه سادس الأجزاء.
وقوله «زائراتي» وزنه «فاعلاتن»، وهو الفرع الثاني المفرع عن «مفاعيلن»، فيلزم أن يكون وتده مجموعا مثل أصله كما سبق، والزاي إشارة إلى أنه الجزء السابع.
وقوله «حجبتهما» وزنه «متفاعلن» وهو فرع الأصل الثالث الذي هو مفاعلتن»، وأشار بالحاء إلى أنه الجزء الثامن.
وقوله «طولاهن» وزنه «مفعولات»، وهو الفرع الأول من فرعي الأصل الرابع «فاع لاتن» المفروق الوتد، والطاء إشارة إلى أنه الجزء التاسع.
وقوله «يعتادها» وزنه «مستفع لن»، وهذا هو ثاني فرعي «فاع لاتن» المفروق الوتد، فيلزم أن يكون هذا، أعني «مستفع لن» المذكور، مفروق الوتد كأصله، والياء إشارة إلى أنه الجزء العاشر.
فإن قلت: حذف الناظم التاء من الست والعشر مع أن المعدود مذكر وهو الأجزاء، قلت إما أن يكون أنث العدد بتأويل الكلمات، أو رأى المعدود محذوفًا فأنث العدد بناء على جوازه عند حذف المميز المذكر. حكى الكسائي عن أبي الجراح صمنا من الشهر خمسًا. وحكى الفراء أفطرنا خمسًا، وصمنا خمسًا، وصمنا عشرًا من رمضان. وتضافرت الروايات على حذف التاء من قوله ﷺ (ثم أتبعه بست من شوال) .
وبهذا يطهر ضعف قولهم: ما حكاه الكسائي لا يصح من فصيح ولا يلتفت إليه، فلعل الناظم اعتمد على هذا النقل، وإن كان المشهور عندهم خلافه.
فإن قلت: ما هو فاعل (حوى)؟ قلت جوز فيه الشريف وجهين: أن يكون ضميرًا مستترًا يعود على التركيب، يريد أن التركيب الذي تصير الأمتاد والأسباب يحتوي على عشرة أجزاء، ولا يخفى بعده. قال: (والظاهر أن فاعل (حوى) إنما هو البيتان اللذان بعده)، يريد أن العشر هي ما حواه هذان البيتان من الأمثلة المرموزة فيهما، وهما قوله (أصابت بسهميهما) والبيت بعده. انتهى.
فإن قلت: يلزم عليه وقوع الجملة فاعلًا وهو باطل عندهم على المختار، قلت الجملة التي يرا بها لفظها تتنزل منزلة الأسماء المفردة، وهنا كذلك.
1 / 7
فإن قلت: سبق أن (مفاعلتن) يتفرع عنه جزء مهمل وهو (فاعلاتك) والناظم لم ينبه على ذلك، فمن أين يفهم من كلامه أن هذا هو المهمل؟ قلت أجاب عنه الشريف: بأن هذا الجزء الذي عد مهملًا ينبغي أن لا يعتد به في الفك لأن السبب الثقيل لا يفارق الخفيف فهما معًا كالصوت الواحد، ولذلك يسميهما العروضيون فاصلة، فلولا أن مجموعها عندهم شيء واحد أم كالشيء الواحد لما وضعوا لهما معًا اسمًا كما وضعوا الوتد والسبب، فجعلوا بإزاء الصوت الواحد اسمًا وضعوه له، فإذا تبين أن الثقيل والخفيف شيء واحد اقتضى ذلك أن (مفاعلتن) لا ينفك منه إلا جزء واحد، لأن الصوت الواحد لا يتبعض عند الفك فلا تتبعض الفاصلة كما لا يتبعض الوتد، وكما لا يتبعض السبب.
فإذا نظرت إلى حقيقة الفك ووقفت مع قول الناظم إن الأجزاء عشر، فتبينت الأجزاء الأربعة التي هي أم لسائر الأجزاء وأصول لها، وتأملت كيفية الفك فاقتضت أن تكون الأجزاء أحد عشر، علمت أن الساقط منها إنما هو ما يؤدي فكه إلى ممتنع، وأن ذلك هو فصل الثقيل من الخفيف المؤدي إلى تبعيض الفاصلة.
قلت: أطال ﵀ فيما هو غني عنه، وذلك لأن الناظم أتى لكل جزء من الأجزاء العشرة بلفظ موازن له وصدره بحرف من حروف أبجد يدل على مرتبته في العدد، ولما لم يذكر لفظًا يوازن الجزء المهمل علم أن ما يفك خارجًا عن الفروع الستة ليس مما يوزن به عندهم، ولا شيء يفك زائدًا على الستة غير (فاعلاتك) المتفرع عن (مفاعلتن)، فثبت أنه المهمل، إذ لا حاجة في تبيين إحالته إلى الطريقة التي ذكرها الشريف.
واستدلاله على أن المجموع من السبب الثقيل والخفيف شيء واحد، أو كالشيء الواحد، لا تفرق أجزاؤه بتسميتهم له فاصلةً غير متسبب، لجواز أن يكون المقصود بالتسمية الاختصار في اللفظ، إذ الفاصلة أخصر من قولهم سبب ثقيل فسبب خفيف، ويؤنس ذلك تسميتهم لفعلتن المخبول فاصلةً، وليس السبب في ذلك كون أجزائها كالصوت الواحد قطعًا، فكذا الفاصلة الصغرى.
وإنما أوقع الشريف ﵀ فيما ادعاه توهمه أن الألفاظ المصدرة بحروف الرمز لم يؤت بها إلا لأجل الإشارة بما صدرت به من الحروف إلى مراتب الأجزاء فقط، وليس كذلك، بل أريد بها مع ذلك ما أسلفناه فتأمل.
(تنبيه) هذه الأجزاء تسمى بالأركان والأمثلة والأوزان والأفاعيل والتفاعيل.
وقد رأيت مرةً بالقاهرة في سنة خمس وتسعين وسبعمائة بخط قاضي القضاة مجد الدين إسماعيل الكناني الحنفي رحمه اله على ظهر كراسة: تفاعيل الشعر ثمانية، وعدها، فكتب تحته بعض الأدباء بالديار المصرية ما مثاله أخطأت أيها القاضي لأن التفاعيل جمع تفعال أو تفعول أو تفعيل، وليس شيء منها معدودًا من أجزاء العروض، فإن أجزاءه منحصرة ليس فيها شيء من هذه. فأخبرت القاضي ﵀ أن هذا الكلام خطأ، وذكرت له أن الكاتب مسبوق بهذا الاعتراض، سبقه به الشيخ أبو حيان ولا شك أنه أخذه منه، لأني رأيت هذا بعينه في نسخ من تفسير أبي حيان كتبها هذا المعترض بخطه.
فسألني القاضي ﵀ الكلام على ذلك فكتبت وهأنذا أورد هنا ما كتبته من ذلك وإن كان فيه طول قصدًا لتكثير الفائدة فأقول: اختلف في التوابع الواقعة في قوله تعالى: (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب)، هل هي كلها نعوت أو كلها أبدال، أو (شديد العقاب) بدل وما عداه نعت، وهذا الأخير هو مذهب الزجاج، حكاه عنه صاحب الكشاف ونقله الشيخ في تفسيره المسمى (بالبحر المحيط) وفي (النهر) أيضًا قائلًا إلا أن الزمخشرى قال: جعل الزجاج (شديد العقاب) وحده بدلًا من بين الصفات فيه نبو ظاهر، والوجه يقال: لما صودف بين هذه المعارف هذه النكرة وحدها فقد آذنت بأن كلها أبدال غير أوصاف، ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على مستفعلن فهي محكوم عليها أنها من الرجز، فإن وقع فيها جزء واحد على (متفاعلن) كانت من الكامل. انتهى.
1 / 8
وقد ناقشه الشيخ فقال: ولا نبو في ذلك لأن الجري على القواعد التي استقرت وصحت هو الأصل. وقوله فقد آذنت بأن كلها أبدال تركيب غير عربي، لأنه جعل (فقد آذنت) جواب (لما) وليس في كلامهم: لما قام زيد فقد قام عمرو. وقوله (بأن كلها أبدال) فيه تكرير الأبدال. أما بدل البداء فقد تكررت فيه الأبدال، وأما بدل كل من كل، وبدل بعض من كل، وبدل اشتمال، فلا نص عن أحد من النحويين أعرفه في جواز التكرار فيها أو منعه، إلا أن في كلامه بعض أصحابنا ما يدل على أن البدل لا يتكرر، وذلك في قول الشاعر:
بأبي ابنُ أمِّ إياسَ أرحلُ ناقتي ... عمروٍ فتبلغُ حاجتي أو تُزحفُ
ملكٍ إذا نزل الوفودُ ببابه ... عرفوا مواردَ مُزبدٍ لا يُنزَفُ
قال: (فملك) بدل من (عمرو)، بدل نكرة من معرفة. قال: فإن قلت لم لا يكون بدلًا من (ابن أم إياس) قلت: لأنه قد أبدل منه (عمرًا) فلا يجوز أن يبدل منه مرة أخرى لأنه قد طرح.
قال الشيخ فدل هذا على أن البدل لا يتكرر ويتحد المبدل منه، ودل على أن البدل من البدل جائز، قال: وقوله: (تفاعيلها هو جمع تفعال أو تفعول أو تفعول أو تفعيل وليس شيء منها معدودًا من أجزاء العروض فإن أجزاءه منحصرة ليس فيها شيء من هذه الأوزان)، فصوابه أن يقول: أجزاؤها كلها على مستفعلن. انتهى كلام أبي حيان.
وقد ساق تلميذه الشيخ شهاب الدين السمين هذا الفصل برمته في إعرابه، وأقره على حاله كأنه من قبيل المرتضى عنده. والذي يظهر أن جميع هذه المناقشات غير سديدة.
أما الأولى فحاصلها نفي الاستبعاد لمقالة الزجاج بناءً على أنها جارية على الأصول. وتقرير جريانها على ذلك أن توافق النعت الحقيقي ومنعوته في واحد من التعريف والتنكير أمر لازم إما اتفاقًا أو عند الأكثرين، وأن التوافق في ذلك لا يلزم إذا كان التابع بدلًا. فجعل الصفات المعرفة الواقعة في هذه الآية نعوتًا للاسم الشريف جار على القاعدة المتقدمة، وكذا جعل الصفة التي إضافتها غير محضة بدلًا جار على ما سبق من قاعدة البدل. فإذن لا خروج لما قاله الزجاج في كلا الوجهين عما استقر في قواعد كلامهم، فلا نبو فيه.
وأقول: هو وإن جرى على هذه القاعدة فقد خالف قاعدةً أخرى، وهي أنه متى اجتمع بدل ونعت قدم النعت لأنه كالجزء من متبوعه وأخر البدل لأنه تابع كلا تابع، من حيث أنه كالمستقل بمقتضى العامل. ولا خفاء بأنه إذا جعل (شديد العقاب) بدلًا (وذي الطول) الواقع بعده صفةً لزم مخالفة القاعدة المذكورة، مع أنه قد تقدم هذا البدل صفة أخرى، فصار مكتنفًا بصفتين فلزم إدخال ما هو كالأجنبي بين شيئين هما كالجزئين لما قبلهما، وذلك غير مناسب، فظهر النبو باعتبار ذلك.
فإن قلت: إنما لزم هذا حيث جعل قوله (ذي الطول) نعتًا، وليس في كلام أبي حيان ما يقتضيه فلم لا يعرب بدلًا فلا يلزم هذا المحذورظ قلت الكلام في عبارة الزمخشرى التي تعقبها أبو حيان. ومقتضى قوله في الكشاف أن الزجاج جعله بدلًا بين الصفات لا يكون (ذي الطول) بدلًا، إذ لو كان لم يقطع (شديد العقاب) بين الصفات بل بعدها وهو واضح.
وأما المناقشة الثانية وهي تلحين الزمخشرى في قوله: (لما صودف بين هذه المعارف هذه النكرة وحدها فقد آذنت بأن كلها أبدال)، وتقريرها ظاهر من كلام الشيخ فجوابها م ثلاثة أوجه:
1 / 9
الأول: أن مبنى هذا الاعتراض على منع دخول الفاء على جواب لما وهو ممنوع. فقد نص ابن مالك على جوازه مستدلًا بقول الله تعالى: (فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد)، فإن قلت لا دليل له في هذه الآية لاحتمال أن يكون الجواب فيها محذوفًا، كما قيل تقديره: انقسموا قسمين فمنهم مقتصد، أي ومنهم غير ذلك، قلت: هو احتمال مرجوح، والظاهر خلافه، فقد ورد جواب لما مقترنًا بإذا الفجائية ورودًا شائعًا. قال الله تعالى: (فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون)، وقال تعالى: (فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق)، وقال تعالى: (فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون)، وفيه دليل على أن جواب لما يجوز أن يكون جملةً اسميةً، وإذا جاز ذلك فأي داع إلى ارتكاب الحذف في الآية التي أوردها ابن مالك مع أنه على خلاف الأصل؟ والفاء وإذا الفجائية أختان في ربط الجواب بالشرط، فإذا ربط بإحداهما في تركيب جاز أن يربط بالأخرى، ولا فرق. فإذن الظاهر ما قاله ابن مالك من أن الجواب في الآية التي استدل بها هو الجملة الاسمية، وأن الفاء رابطة الجواب.
فإن قلت: هذا في الجملة الاسمية، فأين وقوعه في الفعلية؟ قلت: يدل عليه قول الشاعر:
لما اتقى بيدٍ عظيمٍ جرمُها ... فتركتُ ضاحي جلدهِا يتذبذبُ
لكن ابن هشام صرح في المغنى بأنها فيه زائدة. وعليه فلا يكون البيت شاهدًا على المدعي.
الثاني: سلمنا امتناع دخول الفاء على جواب لما، لكن لا نسلم أن الجواب في كلام الزمخشرى مذكور حتى يلزم ما قاله أبو حيان، وإنما هو محذوف، تقدير الكلام معه: لما صودف بين هذه المعارف هذه النكرة وحدها نبا هذا القول عن الصواب، فقد آذنت هذه المصادفة بأن جميع تلك التوابع أبدال غير أوصاف، ويدل على هذا الجواب المحذوف قوله فيما سبق (فيه نبو ظاهر)، وقد نص غير واحد على جواز الحذف في ذلك عند قيام الدليل فلم لا يكون هذا منه.
الثالث: سلمنا أن جواب لما لا يقترن بالفاء، وأنه في عبارة الزمخشرى مذكور لا محذوف، لكنا لا نسلم أن مجموع قوله (فقد آذنت) جواب، وإنما الجواب هو قوله آذنت، وأما (قد) فهي هنا اسم بمعنى (حسب)، والفاء الداخلة عليها كالفاء الداخلة على قط في قولك (افعل هذا فقط) . أي لما صودف بين هذه المعارف هذه النكرة وحدها فحسب آذنت هذه المصادفة بما قلناه من دعوى البدلية في جميع التوابع. والشيخ أبو حيان فهم أن (قد) حرف داخل على الفعل، مثله في قولك (قد قام زيد)، فسارع إلى تلحين الزمخشرى ذهولًا عما قلناه، والله الموفق لا رب غيره.
وأما المناقشة الثالثة وهي ما لزم على كونها أبدالًا من تكرير البدل وهو ليس بدل البداء فليست بذاك، فالشيخ قد أقر على نفسه بعدم الاطلاع على نص في المسألة إلا من جهة كلام حكاه عن بعض أصحابه، ولم يسمه، ولا يلزم من عدم عرفانه بالجواز عدم الجواز في نفسه، فالزمخشرى إمام في هذا الفن، ثبت في النقل. وقد نص غير واحد من المعربين في قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين)، على جواز إعراب التوابع أبدالًا مع أنها ليست بأبدال بداء قطعًا ففيه دليل على جواز ما أجازه الزمخشرى.
فإن قلت: ذلك محمول على أن كل تابع بدل مما قبله، لا أنها كلها أبدال من شيء واحد كما حكاه الشيخ عن بعض أصحابه في إعراب ذينك البيتين، قلت: وكلام الزمخشرى قابل لأن يحمل على هذا المعنى بعينه، فهو لم يقل في هذه التوابع إلا أنها أبدال، وذلك صادق بأن يجعل كل واحد منها بدلًا مما قبله، فيتعدد التابع والمتبوع، فام لم يحمله الشيخ على هذا المعنى مع أنه ليس في اللفظ ما يدفعه.
على أن ابن الحاجب ﵀ تكلم على هذه الآية في أماليه ولا بأس بإيراد كلامه بجملته تكميلًا للفائدة. قال ما نصه: لا يستقيم أن يكون (غافر الذنب وقابل التوب) صفة لقوله (من الله العزيز العليم)، لأن (غافر الذنب وقابل التوب) معناه أنه يغفر الذنب ويقبل التوب. قال الله تعالى: (يغفر الذنوب جميعًا)، وقال (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده)، فيكون في معنى الحال والاستقبال، فتكون إضافته غير محضة. وأجيب عن ذلك بأن (غافر الذنب) على معنى ثبوت ذلك له، وإذا كان على معنى ثبوت ذلك له فهو صفة بمعنى المضي، فتكون إضافته محضةً فتفيد التعريف فيصح وصف المعرفة به.
1 / 10
وهذ الجواب وإن كان سديدًا في (غافر الذنب وقابل التوب) إلا أنه لا يمكن مثله في شديد العقاب، لأن (شديد العقاب) لا تكون إضافته إلا غير محضة على كل حال لأنه صفة مشبهة، فلا يفرق بين ماضيه وغيره بخلاف اسم الفاعل، فلا يكون، (يعني شديد العقاب) إلا نكرةً، فيبقى الاعتراض قائمًا، فحكم بعض النحويين بأن (شديد العقاب) بدل بعد أن حكم بأن ما قبله صفات بالوجه الذي ذكرناه.
واختار بعضهم بأن يكون (غافر الذنب) من أول الأمر بدلًا كراهة أن يخالف بين الصفات فيجعل بعضها صفةً وبعضها بدلًا، وأجرى البواقي عليها بدلًا، فكأنه قال: م الله العزيز العليم، من رب غافر الذنب وقابل التوب العقاب.
وفي هذه الصفات إشكال آخر وهو قوله: (ذي الطول)، فإنه معرفة، فلا يحسن أن يكون صفة لقوله (من الله) لأنك فصلت بينه وبينه بالبدل، ولا يحسن أن يكون صفةً للبدل لأنه نكرة (وذي الطول) معرفة، فالأولى أن يقال هو بدل من المبدل الأول، كأنه قال من الله العزيز العليم من رب غافر الذنب من الله ذي الطول، فعلى هذا يستقيم ولكن بتقدير البدل. انتهى كلامه. وفيه دليل بين على جواز تعدد البدل مع اتحاد المبدل منه، وهو غير ما حكى فيه أبو حيان المنع عن بعض أصحابه، فتأمله.
وأما المناقشة الرابعة وهو ما وقع من تغييره عن أجزاء القصيدة بالتفاعيل مع أن أجزاء العروض محصورة في أوزان معروفة لا يصح أن يكون شيء منها مفردًا للتفاعيل حسبما قرره الشيخ، فأقول هذا وهم فاحش، لأن التفاعيل عند العروضيون جمع لتفعيل، لا باعتبار أن لفظ هذا المفرد يوزن به، بل باعتبار أنه اسم موضوع للفظ خاص عندهم يوزن به ما يماثله من مطلق الحركات والسكنات، فالتفاعيل بمنزلة قولك الأجزاء، فكما أن مفرد الأجزاء جزء، وهو اسم للفظ الموزون به، كذلك مفرد التفاعيل تفعيل، وهو اسم لمفهوم الجزء عندهم، لا أنه شيء يوزن بلفظه، ففعولن مثلًا يطلق عليه جزء وتفعيل، سماه بذلك الخليل واضع هذا الفن.
والتفعيل في الأصل مصدر قولك فعلت الكلمة إذا أتيت فيها بلفظ (ف ع ل)، ثم سمي به الجزء الذي فيه تلك الأحرف، كما أن التنوين مصدر قولك نونت الكلمة، إذا أتيت فيها بنون، ثم سموا النون نفسها إذا كانت على صفة خاصة بالتنوين، وقد يطلق العروضيون التفعيل على التقطيع مع الإتيان بالأمثلة الموازنة لذلك التقطيع كقولهم في قوله:
ستُبدى لك الأيامُ ما كنتَ جاهلًا
سَتُبدِى لَكَلْ أييَا مما كنْ تَجَاهِلَنْ
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّدِ
ويأْتي كَبلأخْبا رِمَلْلَمْ تُزوْوِدِي
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
وكذا في قوله:
لا تحسب المجدَ تمرًا أنت آكلُهُ
لا تحسبل مجد تم رَنْ أنتَ آكِلهُو
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن
لا تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
لا تبلغلْ مَجْدَحضتْ تا تَلعَقَص صَبِرا
مستغعلن فاعلن مستفعلن فعلن
وكذا في قوله:
سَلِى إنْ جهلتِ الناسَ عنا وعنهمُ
سلى إن جهلتننا سعننا وعنهمو
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
فليسَ سواءً عالمٌ وجهولُ
فليس سوا أنعا لمنو جهولو
فعول مفاعيلن فعول فعولن
إلى آخره، فيستعملونه مصدرًا، وهذا واضح لا يخفى على أصاغر الطلبة، والعجب من الشيخ أبي حيان ﵀ كيف وقع في مثل هذا، وأعجب منذلك قوم راج عندهم هذا الوهم فسفهوا رأى من قال بخلافه عجزًا عن درك الحق وإخلادًا إلى التقليد، وظنًا أن لا فضل إلا بتقدم العصر، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. أعاذنا الله من حسد يسد باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف بمنه وكرمه.
ولنرجع إلى ما نحن بصدده من كلام الناظم ﵀.
قال:
فرتِّبْ إلى اليا زِنْ دوائرَ خفْ لشقْ ... أولاتِ عَدٍ جزءٌ لجزءٍ ثُناثُنا
1 / 11
أقول: يعني أنك ترتب الأحرف المرموز بها في البيتين السابقين المشتملين على الأشارة إلى الأجزاء العشرة على الترتيب المعروف في (أبجد) من الألف إلى الياء، فاقتضى ذلك إلغاء ما ليس من هذه الحروف أصلًا كالفاء في (فدار كوني)، وإلغاء ما يفضى إلى الإخلال بالترتيب المذكور كالباء من (بهمة) فإنها وإن كانت من حروف أبجد المرموز بها، لكن اعتبارها يؤدي إلى فساد الترتيب، فإن الباء ليست بعد الدال، وقد تقدمت فاقتضى ذلك إلغاءها والاعتداد بما بعدها وهو الهاء.
وقوله (زن) يعني زن بالأجزاء المتقدمة المرموز لها بأحرف أبجد المرتبة من الألف إلى الياء. والمراد بالوزن بها أنك تعمد إلى الشعر الذي تقصد وزنه فتقطعه قطعًا قطعًا على مقادير الأجزاء، وتقابل المتحرك بالمتحرك والساكن بالساكن، ويعبرون عن ذلك تارةً بالتفعيل وتارة بالتقطيع، وما أحسن قول بعض المتأخرين:
وبقلبي من الهموم مديدٌ ... وبسيطٌ ووافرٌ وطويلُ
لم أكنْ عالمًا بذاك إلى أنْ ... قَّطع القلبَ بالقراق خليلُ
وقول الشيخ بهاء الدين السبكي ﵀:
إذا كنتَ ذا فكر سليم فلا تَمِلْ ... لعلم عروضٍ يُوقع القلبَ في الكربِ
فكلُّ امرئٍ عانى العروضَ فإنما ... تعرّضَ للتقطيع وانساقَ للضربِ
وإنما يعتبر عندهم في الوزن ما يدرك بحاسة السمع، وعلى ذلك ترسم الحروف عندهم.
فإذا عمدنا إلى تقطيع بيت وكتابته بهذا الهجاء فإننا ننظر أولًا في الشعر من أي جنس هو، وننظر أجزاءه التي تركب منها ثم نضع قطعةً من البيت مقابلةً لجزء من أجزاء التفعيل بمقداره من الحركات والسكنات ونعمل ذلك في جميع أجزاء البيت حتى يصير قطعًا بمقدار الأجزاء، ويلاحظ في ذلك مقابلة المتحرك بمثله في مطلق الحركة من غير نظر إلى خصوصيتها، وتقابل الساكن بمثله، فربما تجرأت الكلمة الواحدة فصار بعضها لجزء وباقيها لجزء آخر فيوصل بكلمة أخرى أو ببعض كلمة، كما رأيته في الأبيات التي فرغنا من تقعيلها آنفًا.
ثم لا يخلو الساكن أن يظهر على اللسان أولًا، فإن ظهر وأدركه السمع ثبت في الخط والتقطيع نحو نون (منك) . وسواء رسم في الخط الاصطلاحي أو لم يرسم نحو التنوين في (زيد)، وصلة هاء الضمير وميم الجمع، وإن لم يظهر الساكن على اللسان لم يثبت في الخط ولا التقطيع، نحو ألف الوصل في قوله:
كلُّ عيش صائر للزوال
ونحو ما يسقط لالتقاء الساكنين من ألف أو واو أو ياء. وأما المتحرك فلا يخلو أن يكون مخففًا أو مشددًا، فإن كان مخففًا حسب بحرف واحد، وهو ظاهر، وإن كان مشددًا حسب بحرفين، الأول ساكن والثاني متحرك فيفكان في التقطيع ويلفظ بالأول بلفظ الثاني.
فإذا رسمت (الرجل) رسمته هكذا (أررجل) فأما زاده الكتاب في الهجاء الاصطلاحي كالألف بعد واو الجمع في (فعلوا)، وكالواو في (عمرو) وكالألف في (مائة)، أو نقصوه كهمزة (رؤس) وألف (دينر) و(كتب) وشبهه فذلك لا يعتبر في التقطيع لأنه لا يظهر على اللسان، بل يرد ذلك إلى أصله فيسقط الزائد ويلحق الناقص، بالله التوفيق.
وقوله (دوائر خف لشق) يعني زن بالأجزاء المذكورة أبحر الدوائر المرموز لها بالأحرف المجموعة من قوله (خف لشق)، وهي أحرف اقتعطها من أسماء الدوائر ورمز لها بها.
والدوائر خمس: الأولى تسمى دائرة المختلف، وإليها أشار بالخاء، والثانية دائرة المؤتلف، وإليها أشار بالفاء، والثالثة تسمى دائرة المجتلب، وإليها أشار باللام، والرابعة تسمى دائرة المشتبه، وإليها أشار بالشين، والخامسة تسمى دائرة المتفق، وإليها أشار بالقاف.
ويقع في بعض النسخ (خف شلق) بتقديم الشين على اللام بناءً على أن الدائرة الثالثة تسمى دائرة المشتبه والرابعة تسمى دائرة الجتلب، وهو رأي لبعض العروضيين. وعلى هذه النسخة شرح الشريف. وما تقدم وهو الواقع في أكثر النسخ عندنا هو رأي الجمهور. ولا خلاف بين القائلين بالدوائر إنها خمس.
1 / 12
وبعض الناس أنكر الدوائر أصلًا ورأسًا، وجعل كل شعر قائمًا بنفسه، وأنكر أن تكون العرب قصدت شيئًا من ذلك، وقال إنا سمعناهم نطقوا بالمديد مسدسًا، وبالبسيط (فعلن) في العروض مثلًا، وبالوافر () فعولن (فيها، وبالهزج والمقتضب والمجتث مربعات، ومن أين لنا أن ندرك أن أصل عروض الطويل كان مفاعيلن بالياء؟ وأن المديد كان من ثمانية أجزاء؟ وأن فعلن في البسيط كان أصله فاعلن بالألف؟ وأن عروض الوافر كانت في الأصل مفاعلتين ثم صارت على فعولن؟ إلى غير ذلك.
والأكثرون على خلاف هذا لأن حصر جميع الشعر في الدوائر المذكورة واطراد جريه فيها دل على ما اختص الله به العرب دون من عداهم، فكان ذلك سرًا مكتما في طباعهم أطلع الله عليه الخليل واختصه بإلهام ذلك، وإن لم يشعروا هم به ولا نووه، كما لم يشعروا بقواعد النحو وأصول التصريف، و'نما ذلك مما فطرهم الله عليه. فالتثمين في المديد والتسديس في الهزج والمضارع وغيره من المجوزات أصل رفضه العرب كما رفضوا أصولًا كثيرةً من كلامهم على ما تقرر في علم النحو. وإذا تطرق الشك في ذلك إلى الشعر تطرق إلى الكلام حينئذ، فيتعذر باب كبير من أصول العربية، ولا خفاء بفساده، هكذا قرره بعض الفضلاء.
وقوله (أولات عد جزء لجزء ثنا ثنا) الظاهر فيه أن (أولات) منصوب على الحال، أي زن الدوائر الخمس المرموز لها بأحرف (خف لشق) حالة كونها أولات عد، أي مشتملة على أبحر معدودة مؤلفة من جزء مضموم لجزء آخر متكررين في كل بحر، وهو المراد بقوله ثنا ثنا، أي اثنين اثنين. يعني أن الأجزاء تتكرر في كل بحر من بحور الدوائر لأن كل بيت مصراعان يحتوي كل واحد منهما من الأجزاء في الأصل على مثل ما يحتوي عليه الآخر. عد مخفف من وعد المشدد، وحمله الشريف على أنه عامل الوصل معاملة الوقف، فخفف المضاعف كما يخفف في الوقف.
قال: ومثله ما أنشده أبو علي في التذكرة:
حتى إذا ما لم أجد غيرَ الشَّرِ
قال: فخفف وأطلق، ولم يكن ينبغي له إذ خفف أن يطلق، لأن التخفيف إنما هو لأجل الوقف. ونظيره قول الشاعر:
ببازلٍ وجناءَ أو عهيلِّ
فأجرى الوصل مجرى الوقف، إذ كان التشديد أيضًا جائرًا في الوقف.
قال: (وإنما ساغ عندي حمل كلام الناظم على هذا القدر من الشذوذ الذي لا يحتمل إلا في الضرائر، ويجب على المولد أن يجتنبه- مع أن البيتين اللذين أنشدهما الأمر فيهما أخف منه في بيت الناظم لأن حرف الإطلاق قد لا يعد به، ألا ترى أن من أنشد:
أقلىّ اللومَ عاذلَ والعتابُ
قد حذفه- لأن الناظم كثيرًا ما يرتكب مثل هذا القصيدة من الشذوذات) . قلت: قد وقع للمتقدمين ما يستند إليه قول الناظم، كقول الشاعر:
ألاَ ليت اللحَى كانت حشيشًا ... فنعلَفها دوابَ المسلمينا
وقول الآخر:
جَزَى الله الدّوابَ جزاء سوءٍ ... وألبسهن من جَرَبٍ قميصا
وقوله (ثنا ثنا) كل واحد منهما لفظ معدول عن اثنين اثنين، وقصره للضرورة، والأول منصوب على الحال، والثاني تأكيد له. ونظيره في استعمال المعدول تأكيدًا قوله ﷺ: (صلاة الليل مثنى مثنى)، فالأولى خبر المبتدأ، والثانية تأكيد لها. ووقع في شرح هذه المقصورة لمتأخر عصري النصف الثاني من هذا البيت على هذه الصورة:
أولاتِ عدا جزء كجزء ثنا ثنا
وفسره بأن قال. أي وهذا الرمز هو الآتي في البيتين الآتيين معدودًا فيهما، وجزء كل بحر من الأجزاءمكرر في دائرته مرتين، وإلى هذا أشار بقوله (ثنا ثنا) . قال الجواهري: الثنا، مقصور، الأمر يعاد مرتين. وفي الحديث. (لا ثنا في الصدقة)، أي لا تؤخذ في السنة مرتين. وقال الشاعر:
لعمري لقد كانت زيارتُها ثنى
انتهى كلامه فتأمله. قال:
خَ ثَمن أَبِنْ زهرٌ ولهْ فلسِّتةٍ ... جَلَتْ حُضّ لُذْ بَل وفِّ زِنْ شِمِ وَوطَلاَ
وطولُ عزيزٍكم بِدعبلِكمْ طوَوا ... يعزِّزُ قسْ تثمينَ أشرفَ ما ترى
أقول. لما أشار إلى أن الدوائر خمس: شرع في ذكرها على التفصيل، وما اشتملت عليه كل دائرة من الأبحر، ووزن كل بحر.
فقوله: (خ) إشارة إلى الدائرة الأولى، زهي دائرة المختلف. وقوله (ثمن) إشارة إلى أنها مثمنة الأجزاء، فكل بحر من أبحرها بحسب الأصل مركب من ثمانية أجزاء، وهي مشتملة على ثلاثة أبحر مستعملة.
1 / 13
الأول بحر الطويل، ووزنه (فعولن مفاعيلن) أربع مرات. أشار إلى (فعولن) بالألف من (أبن) المشار بها إلى (أصابت)، وإلى (مفاعيلن) بالباء منه المشار بها إلى (بسهميها)، فكأنه يقول: دائرة المختلف مثمنة، وفيها بحر وزنه: (أصابت بسهميها) أربع مرات، وعلى ذلك فقس. غير أنه فاته تسمية البحر فاستدرك ذلك عند إتيانه بالأبيات المتضمنة للكلمات المشار بها إلى شواهد الأعاريض والضروب والزحاف كما سيأتي مفصلًاَ. والنون من قوله (أبن) ملغاة لأنها ليست من أحرف الرمز.
البحر الثاني المديد. ووزنه (فاعلاتن فاعلن) أربع مرات. أشار إلى مستفعلن بالواو من قوله (وله) المشار بها إلى (وقعيهما)، وأشار إلى (فاعلن) بالهاء منه المشار بها إلى (همة) . واللام المتوسطة بين الواو والهاء ليست من أحرف الرمز، فهي ملغاة لا يقع بها لبس.
وقد علمت أن الوتد الموجود في هذه الدائرة مجموع وأنها ليس بهل وتد مفروق، فإذن كل من (فاعلاتن) الواقع في المديد (ومستفعلن) الواقع في البسيط مجموع الوتد.
ويخرج من هذه الدائرة بحران مهملان أحدهما وزنه (مفاعيلن فعولن) أربع مرات، عكس الطويل. ويسميه بعضهم المستطيل. وحكى عن الخليل أن العرب لم تستعمله، وأن السبب في إهماله ما يلزم عليه من وقوع سببين بين وتدين في أوله فلا يمكن زحافهما.
واعترض بأن هذه العلة لو صحت للزم إهمال الهزج والمضارع والمقتضب، لأن كلًا منها مبني على سببين بين وتدين، فلا يمكن زحافهما. وأجيب بأنها لا يمكن في تأليفها إلا ذلك، إذ لا خماسي فيها، بخلاف هذا لأن فيه خاسيًا، فيخرج من المحذور بتقديمه.
واستشكله الصفاقسي، قال: (والأشبه ما قاله الزجاج، وهو أن (مفاعيلن) لو وقع أولًا لجاز خرمه، لأن أوله وتد مجموع، ويلزم أن يقع الخرم في جزء أصله أن يقع بذلك في حشو البيت ولا نظير له) . واعترضه أبو الحكم بأن هذا لو صح لما وقع الخرم في (مفاعيلن) في الهزج لوقوعها في الطويل حشوًا، لكن قد وقع فيها فدل على عدم اعتبار هذه العلة. قال الصفاقسي: (ولقائل أن يجيب عنه بأن المحذور الذي ألزمناه هو وقوع الخرم في جزء أصله أن يقع بذلك حشوًا لبيت، أي في تلك الدائرة، و(مفاعيلن) في دائرة الهزج أصله أن يقع فيها بدءًا فلا تصلح ناقضةً لتعليله والله اعلم. وقد نظم المولدون على هذا الوزن المهمل كقول بعضهم:
لقد هاج اشتياقي غريرُ الطّرف أحورْ ... أديرَ الصدغُ منه على مسكس وعنبرْ
وقول الآخر:
أَمِط عنيّ ملامًا برَى جسمي مداهُ ... فما قلبي جليدًا على سمع الملامِ
وقول الآخر:
أيسلو عنك قلبٌ بنار الحب يَصلَى ... وقد سدّدت نحوي من الألحاظ نَصْلا
البحر الثاني المهمل مقلوب المديد. وزنه (فاعلن فاعلاتن) أربع مرات، وسموه بالممتد، وقد نظم المولدون عليه أيضًا كقول بعضهم:
صاد قلبي غزال أحور ذو دلال ... كلما زدت حبًا زاد مني نفورا
وقول الآخر:
قد شجاني حبيبٌ واعتراني ادكارُ ... ليته إذ شجاني ما شجته الديارُ
وقد جرت العادة بأن يوضع شكل دائرة، ويرسم عليها نصف واحد من تفعيل البحر الأول منها بأن تجعل علامة المتحرك صورة حلقة صغيرة وتجعل علامة الساكن صورة ألف، فتضع الدائرة هكذا: وطريق الفك أنك تبتدئ من أول كل وتد وسبب وتمر إلى الآخر، فإن اتفق فوات شيء من أول الدائرة فتداركه آخرًا بأن تضيفه إلى ما فككته حتى تصل إلى المحل الأول الذي ابتدأت منه، فتبتدئ هنا من أول وتد في الدائرة وتمر إلى منتهاها، فيكون (فعولن مفاعلين، وهو بحر الطويل. ثم تبتدئ من أول سبب فيها فتقول (لن مفاعيلن فعولن مفاعيلن وتضيف إليه ما فات مما سبق، وهو فعو، فيحدث بحر المديد، وهو (فاعلاتن فاعلن) .
ثم تبتدئ من أول الوتد الثاني فيكون (مفاعيلن فعولن مفاعيلن) وتضيف إليه ما فات سبقًا فيحدث وزن المهمل الأول المسمى بالمستطيل.
ثم تبتدئ من أول سبب بعد هذا الوتد الثاني فتقول (عيلن فعولن مفاعيلن)، وتتدارك ما فات سبقًا، وهو (فعولن مفا)، فيحدث بحر البسيط.
ثم تبتدئ من ثاني سبب فتقول (لن فعولن مفاعيلن)، وتتدارك ما سبق وهو (فعولن مفاعي)، فيحدث البحر تامسمى بالممتد.
1 / 14
فقد استبان لك أن هذه الدائرة تشتمل على خمسة أبحر. منها ثلاثة مستعملة، ومنها اثنان مهملان، وعرفت صفة الفك، وسميت بدائرة المختلف لتركبها من جزأين مختلفين خماسي وسباعي.
الدائرة الثانية دائرة المؤتلف، وإليها أشار بالفاء من قوله (فلستة) وأشار بالستة إلى أنها مسدسة الأجزاء، وفيها ثلاثة أبحر، اثنان منها مستعملان، وواحد مهمل.
فالأول من المستعملين هو بحر الوافر ووزنه (مفاعلتن ست مرات، وأشار إليه بالجيم من قوله (جلت) المشار بها إلى (جوارحنا)، واللام والتاء لغو.
والثاني منها بحر الكامل، ووزنه (متفاعلن) ست مرات. أشار إليه بالحاء من قوله (حض) المشار بها إلى (حجبتهما) والضاد لغو.
والبحر المهمل وزنه (فاعلاتك) ست مرات. قال الصفاقسي: (والسبب في إهماله ما يلزم عليه من المحذور، وهو إما لزوم الوقف على المتحرك إن ترك الحرف الأخير على حاله من التحرك، أو عدم تماثل أجزاء البيت إن سكن لأنه من دائرة المؤتلف وهي مبنية على تماثل الأجزاء.
قال: وقد استعمله بعض المولدين وارتكب محذور عدم التماثل فقال:
ما رأيت من الجآذِرِ بالجزيرةِ ... إذء رَمَيْنَ بأَسْهم جَرَحتَ فؤاءي
وقال الشريف إن السبب في إهماله ما يلزم عليه من تفريق السبب الثقيل من الخفيف، وكلاهما كالصوت الواحد الذي لا تفرق أبعاضه، ولذا أطلق أئمة هذا الفن عليهما اسم الفاصلة، فأفردوهما باسم يختص بهما كالوتد والسبب. وقد سبق الكلام معه في ذلك.
ولنرسم هذه الدائرة على هذه الصورة: فإذا ابتدأت من أول علامة وانتهيت إلى الآخر حدث بحر الوافر، ومن أول السبب الثقيل إليه بحر الكامل، ومن أول السبب الخفيف إليه البحر المهمل الذي ذكرناه، وسموه بالمتوفر.
وإنما سميت هذه الدائرة بدائرة المؤتلف لائتلاف أجزائها وتماثلها، لأن بحريها المستعملين مركبان من أجزاء سباعية فتماثلت لذلك.
الدائرة الثالثة دائرة المجتلب وإليها أشار باللام من قوله. (لذ، والذال ملغاة. وتشتمل على ثلاثة أبحر كلها مستعمل، ولا مهمل فيها، وهي مسدسة الأجزاء، قال الشريف. (ولم ينص الناظم على أنها مسدسة الأجزاء، لأن ما أشار إليه من التسديس عند ذكر الدائرة الثانية منسحب حكمه على جميع ما يذكر بعده حتى ينسخه بذكر التثمين عند الإشارة إلى الدائرة الخامسة، فاستصحب لهذه الدائرة والتي بعدها حال التسديس الذي نبه عليه أولًا بقوله (ستة) .
إذا تقرر ذلك فالأول من أبحر هذه الدائرة هو الهزج، ووزنه (مفاعيلن) ست مرات. أشار إليه بالباء من قوله (بل) المشار بها (بسهميها)، واللام ماغاة، ولا يقع بإلغائها لبس، فإنها وإن كانت من الأحرف المرموز بها للدوائر فقد تقدم الرمز بها للدائرة في قوله (لذ) فلم يكن بالذي يعود إليها بعد أن فرغ منها.
البحر الثاني الرجز، ووزنه (مستفعلن) المجموع الوتد ست مرات. أشار إليه بالواو من قوله (وف) المشار بها إلى (وقعيهما)، والفاء لغو، ولا لبس يقع بها وإن كانت رمز دائرة المؤتلفة لأنها قد تقدمت فلا يظن به الرجوع إليها بعد انتهاء الكلام عليها كما مر.
البحر الثالث الرمل، ووزنه (فاعلاتن) المجموع الوتد ست مرات. أشار إليه بالزاي من قوله (زن) المشار ها إلى (زائرتي) والنون ليست من حروف الرمز أصلًا فهي ملغاة ولا لبس.
ولترسم هذه الدائرة على هذه الصورة: فمن أول علامة إلى الآخر بحر الهزج. ومن أول السبب الأول إليه بحر الرجز، ومن أول السبب الثاني إليه بحر الرمل.
وسميت بدائرة المجتلب، لأن أجزاءها كلها اجتلبت من دائرة المختلف إليها، فمفاعيلن من الطويل، ومستفعلن من البسيط، وفاعلاتن من المديد.
فإن قلت: لم حكم باجتلابها من هناك إلى هنا دون العكس؟ قلت: أجاب الصفاقسي عنه بوجهين: الأول أن فائدة الاجتلاب إنما هي الاستعمال، وهي كلها هنا مستعملة بخلافها في دائرة المختلف، لأن بعضها مهمل. الثاني أن كل أجزاء هذه الدائرة في دائرة المختلف دون العكس.
1 / 15
فإن قلت: الذي في دائرة المختلف وليس في هذه هو (فعولن وفاعلن)، فجاز أن يكونا مجتلبين إليها من دائرة المتفق، إذ لا يشترط في الاجتلاب أن يكون من دائرة واحدة. ولئن سلم فيكفي اختلاف البعض في التسمية، قلت: أورده الصفاقسي أيضًا ثم قال: (ويمكن أن يجاب عنه بأن مرادنا من الاستدلال أحد الأمرين، إما المانعية، وإما الترجيح، وما ذكرتموه إنما ينفي المانعية ولا يلزم من انتفائها انتفاء الترجيح.
الدائرة الرابعة: دائرة المشتبه وإليها أشار بالشين من قوله (شم) والميم ملغاة ولا لبس يلحق بإلغائها لأنها ليست من حروف الرمز أصلًا ورأسًا. وهي مسدسة الأجزاء ولم يحتج إلى التنصيص على تسديسها لما سبق.
وتشتمل على تسعة أبحر منها ستة مستعملة، والثلاثة الباقية مهملة.
فأما المستعملة فالأول منها بحر السريع. ووزنه (مستفعلن مستفعلن مفعولات)، ومثلها. أشار إلى الجزأين الأولين بالواوين المتتاليتين من قوله (ووطء) المشار بها إلى (وقعيهما وقعيهما) وأشار إلى الجزء الثالث بالطاء المشار بها إلى (طولاهن) .
فكأنه يقول: دائرة المشتبه منها بحر وزنه: (وقعيهما طولاهن) ومثلهن.
الثاني: بحر المنسرح، ووزنه (مستفعلن مفعولات مستفعلن)، ومثلها. أشار إلى هذه الأجزاء مرتبةً على هذا النمط بالواوين والطاء من قوله (وطول) المشار بهن إلى (وقعيهما طولاهن وقعيهما) كما سلف واللام لغو ليست من أحرف الرمز المشار به إلى الأجزاء ولا تلتبس باللام المرموز بها لدائرة المجتلب لما سبق.
الثالث: بحر الخفيف، وزنه (فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن) ومثلها. وفاعلاتن هذه مجموعة الوتد ومستفع لن مفروقته كما سينطق لك به فك الدائرة بإذن الله تعالى. وأشار الناظم إلى أجزاء هذا البحر الثلاثة مسوقة على هذا الترتيب بالزائين والتاء بينهما من قوله: (عزيز)، المشار بهن إلى (زائرائي يعتادها زائرتي) والعين ملغاة لا يقع بها التباس أصلًا، وكذا الكاف والميم الواقعان بعد الرمز.
الرابع: بحر المضارع، ووزنه (مفاعيلن فاع لاتن مفاعيلن)، وثلها.
(وفاع لاتن) هذه مفروقة الوتد لما ستعرفه. وأشار الناظم إلى ذلك بالباءين والدال الواقعات في قوله (بدعبلكم) المشار بهن إلى (بسهميهما دار كوني بسهميهما) والعين واللام والكاف والميم كلها ملغاة لا ينشأ بإلغائهن ليس كما سبق.
الخامس: بحر المقتضب ووزنه (مفعولات مستفعلن مستفعلن) ومثلها.
(ومستفعلن هذه مجموعة الوتد. وأشار الناظم إلى ذلك بالطاء والواوين بعدهما من قوله (طووا) المشار بهن إلى (طولاهن وقعيهما وقعيهما) . فإن قلت: الألف بعد (طووا) ملغاة والالتباس بإلغائها واقع فإنها من الأحرف المرموز بها للأجزاء، وهي رمز (لأصابت)، قلت: لا إلباس، وذلك لأنه قد علم أن كل بيت في الدائرة مركب من مصراعين، وكل مصراع منهما مماثل للآخر، فلو كانت الألف مشارًا بها إلى (أصابت) للزم أن يكون هذا البحر مثمنًا.؟ والغرض أنه مسدس، وأيضًا فقد علم أنه لا خماسي بهذه الدائرة من الأبحر السابقة فانتفى اللبس واتضح الأمر.
السادس: بحر المجتث ووزنه (مستفع لن فاعلاتن) ومثلها. (ومستفع لن) هذه مفروقة الوتد، (وفاعلاتن) مجموعته كما يتبين لك. وأشار الناظم إلى هذه الأجزاء مسرودةً على هذا الوجه بالياء والزايين بعدها من قوله (يعزز) المشار بهن إلى (يعتادها زائراتي زائراتي)، والعين ملغاة، ولا لبس. فهذه الأبحر الستة هي المستعملة من أبحر هذه الدائرة، وأما المهملة فثلاثة كما سبق.
البحر الأول بحر وزنه (فاعلاتن فاعلانت مستغفع لن)، ومثلها (ومستفع لن) هذه مفروقة في الوتد لأنه مكان (لات) من (مفعولات) الذي هو الجزء الثالث من بحر السريع، وذلك لأن ابتداء (مستفع لن) من عينه كما ستراه.
ولم تضع العرب عليه شيئًا، وبيته من شعر المولدين:
ما لِسلمى في البرايا من مُشبهٍ ... لا ولا البدرُ المنير المُسْتكملُ
1 / 16
قال الصفاقسي: (وزعم الزجاج أن سبب اطراحه ما يلزم عليه لو تم من وقوع (مستفع لن) المفروقة الوتد في العروض، وهو مجتنب عندهم لأنها عمدة، والأسباب مع الوتد المفروق ضعيفة، ولهذا لم يجيء السريع تامًا. قال الصفاقسي: وأقول: اللازم عليه في السريع كذلك، وتمامه أنه لو جزىء لالتبس بمجزوء الرمل. قال: واعترضه أبو الحكم بأن اطراحهم تام السريع ليس لضعف الأسباب مع الوتد المفروق بل للزوم الوقف على المتحرك. ووهمه الصفاقسي بأن الزجاج إنما علل تمام العروض لا تمام الضرب، والعروض ليست محل وقف فيمتنع تحرك آخرها لأنها في حشو البيت.
البحر الثاني المهمل بحر وزنه (مفاعيلن فاع لاتن) ومثلها، (وفاع لاتن) هذه مفروقة الوتد لأن ابتداءها من أول الوتد المفروق، وبيته من قول المولدين:
لقد ناديتُ أقوامًا حين جابوا ... وما بالسمع مِن وَقْرٍ لو أجابوا
قال الصفاقسي: وعلل الزجاج اطراحه بما تقدم، وفيه ما فيه، وتمامه أنه لو جزىء لا لتبس بمجزوء الهزج.
البحر الثالث المهمل بحر وزنه (فاع لاتن مفاعيلن مفاعيلن) ومثلها، (وفاع لاتن) هذه مفروقة الوتد لانفكاكها من أول وتد مفروق، ولا علة لاطراحه لا تامًا ولا مجزوء إلا عدم السماع، وبيته من قول المحدثين:
مَن مُجبري من الأشجانِ والكربِ ... من مُديلي من الإبعاد بالقُربِ
وهذه صورة هذه الدائرة: وكيفية الفك منها أنك تبتدئ من أول علامة إلى الآخر فيحدث بحر السريع، ومن أمل السبب الثاني إليه البحر الأول المهمل، ومن أول الوتد المجموع الذي يلي ذينك السببين إليه البحر الثاني المهمل، ومن أول الجزء التالي لهذا الجزء إليه بحر المنسرح، ومن أول سببه الثاني إليه بحر الخفيف، ومن أول الوتد المجموع إليه بحر المضارع، ومن أول الجزء الثالث إليه بحر المقتضب، ومن أول سببه الثاني إليه بحر المجتث، ومن أول الوتد المفروق إليه البحر الثالث المهمل. وهذا آخر دائرة المشتبه.
سميت بذلك لاشتباه أبحرها. حكى ابن القطاع أن فحول الشعراء غلطوا في بحورها فأدخلوا بعضها على بعض في القصيدة الواحدة توهمًا منهم أنه بحر واحد، منهم مهمل، ومرقش، وعبيد بن الأبرص، وعلقمة بن عبدة، ووقع من ذلك قصيدة للطرماح حكاها أبو المعري.
فإن قلت: المستفر عندهم أن تبدأ كل دائرة بما كان من أبحرها مصدرًا بوتد مجموع لقوته فيجعل أصلًا لتلك الدائرة وتفك البحور الباقية منه، وهذه الدائرة من جملة أبحرها المستعملة بحر المضارع، وهو مصدر بوتد مجموع 'ذ وزنه (مفاعيلن فاع لاتن مفاعيلن)، فما بالهم لم يجعلوه أصلًا لهذه الدائرة، بل عدلوا عن ذلك وجعلوا أصلها بحر السريع، قلت: أجابوا عن ذلك بأن الجزء الأول من المضارع معلول أبدًا للزوم المراقبة فيه، وليس في أول الدوائر المتقدمة بيت معلول فرفض البدء به لهذا.
ورده الصفاقسي بأن لزوم إعلال المضارع في الاستعمال لا في الدائرة، والعبرة في الفك بما في الدائرة، ثم كل من الإعلال والبدء بالسريع مخالف للقياس فلم يرفض أحدخما ويرتكب الآخر؟ قال: والأولى عندي أن يقال إن المضارع لما قل في كلامهم صار كالمهمل، ولذا أنكره الزجاج، والمهمل لا يكون ابتداء الفك منه، فكذا ما أشبهه، فابتدؤا حينئذ بالسريع لخفته وحسن ذوقه.
قلت: لا نسلم أن قلة المضارع تصيره كالمهمل، ولا أن إنكار الزجاج له يصيره أيضًا في حكم المهمل، كيف والخليل ﵀ هو الذي جعل أول هذه الدائرة بحر السريع وعدل عن ابتدائها بالمضارع، فهل يحسن مع ذلك أن يقال إن الخليل رأى إنكار الزجاج للمضارع يصيره كامهمل فلم يبدأ الدائرة به؟ هذا ما لا يتصور أن يقال.
الدائرة الخامسة: دائرة المتفق أشار إليها الناظم بالقاف من قوله (قس) والسين ملغاة لا يقع بها إلباس، وهي مثمنة الأجزاء، وإلى ذلك أشار بقوله (تثمين)، وفيها عند الخليل بحر واحد مستعمل وهو المتقارب، ووزنه (فعولن) ثماني مرات، وأشار إلى هذا الجزء بالألف من قوله (أشرف) المشار بها إلى (أصابت) وما بعد الألف ملغى لا يلتبس بأحرف الرمز، ولا يشكل إذا تأملت.
ويخرج منه بحر وزنه (فاعلن) ثماني مرات، ولم يذكره الخليل واستدركه المحدثون، فسمي بالمتدارك، والمحدث والمخترع. قالوا: ولم يستعمل إلا مخبونًا، وحكوا له عروضًا وضربًا مخبونين كقوله:
1 / 17
كرةٌق طُرحتْ بصوالجةٍ ... فتلّقفها رجلٌ رجلُ
قالوا: وشذت له عروض مجزوءة ذات أضرب ثلاثة مجزوءة، الأول مرفل مذيل كقوله:
دار سُعدى بشجرش عُمان ... قد كفاهاالبِلى المَلَوانْ
الثاني مذيل كفوله:
هذه دارهم أقفرت ... أم زبورٌ محتها الدهور
الثالث مثلها كقوله:
قِفْ على دارهم وابكها ... بين أطلالها والدّمَنْ
ويستعمل فاعلن في هذا البحر على فعلن بإسكان العين في البيت كله كقوله:
مالي مالٌ إلاّ درهم ... أو برذَوني ذاك الأدهمْ
وقد اختلف في الذي صيره إلى (فعلن) فقيل دخله الخبن، ثم أضمر تشبيهًا لثانية حينئذ بثاني السبب الثقيل. وقيل: دخله القطع وجرت العلة فيه مجرى الزحاف، فاستعملت في الحشو ولم تلزم. وقيل: دخله التشعيث فذهبت اللام منه فصار فاعن فنقل إلى (فعلن) .
ويسمى هذا الوزن بقطر الميزاب، وصوت الناقوس، وركض الخيل. وعليه جاء قول الحصري:
ياليلَ الصبّ متى غدُهُ ... أقيامُ الساعة موعدُهُ
رقد السُّمارُ فأرقهُ ... أسفٌ للبين يرددهُ
إلا أنه لم يستعمله في جميع الأجزاء إشعارًا بأن مثل ذلك من قبيل الجائز لا الواجب، وهذه صورة هذه الدائرة: فمن أول الوتد المجموع إلى آخر العلامات بحر المتقارب، ومن أول السبب الخفيف إليه بحر المتدارك.
وسميت هذه الدائرة بدائرة المتفق لاتفاق أجزائها. واعلم أن الخطيب التبريزي سمى الدائرة الثالثة بدائرة المشتبه لاشتباه أجزائها، وسمى الدائرة الرابعة بدائرة المجتلب لكثرة أبحرها، مأخوذ من الجلب وهو الكثرة، وفي نسخة الشريف ما يقتضى ذلك فوقع فيها (خف شاق) بتقديم الشين على اللام، ووقع فيها البيتان اللذان بعد ذلك هكذا:
خَ ثَمِّنْ أبِن زَهر وله فلستِّةٍ ... جَلَتْ حضّ شَمِّرْ بل وفُزنَ لذُووِطا
وطولُ عزيزٍ كمْ بد عبلكُم طَوَوا ... يُعزِّزُ قِسْ تَثمينَ أشرفَ ما تَرَى
قال الشريف: وقول الناظم (قس تثمين أشرف ما ترى) جاء بالقاف رمزًا على الدائرة الخامسة، وهي دائرة المتفق، ثم نص على تثمينها وأتى بالألف رمزًا على (فعولن) لأنه أول جزء، وهو الذي أراد بقوله (أشرف ما ترى) أي هو أول ما ترى من الأجزاء في الترتيب الذي قدم فجعل له الشرف بالتقديم، ولم يأت بعد ذلك بما يدل على شيء من الأجزاء فأفاد أن هذه الدائرة ليس لها إلا شطر واحد مبني من (فعولن) ثماني مرات، وهو شطر المتقارب، انتهى.
وسلك أمين الدين المحلى في ترتيب الدوائر غير هذه الطريقة، وبنى ذلك على أصلين: أحدهما أن ما كان أبسط أو أقرب إلى البساطة فهو أولى بالتقديم مما ليس كذلك، وثانيهما أن أصول التقاعيل أربعة وباقي العشرة فروع، فقدم دائرة (فعولن) لكونه خماسيًا فهو أقرب إلى البساطة من السباعي، ثم ثنى بدائرة (مفاعيلن) لأنه مؤلف من وتد وسببين خفيفين، ثم ثلث بدائرة مفاعلتن المؤلف من وتد وسببين أحدهما ثقيل، ثم قدم دائرة (فعولن مفاعيلن) على دائرة (مستفعلن مستفعلن مفعولات) لتركب الأولى من خماسي وسباعي، والثانية من سباعيين متماثلين وسباعي مخالف لهما، فلما كانت الأولى أقرب إلى البساطة من الثانية قدمت عليها.
فترتيب الدوائر عنده هكذا: دائرة الوتفق، ثم دائرة المجتلب، ثم دائرة المؤتلف، ثم دائرة المختلف، ثم دائرة المشتبه.
1 / 18
واعترضه أبن واصل بأن هذا مخالفة للخليل بن أحمد صاحب الفن، وجميع من أتى بعده من أهل العروض من غير ضرورة تدعو إلى مخالفتهم، بل بمجرد مناسبة ضعيفة، مع أن ما ذكره الإمام ﵀ واقتفى القوم أثره فيه له وجه من المناسبة، إن لم يكن أحسن مما ذكره المحلى فليس بدونه، ونترجح نحن بسبب موافقة جميع أهل الفن فنقول: إنما قدمت دائرة المختلف لاشتماها على الطويل والبسيط اللذين هما أشرف من سائر البحور لطولهما وحسن ذوقها وكثرة ورودهما في أشعار العرب، وقد قال أبو العلاء المعري في كتابه جامع الأوزان: أن أكثر أشعار العرب من الطويل والبسيط والكامل، ومن تصفح أشعارهم وقف على صحة ذلك، وأيضًا فكل بحور هذه الدائرة مثمن، والتثمين أشرف من التسديس لأن الثمانية زوج زوج ينتهي في التحليل إلى الواحد، بخلاف الستة التي هي زوج فرد، ولا يرد علينا دائرة المتقارب إذ تفاعيلها ثمانية لأن هذه ترجحت بطول بحورها لتركبها من خماسي وسباعي، وبكثرة ما يخرج منها من البحور، وبكثرة الاستعمال، بخلاف تلك.
ثم قدمت دائرة المؤتلف على دائرة المجتلب، إما لأن دائرة المؤتلف من بحورها الكامل، وهونظير الطويل والبسيط في حسن الذوق وكثرة الاستعمال في شعر العرب، وإما لأن دائرة المجتلب كالفرع لغيرها لأن بحورها مجتلبة من دائرة الطويل وهذه لم تجتلب بحورها من غيرها، فهي أصل في نفسها.
ثم تقدمت دائرة المجتلب على دائرة المشتبه لأن أوتاد دائرة المجتلب كلها مجموعة، ودائرة المشتبه كل بحر من بحورها فيه وتد مفروق، والمجموع أشرف ثم تقدمت دائرة المجتلب على دائرة المشتبه لأن أوتاد دائرة المجتلب كلها مجموعة، ودائرة المشتبه كل بحر من بحورها فيه وتد مفروق، والمجموع أشرف من المفروق لقوته، ولهذا لم يأت إلا في دائرة المشتبه وحدها، والمجموع أتى في الدوائر كلها.
ثم قدمت دائرة المشتبه على دائرة المتفق لأنها سباعية التفاعيل ودائرة المتفق خماسية، والسباعي أشرف من الخماسي، وأيضًا فبحور دائرة المشتبه أكثر لأنها تسعة، ستة منها مستعملة وثلاثة مهملة، ودائرة المتفق لا يخرج منها إلا بحران أحدهما مستعمل والآخر مهمل، فكانت دائرة المشتبه أولى بالتقديم لا سيما ومن بحورها السريع والمنسرح والخفيف، وهذه أكثر في الاستعمال من المتقارب فظهر بما ذكرنا وجه المناسبة في ترتيب الدوائر على مذهب الفخليل ومن تبعه من العروضيين، فالمصير إليه أولى، والله الموفق، قال: فمنها انبنى المصراع والبيت منه والقصيدة من أبيات بحر على استوا أقول: بيت الشعر له نصفان، وكل واحد منهما يسمى مصراعًا تشبيهًا له بمصراع الباب، فجعل الناظم ﵀ المصراع مبينًا من أجزاء التفعيل الولقعة في الدوائر المتقدمة على حسب الترتيب المذكور فيها، فضمير المؤنث من قوله (فمنها) عائد على الأجزاء المذكورة كيف هي هناك، وضمير المذكر من قوله (منه) عائد إلى المصراع، أي أن بيت الشعر ينبني من المصراع إذ هو نصفه، ولابد للبيت من نصفين، فهو إذن مؤلف من المصراع، والقصيدة تنبني من أبيات بحر واحد بشرط أن تكون الأبيات كلها مستوية في أعداد الأجزاء، وفيما يجوز فيها أو يلزم أو يمتنع احترازًا بأن لا تستوي الأبيات في عدد الأجزاء، كما إذا نظم شاعر أبياتًا من بحر البسيط مثلًا بعضها واف وبعضها مجزوء فلا يمكن نظمها مع اختلاف عدد الأجزاء في سلك واحد، بحيث ينطلق على مجموعها قصيدة واحدة، واحترازًا من أن تستوي الأبيات في عدد الأجزاء ولا تستوي في الأحكام، كما إذا نظم أبياتا من بحر الطويل بعضها ضربه تام، وبعضها ضربه مقبوض، وبعضها ضربه محذوف، فلا يمكن أن يجعل مجموع ذلك قصيدة واحدة.
قال الشريف (والقصيدة مؤلفة من أبيات بحر واحد بشرط أن لا تختلف الأبيات، وذلك بأن تكون مستوية في الأحكام اللازمة. وقد قيل: لا تسمى الأبيات قصيدة حتى تكون عشرةً فما فوقها، وقيل أزيد من عشرة وقيل حتى تجاوز سبعةً، وما دون ذلك قطعة.
والقصيد جمع القصيدة من الشعر. قال في الأساس: أصله من القصيد وهو المخ السمين المكتنز الذي يتقصد، أي ينكسر، إ'ذا استخرج من قصته لسمنه فسموه به كما يستعار السمين للكلام الجزل، والغث للردى منه. وقيل القصيد فعيل بمعنى مفعول، لأن الشاعر قصده بتجويده وتنقيخه. قال:
1 / 19
وقُلْ آخرُ الصدرِ العروضُ ومثُله ... من العَجُزِ الّضربُ اعلمِ الفرقَ باعِتنا
أقول: تقدم أن المصراع هو نصف البيت، أعم من أن يكون نصفه الأول أو الثاني، فإن كان هو النصف الأول سمي صدرًا، وإن كان هو النصف الثاني سمي عجزًا، والجزء الأخير من الصدر يسمى عروضًا.
وقد سبق أن العروض يطلق في الاصطلاح على هذا العلم، فقيل هو حقيقة في العلم مجاز في هذا، من باب إطلاق اسم الكل على الجزء، وقيل بالعكس من باب إطلاق اسم الجزء على الكل. قال الصفاقسي: والحق أنه مجاز في الجزء لكن ليس حقيقته هذا العلم، بل لشبهه بوسط البيت المسكون، فإنه يقال له عروض، حكاه ابن سيده في (المحكم) ووجه الشبه أن بيت الشعر سمي بيتا لأنهم بنوه على أسباب وأوتاد كالبيت المسكون، لأن الحبال أسباب. ولهذا، فإنه يقال له عروض، حكاه ابن سيده في (المحكم) ووجه الشبه أن بيت الشعر سمي بيتا لأنهم بنوه على أسباب وأوتاد كالبيت المسكون، لأن الحبال أسباب. ولهذا، فإنه يقال له عروض، حكاه ابن سيده في (المحكم) ووجه الشبه أن بيت الشعر سمي بيتا لأنهم بنوه على أسباب وأوتاد كالبيت المسكون، لأن الحبال أسباب. ولهذا، فإنه يقال له عروض، حكاه ابن سيده في (المحكم) ووجه الشبه أن بيت الشعر سمي بيتا لأنهم بنوه على أسباب وأوتاد كالبيت المسكون، لأن الحبال أسباب. ولهذا، فإنه يقال له عروض، حكاه ابن سيده في (المحكم) ووجه الشبه أن بيت الشعر سمي بيتا لأنهم بنوه على أسباب وأوتاد كالبيت المسكون، لأن الحبال أسباب. ولهذا، فإنه يقال له عروض، حكاه ابن سيده في (المحكم) ووجه الشبه أن بيت الشعر سمي بيتا لأنهم بنوه على أسباب وأوتاد كالبيت المسكون، لأن الحبال أسباب. ولهذا، فإنه يقال له عروض، حكاه ابن سيده في (المحكم) ووجه الشبه أن بيت الشعر سمي بيتا لأنهم بنوه على أسباب وأوتاد كالبيت المسكون، لأن الحبال أسباب. ولهذا، فإنه يقال له عروض، حكاه ابن سيده في (المحكم) ووجه الشبه أن بيت الشعر سمي بيتا لأنهم بنوه على أسباب وأوتاد كالبيت المسكون، لأن الحبال أسباب. ولهذا لملم يلحقوا التغيير "إلا في الأسباب لا في الأوتاد، فحقيقته حينئذ هي عروض البيت المسكون. وقد ذهب بعض العروضيين إلى أن النصف الأول بكماله هو العروض، والأول أصح لكمال الشبه فيه كما مر.
قلت: فيه مناقشتان، معنوية ولفظية، أما المعنوية فدعواه أنهم لم يلحقوا التغيير إلا في الأسباب ليست بصحيحة، بل ألحقوا التغيير في الأسباب والأوتاد جميعًا. نعم التغيير العارض على وجه الجواز لا اللزوم إنما يلحق الأسباب، وهو المعبر عنه عندهم بالزحاف، ولا شك أن هذا مراده، لكنه لو يحرر التعبير عنه.
وأما اللفظية فعطفه بلا بعد الحصر بإلا غير جائز عندهم على ما صرح به البيانيون، وإن وقع الزمخشرى في مثله في مواضع من الكشاف.
وقوله: (اعلم الفرق باعتنا) أي اعلم الفرق بين العروض والضرب حال كونك مصاحبًا للاعتناء بهذا الأمر، وذلك لأن هذين اللقبين يكثر دورهما بين القوم ولهما أحكام كثيرة مهمة، فالاعتناء بشأنهما شديد. وجوز الشريف فيه معنى آخر، وهو أن يكون المراد اعلم الأحكام التي تفارق فيها الضروب الأعاريض، أو التي تفارق فيها الضروب الأعاريض غيرها من أجزاء البيت، فإنها أكيدة يجب الاعتناء بها، لأن الأعاريض والضروب محل للأحكام اللازمة، وهي الفصول والغايات، فإذا لزم العروض أو الضرب حكم في بيت من القصيدة أو القطعة وجب أن يتساوى فيه جميع الأبيات، وهو الذي أشار إليه بالاستواء في البيت الأول. قلت: فيه بعد فتأمله.
وقد كنت كتبت لبعض الأصحاب لغزًا في خيمة، ونحن إذ ذاك بمخيم الحجاج بظاهر دمشق في يوم الاثنين الخامس عشر من شوال سنة ثمانمائة وقعت التورية فيها بألفاظ دائرة بين أهل العروض، ولا بأس بإيرادها هنا. قلت:
أمولاى زين الدين يامَنَ ظلالُه ... وَقَتْنا أذى الرّمضاء في البُعد والقربِ
ومَنَ صَحِبَ العلياءَ فهو خليلها ... وخيَّم في أفقْ الكمال بلا عُجبِ
أحاجيكَ في بيتٍ تحررَ نظمُه ... وأوتادُه للكسر دائمةُ الكَسبِ
فوائدُهُ يستروحُ القلبُ نحوها ... ويبحث في الأسفار عنها ذوُو اللبِ
ويُضرب إذ تبدو العروضُ بوسطه ... فيا حبذا تلك العروض مع الضربش
1 / 20