Cuthman Ibn Caffan
عثمان بن عفان: بين الخلافة والملك
Genres
فاعترض أحد حضور المجلس رأي علي بقوله: «قتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم؟!» ووجم الحاضرون حين سمعوا هذا الاعتراض، وأمسك علي عن القول. ولعله أمسك مخافة أن يتهم بأنه يريد أن يثير على عثمان يوم بيعته. وأجال عثمان بصره فيمن حوله يلتمس عندهم الرأي، ويود لو وجد أحدهم من قتل عبيد الله مخرجا. قال عمرو بن العاص: «إن الله قد أعفاك من هذا الحدث، وقد كان وليس لك على المسلمين سلطان. تلك قضية لم تكن في أيامك، فدعها عنك.» ولم يقنع هذا الرأي عثمان فقال: «أنا وليهم - يريد ولي الذين قتلوا - وقد جعلتها دية واحتملتها في مالي.»
كان هذا الرأي من عثمان عين الحكمة. فهو لم يعف عبيد من جريرة جريمته. وهو لم يأمر بتحقيق؛ لأنه إذا أثبت مؤامرة الهرمزان وجفينة وفيروز أثار ثائرة الفرس والنصارى، ثم لم يبرئ عبيد الله من قتل ابنة أبي لؤلؤة عمدا في غير إثم وبغير حق. وقد استراح الناس جميعا لصنيع عثمان إلا جماعة دفعتهم الحمية للتعريض به ونقده. من هؤلاء زياد بن عبيد البياض الذي انطلق يقول الشعر يسيء به إلى عبيد الله وينقد به حكم عثمان. وقد جاء به عثمان وأمره أن يكف عن هذا التعريض فكف. بذلك نامت فتنة لم يكن من الخير أن تستيقظ، وانصرف المسلمون في أرجاء الإمبراطورية إلى مألوف حياتهم قبل مقتل عمر.
فرغ عثمان من أمر عبيد الله بن عمر ثم جعل يفكر في السياسة التي يسير عليها. إنه يعلم أن بني هاشم لم يستريحوا لبيعته، وأن جمهور الناس يرجون خطة غير ما أخذهم به عمر من بطش وشدة، ويطمعون في حياة أكثر لينا مما ألفوا إلى يومئذ. وهو يعلم أن الجند هم عماد النظام وحماة الإسلام والمدافعون عن الإمبراطورية. فإذا استطاع أن يتألف الجمهور والجند جميعا استبشروا الناس بعهده واطمأنوا له، هذا على أن يستقر في نفوسهم أنه ليس أقل من عمر حرصا على الدفاع عن الدولة وما فتحت، وعلى إقامة العدل بين الناس عدلا يزيدهم أمنا على أنفسهم وأموالهم، وطمأنينة إلى غدهم. وهو يعلم أن الولاة في البلاد المفتوحة هم أعوانه الأولون، فإذا أنسوا إليه حفظوا النظام وبثوا السكينة في قلوب الناس في أقطار الأرض. فكيف يبلغ هذا كله في رفق ولين يتفقان مع طبعه، ثم لا يشوبهما ضعف يشوه جمالهما، أو يدعو الذين لم يستريحوا إلى بيعته إلى تمرد أو خروج.
تتفق الروايات على أن أول ما صنع عثمان أن زاد في عطاء الناس عما كان في عهد عمر. زاد في عطاء كل واحد من جند المسلمين مائة درهم على ما فرضه عمر لهم، وكان عمر قد جعل لكل مسلم في كل ليلة من رمضان درهما من بيت المال يفطر عليه، ولأمهات المؤمنين درهمين، فأقر عثمان ذلك وزاده، ثم إنه اتخذ في المسجد سماطا للمتعبدين والمعتكفين وأبناء السبيل والفقراء والمساكين. بذلك استبشر الجند واسبتشر الناس ورأوا فيه فألا حسنا بمستقبل يكونون فيه أطيب حياة وألين عيشا، وليس لأحد أن يؤاخذ به عثمان والأموال تتدفق على المدينة من أرجاء الإمبراطورية، فلا تضيق بما وسع أمير المؤمنين على المسلمين.
وليطمئن الناس إلى أن ما ألفوا من عدل في عهد عمر لن يعبث به عابث كتب عثمان إلى عماله: «أما بعد فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جباة. وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة ولم يخلقوا جباة. وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة. فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء. ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين وفيما عليهم فتعطوهم ما لهم وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم وتأخذوهم بالذي عليهم، ثم العدو الذي تنتابون فاستفتحوا عليهم بالوفاء.»
هذا كتاب صور به عثمان سياسته في الرعية وما يجب على عماله أن يأخذوها به. وهي سياسة كلها السداد والحكمة. فهو يأمر هؤلاء العمال أن يرعوا الناس بالرفق وألا يرهقوهم جباية واستغلالا، وأن يأخذوا من المسلم ومن الذمي ما عليه، وأن يعطوا المسلم والذمي ماله عدلا بغير بغي، وأن يفوا بما يقطعونه للعدو من عهد حتى تذهب حميته فلا يثير الناس بالمسلمين. تلك أعدل السير في نظر عثمان. إليها يطمئن الجميع فيسود الأمن ويستتب النظام، وتستقر الأمور في نصاب، لا يدع لشاك أن يشكو ظلما أو هضما.
كان لعمال الخراج من الاستقلال عن الولاة ما خشي عثمان معه أن يظلموا الناس فيبهظوهم بما لا يجب عليهم أداؤه، أو أن يستغلوا مناصبهم لفائدتهم وفائدة ذويهم فيثيروا النفوس ويسيئوا إلى نزاهة الحكم؛ لذلك كتب إلى عمال الخراج يقول: «أما بعد فإن الله خلق الخلق بالحق فلا يقبل إلا الحق. خذوا الحق وأعطوا الحق به. والأمانة الأمانة، قوموا عليها ولا تكونوا أول من يسلبها فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم، والوفاء الوفاء لا تظلموا اليتيم ولا المعاهد، فإن الله خصم لمن ظلمهم.»
لم يرد عثمان أن يفهم الناس من كتبه إلا الولاة وإلى عمال الخراج أنه أعفى العامة من الواجبات الملقاة عليهم، أو أنه حين زاد في عطائهم يدعوهم إلى التمرغ في متاع الدنيا ورفه العيش؛ لذلك أذاع فيهم كتابا، قال فيه: «أما بعد، فإنكم إنما بلغتم ما بلغتم بالاقتداء والاتباع؛ فلا تلفتنكم الدنيا عن أمركم، فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم: تكامل النعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن. وقد قال رسول الله: الكفر في العجمة، فإذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا.»
وهذه الكتب الثلاثة إلى الولاة وإلى عمال الخراج وإلى العامة تصف مجملا من سياسة عثمان في إدارة الشئون الداخلية لبلاد الدولة كلها. ولكن عثمان لم يكن ليغيب عنه أن الإمبراطورية الناشئة لما تستقر إلى حال من الطمأنينة يستريح الخليفة إليه، وأن الفرس والروم لن تهدأ نفوسهم بعد الذي أصابهم في عهد عمر، وأنهم لا بد ينتهزون أول فرصة للثورة بالمسلمين حيثما وجدوا في الحكم العربي ضعفا عن مقاومتهم. ولم يكن هذا الأمر ليغيب على من كان أقل من عثمان بصرا بالأمور، واحتياطا لما قد يحدث. كتب عثمان إلى أمراء الأجناد في مختلف بلاد الدولة من غرب مصر إلى شرق فارس يقول: «أما بعد، فإنكم حماة المسلمين وذادتهم، ولقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا، بل كان عن ملأ منا، ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغير الله ما بكم ويستبدل بكم غيركم، فانظروا كيف تكونون، فإني أنظر فيما ألزمني الله النظر فيه والقيام عليه.»
هذه هي السياسة التي رسمها عثمان وأذاعها في الأمصار أول ما بويع، وتستطيع أن تضيف إليها أنه أقر الولاة في ولاياتهم، لم يعزل أحدا منهم، ولم ينقل أحدا إلى غير ولايته التي كان فيها حين استشهد عمر. أقر نافع بن عبد الحارث الخزاعي على مكة، وسفيان بن عبد الله الثقفي على الطائف، ويعلى بن منية على صنعاء، وعثمان بن أبي العاص الثقفي على البحرين وما والاها، والمغيرة بن شعبة على الكوفة، وأبا موسى الأشعري على البصرة، ومعاوية بن أبي سفيان على دمشق، وعمير بن سعد على حمص، وعمرو بن العاص على مصر، كما أقر عبد الله بن أبي ربيعة على الجند.
Unknown page