Cuthman Ibn Caffan
عثمان بن عفان: بين الخلافة والملك
Genres
كان خارجة بن حذافة أمير الجند في حصن بابليون. وكان رأي خارجة أن يسارع عمرو إلى مناجزتهم قبل أن يأتيهم المدد أو ييأس أهل مصر من العرب، فينضموا إلى الروم فتتعذر المقاومة وتسوء العاقبة. لكن القائد الداهية رأى غير هذا الرأي. رأى أن يترك الروم ينتشرون في البلاد ويعيثون في الأرض فسادا فيزداد المصريون لهم بغضا. قال مجيبا دعوة خارجة لمبادرة العدو: «لا، ولكن دعهم يسيروا إلي فإنهم يصيبون من مروا به فيخزى بعضهم ببعض.» وهذه كلمة تدل على أن عمرا كان أعلم بالروم من أنفسهم، فكان يعرف أنهم يضمرون للمصريين أشد البغض منذ خرجت مصر من يدهم، وأنهم سيسيئون لا محالة معاملتهم.
وسار الروم في أرجاء مصر السفلى لا يلقون أية مقاومة. ولا يدعون المصريين مع ذلك وادعين، بل يغصبونهم ما لهم ويوجهون إليهم شر ألوان المهانة. وفي هذه الأثناء كان عمرو بن العاص ينظم ببابليون جنده ويعد للقتال عدته. فلما علم أن الروم اقتربوا من نقيوس خرج إليها وقد عزم لقاءهم بها. خرج على رأس خمسة عشر ألفا مؤمنين بأنهم إن لم يهزموا الروم ارتدوا على أعقابهم إلى شبه الجزيرة العربية يجللهم عار الفرار. والتقى الجيشان تحت أسوار حصن نقيوس على شاطيء النهر، ولا يخامر الريب أي جندي من الروم أو من المسلمين في أن مصير اليوم حاسم، وأن أي الفريقين ظهر خلصت له مصر بخبراتها وبكل ما فيها من ثروة ونعيم؛ لذلك اشتد القتال وحمي وطيسه واستمات الفريقان فيه فترجح النصر بينهما، ورأى عمرو شدة القتال فاندفع بين الصفوف، تحته فرسه، وفي يده سيفه، يضرب به هام كل رومي لقيه، وإنه لكذلك إذ أصاب فرسه سهم أرداه. فترجل عنه، وقاتل مع المشاة أشد ما يكون حماسة، وقد عقد العزم على أن ينتصر أو يستشهد. ولم يكن الروم وقائدهم أقل من العرب ولا من أميرهم حماسة. ولقد تضعضع العرب أثناء المعركة وولى بعضهم الأدبار. فلما رأى عمرو صنيعهم زاده ما رأى عزما وإقداما وإصرارا على الفوز أو الشهادة. ورأى العرب من حوله صنيعه فازدادوا على وطيس الحرب إقبالا. وفي هذه الساعات الحاسمة أبدى الروم وأبدى العرب من ضروب الشجاعة وآيات البسالة ما سجل التاريخ من حوادثه ما هو أدنى إلى الأساطير. قيل: إن فارسا من الروم عليه سلاح مذهب رأى مقتل الرجال من قومه ومن عدوه فتقدم الصفوف ودعا العرب إلى المبارزة، فبرز إليه منهم رجل اسمه حومل، فاقتتلا طويلا برمحين فلم يغلب أحدهما الآخر. وألقى الرومي الرمح وأخذ سيفه فصنع حومل صنيعه، وبلغ من بأسهما وبراعتهما في الصراع أن وقف الجيشان صفوفا خلف صفوف يشهدان هذا المنظر الرائع من مناظر البطولة. وتصاول الفارسان بالسيوف ثم حمل الرومي على مبارزه فتلقاه حومل وضربه بالسيف فقتله. وأصيب حومل بجراحات مات منها بعد أيام.
وعاد القتال بعد مصرع البطل الرومي فالتقى الجيشان واشتبك الناس وثار بينهم النقع. وسمت فعلة حومل بنفوس المسلمين. فأراد كل منهم أن يكون كحومل بأسا وشجاعة، فاندفعوا إلى عدوهم يريدون الشهادة ويرون الجنة فتحت لهم أبوابها. ولم يصبر الروم لحملاتهم فتضعضع عزمهم ووهنت قوتهم. فانهزموا مولين الأدبار لا يلوون على شيء يريدون الإسكندرية يلوذون بحصونها من الموت وهو ملاقيهم. وتعقبهم العرب وقد زادهم النصر قوة على قوتهم، ولم يبق لديهم ريب في أن الله ناصرهم على عدوهم.
مات حومل بعد أيام من وقعة نقيوس فأرسل عمرو جثته إلى الفسطاط على سرير ودفنه في مشهد أكرم به فعال هذا البطل المغوار أيما إكرام. يقول المقريزي: «ورئي عمرو يحمل سريره بين عمودي نعشه حتى دفنه بالمقطم.» وعاد عمرو بعد أن أدى لهذا الشهيد واجبه الأخير، فسار مع الجيش يتعقب العدو المنهزم ليحاصره في العاصمة العظيمة.
لم يجد المسلمون مشقة في تعقب عدوهم، ولم يقف سيرهم إقدام العدو على تدمير الجسور وتخريب الطرق فقد عانى قبط مصر من بطش الروم ونهبهم في كل قرية مروا بها بعد نزولهم الإسكندرية، مما أعاد إلى ذاكرتهم ذلك الاضطهاد الديني الذي خضعوا له قبل الفتح العربي سنوات حسوما، كما ذكروا أن الفتح العربي هو الذي أنجاهم من ذلك الاضطهاد. فلما انهزم الروم بنقيوس وفروا يبتغون ملاذا بحصون الإسكندرية، وحطموا وراءهم كل جسر وأفسدوا كل طريق، هرع القبط من أهل القرى حين رأوا العرب يتعقبون هؤلاء الطغاة، فأصلحوا ما أفسده الروم وأمدوا العرب بما هم في حاجة إليه من عدة ومئونة، مظهرين من الاغتباط بما أصاب الروم، ما زاد العرب اطمئنانا إلى غدهم، وإلى أنهم لن يؤتوا من خلفهم.
وبلغ عمرو أسوار الإسكندرية، فألفى الروم تحصنوا بها، وأقفلوا أبوابها وأقاموا المجانيق في أعاليها يقذفون بها من يقترب من المدينة. وأسف عمرو حين تبدت أمامه العاصمة في قوة منعتها، ورأى أنه أخطأ إذ ترك أسوارها قائمة بعد الفتح الأول، وأقسم لئن أظفره الله بها ليهدمن هذه الأسوار حتى تصبح كبيت الزانية يؤتى من كل مكان. وعسكر بجنوده في جانب المدينة الشرقي ليحصرها بينه وبين البحر وترعة الثعبان فلا يستطيع أحد منها خروجا.
أفطال هذا الحصار أم قصر؟ وهل أقام عمرو من آلات الحصار ما صدع به الأسوار ثم دخل المدينة؟ أم خان واحد من حرسها الروم ففتح الباب الذي يحرسه لعمرو فدخل منه المسلمون؟ ليس لدينا من أسانيد التاريخ الثابتة ما يبين لنا زمن الحصار أو يرجح خيانة (ابن بسامة)، حارس الباب مما يسر اقتحام المسلمين المدينة بعد صدعهم أسوارها. فالروايات تضطرب هنا اضطرابها في كثير من وقائع الفتح لذلك العهد. فأما الأمر الذي أجمع عليه المؤرخون فذلك أن العرب أخذوا المدينة عنوة، وأنهم دخلوها يقتلون ويفتحون ويحرقون، وأن جند الروم فرت طائفة منهم بالمدينة فلاذت بالبحر، وأن أكثرهم قتل بالمدينة، وأن القائد مانويل الخصي كان في القتلى. وقد استمر العرب يقتلون ويغنمون حتى توسطوا المدينة، وحتى لم يبق أمامهم من يقاتلهم. هنالك أمرهم عمرو أن يرفعوا أيديهم، ثم أمر من بعد فبني بالمكان الذي حقنت فيه الدماء مسجدا هو مسجد الرحمة.
فر الروم إلى السفن وهربوا في البحر نجاة بأنفسهم. عند ذلك عادت إلى الإسكندرية السكينة، وعاد إليها من أهل مصر من كان قد فر منها لدخول الروم فيها. ويذكر (بتلر)
2
أن بطريق القبط بنيامين كان بين الذين فروا منها ثم عادوا إليها، وأنه هو الذي طلب إلى عمرو ألا يسيء إلى القبط؛ لأنهم لم ينقضوا عهدهم معه، وألا يعقد صلحا مع الروم، وأن يدفنه بكنيسة يخنس إذا مات. أما مؤرخو العرب فيذكرون أن الذي طلب هذه الأمور إلى عمرو هو المقوقس. والراجح أن المقوقس هنا هو بنيامين؛ لأن المقوقس كان لقبا ولم يكن اسما، وبذلك تتفق الروايتان.
Unknown page