أما الأجانب الذين لا يتصلون بصاحب الملك في جنس ولا في دين تقوم رابطته مقام الجنس، فمثلهم في المملكة كمثل الأجير في بناء بيت، لا يهمه إلا استيفاء أجرته، ثم لا يبالي أسلم البيت أو جرفه السيل أو دكته الزلازل، هذا إذا صدقوا في أعمالهم يؤدون منها بمقدار ما يأخذون من الأجر، واقفين فيها عند الرسم الظاهر، فإن الواحد منهم لا يشرف بشرف الأمة الذي هو خادم فيها ولا يمسه شيء مما يمسها من الضعة؛ لأنه منفصل عنها، إذا فقد العيش فيها فارقها وارتد إلى منبته الذي ينتسب إليه، بل هو في حال عمله وخدمته لغير جنسه لاصق بمنبته في جميع شئونه ما عدا الأجر الذي يأخذه.
وهذا معلوم ببداهة العقل فلا يجد في طبيعته ولا في خواطر قلبه ما يبعثه على الحذر الشديد مما يفسد الملك أو الحرص الزائد على ما يعلي شأنه، بل لا يجد باعثا يبعثه على الفكر فيما يقوم مصلحته من أي وجه، هذه حالهم هي لهم بمقتضى الطبيعة لو فرضنا صدقهم وبراءتهم من أغراض أخر، فما ظنك بالأجانب لو كانوا نازحين من بلادهم فرارا من الفقر والفاقة وضربوا في أرض غيرهم طلبا للعيش من أي طريق، وسواء عليهم في تحصيله صدقوا أو كذبوا، وسواء وفوا أو قصروا، وسواء راعوا الذمة أو خانوا، أو لو كانوا مع هذا كله يخدمون مقاصد لأممهم يمهدون لها طرق الولاية والسيادة على الأقطار التي يتولون الوظائف فيها - كما هو حال الأجانب في الممالك الإسلامية، لا يجدون في أنفسهم حاملا على الصدق والأمانة، ولكن يجدون منها الباعث على الغش والخيانة.
1
ومن تتبع التواريخ التي تمثل أحوال الأمم الماضية وتحكي لنا عن سنة الله في خليقته وتصريفه لشئون عباده؛ رأى أن الدول في نموها وبسطتها ما كانت مصونة إلا برجال منها يعرفون لها حقها كما تعرف لهم حقهم، وما كان شيء من أعمالها بيد أجنبي عنها، وأن تلك الدول ما انخفض مكانها ولا سقطت في هوة الانحطاط إلا عند دخول العنصر الأجنبي فيها، وارتقاء الغرباء إلى الوظائف السامية في أعمالها؛ فإن ذلك كان في كل دولة آية الخراب والدمار، خصوصا إذا كان بين الغرباء وبين الدولة التي يتناولون أعمالها منافسات وأحقاد مزجت بها دماؤهم، وعجنت بها طينتهم من أزمان طويلة.
نعم، كما يحصل الفساد في بعض الأخلاق والسجايا الطبيعية لسبب العوارض الخارجية؛ كذلك يحصل الضعف والفتور في حمية أبناء الدين والأمة، ويطرأ النقص على شفقتهم ومرحمتهم، فينقص بذلك اهتمام العظماء منهم بمصالح الملك إذا كان ولي الأمر لا يقدر أعمالهم حق قدرها، وفي هذه الحالة يقدمون منافعهم الخاصة على فرائضهم العامة، فيقع الخلل في نظام الأمة ويضرب الفساد، ولكن ما يكون من ضره أخف وأقرب إلى التلافي من الضرر الذي يكون سببه استلام الأجانب لهامات الأمور في البلاد؛ لأن صاحب اللحمة في الأمة وإن مرضت أخلاقه واعتلت صفاته إلا أن ما أودعته الفطرة وثبت في الجبلة، لا يمكن محوه بالكلية، فإذا أساء في عمله مرة أزعجه من نفسه صائح الوشيجة الدينية أو الجنسية، فيرجع إلى الإحسان مرة أخرى، وإن ما شد بالقلب من علائق الدين أو الجنس لا يزال يجذبه آونة بعد آونة لمراعاتها والالتفات إليها، ويميله إلى المتصلين معه بتلك العلائق وإن بعدوا.
لهذا يحق لنا أن نأسف غاية الأسف على أمراء الشرق، وأخص من بينهم أمراء المسلمين، حيث سلموا أمورهم ووكلوا أعمالهم؛ من كتابة وإدارة وحماية؛ للأجانب عنهم، بل زادوا في موالاة الغرباء والثقة بهم حتى ولوهم خدمتهم الخاصة بهم في بطون بيوتهم، بل كادوا يتنازلون لهم عن ملكيتهم في ممالكهم، بعدما رأوا كثرة المطامع فيهم لهذا الزمان، وأحسوا بالضغائن والأحقاد الموروثة من أجيال بعيدة، وبعدما علمتهم التجارب أنهم إذا ائتمنوا خانوا، وإذا عززوا أهانوا، يقابلون الإحسان بالإساءة والتوقير بالتحقير، والنعمة بالكفران، ويجازون على اللقمة باللطمة، والركون إليهم بالجفوة، والصلة بالقطيعة، والثقة فيهم بالخدعة.
أما آن لأمراء الشرق أن يدينوا لأحكام الله التي لا تنقض؟ ألم يأن لهم أن يرجعوا إلى حسهم ووجدانهم؟ ألم يأت وقت يعملون فيها بما أرشدتهم الحوادث ودلتهم عليه الرزايا والمصائب؟ ألم يحن لهم أن يكفوا عن تخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم؟
ألا أيها الأمراء العظام، ما لكم وللأجانب عنكم، ها أنتم تحبونهم ولا يحبونكم، قد علمتم شأنهم ولم تبق ريبة في أمرهم
إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ، سارعوا إلى أبناء أوطانكم وإخوان دينكم وملتكم، وأقبلوا عليهم ببعض ما تقبلون به على غيرهم؛ تجدوا فيهم خير عون وأفضل نصير، اتبعوا سنة الله فيما ألهمكم وفطركم عليه كما فطر الناس أجمعين، وراعوا حكمته البالغة فيما أمركم وما نهاكم؛ كي لا تضلوا ويهوي بكم الخطل إلى أسفل سافلين، ألم تروا، ألم تعلموا، ألم تحسوا، ألم تجربوا ، إلى متى؟ إلى متى؟ إنا لله وإنا إليه راجعون.
الفصل الثالث عشر
Unknown page