وسافر جمال الدين إلى القسطنطينية، فاستغواه السلطان عبد الحميد، وهيأ له منزلا جميلا يقوم على ربوة نشان طاغ، غير بعيد من قصر يلدز، وفرض له 57 جنيها تركيا راتبا شهريا.
وقضى السيد جمال الدين خمس سنين من حياته في الأستانة «يعيش بين مظاهر خداعة من عطف السلطان، ودسائس لا تحصى يبيتها له رجال القصر! وكم تضرع إليهم أن يسمحوا له بالسفر، فأمسكوه بقية عمره في إسار مموه بالذهب.»
ذلك وصف سائح ألماني زاره سنة 1896.
ومات جمال الدين يوم الثلاثاء 9 مارس سنة 1897 الساعة 12 والدقيقة 13 إثر أوجاع مضنية، وعقب موته أرسل السلطان بعض موظفي قصره ليستحوذوا على أوراقه ومؤلفاته.
ويؤكد أكثر الإيرانيين، وغيرهم ممن ترجموا لجمال الدين؛ أن موته لم يكن طبيعيا، وأنه لقح في شفته بمادة سامة، سببت له حالة مرضية تشبه السرطان، ويقولون: إن ذلك من كيد أبي الهدى.
وأمر السطان بدفنه لساعتين من وفاته، فسير نعشه بين جموع عديدة من الشرطة؛ مخافة فتنة مباغتة من أنصاره الذين كانوا في ريب من أسباب موته.
هكذا مات السيد جمال الدين وشيعت جنازته، بعد أن عاش رجلا ممتازا، مؤثرا في حوادث الشرق الإسلامي خلال عشرين سنة أكثر مما أثر فيها أي رجل آخر من أهل زمانه.
وقد عاش متنقلا في البلاد منذ طفولته، فزار بلاد العرب ومصر وتركيا، وأقام بالأفغان والهند وفارس، واتصل بحكومة الأفغان في شبابه مشتركا في حروبها الداخلية، كما اتصل بحركات النهوض في كل بلاد الشرق التي حل بها، وزار كثيرا من العواصم الأوروبية وكتب في جرائدها، وخطب في مجامعها، وخالط رجال السياسة والعلم والأدب فيها، وشهد دسائس الاستعمار الإنجليزي والأفغاني، والهند، وطارده الإنجليز في مصر وغيرها، وأماتوا مجلة العروة الوثقى في مهدها، ووضعوا العقبات في سبيله أنى سار!
من أجل ذلك لم يتعلق ببلد من البلاد على أنه وطن، ولم تدخل فكرة الوطنية بهذا المعنى في مذهبه الاجتماعي، ومن أجل ذلك اشتد كرهه للإنجليز وعاش عدوا لهم لدودا.
هو قد رأى الرقي في بلاد أوروبا، ورأى الانحطاط في بلاد الشرق التي زارها، شهد نفوذ الأجنبي فيها وسوء أثر الحكم الاستبدادي؛ فتوجهت فكرته إلى إنهاض تلك البلاد جملة وفرادى، ولهذه الممالك الشرقية الإسلامية حب في نفسه ينظمها جميعا.
Unknown page