وزاد الاختلاف شدة وتقطعت الوشائج بينهم بظهور جنكيز خان وأولاده، وتيمورلنك وأحفاده، وإيقاعهم بالمسلمين قتلا وإذلالا حتى أذهلوهم عن أنفسهم، فتفرق الشمل بالكلية وانفصمت عرى الالتئام بين الملوك والعلماء جميعا، وانفرد كل بشأنه أو انصرف إلى ما يليه، فتبدد الجمع إلى آحاد، وافترق الناس فرقا كل فرقة تتبع داعيا إما إلى ملك أو مذهب، فضعفت آثار العقائد التي كانت تدعو إلى الوحدة، وتبعث على اشتباك الوشيجة، وصار ما في العقول منها صورا ذهنية تحويها مخازن الخيال، وتلحظها الذاكرة عند عرض ما في خزائن النفس من المعلومات، ولم يبق من آثارها إلا أسف وحسرة يأخذان بالقلوب عندما تنزل المصائب ببعض المسلمين، بعد أن ينفذ القضاء ويبلغ الخبر إلى المسامع على طول من الزمان، وما هو إلا نوع من الحزن على الفائت، كما يكون على الأموات من الأقارب لا يدعو إلى حركة لتدارك النازلة، ولا دفع الغائلة.
وكان من الواجب على العلماء قياما بحق الوراثة التي شرفوا بها على لسان الشارع، أن ينهضوا لإحياء الرابطة الدينية، ويتداركوا الاختلاف الذي وقع في الملك بتمكين الاتفاق الذي يدعو إليه الدين، ويجعلوا معاقد هذا الاتفاق في مساجدهم ومدارسهم حتى يكون كل مسجد وكل مدرسة مهبطا لروح حياة الوحدة، ويصير كل واحد منهم كحلقة في سلسلة واحدة إذا اهتز أحد أطرافها اضطرب لهزته الطرف الآخر، ويرتبط العلماء والخطباء والأئمة والوعاظ في جميع أنحاء الأرض بعضهم ببعض، ويجعلون لهم مراكز في أقطار مختلفة يرجعون إليها في شئون وحدتهم، ويأخذون بأيدي العامة إلى حيث يرشدهم التنزيل وصحيح الأثر، ويجمعوا أطراف الوشائج إلى معقد واحد يكون مركزه في الأقطار المقدسة وأشرفها معهد بيت الله الحرام، حتى يتمكنوا بذلك من شد أزر الدين وحفظه من قوارع العدوان، والقيام بحاجات الأمة إذا عرض حادث الخلل وتطرق الأجانب للتداخل فيها بما يحط من شأنها، ويكون كذلك أدعى لنشر العلوم وتنوير الأفهام وصيانة الدين من البدع، فإن إحكام الربط إنما يكون بتعيين الدرجات العلمية وتحديد الوظائف، فلو أبدع مبدع أمكن بالتواصل بين الطبقات تدارك بدعته ومحوها قبل فشوها بين العامة، وليس بخاف على المستبصرين ما يتبع هذا من قوة الأمة وعلو كلمتها واقتدارها على دفع ما يغشاها من النوازل.
إلا أنا نأسف غاية الأسف إذا لم تتوجه خواطر العلماء والعقلاء من المسلمين إلى هذه الوسيلة، وهي أقرب الوسائل، وإن التفتت إليها في هذه الأيام طائفة من أرباب الغيرة، ورجاؤنا من ملوك المسلمين وعلمائهم من أهل الحمية والحق أن يؤيدوا هذه الفئة ولا يتوانوا فيما يوحد جمعهم ويجمع شتيتهم، فقد دارستهم التجارب ببيان لا مزيد عليه، وما هو بالعسير عليهم أن يبثوا الدعاة إلى من يبعد عنهم، ويصافحوا بالأكف من هو على مقربة منهم، ويتعرفوا أحوال بعضهم فيما يعود على دينهم وملتهم بفائدة، أو ما يخشى أن يمسها بضرر، ويكونوا بهذا العمل الجليل قد أدوا فريضة وطلبوا سعادة، والرمق باق والآمال مقبلة، وإلى الله المصير.
الفصل الخامس
سبات من له حق ... وحراك من لا حق له
هذه دول أوروبا جميعا ودولة فرنسا خصوصا، شاخصة الأبصار إلى ما أصاب مصالحها وأضاع حقوقها في القطر المصري وأضر بتجارتها فيه، ولا تبدي حركة ولا يسمع لها صوت، إلا همس خفي في الجرائد، والدولة العثمانية وهي شديدة الأزر قوية العضد؛ لما لها من المكانة في قلوب الهنديين، وكل إنجليزي قلبه بين أصابع الدولة العثمانية، وأحشاه مستقرة على أناملها، وفي نظرها أن سلطتها أشرفت على الزوال في الأقطار المصرية، وسيادتها عليها كادت تكون اسما، ومع ذلك لا تأتي عملا ولا تخطو خطوة، سوى أنها اكتفت بإقامة الحجج ورفع الصوت بالاستغاثة لدى الدول حتى أبحها الصياح، وليس من يسمع ولا من يجيب.
وذوو الحقوق في الولاية على مصر والأخذ بزمام الحكم فيها على اختلاف مشاربهم، قد شدت أياديهم بحبال من الآمال، وسلاسل من المخاوف، لا يجدون لهم قرارا على فكر، ولا ثباتا على رأي، وإنما هم بين إعصار من الأوهام، وتيارات من هواجس الخيال، يحملقون إلى مواقع الحوادث، حائرين لا يطرف لهم طرف، ولا يغمض لهم جفن.
وعامة الأهالي في الديار المصرية بين فقر كاد يفضي إلى قحط، واختلاف في النظام، وضعف في السلطة، وخبط في الأحكام، كادت تؤدي إلى يأس من الإصلاح، وقد أخذهم الدوار من التلف إلى جوانبهم طورا ينظرون إلى أحكامهم نظر الآمل في هممهم، وحسن تدبيرهم، وآخر ما وعدتهم به الحكومة الإنجليزية من الجلاء عن أوطانهم، وتركهم وما يدبرون لأنفسهم، والقرعة تضرب عند الأمة البريطانية على ديارهم، بدون أن يجعل لهم فيها سهم، كأنما هم عنها أغراب لا يؤبه بهم، ولا يبالى بشأنهم.
نزاع بين رجال السياسة الإنجليزية، بعضهم يدفع الحكومة للاستيلاء على مصر وإعلان السيادة فيها واستلام أزمة أحكامها، وآخرون يقولون: هذا مما يخالف أحكام الزمن، ولا تسوغه شريعة الوفاء، وإنما علينا أن نحل بها عساكرنا زمنا يكفي لقضاء ما نريده فيها، ثم نخليها إذا لم يوجد موجب يحتم البقاء.
عبارات مختلفة، ومعان متشابهة، يتنازعون وهم متوافقون، ويتخالفون وهم متحدون، يذهبون في انتحال الأسباب لما يبتغون مذاهب مختلفة، فبعض الجرائد كجريدة «التايمز» وما على مشربها تعتل بالجنرال جوردون وتهون ما حل به من الفشل، وتتقدم إلى الحكومة الإنجليزية بطلب إنقاذه من الخطر، ولا وسيلة لخلاصه إلا إعلان الحكومة بالسيادة على البلاد المصرية.
Unknown page