ألم تر أمة الروس، هل تجد فيها ما يزيد على هذه الأصول الثلاثة؟ هي أمة متأخرة في الفنون والصنائع عن سائر أمم أوروبا وليس في ممالكها ينابيع للثروة، ولئن كانت فليس هناك ما يستفيضها من الأعمال الصناعية، فهي مصابة بالحاجة والإعواز، غير أنه تنبه أفكار آحادها لما به يكون الدفاع عن أمتهم واتفاقهم في النهوض به وارتباط قلوبهم؛ صير لها دولة تميد لسطوتها رواسي أوروبا، لم يكن للروسية مصانع لمعظم الآلات الحربية، ولكن لم يمنعها ذلك عن اقتنائها، ولم يرتق فيها الفن العسكري إلى حد ما عليه جيرانها، إلا أن هذا لم يقعدها عن جلب ضباط من الأمم الأخرى لتعليم عساكرها، حتى صار لجيشها صولة تخيف، وحملة تخشاها دول أوروبا.
فما الذي أقعدنا عن مشاكلة غيرنا، فيما هو أيسر الأشياء علينا، ونحن أشد الناس ميلا إليه: من رعاية شرف الملة والتألم بما يحط منه والتعاون على صون الوحدة الجامعة لنا عن كل ما يثلمها، ما رد الأفكار عن الحركة، وما أقعد الهمم عن النهوض، إلا أولئك المترفون، يحرصون على طيب في المطعم، ولين في المضجع، وتطاول في البنيان، وتفاخر بالخدم والخول، ولا يراعون في حرصهم ما بعد يومهم، ويحافظون على لقب موضوع ورسم متبوع، يقنعون منه بالاحتفال لهم في المواسم والأعياد وهز الرءوس وثني الأعطاف، تعظيما وتبجيلا، ثم تذييل الأوراق الرسمية بأسماء ليس لها مسميات، هؤلاء الساقطون يرضون لتخيل هذه المواثل (جمع ماثل، من الرسوم: ما ذهب أثره) بكل دنيئة، هؤلاء يقبلون من تصرف أعدائهم في بيوتهم ما لا يقبله واحد من آحاد الناس دون موته، أولئك صاروا في أعناق المسلمين سلاسل وأغلالا، يحبسون هذه الأسود عن فريستها بل يجعلونها طعمة للثعالب، لا حول ولا قوة إلا بالله.
أيا بقية الرجال، ويا خلف الأبطال، ويا نسل الأقيال؛ هل ولى بكم الزمان، هل مضى وقت التدارك، هل آن أوان اليأس؟ لا، لا، معاذ الله أن ينقطع أمل الزمان منكم، إن من أدرنة إلى يشاور دولا إسلامية متصلة الأراضي ، ومتحدة العقيدة يجمعهم القرآن، لا ينقص عددهم عن خمسين مليونا، وهم ممتازون بين أجيال الناس بالشجاعة والبسالة، أليس لهم أن يتفقوا على الذب والإقدام كما اتفق عليه سائر الأمم؟ ولو اتفقوا فليس ذلك ببدع منهم، فالاتفاق من أصول دينهم، هل أصاب الخدر مشاعرهم فلا يحسون بحاجات بعضهم البعض؟ أليس لكل واحد أن ينظر إلى أخيه بما حكم الله في قوله:
إنما المؤمنون إخوة
فيقيمون بالوحدة سدا يحول عنهم هذه السيول المتدفقة عليهم من جميع الجوانب؟
لا ألتمس بقولي هذا أن يكون مالك الأمر في الجميع شخصا واحدا، فإن هذا ربما كان عسيرا، ولكني أرجو أن يكون سلطان جميعهم القرآن، ووجهة وحدتهم الدين، وكل ذي ملك على ملكه يسعى بجهده لحفظ الآخر ما استطاع، فإن حياته بحياته وبقاءه ببقائه، إلا أن هذا بعد كونه أساسا لدينهم تقضي به الضرورة، وتحكم به الحاجة في هذه الأوقات.
هذا آن الاتفاق، هذا آن الاتفاق، ألا إن الزمان يواسيكم بالفرص، وهي لكم غنائم، فلا تفرطوا، إن البكاء لا يحيي الميت، إن الأسف لا يرد الفائت، إن الحزن لا يدفع المصيبة، إن العمل مفتاح النجاح، إن الصدق والإخلاص سلم الفلاح، إن الوجل يقرب الأجل، إن اليأس وضعف الهمة من أسباب الحتف
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون
ألا لا تكونوا ممن كره الله انبعاثهم فثبطهم، وقيل اقعدوا مع القاعدين، احذروا أن تقعوا تحت قول الله:
رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ، إن القرآن حي لا يموت، ومن أصابه نصيب من حمده فهو محمود، ومن أصيب بسهم من مقته فهو ممقوت، كتاب الله لا ينسخ فارجعوا إليه، وحكموه في أحوالكم وطباعكم
Unknown page