هذه هي الأمة التي كانت الدول العظام يؤدون لها الجزية عن يد وهن صاغرات، استبقاء لحياتهن، وملوكها في هذه الأيام يرون بقاءهم في التزلف إلى تلك الدول الأجنبية، ويا للمصيبة ويا للرزية!
أليس هذا بخطب جلل، أليس هذا ببلاء نزل؟ ما سبب هذا الهبوط، وما علة هذا الانحطاط؟ هل نسيء الظن بالوعود الإلهية؟ معاذ الله! هل نستيئس من رحمة الله ونظن أن قد كذب علينا؟ نعوذ بالله! هل نرتاب في وعده بنصرنا بعد أن أكده لنا؟ حاشاه سبحانه، لا كان شيء من ذلك ولن يكون، فعلينا أن ننظر لأنفسنا ولا لوم لنا إلا عليها، إن الله تعالى برحمته قد وضع لسير الأمم سننا متبعة، ثم قال:
ولن تجد لسنة الله تبديلا (الأحزاب: 62).
أرشدنا سبحانه في محكم آياته إلى أن الأمم ما سقطت من عرش عزها، ولا بادت ومحي اسمها من لوح الوجود؛ إلا بعد نكوبها عن تلك السنن التي سنها الله على أساس الحكمة البالغة، إن الله لا يغير ما بقوم من عزة وسلطان، ورفاهة وخفض عيش وأمن وراحة؛ حتى يغير أولئك القوم ما بأنفسهم من نور العقل وصحة الفكر، وإشراق البصيرة والاعتبار بأفعال الله في الأمم السابقة والتدبر في أحوال الذين جاروا عن صراط الله فهلكوا وحل بهم الدمار، ثم لعدولهم عن سنة العدل، وخروجهم عن طريق البصيرة والحكمة، حادوا عن الاستقامة في الرأي، والصدق في القول، والسلامة في الصدر، والعفة عن الشهوات، والحمية على الحق، والقيام بنصره، والتعاون على حمايته، خذلوا العدل ولم يجمعوا همهم على إعلاء كلمته، واتبعوا الأهواء الباطلة، وانكبوا على الشهوات الفانية، وأتوا عظائم المنكرات، خارت عزائمهم، فشحوا ببذل مهجهم في حفظ السنن العادلة، واختاروا الحياة في الباطل على الموت في نصرة الحق، فأخذهم الله بذنوبهم وجعلهم عبرة للمعتبرين.
هكذا جعل الله بقاء الأمم ونماءها في التحلي بالفضائل التي أشرنا إليها، وجعل هلاكها ودمارها في التخلي عنها، سنة ثابتة لا تختلف باختلاف الأمم، ولا تتبدل بتبدل الأجيال، كسنته تعالى في الخلق والإيجاد، وتقدير الأرزاق وتحديد الآجال، علينا أن نرجع إلى قلوبنا، ونمتحن مداركنا، ونسبر أخلاقنا، ونلاحظ مسالك سيرنا؛ لنعلم هل نحن على سيرة الذين سبقونا بالإيمان، هل نحن نقتفي أثر السلف الصالح، هل غير الله ما بنا قبل أن نغير ما بأنفسنا، وخالف فينا حكمه وبدل في أمرنا سنته - حاشاه وتعالى عما يصفون.
بل صدقنا الله وعده، حتى إذا فشلنا وتنازعنا في الأمر وعصيناه من بعد ما أرى أسلافنا ما يحبون، وأعجبتنا كثرتنا فلم تغن عنا شيئا، فبدل عزنا بالذل، وسمونا بالانحطاط، وغنانا بالفقر، وسيادتنا بالعبودية، نبذنا أوامر الله ظهريا، وتخاذلنا عن نصره، فجازانا بسوء أعمالنا، ولم يبق لنا سبيل إلى النجاة سوى التوبة والإنابة إليه، كيف لا نلوم أنفسنا ونحن نرى الأجانب عنا يغتصبون ديارنا، ويستذلون أهلها، ويسفكون دماء الأبرياء من إخواننا، ولا نرى في أحد منا حراكا.
هذا العدد الوافر والسواد الأعظم من هذه الملة لا يبذلون في الدفاع عن أوطانهم وأنفسهم شيئا من فضول أموالهم، يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، كل واحد منهم يود لو يعيش ألف سنة، وإن كان غذاؤه الذلة وكساؤه المسكنة، ومسكنه الهوان، تفرقت كلمتنا شرقا وغربا، وكاد يتقطع ما بيننا، لا يحن أخ لأخيه، ولا يهتم جار بشأن جاره، ولا يرقب أحدنا في الآخر إلا ولا ذمة، ولا نحترم شعائر ديننا، ولا ندافع عن حوزته، ولا نعززه بما نبذل من أموالنا وأرواحنا حسبما أمرنا.
أيحسب اللابسون لباس المؤمنين أن الله يرضى منهم بما يظهر على الألسنة ولا يمس سواد القلوب؟! هل يرضى الله عنهم بأن يعبدوه على حرف، فإن أصابهم خير اطمأنوا به، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم خسروا الدنيا والآخرة؟! هل ظنوا أن لا يبتلي الله ما في صدورهم، ولا يمحص ما في قلوبهم؟! ألا يعلمون أن الله لا يذر المؤمنين على ما هم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب، هل نسوا أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم للقيام بنصره وإعلاء كلمته، لا يبخلون في سبيله بمال، ولا يشحون بنفس؟! فهل لمؤمن بعد هذا أن يزعم نفسه مؤمنا وهو لم يخط خطوة في سبيل الإيمان، لا بماله ولا بروحه؟!
إنما المؤمنون هم الذين إذا قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم لا يزيدهم ذلك إلا إيمانا وثباتا، ويقولون في إقدامهم: حسبنا الله ونعم الوكيل، كيف يخشى الموت مؤمن وهو يعلم أن المقتول في سبيل الله حي يرزق عند ربه، متمتع بالسعادة الأبدية، في نعمة من الله ورضوان؟! كيف يخاف مؤمن من غير الله، والله يقول:
فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين (آل عمران: 175)؟!
Unknown page