ولكن مع كل ذلك تأخذه الدهشة من أحوال المتمسكين بهذا الدين لهذه الأوقات؛ إذ يراهم يتهاونون بالقوة، ويتساهلون في طلب لوازمها، وليست لهم عناية بالبراعة في فنون القتال ولا في اختراع الآلات، حتى فاقتهم الأمم سواهم فيما كان أول واجب عليهم، واضطروا لتقليدها فيما يحتاجون إليه من تلك الفنون والآلات، وسقط كثير منهم تحت سلطة مخالفيهم واستكانوا لها ورضخوا لأحكامها، ومن وازن بين الديانتين حار فكره، كيف اخترع مدفع الكروب والمتراليوز، وغيرهما؛ بأيدي أبناء الديانة الأولى قبل الثانية! وكيف وجدت بندقية مارتين في ديار الأولين، قبل وجودها عند الآخرين! وكيف أحكمت الحصون، ودرعت البواخر، وأخذت مغالق البحار بسواعد أهل السلامة والسلم، دون أهل الغلبة والحرب؟!
لم لا يحار الحكيم وإن كان نطاسيا؟! لم لا يقف الخبير دون استكناه الحقيقة؟! هل القرون الخالية والأحقاب الماضية لم تكن كافية لرسوخ الديانتين في نفوس المتمسكين بعراهما؟ هل نبذت كل ملة من الملتين عقائد دينها ظهريا من أجيال بعيدة؟ هل اقتصر النصارى في دينهم على الأخذ بشريعة موسى، واقتفاء سيرة يوشع بن نون؟ هل تخللت بعض آيات الإنجيل من حيث يدرى ولا يدرى بين الخطب والمواعظ التي تتلى على منابر المسلمين، أو ألقي شيء منها في أماني معلميهم وناشري شريعتهم عندما يتربعون في محافل دروسهم؟ هل تبدلت سنة الله في الملتين، هل تحول مجرى الطبيعة فيهما؟ هل استبدت الأبدان فيهما على الأرواح؟ أو وجد للأرواح دبير سوى الفكر والخيال؟ أو انفلتت الأفكار من سلطة الدين؟ أو تعاصت النفوس عن الانتقاش بنقشته، وهو أول حاكم عليها وأقوى مؤثر فيها؟ هل تتخلف العلل عن معلولاتها؟ هل تنقطع النسب بين الأسباب ومسبباتها؟ ماذا عساه يرشد العقول إلى كشف المساتير وحل المعميات؟
أينسب هذا إلى اختلاف الأجناس، وكثير من أبناء الملتين يرجعون إلى أصول واحدة، ويتقاربون في الأنساب الدانية؟ أينسب هذا إلى اختلاف الأقطار، وكثير من القبيلين يتشابهون في طبائع البلدان، ويتجاورون في مواقع الأمكنة؟ ألم يصدر من المسلمين وهم في شبيبة دينهم أعمال بهرت الأبصار، وأدهشت الألباب؟ ألم يكن منهم مثل فارس والعرب والترك الذين دوخوا الممالك واستووا على كرسي السيادة فيها ... كان للمسلمين في الحروب الصليبية آلات نارية أشباه المدافع، فزع لها المسيحيون، وغابوا عن معرفة أسبابها. ذكر ملكام سرجم «إنجليزي» في تاريخ فارس: أن محمودا القزنوني كان يحارب وثنيي الهند بالمدافع، وكانت هي الأسباب في انهزامهم بين يديه سنة 400 من الهجرة، وما كان المسيحيون لذلك العهد يعرفون شيئا منها.
فأي عون من الدهر أخذ بأيدي الملة المسيحية فقدمها إلى ما لم يكن في قواعد دينها؟ وأي صدمة من صدماته دفعت في صدور المسلمين فأخرتهم عن تعاطي الوسائل لما هو أول مفروض في دينهم؟ مقام للحيرة وموضع للعجب! ويظن أن لا بد لهذا التخالف من سبب، نعم، وتفصيله يطول، ولكن نجمل على ما شرطنا أن الدين المسيحي إنما امتد ظله وعمت دعوته في الممالك الأوروبية من أبناء الرومانيين، وهم على عقائد وآداب وملكات وعادات ورثوها عن أديانهم السابقة، وعلومهم وشرائعهم الأولى، وجاء الدين المسيحي إليهم مسالما لعوائدهم ومذاهب عقولهم، وداخلهم من طرق الإقناع ومسارقة الخواطر لا من مطارق البأس والقوة، فكان كالطراز على مطارفهم، ولم يسلبهم ما ورثوه عن أسلافهم، ومع هذا فإن صحف الإنجيل الداعية إلى السلامة والسلم لم تكن لسابق العهد مما يتناوله الكافة من الناس، بل كانت مذخورة عند الرؤساء الروحانيين.
ثم إن الأحبار الرومانيين لما أقاموا أنفسهم في منصب التشريع، وسنوا محاربة الصليب، ودعوا إليها دعوة الدين؛ التحمت آثارها في النفوس بالعقائد الدينية، وجرت منها مجرى الأصول، ولحقها على الأثر تزعزع عقائد المسيحيين في أوروبا، وافترقوا شيعات وذهبوا مذاهب تنازع الدين في سلطته، وعاد وميض ما أودعه أجدادهم في جراثيم وجودهم ضراما، وتوسعوا في فنون كثيرة، وانفسح لهم مجال الفكر فيها، وكانت براعتهم في الفن العسكري واختراع آلات الحرب والدفاع مساوية لبراعتهم في سائر الفنون.
أما المسلمون، فبعد أن نالوا في نشأة دينهم ما نالوا، وأخذوا من كل كمال حربي حظا، وضربوا في كل فخار عسكري بسهم، بل تقدموا سائر الملل في فنون المقارعة وعلوم النزال والمكافحة؛ ظهر فيهم أقوام بلباس الدين وأبدعوا فيه، وخلطوا بأصوله ما ليس منها، فانتشرت بينهم قواعد الجبر، وضربت في الأذهان حتى اخترقتها، وامتزجت بالنفوس حتى أمسكت بعنانها عن الأعمال، هذا إلى ما أدخله الزنادقة فيما بين القرن الثالث والرابع، وما أحدثه السوفسطائية الذين أنكروا مظاهر الوجود وعدوها خيالات تبدو للنظر ولا تثبتها الحقائق، وما وضعه كذبة النقل من الأحاديث ينسبونها إلى صاحب الشرع
صلى الله عليه وسلم
ويثبتونها في الكتب، وفيها السم القاتل لروح الغيرة، وإن ما يلصق منها بالعقول يوجب ضعفا في الهمم وفتورا في العزائم.
وتحقيق أهل الحق وقيامهم ببيان الصحيح والباطل من كل ذلك لم يرفع تأثيره عن العامة، خصوصا بعد حصول النقص في التعليم، والتقصير في إرشاد الكافة إلى أصول دينهم الحقة ومبانيه الثابتة التي دعا إليها النبي وأصحابه، فلم تكن دراسة الدين على طريقها القويم إلا منحصرة في دوائر مخصوصة وبين فئة ضعيفة، لعل هذا هو العلة في وقوفهم، بل الموجب لتقهقرهم، وهو الذي نعاني من عنائه اليوم ما نسأل الله السلامة منه.
إلا أن هذه العوارض التي غشيت الدين، وصرفت قلوب المسلمين عن رعايته - وإن كان حجابها كثيفا - لكن بينها وبين الاعتقادات الصحيحة التي لم يحرموها بالمرة تدافع دائم وتغالب لا ينقطع، والمنازعة بين الحق والباطل كالمدافعة بين المرض وقوة المزاج، وحيث إن الدين الحق هو أول صبغة صبغ الله بها نفوسهم، ولا يزال وميض برقه يلوح في أفئدتهم بين تلك الغيوم العارضة؛ فلا بد يوما أن يسطع ضياؤه ويقشع سحاب الأغيان.
Unknown page