Cuthman Ibn Caffan
عثمان بن عفان: بين الخلافة والملك
Genres
وإني كنت أتعشى مع عثمان خزيرة من طبخ من أجود ما رأيت قط، فيها بطون الغنم وأدمها اللبن والسمن، فقال عثمان: كيف ترى هذا الطعام؟ فقلت: هذا أطيب ما أكلت قط. فقال: يرحم الله ابن الخطاب ما أكلت معه هذه الخزيرة قط. قلت: نعم كادت اللقمة تفرث في يدي حين أهوي بها إلى فمي وليس فيها لحم، وكان أدمها السمن ولا لبن فيها. فقال عثمان: «صدقت إن عمر - رضي الله عنه - أتعب والله من تبع أثره، وإنه كان يطلب بثنيه عن هذه الأمور ظلفا، أما والله ما آكله من مال المسلمين ولكن آكله من مالي، أنت تعلم أني كنت أكثر قريش مالا وأجدهم في التجارة، ولم أزل آكل من الطعام ما لان منه. وقد بلغت سنا فأحب الطعام إلي ألينه، ولا أعلم لأحد علي في ذلك تبعة.»
2
وعن عبيد الله بن عامر قال: «كنت أفطر مع عثمان في شهر رمضان فكان يأتينا بطعام هو ألين من طعام عمر، قد رأيت على مائدة عثمان الدرمك الجيد وصغار الضأن كل ليلة، وما رأيت عمر قط أكل من الدقيق منخولا، ولا أكل من الغنم إلا مسانها. وقيل لعثمان في ذلك فقال: يرحم الله عمر ومن يطيق ما كان عمر يطيق؟!»
أما وذلك شأن عثمان في شبابه وشيخوخته، فلم يكن مستطاعا أن يحبس المهاجرين بالمدينة أو يصدهم عن أن يضربوا في الأرض ويأكلوا من رزق الله، ولم يكن مستطاعا أن يلزم الخليفة الناس التقشف والانصراف عن الدنيا أو يطلب إلى ولاته في الأمصار أن يلزموهم شيئا من ذلك.
لم يكن الطعام الطيب والثياب الفاخرة والحياة الناعمة هي وحدها ما يطبق عثمان في حياته الخاصة، بل كانت نظرة عثمان للأمور العامة والخاصة نظرة رجل له بكل متاع بريء هوى. كان مسجد النبي بالمدينة هو مكان الحكم، فكان
صلى الله عليه وسلم
ثم كان أبو بكر وعمر يجلسون فيه يديرون الأمور العامة. فإذا احتاج الأمر إلى مشاورة جمهور المسلمين نودي أن الصلاة جامعة، فاجتمع الناس بالمسجد فشاورهم النبي ثم شاورهم من بعده خليفتاه. كذلك فعل عثمان لكنه لم يرض عن بناء المسجد، وهو دار الحكم، على ما كان عليه في عهد النبي وفي عهد الخليفتين من قبله، بل رأى أن يخلع عليه من الهيبة ما لم يفكر فيه عمر، وما يجعله جديرا بأن تصدر منه الأوامر إلى أهالي الولايات الذين يقيمون بقصور دمشق والفسطاط والكوفة والبصرة.
كان مسجد النبي أول ما بني بسيطا، جدره من اللبن، وسقفه من الجريد، وعمده من خشب النخل. وبقي المسجد كذلك ست سنوات تباعا، ولم يغير منه ما كان من انتشار الإسلام وازدياد الرخاء بالمدينة وما أفاء الله على أهلها من بسطة الرزق. فلما فتح المسلمون خيبر وخلصت المدينة للمسلمين وزاد عددهم بها بمن هداهم الله للإسلام، لم يكن من توسيع رقعة المسجد بد، فزاد النبي في رقعته مائة متر مربع أو أكثر. لكنه لم يغير من عمارته باللبن والجريد وجذوع النخل شيئا.
ولم يحدث في خلافة أبي بكر إلا ما روي من أن سواري المسجد نخرت فبناها. فلما كان عهد عمر واطردت زيادة المسلمين بالمدينة لم يكن من توسيع المسجد كرة أخرى بد، فزاد عمر في رقعة المسجد ولكنه لم يغير من عمارته. فقد بنى الجدر كما بناها رسول الله، وجعل الأساس من الحجارة وما فوقه من اللبن، وجعل عمده من الخشب والسقف من الجريد، وجعل للمسجد ستة أبواب، واتخذ إلى جانبه مكانا سمي البطحاء، أمر من أراد أن يلفظ أو يرفع صوتا أن يخرج إليه تنزيها له عن أن يكون له شيء من تجارة الدنيا أو يكون فيه عبث أو تأثيم.
فلما آلت الخلافة لعثمان كلمه الناس أول ما تولاها أن يزيد في المسجد، وشكوا إليه ضيقه يوم الجمعة بعد أن ازداد سكان المدينة زيادة عظيمة لامتداد الفتح. واستشار عثمان أهل الرأي فأجمعوا على هدم المسجد وبنائه وتوسيعه.
Unknown page