وبعد هذا كله وهى بناؤها وانتثر منظومها وتفرقت فيها الأهواء وانشقت العصا، وتبدد ما كان مجتمعا وانحل ما كان منعقدا، وانفصمت عرى التعاون وانقطعت روابط التعاضد، وانصرفت عزائم أفرادها عما يحفظ وجودها، ودار كل في محيط شخصه المحدود بنهايات بدنه، لا يلمح في مناظره بارقة من حقوقها الكلية والجزئية، وهو في غيبة عن أن ضروريات حاجاته لا تنال إلا على أيدي الملتحمين معه بلحمة الأمة، وأنه أحوج إلى شد عضدهم من تقوية ساعده، وإلى توفير خيرهم من تنمية رزقه، وكأنه بهذه الغيبة في سبات يخاله الناظر إليه صحوا، وذبول يظنه المغرور زهوا، وأخذ القنوط بآمال أولئك المدهوشين فأبادها، وحدثت فيهم قناعة التهم والرضا بكل حال.
ولئن تنبه خاطر للحق في خيال أحدهم أو استفزه داع من قلبه إلى ما يكسب ملته شرفا أو يعيد إليها مجدا عده هوسا وهذيانا أصيب به من ضعف في المزاج أو خلل في البنية، أو حسب أنه لو أجاب داعي الذمة لعاد عليه بالوبال وأورده موارد الهلكة ، أو لصار من أقرب الأسباب لزوال نعمته ونكد معيشته، ويحكم لنفسه سلاسل من الجبن وأغلالا من اليأس، فتغل يداه عن العمل وتقف قدماه عن السعي، ويحس بعد ذلك بغاية العجز عن كل ما فيه خيره وصالحه، ويقصر نظره عن درك ما أتى أسلافه من قبل، وتجمد قريحته عن فهم ما قام به أولئك الآباء الذين تركوه خليفة على ما كسبوا وقيما على ما أورثوه لأعقابهم، ويبلغ هذا المرض من الأمة حدا يشرف بها على الهلاك ويطرحها على فراش الموت فريسة لكل عاد وطعمة لكل طاعم.
نعم، رأيت كثيرا من الأمم لم تكن ثم كانت، وارتفعت ثم انحطت، وقويت ثم ضعفت، وعزت ثم ذلت، وصحت ثم مرضت، ولكن أليس لكل علة دواء؟ بلى.
واأسفا ما أصعب الداء! وما أعز الدواء! وما أقل العارفين بطرق العلاج! كيف يمكن جمع الكلمة بعد افتراقها وهي لم تفترق إلا لأن كلا عكف على شأنه ... أستغفر الله. لو كان له شأن يعكف عليه لما انفصل عن أخيه وهو أشد أعضائه اتصالا به، ولكنه صرف لشئون غيره وهو يظنها من شئون نفسه، نعم، ربما التفت كل إلى ما هو في فطرة كل حي من ملاحظة حفظ حياته بمادة غذائه، وهو لا يدري من أي وجه يحصلها ولا بأية طريقة يكون في أمن عليها، كيف تبعث الهمم بعد موتها وما ماتت إلا بعدما سكنت زمنا غير قصير إلى ما ليس من معاليها؟ هل من السهل رد التائه إلى الصراط المستقيم وهو يعتقد أن الفوز في سلوك سواه، خصوصا بعدما استدبر المقصد، وفي كل خطوة يظن أنه على مقربة من الحظوة؟ كيف يمكن تنبيه المستغرق في منامه المبتهج بأحلامه، وفي أذنه وقر وفي ملامسه خدر؟ هل من صيحة تقرع قلوب الآحاد المتفرقة من أمة عظيمة تتباعد أنحاؤها وتتنائى أطرافها وتتباين عاداتها وطبائعها؟ هل من نبأة تجمع أهواءها المتفرقة وتوحد آراءها المتخالفة بعدما تراكم جهل وران غبن، وخيل للعقول أن كل قريب بعيد وكل سهل وعر؟ ايم الله، إنه لشيء عسير يعيى في علاجه النطاسي، ويحار فيه الحكيم البصير.
هل يمكن تعيين الدواء إلا بعد الوقوف على أصل الداء وأسبابه الأولى والعوارض التي طرأت عليه، إن كان المرض في أمة، فكيف يمكن الوصول إلى علله وأسبابه إلا بعد معرفة عمرها وما اعتراها فيه من تنقل الأحوال وتنوع الأطوار؟ أيمكن لطبيب يعالج شخصا بعينه أن يختار له نوعا من العلاج قبل أن يعرف ما عرض له من قبل في حياته، ليكون على بينة من حقيقة المرض، وإلا فإن كثيرا من الأمراض تتولد جراثيمها في طور من أطوار العمر ثم لا تظهر إلا في طور آخر لتغلب قوة الطبيعة على مادة المرض فلا يبدو أثرها؟ كلا، إنه ليصعب على الطبيب الماهر تشخيص علة لشخص واحد سنو عمره محدودة وعوارض حياته محصورة، فكيف بمن يريد مداواة ملة طويلة الأجل وافرة العدد؟ لهذا يندر في أجيال وجود بعض رجال يقومون بإحياء أمة أو إرجاع شرفها ومجدها إليها، وإن كان المتشبهون بهم كثيرين، وكما أن المتطبب القاصر في الأمراض البدنية لا يزيد علاجه المرض إلا شدة لولا مساعدة الاتفاق والصدفة، بل ربما يفضي بالمريض إلى الموت، كذلك يكون حال الذين يقومون بتعديل أخلاق الأمم على غير خبرة تامة بشأنها وموجب اعتلالها، ووجوه العلة فيها وأنواعها، وما يكتنف ذلك من العادات، وما يوجد في أفرادها من المذاهب والاعتقادات، وحوادثها المتتابعة على اختلاف مواقعها من الأرض، ومكانتها الأولى من الرفعة، ودرجتها الحالية من الضعة، وتدرجها فيما بين المنزلتين، فإن أخطأ طالب إصلاحها في اكتناه شيء مما ذكرنا تحول الدواء داء والوجود فناء.
فمن له حظ في الكمال الإنساني ولم يطمس من قلبه موضع الإلهام الإلهي؛ لا يجرؤ على القيام بما يسمونه تربية الأمم وإصلاح ما فسد منها، وهو يحس من نفسه أدنى قصور في أداء هذا الأمر العظيم علما أو عملا. نعم، يكون ذلك من محبي الفخفخة الباطلة وطلاب العيش في ظل وظائف ليسوا من حقوقها في شيء.
ظن قوم في هذه الأزمان أن أمراض الأمم تعالج بنشر الجرائد، وأنها تكفل إنهاض الأمم وتنبيه الأفكار وتقويم الأخلاق ... كيف يصدق هذا الظن، وإنا لو فرضنا أن كتاب الجرائد لا يقصدون بما يكتبون إلا نجاح الأمم مع التنزه عن الأغراض، فبعدما عم الذهول واستولت الدهشة على العقول وقل القارئون والكاتبون؛ لا تجد لها قارئا، ولئن وجدت القارئ فقلما تجد الفاهم، والفاهم قد يحمل ما يجده على غير ما يراد منه لضيق في التصور أو ميل مع الهوى، فلا يكون منه إلا سوء التأثير، فيشبه غذاء لا يلائم الطبع فيزيد الضرر أضعافا، على أن الهمة إذا كانت في درك الهبوط، فمن يستطيع تفهيمها فائدة الجرائد حتى تتجه منها الرغبات لاستطلاع ما فيها مع قصر المدة وتدفق سيول الحوادث، إن هذا وحقك لعزيز.
ويظن قوم آخرون أن الأمة المنبثة في أقطار واسعة من الأرض مع تفرق أهوائها وإخلادها إلى ما دون رتبتها بدرجات لا تحصر، ورضاها بالدون من العيش والتماس الشرف بالانتماء لمن ليس من جنسها ولا من مشربها، بل لمن كان خاضعا لسيادتها راضخا لأحكامها؛ مع هذا كله يتم شفاؤها من هذه الأمراض القاتلة بإنشاء المدارس العمومية دفعة واحدة في كل بقعة من بقاعها، وتكون على الطراز الجديد المعروف بأوروبا حتى تعم المعارف جميع الأفراد في زمن قريب، ومتى عمت المعارف كملت الأخلاق واتحدت الكلمة واجتمعت القوة، وما أبعد ما يظنون، فإن هذا العمل العظيم إنما يقوم به سلطان قوي قاهر يحمل الأمة على ما تكره أزمانا حتى تذوق لذته وتجني ثمرته، ثم يكون ميلها الصادق من بعد نائبا عن سلطته في تنفيذ ما أراد من خيرها، ويلزم له ثروة وافرة تفي بنفقات تلك المدارس وهي كثيرة، وموضوع كلامنا في الضعف ودوائه، فهل مع الضعف سلطة تقهر وثروة تغني؟ ولو كان للأمة هذان لما عدت من الساقطين.
فإن قالوا: يمكن التدريج مع الاستمرار والثبات؛ وافقناهم على الإمكان، لولا ما يكون من طمع الأقوياء حتى لا يدعوا لهم سبيلا لأن يستنشقوا نسيم القوة، فأين الزمان لنجاح تلك الوسائل البطيئة الأثر؟
على أنا لو فرضنا مسالمة الدهر، ومنحت الأمة مدة من الزمان تكفي لبث تلك العلوم في بعض الأفراد والاستزادة منها شيئا فشيئا، فهل يصح الحكم بأن هذا التدرج يفيدها فائدة جوهرية، وأن ما يصيبه البعض منها يهيئه للكمال اللائق به ويمكنه من القيام بإرشاد الباقي من أبناء أمته؟ واعجبا! كيف يكون هذا وإن الأمة في بعد عن معرفة تلك العلوم الغريبة عنها؟ وكيف بذرت بذورها، وكيف نبتت واستوت على سوقها وأينعت وأثمرت؟ وبأي ماء سقيت وبأي تربة غذيت، ولا وقوف لها على الغاية التي قصدت منها في مناشئها، ولا خبرة لها بما يترتب عليها من الثمرات؟ وإن وصل إليها طرف من ذلك فإنما يكون ظاهرا من القول لا نبأ عن الحقيقة، فهل مع هذا يصيب الظن بأن مفاجأة بعض الأفراد بها وسوقها إلى أذهانهم المشحونة بغيرها، يقوم من أفكارهم ويعدل من أخلاقهم ويهديهم طرق الرشاد في إفادة إخوانهم؟
Unknown page