إن اللورد ريبون لما صار حاكما على الهند ورأى أن روسيا وصلت إلى مرو وأحس بنفرة الهنود من الحكومة الإنجليزية واستعدادهم للثورة؛ أراد أن يطيب قلوبهم بأمر حقير يسخر منه الأبله - فضلا عن الحكيم - وهو توظيف «رام جندر متر» ومولوي محمود بن أحمد خان في وظيفة القضاء ببلدة صغيرة، وهما ممن تعلم الشريعة الإنجليزية في بلاد الإنجليز (انظر كيف يطيب قلب أمة عظيمة مجروحة الأفئدة ساقطة في جحيم الشقاء بمثل هذه النكتة المضحكة )، وهذا الالتفات من اللورد لكمال سياسته وحذقه، فماذا يكون موقع الهنود من نظره إذا كان يظن أن الأمم العظيمة المحترقة بنيران الظلم من أزمان تعترف بعدالة الإنجليز لمجرد توظيف شخصين وظيفة صغيرة؟!
إن هذا مما عده اللورد الإنجليزي أمرا لازما لصون سياسته مما عساه يطرأ عليها، ومع هذا قام الإنجليز في الهند ورفعوا شكواهم إلى لندن من تصرف اللورد، ولا يزالون يرفعون ويقولون: كيف يجلس «كالا» أي الهندي الأسود على منصة القضاء، وربما يأتي وقت تقام فيه الدعوى بين يديه على إنجليزي فيصدر الحكم منه عليه؟ (كيف يصدر الحكم من هندي على إنجليزي؟) فليعتبر من يعتبر.
إن الإنجليز لا تسمح نفوسهم أن يعترفوا بإنسانية الهندي ولو للضرورة، أيحب البانديت اللاهوري أن يلقي غشاوة الغش على عينيه وأعين إخوانه ويفتري الكذب بقوله: إن بين الهنديين وحكومتهم نوعا من الالتئام؟! وهل مثل هذه الحكومة يلتئم معها ذو إحساس؟!
إن البانديت يقول في جريدته وفي أثناء انتقاده على العروة: إن سلالة الأمراء وأبناء العائلة التيمورية (ملوك الهند) عراة في الأسواق، يتضورون جوعا ولا يجدون خصا يأوون إليه، فإذا كان هذا حال الأمراء - باعترافه - فكيف يكون حال سواهم؟ وكيف طوعت له نفسه أن ينطق بكلمة تشعر بالرضاء عن حكومة الإنجليز؟ إنه يتملق للحكام ولكن لا أظنه ينال على التملق أكثر من عشر روبيات في الشهر، فليس له أن يتعب لسانه ويجهد نفسه مجانا.
لا ينكر البانديت أن الإنجليز إذا خاطبوا هنديا لا يكلمونه إلا بالعصا، وإذا اعتدى إنجليزي على هندي فقتله حكم أطباء الإنجليز بأن القتيل مات بالسل المزمن أو داء الكبد أو بمرض عياء ورثه عن آبائه كي لا يقاص إنجليزي بدم هندي، فيذهب دم الهندي هدرا.
إن ظلم الإنجليز وجورهم يظهر لكل قارئ من تلك الورقة الصغيرة «أخبار عام»، وإني أقول بلسان كل هندي - وثنيا أو مسلما، سنيا أو شيعيا: إن البانديت لا يمكنه بورقته هذه أن يقطب جروح الهنديين ولا أن يطفئ لهيب أحشائهم مما يرونه كل يوم من سلب الأملاك وإهانة الأديان وتضييع الحقوق وحرمان الأهالي من خدمة أوطانهم، وليس في طاقة قلمه أن يرفع شيئا من الواقع ولا أن يحدث خاطر محبة الإنجليز في قلب هندي إلا من خربت ذمته ومرق من عهود دينه ووطنه، وإن البانديت يعرف هذا ولكنه يسعى لعله يحصل شيئا زهيدا ويقنع به بعضا منا، وكثير من الشرقيين صارت حوصلتهم كحوصلة العصفور يملؤها حبتان من الحنطة! وسنكتب إليكم عن تفصيل الأعمال الإنجليزية عندنا - إن شاء الله. ا.ه.»
الفصل الثالث والتسعون
الإنجليز والدول
ما للحكومة المصرية لاهية عن شأنها؟! ماذا تبتغي من سكونها وميلها مع ريح الحكومة الإنجليزية؟! ماذا تنتظر الدولة العثمانية بعد انحلال المؤتمر على غير طائل؟! أتظن الحكومة المصرية أن خضوعها لأوامر بريطانيا، واهتمامها بخدمة عساكرها الزاحفة إلى السودان؛ مما يوجب الخجل لحكومة الإنجليز، فتستحي بعد ذلك أن تكفر نعمة الصداقة وترعى سابقة الخدمة، فتترك مصر نقية الراحة، بريئة الذمة، وتمكن الأمر للحكومة المصرية، وتشيد الخديوية لتوفيق باشا؟! إن خطر هذا الوهم ببال الحكام في مصر فقد خرفوا، فليس يحوم مثل هذا الهاجس في فكر إلا وقد مسه الخبل، ولا يختلج في صدر حتى يختم عليه بطابع العمى.
حكومة بريطانيا انتحلت لنفسها أسبابا للدخول في وادي النيل، وأنشأت له عللا، فغايتها من كل أعمالها أن تكون لها سلطة ممتازة فيه سواء تأيد توفيق باشا أو تأوده، ولما أحس رجالها أن بحث المؤتمر ربما ينجر إلى ما يمس غايتهم هذه تملصوا منه واستبدوا بأعمالهم وأخذوا على أنفسهم تسكين عاصفة الثورة السودانية، فإن تم لهم ما أرادوا واستقلوا بالعمل في السودان فهل يرجى منهم أن يخلوا مصر بعدما فتحوا من ورائها ما فتحوا؟! إن هذا إلا خيال باطل.
Unknown page