وإن بسطة ملك الوازعين في المسلمين كان يسديها إليهم على حسب امتثالهم للأحكام الإلهية، واهتدائهم بهديها، وتجردهم عن الاعتلاء الشخصي، وكلما أراد الوازع أن يختص نفسه بما يفوق به غيره، في أبهته ورفاهة معيشته، وأن يستأثر على المحكومين بحظ زائد؛ رجعت الأجناس إلى تعصبها ووقع الاختلاف، وانقبضت سلطة ذاك الوازع.
هذا ما أرشدنا إليه سير المسلمين من يوم نشأة دينهم إلى الآن، لا يعتدون برابطة الشعوب وعصبات الأجناس، وإنما ينظرون إلى جامعة الدين؛ لهذا ترى العربي لا ينفر من سلطة التركي، والفارسي يقبل سيادة العربي، والهندي يذعن لرياسة الأفغاني، ولا اشمئزاز عند أحد منهم ولا انقباض، وأن المسلم في تبدل حكوماته لا يأنف ولا يستنكر ما يعرض عليه من أشكالها وانتقالها من قبيل إلى قبيل ما دام صاحب الحكم حافظا لشأن الشريعة ذاهبا مذاهبها. نعم، إذا نبأ في سيره عنها وجار في حكمه عما نصت عليه وطلب الأثرة بما ليس من حقه؛ انصدعت منه القلوب، وانحرفت عن محبته الأنفس، وأصبح وإن كان وطنيا فيهم أشنع حالا من الأجنبي عنهم.
إن المسلمين اختصوا من بين سائر أرباب الأديان بالتأثر والأسف عندما يسمعون بانفصال بقعة إسلامية عن حكم إسلامي بدون التفات إلى جنسها وقبيلها.
ولو أن حاكما صغيرا بين قوم مسلمين من أي جنس كان تبع الأوامر الإلهية وثابر على رعايتها، وأخذ الدهماء بحدودها وضرب بسهمه مع المحكومين في الخضوع لها، وتجافى عن الاختصاص بمزايا الفخفخة الباطلة؛ لأمكنه أن يحوز بسطة في الملك وعظمة في السلطان، وأن ينال الغاية من رفعة الشأن في الأقطار المعمورة بأرباب هذا الدين، ولا يتجشم في ذلك أتعابا ولا يحتاج إلى بذل النفقات ولا تكثير الجيوش، ولا مظاهرة الدول العظيمة ولا مداخلة أعوان التمدن وأنصار الحرية ... ويستغني عن كل هذا بالسير على نهج الخلفاء الراشدين والرجوع إلى الأصول الأولى في الديانة الإسلامية القويمة، ومن سيره هذا تنبعث القوة وتتجدد لوازم المنعة، أكرر عليك القول بأن السبب هو أن الدين الإسلامي لم تكن وجهته كوجهة سائر الأديان إلى الآخرة فقط، ولكن مع ذلك أتى بما فيه مصلحة العباد في دنياهم وما يكسبهم السعادة في الدنيا والنعيم في الآخرة، وهو المعبر عنه في الإصلاح الشرعي بسعادة الدارين، وجاء بالمساواة في أحكامه بين الأجناس المتباينة والأمم المختلفة.
ابيضت عين الدهر وامتقع لون الزمان حتى أصاب أن بعضا من المسلمين على حكم الندرة يعز عليهم الصبر، ويضيق منهم الصدر لجور حكامهم وخروجهم في معاملتهم عن أصول العدالة الشرعية، فيلجئون للدخول تحت سلطة أجنبية، على أن الندم يأخذ بأرواحهم عند أول خطوة يخطونها في هذا الطريق، فمثلهم كمثل من يريد الفتك بنفسه حتى إذا أحس بالألم رجع واسترجع ... وإن بعض ما يطرأ على الممالك الإسلامية من الانقسام والتفريق إنما يكون منشأه قصور الوازعين وحيدانهم عن الأصول القويمة التي بنيت عليها الديانة الإسلامية، وانحرافهم عن مناهج أسلافهم الأقدمين، فإن منابذة الأصول الثابتة والنكوب عن المناهج المألوفة؛ أشد ما يكون ضررهما بالسلطة العليا، فإذا رجع الوازعون في الإسلام إلى قواعد شرعهم وساروا سيرة الأولين السابقين، لم يمض قليل من الزمان إلا وقد آتاهم بسطة في الملك وألحقهم في العزة بالراشدين أئمة الدين - وفقنا الله للسداد، وهدانا طريق الرشاد.
الفصل الثاني
ماضي الأمة وحاضرها وعلاج عللها
1
سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا . •••
أرأيت أمة من الأمم لم تكن شيئا مذكورا، ثم انشق عنها عماء العدم، فإذا هي بحمية كل واحد منها كون بديع النظام قوي الأركان شديد البنيان، عليها سياج من شدة البأس ويحيطها سور من منعة الهمم، تخمد في ساحاتها عاصفات النوازل، وتنحل بأيدي مديريها عقد المشاكل، نمت فيها أفنان العزة بعدما ثبتت أصولها ورسخت جذورها، وامتد لها السلطان على البعيد عنها والداني إليها، ونفذت منها الشوكة وعلت لها الكلمة وكملت القوة، فاستعلت آدابها على الآداب وسادت أخلاقها وعاداتها على ما كان من ذلك لسابقيها ومعاصريها، وأحست مشاعر سواها من الأمم بأن لا سعادة إلا في انتهاج منهجها وورود شريعتها، وصارت وهي قليلة العدد كثيرة الساحات كأنها للعالم روح مدبر وهو لها بدن عامل.
Unknown page