الشيخ محمد عبده
العروة الوثقى
فاتحة الجريدة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
باب النتف والأخبار
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الفصل الحادي والأربعون
الفصل الثاني والأربعون
الفصل الثالث والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
الفصل الخامس والأربعون
الفصل السادس والأربعون
الفصل السابع والأربعون
الفصل الثامن والأربعون
الفصل التاسع الأربعون
الفصل الخمسون
الفصل الحادي والخمسون
الفصل الثاني والخمسون
الفصل الثالث والخمسون
الفصل الرابع والخمسون
الفصل الخامس والخمسون
الفصل السادس والخمسون
الفصل السابع والخمسون
الفصل الثامن والخمسون
الفصل التاسع والخمسون
الفصل الستون
الفصل الحادي والستون
الفصل الثاني والستون
الفصل الثالث والستون
الفصل الرابع والستون
الفصل الخامس والستون
الفصل السادس والستون
الفصل السابع والستون
الفصل الثامن والستون
الفصل التاسع والستون
الفصل السبعون
الفصل الحادي والسبعون
الفصل الثاني والسبعون
الفصل الثالث والسبعون
الفصل الرابع والسبعون
الفصل الخامس والسبعون
الفصل السادس والسبعون
الفصل السابع والسبعون
الفصل الثامن والسبعون
الفصل التاسع والسبعون
الفصل الثمانون
الفصل الحادي والثمانون
الفصل الثاني والثمانون
الفصل الثالث والثمانون
الفصل الرابع والثمانون
الفصل الخامس والثمانون
الفصل السادس والثمانون
الفصل السابع والثمانون
الفصل الثامن والثمانون
الفصل التاسع والثمانون
الفصل التسعون
الفصل الحادي والتسعون
الفصل الثاني والتسعون
الفصل الثالث والتسعون
الفصل الرابع والتسعون
الفصل الخامس والتسعون
الفصل السادس والتسعون
الفصل السابع والتسعون
الفصل الثامن والتسعون
الفصل التاسع والتسعون
الفصل المائة
الفصل الحادي والمائة
الفصل الثاني والمائة
الفصل الثالث والمائة
الفصل الرابع والمائة
الشيخ محمد عبده
العروة الوثقى
فاتحة الجريدة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
باب النتف والأخبار
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الفصل الحادي والأربعون
الفصل الثاني والأربعون
الفصل الثالث والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
الفصل الخامس والأربعون
الفصل السادس والأربعون
الفصل السابع والأربعون
الفصل الثامن والأربعون
الفصل التاسع الأربعون
الفصل الخمسون
الفصل الحادي والخمسون
الفصل الثاني والخمسون
الفصل الثالث والخمسون
الفصل الرابع والخمسون
الفصل الخامس والخمسون
الفصل السادس والخمسون
الفصل السابع والخمسون
الفصل الثامن والخمسون
الفصل التاسع والخمسون
الفصل الستون
الفصل الحادي والستون
الفصل الثاني والستون
الفصل الثالث والستون
الفصل الرابع والستون
الفصل الخامس والستون
الفصل السادس والستون
الفصل السابع والستون
الفصل الثامن والستون
الفصل التاسع والستون
الفصل السبعون
الفصل الحادي والسبعون
الفصل الثاني والسبعون
الفصل الثالث والسبعون
الفصل الرابع والسبعون
الفصل الخامس والسبعون
الفصل السادس والسبعون
الفصل السابع والسبعون
الفصل الثامن والسبعون
الفصل التاسع والسبعون
الفصل الثمانون
الفصل الحادي والثمانون
الفصل الثاني والثمانون
الفصل الثالث والثمانون
الفصل الرابع والثمانون
الفصل الخامس والثمانون
الفصل السادس والثمانون
الفصل السابع والثمانون
الفصل الثامن والثمانون
الفصل التاسع والثمانون
الفصل التسعون
الفصل الحادي والتسعون
الفصل الثاني والتسعون
الفصل الثالث والتسعون
الفصل الرابع والتسعون
الفصل الخامس والتسعون
الفصل السادس والتسعون
الفصل السابع والتسعون
الفصل الثامن والتسعون
الفصل التاسع والتسعون
الفصل المائة
الفصل الحادي والمائة
الفصل الثاني والمائة
الفصل الثالث والمائة
الفصل الرابع والمائة
العروة الوثقى
العروة الوثقى
تأليف
جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده
السيد جمال الدين الأفغاني.
الشيخ محمد عبده.
جمال الدين الأفغاني
بقلم مصطفى عبد الرازق
اتفق من ترجموا للسيد جمال الدين على أن اسمه: محمد جمال الدين، واسم أبيه صفدر، وقد حرف هذا الاسم من كتبوا ترجمته بالعربية فقالوا: صفتر.
وصفدر لفظ فارسي من ألقاب الإمام علي، مركب من كلمة «صف» العربية، و«در» وصف من فعل دريدان الفارسي بمعنى افترس أو اقتحم.
ولم يختلفوا في أن جمال الدين ولد سنة 1254ه/1838-1839م.
وهل هو بعد ذلك ولد في أسعد آباد، قرية من قرى كير، من أعمال كابل، من بيت عظيم في بلاد الأفغان، حنفي المذهب، ينتمي نسبه إلى السيد علي الترمذي المحدث المشهور، ويرتقي إلى سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب، وفي كابل تلقى علومه واستكمل الغاية من دروسه؟
أم هو قد ولد في أسد آباد قرب همدان من أعمال فارس، وتعلم في مدينة قزوين ومدينة طهران، ثم سافر إلى الأفغان، وليس أفغاني الجنس كما يزعم أهل السنة والجماعة؟
أم أن والده من أهالي مازنداران ، إحدى ولايات إيران، وكان ضابطا في الجيش الإيراني أوفدته حكومته إلى بلاد الأفغان لمهمة، فطابت له السكنى هناك وتزوج، وولد له جمال الدين في إيران، وحمله معه صغيرا؟
هذا خلاف لا سبيل إلى تمحيصه؛ فإن ما يتعلق بنشأة السيد جمال الدين وحياته قبل اتصال الشيخ محمد عبده به سنة 1871م هو - على قلة مصادره - محاط بغموض واضطراب - كما قال الأستاذ براون.
ويدل على هذا قول الشيخ محمد عبده في فاتحة تعريبه لرسالة الرد على الدهريين: «يحملني على ذكر شيء من سيرة هذا الرجل الفاضل ما رأيناه من تخالف الناس في أمره، وتباعد ما بينهم في معرفة حاله، وتباين صوره في مخيلات اللاقفين لخبره، حتى كأنه حقيقة كلية تجلت في كل ذهن بما يلائمه، أو قوة روحية قامت لكل نظر بشكل يشاكله.»
ويرى أن السيد جمال الدين، وإن كان في الحقيقة فارسيا، فقد انتسب إلى الأفغان لأمرين: (1)
أن يكون من السهل عليه الظهور بمظهر السني لا الشيعي. (2)
أن يستطيع الخلاص من رقابة الحكومة الإيرانية لرعاياها في الخارج.
وقد عني والده بتربيته، فأيدت العناية به قوة فطرته.
وتلقى معارف جمة بين علوم عربية وعلوم شرعية وعلوم عقلية وفنون رياضية، ودرس نظريات الطب والتشريح.
أخذ جميع تلك الفنون عن أساتذة ماهرين، على الطريقة المعروفة في تلك البلاد، وعلى ما في الكتب الإسلامية المشهورة.
بدأ تعلمه في السنة الثامنة من عمره، واستكمل الغاية من دروسه في الثامنة عشرة.
ويقول جورج كوتشي: إن جمال الدين قد استرعى الأنظار منذ حداثة السن؛ بذكائه النادر، وميله الواضح إلى كل ما له صلة بالفنون العسكرية.
ولما أتم دروسه سافر إلى الهند، وأقام سنة تعلم في خلالها شيئا من العلوم الأوروبية وأساليبها.
وقصد بعد ذلك إلى الأقطار الحجازية لأداء فريضة الحج، فقضى نحو عام يتنقل في بلاد العرب حتى وافى مكة سنة 1273ه/1857م.
وعاد إلى بلاد الأفغان فانتظم في خدمة الأمير دست محمد خان، وعلت منزلته عنده، ورافقه في بعض غزواته، ولما مات الأمير انحاز جمال الدين إلى الأمير محمد أعظم خان، الذي أثار حربا عوانا على شير علي، وهو أخوه أصغر منه سنا، تولى عرش الأفغان بتأييد الإنجليز.
وكان جمال الدين زعيم القواد في جيش محمد أعظم خان، فميزته كفاية باهرة، ولكن الأمير أوجس في نفسه خيفة أن يساميه إلى العرش؛ فجعل لا يصغي إلى نصائحه، وعلى أثر الهزيمة شخصا معا إلى الهند، وكانت الهند يومئذ تفور بالفتن، وخشيت الحكومة الإنجليزية أن يتصل الثوار بالسيد جمال الدين؛ فردته من حيث جاء.
ولم يأمن الأمير شير على مقام السيد في الأفغان، وأحس السيد ما توسوس به نفس الأمير؛ فاستأذن في الخروج للحج وارتحل من طريق الهند مع خادمه أبي تراب.
ولما بلغ التخوم الهندية تلقته حكومتها بحفاوة وإجلال، ولكنها لم تسمح له بطول المكث، ولم تأذن في لقائه إلا على عين من رجالها، وبعد نحو شهر سيرته من سواحل الهند في بعض مراكبها على نفقتها إلى السويس، فجاء مصر وأقام بها أربعين يوما، تردد في خلالها على الجامع الأزهر، وخالط كثيرين من طلبة العلم السوريين، وألقى عليهم محاضرات في مسكنه.
ثم تحول عن الحجاز عزمه، وصرف عنانه إلى الأستانة سنة 1287ه/1870م، وكانت سبقته شهرته الذائعة فحومت إليه - لفضله - قلوب الأمراء والوزراء، وعلا ذكره بينهم، واتصل برجال الأدب والعلم.
وبعد ستة أشهر سمي عضوا في مجلس المعارف برعاية عالي باشا الصدر الأعظم، فأدى حق الاستقامة والنصح في آرائه، وأشار إلى طرق لتعميم المعارف لم يوافقه عليها رفقاؤه، ومن تلك الطرق ما أحفظ عليه قلب شيخ الإسلام لذلك العهد حسن أفندي فهمي؛ لأنها كانت تمس شيئا من رزقه، وأضمر له السوء وأرصد له العنت، حتى كان رمضان سنة 1287ه فرغب إلى السيد مدير دار الفنون أن يلقي خطابا في الحث على الصناعات، واحتشد الناس لسماع المحاضرة في تلك الدار من جميع الطبقات العالية، وكان فيما ذكره السيد تشبيه المعيشة الإنسانية ببدن حي، وأن كل صناعة بمنزلة عضو من ذلك البدن، ثم قال: هذا ما يتألف منه جسم السعادة الإنسانية ، ولا حياة لجسم إلا بروح، وروح هذا الجسم إما النبوة وإما الحكمة.
هنالك راح شيخ الإسلام يقيم من الحق باطلا؛ ليصيب غرضه من الانتقام، فأشاع أن جمال الدين يزعم أن النبوة صنعة، محتجا بأنه ذكرها في خطاب يتعلق بالصناعات، ثم أوعز إلى الوعاظ في المساجد أن يذكروا ذلك محفوفا بالتفنيد والتبديد، وأكثرت الجرائد من الخوض في المسألة، وانقسم الناس فيها شيعا.
وأشار بعض أصحاب السيد عليه بأن يغضي على الكريهة ويلزم السكون، والزمن كفيل باضمحلال هذه الإشاعة وتلاشي أثرها، ولكن جمال الدين كان عصبيا دمويا، في مزاجه حدة، فلج في مخاصمة شيخ الإسلام وطلب محاكمته، حتى صدر الأمر إليه بالجلاء عن الأستانة ريثما تسكن الخواطر، وحمله بعض من كان معه على أن يهبط مصر، فجاءها أول سنة 1288ه/1871م وكان ذلك في زمن إسماعيل، واستمالته مساعي رياض باشا للمقام؛ حيث لم يكن ينويه، وأجرت عليه الحكومة المصرية راتبا سنويا مقداره 120 جنيها نزلا، أكرمته به لا في مقابلة عمل.
استقر قرار الرجل في وادي النيل بعد أسفار بعيدة، ومشاغل عديدة، في حياة الميادين والكفاح.
ولم تكن كل هذه الشواغل لتعوق جمال الدين عن متابعة الدراسة العلمية العالية التي كان له إليها نزوع شديد، ولقد كان ينتقل في البلاد مصحوبا بكتبه، وكان قارئا نهما لا يشبع، عرف في شبابه كل المؤلفات القديمة في الفارسية والعربية، ولم يكن يجهل أي كتاب من الكتب الحديثة ترجم إلى لغة شرقية.
لم يكن جمال الدين ذا لهو ولا شهوانيا، وكان قليل الطعام يتبلغ منه بوجبة النهار، ويكتفي بمنقوع الشاي يشربه مرارا، وكان مغرما بتدخين السيجار، ولم يكن لخلابة النساء وسحرهن سلطان على قلبه الحديدي.
شهد في مصر أواخر عهد إسماعيل وأوائل عهد توفيق، إذ كانت تتمخض البلاد عن أزمات اقتصادية واجتماعية وفكرية وسياسية؛ بسبب إسراف إسماعيل وضعف توفيق، وبما بدا من التصادم بين القديم والحديث، وبسبب الدسائس السياسية وتدخل الأجانب.
كل ذلك هيأ الوسائل لمواهب رجل أوتي حظا عظيما من سمو النفس، ومتانة الخلق، وتوقد الذكاء ، وقوة الذاكرة، ودقة الملاحظة، إلى علم غزير، ونشاط لا يكل ، وشجاعة لا تعرف الخوف، وبلاغة في الكتابة والخطاب خارقة للعادة، مع نفوذ ساحر وسمت مهيب جليل، جذبت إلى السيد مزاياه الباهرة قلوب كثير من الأمراء وأرباب المقامات العالية وأهل العلم والأدب، فكانوا يوافونه في القهوات والمنتزهات العامة حيث كان سامره مجلس علم وحكمة وأدب وسياسة.
والتف حوله أذكياء الطلاب، ومن بينهم عدد من خيرة مجاوري الأزهر، فكان يلقي عليهم دروسا في الأدب والمنطق والتوحيد والفلسفة وعلم التصوف وأصول الفقه والفلك، في مسامرات خالية التكاليف والقيود.
وكانت مدرسته بيته، ولم يذهب إلى الأزهر قط مدرسا، وإنما كان يذهب إليه زائرا، وأكثر ما كان يزوره في يوم الجمعة.
وكان يحمل تلاميذه على العمل في الكتابة وإنشاء الفصول الأدبية والاجتماعية والسياسية، فاشتغلوا على نظره، وبرعوا بين يديه، وكانوا طليعة النهضة الأدبية في مصر، وكانوا مؤسسي بنيانها.
وانتظم السيد في الماسونية وتقدم في درجاتها، ثم أنشأ محفلا وطنيا جمع فيه نبهاء طلابه ومريديه حتى صار عدد أعضائه نحو 300، وكان هو رئيسه يمرن فيه تلاميذه على الخطابة ويلهمهم مبادئه ويعدهم للعمل، ويوقظ فيهم عواطف الوطنية ويعلمهم الشغف بحياة الحرية وبالنظم الدستورية.
وقد هيأ من تلاميذه طبقة ذات حرية وجرأة في السياسة والأدب والإصلاح، وأخذ يتوسل بالحركات السياسية، وكان الرجل سياسيا، يعتبره أشياعه وطنيا عظيما، ويعتبره خصومه مهيجا خطرا!
وفي سنة 1296ه/1879م صدر أمر الخديوي توفيق بإخراجه من القطر المصري هو وتابعه أبو تراب؛ لأن مساعيه السياسية أوغرت عليه صدر المستر فيفان قنصل إنجلترا الجنرال، وتعليمه الفلسفي هيج عليه الجامدين من الأزهريين، فجاءه الكيد من هنا وهناك!
أبحر السيد من السويس إلى «بوشيهر»، ومنها ذهب إلى حيدر أباد، فأقام عاما كتب في أثنائه مذكرات كثيرة باللغة الفارسية والأفغانية، وكتب في ذلك الوقت بالفارسية رسالة الرد على الدهريين.
ولما كانت الثورة العرابية دعي من حيدر أباد إلى كلكتا، وألزمته حكومة الهند بالإقامة فيها حتى انقضى أمر الفتنة، وكانت الحكومة الإنجليزية تظن أن له فيها يدا، ثم أبيح له أن ينطلق إلى حيث شاء، فاختار الذهاب إلى أوروبا وقصد مدينة لوندرا، فأقام فيها أياما قلائل، ثم انتقل إلى باريس وأقام بها ما يزيد على ثلاث سنوات.
وكتب في طريقه من بورسعيد إلى الشيخ محمد عبده يخبره بذهابه إلى لوندرا، ويطلب إليه أن يرسل الرد بعنوان جريدة الشرق والغرب، أو المستر بلانت.
وهذا يدل على أن السيد ذهب من الهند إلى لوندرا، خلافا لما نقله جولد شهير في دائرة المعارف الإسلامية عن المستر براون في روايته عن المستر بلانت «من أن السيد ذهب من الهند إلى أميريكا فأقام بها بضعة أشهر على عزم أن يتجنس بالجنسية الأمركية، ولكنه - فيما يظهر - لم ينفذ هذا العزم»، فإنا نجده في لندرا سنة 1883 حيث أقام زمنا قصيرا، ثم انحدر إلى باريس مع صديقه ومريده الأمين محمد عبده، الذي صار بعد ذلك مفتي مصر.
والأقرب إلى الصحة أن السيد جمال الدين وصل باريس آتيا من لوندرا سنة 1883؛ كما ذكره جورج كوتشي في رسالته التي عنوانها: «الشيخ جمال الدين الأفغاني ودخائل صاحب الجلالة الإمبراطورية السلطان عبد الحميد الثاني.»
أما الشيخ محمد عبده فقد وافى أستاذه في باريس مدة مقامه بها - على ما صرح به في ترجمته لأستاذه في فاتحة تعريبه لرسالة الرد على الدهريين.
وكان ذلك في أواخر سنة 1883؛ لأن الشيخ عبده سافر إلى سوريا منفيا في أواخر سنة 1882، وبعد نحو عام من مقامه هناك دعاه إلى باريس فسافر إليها.
وكان السيد جمال الدين في باريس منذ أول سنة 1883 ولقي الفيلسوف رينان في ذلك العهد، كما يقول رينان نفسه في رده على السيد جمال الدين المكتوب في 18 مايو سنة 1883:
لقد تعرفت بالشيخ جمال الدين منذ نحو شهرين، فوقع في نفسي منه ما لم يقع لي إلا من القليلين، وأثر في تأثيرا قويا، وجرى بيننا حديث عقدت من أجله النية على أن تكون علاقة العلم بالإسلام موضوع محاضراتي في السربون، والشيخ جمال الدين رجل أفغاني لا سلطان عليه لمؤثرات الإسلام، وهو ينتمي إلى ذلك الجنس القوي المستوطن إيران العليا الواقعة على حدود الهند، والتي لا يزال الذهن الآري يعيش فيها مطويا في غلالة رقيقة من الإسلام الرسمي، والشيح جمال الدين نفسه خير دليل يمكن أن نسوقه على تلك النظرية القائلة بأن قيمة الأديان بقيمة الأجناس التي تعتنقها، وقد خيل إلي من حرية فكره ونبالة شيمه وصراحته وأنا أتحدث إليه أنني أرى - وجها لوجه - أحد من عرفتهم من القدماء، وأنني أشهد ابن سينا أو ابن رشد أو أحد أولئك الملحدين العظام الذي ظلوا خمسة قرون يعملون على تحرير الإنسانية من الإسار.
ألقى رينان محاضرته في الإسلام والعلم في مارس 1883، ونشرت عقب إلقائها في جريدة الديبا، فأرسل السيد جمال الدين إلى مدير هذه الجريدة ردا بالعربية ترجم إلى الفرنسة ونشر بعد بضعة أسابيع، وعقب عليه رينان برد مملوء باللطف والمجاملة.
أخذ السيد جمال الدين ينشر أفكاره السياسية محاربا تدخل بعض الدول الغربية في شئون الأمم الإسلامية، خصوصا الهند ومصر، في مقالات تداولتها الجرائد الكبرى، وامتدت إليها أعناق الدوائر السياسية المشتغلة بشئون الشرق.
على أن أكبر مظهر لنشاط جمال الدين السياسي والأدبي في باريس كان في إنشاء «العروة الوثقى»، وهي مجلة أسبوعية عربية، كان هو مدير سياستها والشيخ محمد عبده محررها، وكانت تتولى الإنفاق عليها جمعية اسمها «جمعية العروة الوثقى» ذات فروع في الهند ومصر وغيرهما من أقطار الشرق الإسلامي، تعمل على إنهاض الدول الإسلامية من ضعفها وتنبيهها للقيام على شئونها، ويدخل في هذا تنكيس دولة بريطانيا في الأقطار الشرقية، وتقليص ظلها عن رءوس الطوائف الإسلامية، وقد أخذت هذه الجريدة من قلوب الشرقيين - عموما - والمسلمين - خصوصا - ما لم يأخذه قبلها وعظ واعظ ولا تنبيه منبه، وهي ذات أثر في كل ما جد بعد من حركات الوطنية والحرية في بلاد الشرق.
وقد لقيت هذه الجريدة كل مصادرة في الهند ومصر، حتى كانت توضع في غلاف لتصل إلى من يراد إيصالها إليه، وحتى أعلن في الجريدة الرسمية المصرية أن كل من توجد عنده العروة الوثقى يغرم خمسة جنيهات مصرية إلى خمسة وعشرين جنيها! وقد نشر منها في ثمانية أشهر 18 عددا، صدر آخرها في ذي الحجة 1301.
خفت صوت العروة الوثقى بما أرصدته لها إنجلترا من عنت وإرهاق، وترك الشيخ محمد عبده باريس عائدا إلى سوريا.
أما السيد جمال الدين فبقي في أوروبا متنقلا بين لوندرا وباريس، يتصل بالعلماء والكتاب ورجالات السياسة، وينشر فصوله ومقالاته في الجرائد الكبرى.
وجمع المستر بلانت بينه وبين اللورد سالسبوري واللورد تشرشل للمفاوضة في أمر ثورة المهدي في السودان، وهي يومئذ شغل القوم الشاغل، لكن التوفيق بين وجهات نظر متناقضة لم يكن مستطاعا.
وفي جمادى الأولى 1303 سافر السيد إلى البلاد الإيرانية بدعوة من الشاه ناصر الدين، فنال مكانة سامية، وتزاحم حوله الأمراء والمجتهدون والكبراء، وتمكن من نظم كثير منهم في سلك الماسونية.
وكأنما غشيت الشاه من ذلك ريبة، وملأه الخوف من تعاظم السلطان الروحي لجمال الدين على شعب أصبح يحيطه بإجلاله ومحبته.
ولمح جمال الدين تنكر الشاه له، فغادر بلاد فارس إلى روسيا، فحل من الشعب الروسي محل الكرامة، وجعلت تتلقفه المجامع العالية، ونشر في الجرائد الروسية فصولا تردد في عالم السياسة صداها.
ثم سافر إلى باريس ليزور معرضها الكبير سنة 1899، فالتقى في منخ بالشاه ناصر الدين عائدا من باريس، وما زال الشاه يزين له العودة إلى فارس حتى لان شماسه وأجاب الدعوة.
وقد سارع الشعب الإيراني إلى الالتفاف حول السيد من جديد، على وجه أبعث للمهابة وأدل على الحب والثقة، ولم يقتصر أمر مؤثريه على سماع مسامراته التي كان يبث فيها معارفه وأفكاره الحرة، بل جعل الشعب يتوسل به إلى تحقيق مطامحه في إصلاح الإدارة وإقامة العدل والقانون، وبدت نهضة إصلاح يكرهها الصدر الأعظم ويخشى عواقبها على سلطانه، فوسوس للشاه حتى غير قلبه على السيد.
هنالك خرج جمال الدين إلى «شاه عبد العظيم»، وهو مكان على بعد عشرين كيلو مترا من طهران به مقام مقدس، لكنه لم يخلد إلى راحة هناك ولا سكون، بل جعلت طوائف المستنيرين من الطبقات المختلفة حتى طبقات الشبان من الضباط تشد رحالها إلى «شاه عبد العظيم».
أدرك الشاه ناصر الدين الفزع، وخاف أن تزلزل تلك الحركة قواعد سلطانه المطلق، فبعث إلى جمال الدين بخمسمائة من فرسانه مدججين بالسلاح اقتحموا عليه - وهو عليل في فراشه - وقاده خمسون منهم إلى ما وراء الحدود.
أقام جمال الدين في البصرة زمنا حتى أبل من سقامه، ولم يزل يوالي أنصاره في فارس بكتبه؛ يثير فيهم الحمية ويؤجج بين جوانحهم نار الوطنية، وكأن ما ناله من عسف الشاه قد أثار حفيظتهم.
وفي سنة 1890 كانت حكومة فارس جعلت حق احتكار التنباك لشركة إنجليزية، فاغتنم الفرصة السيد جمال الدين وكتب خطابا لميرزا حسن الشيرازي رئيس المجتهدين، يعيب فيه على الحكومة هذا العمل الضار بثروة البلاد الممكن لأعدائها.
وكان من أثر هذا الخطاب أن أصدر المجتهد الشيرازي فتوى حرم بها على كل مؤمن تدخين التنباك ما لم تعدل الحكومة عن مشروعها، وقد اضطرت إلى العدول عنه ودفعت للشركة تعويضا.
وكذلك قويت دعوة الحرية والإصلاح الدستوري في فارس، حتى طاحت بعد برأس الشاه ناصر الدين.
وفي سنة 1892 ذهب السيد إلى لوندرا مرة أخرى وأقام فيها ثمانية أشهر، موجها كل همته إلى محاربة الشاه ناصر الدين بقلمه ولسانه، داعيا إلى تخليص الشعب الفارسي من ظلم الحكم الاستبدادي، وكان من المؤسسين للمجلة الشهرية «ضياء الخافقين» التي كانت تصدر بالعربية والإنجليزية، وكان من أكثر العاملين فيها نشاطا.
وأرسل السلطان عبد الحميد إلى السيد جمال الدين بوساطة سفير تركيا في لوندرا كتابا خلابا؛ يستدعيه إلى الأستانة، فتردد السيد واعتذر، لكن السلطان وجه إليه رسالة ثانية أكثر خداعا ودهاء، فأجاب برسالة برقية أنه ملب دعوة صاحب الجلالة، على أن يؤذن له بالعودة إلى أوروبا عقب الحظوة بالمقابلة.
وسافر جمال الدين إلى القسطنطينية، فاستغواه السلطان عبد الحميد، وهيأ له منزلا جميلا يقوم على ربوة نشان طاغ، غير بعيد من قصر يلدز، وفرض له 57 جنيها تركيا راتبا شهريا.
وقضى السيد جمال الدين خمس سنين من حياته في الأستانة «يعيش بين مظاهر خداعة من عطف السلطان، ودسائس لا تحصى يبيتها له رجال القصر! وكم تضرع إليهم أن يسمحوا له بالسفر، فأمسكوه بقية عمره في إسار مموه بالذهب.»
ذلك وصف سائح ألماني زاره سنة 1896.
ومات جمال الدين يوم الثلاثاء 9 مارس سنة 1897 الساعة 12 والدقيقة 13 إثر أوجاع مضنية، وعقب موته أرسل السلطان بعض موظفي قصره ليستحوذوا على أوراقه ومؤلفاته.
ويؤكد أكثر الإيرانيين، وغيرهم ممن ترجموا لجمال الدين؛ أن موته لم يكن طبيعيا، وأنه لقح في شفته بمادة سامة، سببت له حالة مرضية تشبه السرطان، ويقولون: إن ذلك من كيد أبي الهدى.
وأمر السطان بدفنه لساعتين من وفاته، فسير نعشه بين جموع عديدة من الشرطة؛ مخافة فتنة مباغتة من أنصاره الذين كانوا في ريب من أسباب موته.
هكذا مات السيد جمال الدين وشيعت جنازته، بعد أن عاش رجلا ممتازا، مؤثرا في حوادث الشرق الإسلامي خلال عشرين سنة أكثر مما أثر فيها أي رجل آخر من أهل زمانه.
وقد عاش متنقلا في البلاد منذ طفولته، فزار بلاد العرب ومصر وتركيا، وأقام بالأفغان والهند وفارس، واتصل بحكومة الأفغان في شبابه مشتركا في حروبها الداخلية، كما اتصل بحركات النهوض في كل بلاد الشرق التي حل بها، وزار كثيرا من العواصم الأوروبية وكتب في جرائدها، وخطب في مجامعها، وخالط رجال السياسة والعلم والأدب فيها، وشهد دسائس الاستعمار الإنجليزي والأفغاني، والهند، وطارده الإنجليز في مصر وغيرها، وأماتوا مجلة العروة الوثقى في مهدها، ووضعوا العقبات في سبيله أنى سار!
من أجل ذلك لم يتعلق ببلد من البلاد على أنه وطن، ولم تدخل فكرة الوطنية بهذا المعنى في مذهبه الاجتماعي، ومن أجل ذلك اشتد كرهه للإنجليز وعاش عدوا لهم لدودا.
هو قد رأى الرقي في بلاد أوروبا، ورأى الانحطاط في بلاد الشرق التي زارها، شهد نفوذ الأجنبي فيها وسوء أثر الحكم الاستبدادي؛ فتوجهت فكرته إلى إنهاض تلك البلاد جملة وفرادى، ولهذه الممالك الشرقية الإسلامية حب في نفسه ينظمها جميعا.
أما أساس النهوض لهذه البلاد عنده فهو خلاصها من سلطان الأجنبي، وخلاصها من الحكم الاستبدادي، ثم تلائمها بنوع من الوحدة يقوي التناصر بينها، ويكفل لها الغلب.
وإن استيفاء النظر في تاريخ السيد جمال الدين هو - كما يقول الأستاذ براون - إحاطة بتاريخ المسألة الشرقية كلها في الأزمان الحديثة، يدخل في ذلك تاريخ الأفغان والهند، ويدخل فيها - بوجه أخص - تاريخ تركيا ومصر وإيران، وفي هذه البلاد الثلاثة الأخيرة لا يزال تأثيره حيا.
وإذا كان قبر السيد جمال الدين الأفغاني ظل في الأستانة مهدما مهجورا حتى جاءه في العام الماضي مستر كرين الأميركي فشيده وأظهره، فبحسب السيد أن مبادئه بعد مماته وموت الطغيان في الأستانة قامت حية مشرقة على أطلاله.
حسب جمال الدين من عظمة ومجد؛ أنه في تاريخ الشرق الحديث أول داع إلى الحرية، وأول شهيد في سبيل الحرية.
الشيخ محمد عبده
في محلة نصر، إحدى قرى مركز شبراخيت بمديرية البحيرة، ولد الشيخ محمد عبده من أب اسمه عبده خير الدين، كان ممن رزقوا بسطة في جسومهم وقوة، ومرنوا على الرماية والفروسية، وما إليها، فكسبوا من الهيبة بقوتهم وبطشهم فوق ما كان لهم من عز ومال.
أما أمه فالسيدة جتينة أيم ذات ولد، من حصة شيشير، من مركز السنطة بمديرية الغربية، تزوجها أبوه في هجرته مطاردا من بعض الحكام.
وحفظ الشيخ محمد عبده القرآن في بلده، ثم ذهب إلى طنطا فجوده في الجامع الأحمدي، وصد عن طلب العلم، فعاد إلى بلده ليشتغل بالزراعة، وتزوج يومئذ - على حداثة سنه.
وكان في خئولة أبيه رجل متصوف يدعى الشيخ درويش خضر كفكف من جماح الشباب، فجعله متصوفا، ورده إلى طلب العلم في طنطا.
ورحل بعد ذلك الشيخ محمد عبده إلى الأزهر، فحضر دروس كبار العلماء في مختلف العلوم الأزهرية مع الاشتغال بالتصوف، وجاء إلى مصر السيد جمال الدين الأفغاني فحضر دروسه ولازمه، وظهرت في وقت قصير آثار انتفاعه بعشرته ومعارفه، فألف في التصوف «رسالة الواردات»، ثم ألف حاشية على شرح التصوواني على العقائد العضدية «في التوحيد»، وأخذ يكتب فصولا في الجرائد استرعت إليه الأنظار.
ثم نال شهادة العالمية من الدرجة الثانية بعد امتحان ظهر فيه أن الشيوخ ينقمون عليه نزعاته الفكرية المتأثرة بمذهب أستاذه.
وعين على أثر ذلك مدرسا في مدرسة دار العلوم وفي مدرسة الألسن الخديوية، ولما نفي السيد جمال الدين من مصر عزل تلميذه وأمر بالمقام في بلده لا يبرحه، وعفي عنه فجعل من محرري الجرنال الرسمي «الوقائع الرسمية» ثم عين رئيسا للتحرير.
وجاءت الثورة العربية، فحوكم مع زعمائها، وحكم عليه بالنفي ثلاث سنين وثلاثة أشهر، قضى شطرا منها في سورية، ثم دعاه أستاذه السيد الأفغاني إلى أوروبا فأصدرا في باريس معا جريدة «العروة الوثقى» التي لم تعش إلا نحو ثمانية أشهر.
ثم رجع الشيخ إلى بيروت فعين أستاذا في المدرسة السلطانية، وكان يشتغل مع التدريس بالتأليف والكتابة، فألف «رسالة التوحيد» ونقل إلى العربية «رسالة الرد على الدهريين» التي كتبها السيد جمال الدين الأفغاني بالفارسية، وشرح «نهج البلاغة» و«مقامات بديع الزمان الهمذاني» ونشر في الجرائد مقالات عديدة.
وفي بيروت تزوج زوجته الثانية بعد وفاة زوجته الأولى.
وعاد من منفاه فعين قاضيا أهليا، فمستشارا في محكمة الاستئناف الأهلية، ثم جعل عضوا في مجلس إدارة الأزهر، وهو أول مجلس أسس ليكون رسول الإصلاح، ثم عين مفتيا للديار المصرية، فظل في هذا المنصب حتى أدركه الأجل.
وفي عهد توليه الإفتاء كتب في إصلاح المحاكم الشرعية تقريرا جليلا وأصدر فتاوى ذات شأن، ووضع تفسير جزء عم وتفاسير لبعض السور ولبعض الآيات المشكلة، وألف «كتاب الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية» وكتب للمجلات والجرائد فصولا قيمة في موضوعات دينية وغير دينية. •••
هذه الصورة المجملة من تاريخ الشيخ محمد عبده؛ تبين مناصبه وتعدد مؤلفاته، لكنها لا ترسم جوانب عظمته؛ فإن المناصب والكتب ليست مجلي عظمة الشيخ محمد عبده، وإن كان ترك نفحة من النبل والعظم في كل ما اتصل به.
تخلد ذكرى العالم الكتب يودع فيها آيات عبقريته، ويخلد الأثر الفني ذكرى الفنان، أما المصلح فهو يهيئ للجماعة مثلا أعلى لم تعرفه من قبله، ويحاول أن يصرف إلى ذلك المثل القلوب محاولة تظهر فيها قوة نفسه وقوة عزيمته، ويظهر فيها فيض ما وهب من عبقرية وإلهام.
والشيخ محمد عبده مصلح جريء، حاول الهدم والبناء في أقدس هيكل عند البشر، فيما يعتبره الناس دينا.
عرض لذلك في الشرق موطن العواطف الدينية، وبين المسلمين أشد المتدينين بدينهم كبرا وأكثرهم غيرة وحفاظا على ما له صورة دين.
أرسل صيحته في الأزهر تدوي بين شيوخ إن لم يكونوا يومئذ هيئة كبار العلماء، فلعلهم لم يكونوا دون هؤلاء جمودا.
ولم يبال الأستاذ بما لقي من الأذى، وقد لقي من الأذى كثيرا. •••
كان الشيخ محمد عبده رجلا مربوع القامة أو فوق ذلك قليلا، ممتلئ الجسم متين البنية شديد العضل رشيق الحركة نشيطها.
ملامح وجهه جميلة في جملتها وتفصيلها، تزيدها جمالا ومهابة تلك اللحية البيضاء النضيرة المطيفة بمحيا مشرق، ذي جبهة غراء انحسر الشعر عنها رويدا وارتفعت فسحة ناطقة بالعقل والإرادة والذكاء.
ولعينيه المعتدلتين في السعة من غير ضيق؛ بريق ساحر، يملأ الصدر هيبة وإعجابا وحبا.
وأشهد لقد كان جمال الشيخ محمد عبده من الجنود التي سخرها الله لعبقريته، وكان صوته العذب المؤثر من جنود عبقريته أيضا، كنت طالبا من صغار الطلاب أيام جاء الشيخ محمد عبده إلى الأزهر، وكان أساتذتنا، عفا الله عنهم، لا يفتئون يذمون لنا الشيخ ويمثلونه خطرا على الدين وأهله داهما، فتتأثر بذلك عقولنا الطفلة، وكنت أفر بديني من أن ألقى الأستاذ أو أستمع لدروسه مع أنه صديق لوالدي.
وحضرت درسه مرة لأشهد كيف تشيه وجوه الملحدين وتشيه معها عقولهم وقلوبهم.
فلما رأيت الرجل بالرواق العباسي وسمعته يفسر كتاب الله، قلت - منذ ذلك اليوم: اللهم إن كان هذا إلحادا فأنا أول الملحدين:
إن كان رفضا حب آل محمد
فليشهد الثقلان أني رافضي
كان الشيخ محمد عبده متميزا من ناحية الكمال الجسماني بالفطرة والوراثة والنشأة الريفية، ويظهر أنه كان ذا منزلة خاصة عند أبويه؛ لأنه أصغر أبناء أمه وأنجب إخوته، فتربى على شيء من الحرية يكون عادة للأبناء المميزين ولا يكون لغيرهم؛ فينشئون ذوي استقلال وجرأة وإقدام، ولا ينكر أثر التربية الصوفية في نفس الأستاذ؛ فإنها وجهت كل عواطف الشباب في نفس الفتى إلى اللذائذ القدسية ، لذائذ العارفين.
وإذا كانت التربية الحديثة تدعو إلى تلطيف السر بأنواع من الرياضة البدنية والروحية ...
قال ابن سينا في الإشارات:
العارف هش بش بسام، وكيف لا يهش وهو فرحان بالحق وبكل شيء فإنه يرى فيه الحق.
العارف شجاع، كيف لا وهو بمعزل عن تقية الموت؟ وجواد، وكيف لا وهو بمعزل عن محبة الباطل؟ وصفاح، وكيف لا وذكره مشغول بالحق؟
هذه التعاليم الصوفية من شأنها أن تربي جانب الوجدان، وتلطف السر وتجمل النفس وتزينها، ولا جرم كان الشيخ محمد عبده صوفي الأخلاق، وقد هذبت من صوفيته تربية السيد جمال الدين الأفغاني، وزاده ما استفاد من الأسفار وتعلم اللغة الفرنسية تهذيبا.
قال المرحوم قاسم بك أمين في وصف الأستاذ: «بلغت فيه طيبة النفس إلى درجة تكاد تكون غير محدودة، كان يجذبه الخير كما يجذب المغناطيس الحديد فيندفع إليه ويسعى إلى كل نفع للغير عام أو خاص، كان ملجأ للفقراء واليتامى والمظلومين والمرفوتين والمصابين بأي مصيبة، وأهل الأزهر الذين هم أكثر الناس احتياجا إلى المساعدة؛ لأنهم في وسط المدنية الحاضرة المتأخرون العاجزون عن الدفاع عن أنفسهم في ميدان حياتنا الجديدة، يبذل إليهم ماله ويسعى لهم عند ولاة الأمور بهمة لا تعرف الملل، كأنما كان يسعى لأعز إنسان لديه، بل كان يسعى لصاحب الحاجة وهو يعلم أنه أساء إليه وقدح فيه، وتحالف مع خصومه في ترويج عبارات القذف والنميمة التي لم تنقطع عنه يوما مدة حياته، كان الأستاذ يرى أن الشر لا فائدة منه مطلقا، وأن التسامح والعفو عن كل شيء وعن كل شخص هما أحسن ما يعالج به السوء، ويفيد في إصلاح فاعله.» •••
اتصل الشيخ محمد عبده بالمناصب الحكومية وبالشئون السياسية وبالحركة العلمية والأدبية وبأعمال البر، وكان له في كل هذه الميادين نشاط مثمر ورأي مصلح، وعزم لا يعرف دون الكمال تراجعا ولا فتورا، لكن الميدان الذي أنفق في رحابه الشيخ محمد عبده خير ما وهب من صحة وهمة وعقل وعلم وفصاحة هو ميدان الإصلاح الديني؛ دعا الشيخ محمد عبده إلى الإصلاح الديني باعتباره أساسا لكل إصلاح في الشرق.
وتنتظم دعوة الشيخ إلى الإصلاح الديني أمورا ثلاثة: (1)
تحرير الفكر من قيد التقليد؛ حتى لا يخضع العقل لسلطان غير سلطان البرهان، ولا يتحكم فيه زعماء الدنيا ولا زعماء الأديان. (2)
اعتبار الدين صديقا للعلم لا موضع لتصادمهما؛ إذ لكل منهما وظيفة يؤديها، وهما حاجتان من حاجات البشر، لا تغني إحداهما عن الأخرى. (3)
فهم الدين على طريقة السلف قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى.
ومنابع الإسلام في سذاجته التي ورد بها من صاحب الدين نفسه هي: الكتاب، وقليل من السنة في العمل.
هذا هو الأصل الذي ينبغي أن يرد إليه الدين الإسلامي في مذهب أستاذنا.
ولما كان الثابت بالتواتر من السنة قليلا، فقد صرح الشيخ في تفسير سورة الفاتحة «أنه يجب أن يكون القرآن أصلا تحمل عليه المذهب والآراء في الدين.»
لهذا توجهت عزيمة الشيخ في أخريات حياته إلى العناية بتفسير القرآن عناية كانت تكاد تستغرق كل مجهوده للإصلاح الديني.
وجهة الطرافة في تفسير الأستاذ هي حسن الطريقة في البحث ولطف التصوير لمعاني القرآن على ما يوافق ذوق هذه العصور وإدراكها حاجاتها. والشيخ في كلا الأمرين متأثر بمنهاج الفكر الحديث.
ولا شك أن الشيخ قد تأثر بالحياة الغربية على وجه ما في حياته العقلية ومعيشته الخاصة، ذلك بأنه تعلم اللغة الفرنسية وسافر إلى أوروبا عدة مرات، وعاشر الأوروبيين في مصر وفي غير مصر، فاستفاد من مخالطته وسياحاته ومن مطالعاته لكتب الغربيين في الفنون المختلفة، وظهر أثر ذلك في أفكاره وكتاباته ودعواته الإصلاحية. •••
ولا يسع المؤرخ حين يترجم للشيخ محمد عبده أن يغفل الإشارة إلى ما بلغه الرجل في حياته من عز وجاه وحرمة موفورة، كان للشيخ محمد عبده خصوم يكرهونه ويكيدون له ويضعون له العقبات في سبيل إصلاحه، ولكن أحدا لم يكن يستطيع أن يغض من جلال الشيخ أو ينكر عليه منزلته الرفيعة في النفوس.
كان الشيخ محمد عبده بين الطوائف الراقية من المصريين وبين طوائف الأجانب في مصر محبوبا معظما معترفا له بمقام الإمامة الذي لا يساميه مقام، وانتشر صيته في أقطار الشرق وتوجهت إليه الأنظار.
ولو شاء الشيخ محمد عبده لكان ذا غنى، ولترك لأرملته المحترمة المريضة ثروة تكفل لها من بعده رفه الشيخوخة وتصونها من ذلة العسر، ولكن الأستاذ الإمام كان أكبر نفسا وأشد احتقارا للدنيا من أن يبذل جهده في جمع المال، فعاش عظيما فقيرا، ومات فقيرا عظيما.
العروة الوثقى
المقالات والفصول
فاتحة الجريدة
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير . •••
هذا ما تمده العناية الإلهية من قول الحق، متعلقا بأحوال الشرق، وعلى الله المتكل في نجاح العمل.
خفيت مذاهب الطامعين أزمانا ثم ظهرت، بدأت على طرق ربما لا تنكرها الأنفس ثم التوت، أوغل الأقوياء من الأمم في سيرهم بالضعفاء حتى تجاوزوا بيداء الفكر، وسحروا ألبابهم حتى أذهلوهم عن أنفسهم وخرجوا بهم عن محيط النظام، وبلغوا بهم من الضيم حدا لا تحتمله النفوس البشرية.
ذهب أقوام إلى ما يسوله الوهم، ويغري به شيطان الخيال، فظنوا أن القوة الآلية، وإن قل عمالها، يدوم لها سلطان على الكثرة العددية وإن اتفقت آحادها، بل زعموا أنه يمكن استهلاك الجم الغفير في النزر اليسير، وهو زعم يأباه القياس، بل يبطله البرهان: فإن تقلبات الحوادث في الأزمان البعيدة والقريبة ناطقة بأنه إن ساغ أن عشيرة قليلة العدد فنيت في سواد أمة عظيمة، ونسيت تلك العشيرة اسمها ونسبتها، فلم يجز في زمن من الأزمان إمحاء أمة أو ملة كبيرة بقوة أمة تماثلها في العدد أو تكون منها على نسبة متقاربة، وإن بلغت القوة أقصى ما يمثله الخيال.
والذي يحكم به العقل الصريح ويشهد به سير الاجتماع الإنساني، من يوم علم تاريخه إلى اليوم؛ أن الأمم الكبيرة إذا عراها ضعف لافتراق في الكلمة، وغفلة في عاقبة لا تحمد، أو ركون إلى راحة لا تدوم، أو افتتان بنعيم يزول؛ ثم صالت عليها قوة أجنبية، أزعجتها ونبهتها بعض التنبيه، فإذا توالت عليها وخزات الحوادث، وأقلقتها آلامها؛ فزعت إلى استبقاء الموجود ورد المفقود، ولم تجد بدا من طلب النجاة من أي سبيل، وعند ذلك تحس بقوتها الحقيقية، وهي ما تكون بالتئام أفرادها، والتحام آحادها، وأن الإلهام الإلهي والإحساس الفطري والتعليم الشرعي ترشدها إلى أن لا حاجة لها إلى ما وراء هذا الاتحاد، وهو أيسر شيء عليها.
إن النفوس الإنسانية، وإن بلغت من فساد الطبع والعادة ما بلغت، إذا كثر عديدها تحت جامعة معروفة لا تحتمل الضيم إلا إلى حد يدخل تحت الطاقة ويسعه الإمكان، فإذا تجاوز الاستطاعة كرت النفوس إلى قواها، واستأسد ذئبها، وتنمر ثعلبها، والتمست خلاصها، ولن تعدم عند الطلب رشادا.
ربما تخطئ مرة فتكون عليها الدائرة، لكن ما يصيبها من زلة الخطأ يلهمها تدارك ما فرط والاحتراس من الوقوع في مثله، فتصيب أخرى فيكون لهم الظفر والغلبة، وإن الحركة التي تنبعث لدفع ما لا يطاق إذا قام بتدبيرها قيم عليها، ومدبر لسيرها، لا يكفي في توقيف سريانها أو محو آثارها، قهر ذاك القيم وإهلاك ذاك المدبر، فإن العلة ما دامت موجودة لا تزال آثارها تصدر عنها، فإن ذهب قيم خلفه آخر أوسع منه خبرة وأنفذ بصيرة، نعم، يمكن تخفيف الأثر أو إزالته بإزالة علته ورفع أسبابه.
جرت عادة الأمم أن تأنف من الخضوع لمن يباينها في الأخلاق والعادات والمشارب، وإن لم يكلفها بزائد عما كانت تدين به لمن هو على شاكلتها، فكيف بها إذا حملها ما لا طاقة لها به؟ لا ريب أنها تستنكره، وإن كانت تستكبره، وكلما أنكرته بعدت عن الميل إليه، وكلما ابتعدت منه بجهة كونه غريبا تقرب بعضها من بعض، فعند ذلك تستصغره فتلفظه كما تلفظ النواة، وما كان ذلك بغريب.
إن مجاوزة الحد في تعميم الاعتداء تنسي الأمم ما بينها من الاختلاف في الجنسية والمشرب، فترى الاتحاد لدفع ما يعمها من الخطر ألزم من التحزب للجنس والمذهب، وفي هذه الحالة تكون دعوة الطبيعة البشرية إلى الاتفاق أشد من دعوتها إليه للاشتراك في طلب المنفعة.
أبعد هذا يأخذنا العجب إذا أحسسنا بحركة فكرية في أغلب أنحاء المشرق في هذه الأيام؟! كل يطلب خلاصا ويبتغي نجاة، وينتحل لذلك من الوسائل والأسباب ما يصل إليه فكره على درجته من الجودة والأفن، وإن العقلاء في كثير من أصقاعه يتفكرون في جعل القوى المتفرقة قوة واحدة يمكن لها القيام بحقوق الكل.
بلي، كان هذا أمرا ينتظره المستبصر وإن عمي عنه الطامع. وليس في الإمكان إقناع الطامعين بالبرهان، ولكن ما يأتي به الزمان من عاداته في أبنائه، بل ما يجري به القضاء الإلهي من سنة الله في خلقه؛ سيكشف لهم وهمهم فيما كانوا يظنون.
بلغ الإجحاف بالشرقيين غايته، ووصل العدوان فيهم نهايته، وأدرك المتغلب منهم نكايته، خصوصا في المسلمين منهم، فمنهم ملوك أنزلوا عن عروشهم جورا، وذوو حقوق في الإمرة حرموا حقوقهم ظلما، وأعزاء باتوا أذلاء وأجلاء أصبحوا حقراء، وأغنياء أمسوا فقراء، وأصحاء أضحوا سقاما، وأسود تحولت أنعاما، ولم تبق طبقة من الطبقات إلا وقد مسها الضر من إفراط الطامعين في أطماعهم، خصوصا من جراء هذه الحوادث التي بذرت بذورها في الأراضي المصرية من نحو خمس سنوات بأيدي ذوي المطامع فيها، حملوا إلى البلاد ما لا تعرفه فدهشت عقولها، وشدوا عليها بما لا تألفه فحارت ألبابها، وألزموها ما ليس في قدرتها فاستعصت عليه قواها، وخضدوا من شوكة الوازع تحت اسم العدالة ليهيئوا بكل ذلك وسيلة لنيل المطمع؛ فكانت الحركة العرابية العشواء فاتخذوها ذريعة لما كانوا طالبين، فاندفع بهم سيل المصاعب، بل طوفان المصائب، على تلك البلاد، وظنوا بلوغ الأرب، ولكن أخطأ الظن وهموا بما لم ينالوا.
لم تكد تخمد تلك الحركة في بادئ النظر حتى خلفتها حركة أخرى، وفتح باب كان مسدودا، وقام قائم بدعوة لها المكانة الأولى في نفوس المسلمين، بل هي بقية آمالهم، ولا ندري الآن ماذا تستعقبه هذه الحركة الجديدة، وربما يوجد من يدري أن مسببيها في حيرة من تلافيها، نعم إنهم غرسوا غرسا، إلا أنهم سيجنون، أو هم الآن يجنون منه حنظلا ويطعمون منه زقوما، لا جرم هذه هي العواقب التي لا محيص عنها لمن يغالي في طمعه ويغلغل في حرصه، ولو أنهم تركوا الأمر من ذاك الوقت لأربابه وفوضوا تدارك كل حادث للخبراء به والقادرين عليه العارفين بطرق مدافعته أو اقتناء فائدته؛ لحفظوا بذلك مصالحهم، ونالوا ما كانوا يشتهون من المنافع الوافرة بدون أن تزل لهم قدم أو ينكس لهم علم.
غير أنهم ركبوا الشطط وغرهم ما وجدوا من تفرق الكلمة وتشتت الأهواء، وهو أنفذ عواملهم وأقتلها، وما علموا أنه وإن كان ذريع الفتك إلا أنه سريع العطب، وما أسرع أن يتحول عند اشتداد الخطوب إلى عامل وحدة يسدد لقلوب المعتدين، فإن بلاء الجور إذا حل بشطر من الأمة وعوفي منه باقيها؛ كانت سلامة البعض تعزية للمصابين وحجاب غفلة للسالمين يحول بينهم وبين الإحساس بما أصاب إخوانهم، أما إذا عم الضرر فلا محالة يحيط بهم الضجر، ويعز عليهم الصبر فيندفعوا إلى ما فيه خيرهم، ولا خير فيه لغيرهم.
إن الحالة السيئة التي أصبحت فيها الديار المصرية لم يسهل احتمالها على نفوس المسلمين عموما. إن مصر تعتبر عندهم من الأراضي المقدسة ولها في قلوبهم منزلة لا يحلها سواها؛ نظرا لموقعها من الممالك الإسلامية، ولأنها باب الحرمين الشريفين، فإن كان هذا الباب أمينا كانت خواطر المسلمين مطمئنة على تلك البقاع، وإلا اضطربت أفكارهم وكانوا في ريب من سلامة ركن عظيم من أركان الديانة الإسلامية.
إن الخطر الذي ألم بمصر نغرت له أحشاء المسلمين، وتكلمت به قلوبهم، ولن تزال آلامه تستفزهم ما دام الجرح نغارا، وما هذا بغريب على المسلمين؛ فإن رابطتهم الملية أقوى من روابط الجنسية واللغة، وما دام القرآن يتلى بينهم وفي آياته ما لا يذهب على أفهام قارئيه فلن يستطيع الدهر أن يذلهم.
إن الفجيعة بمصر حركت أشجانا كانت كامنة، وجددت أحزانا لم تكن بالحسبان، وسرى الألم في أرواح المسلمين سريان الاعتقاد في مداركهم، وهم من تذكار الماضي ومراقبة الحاضر يتنفسون الصعداء، ولا نأمن أن يصير التنفس زفيرا، بل نفيرا عاما، بل يكون صاخة تمزق مسامع من أصمه الطمع.
إن أولى المتغلبين بالاحتراس من هذه العواقب جيل من الناس لا كتائب له في فتوحاته إلا المداهاة، ولا فيالق يسوقها للاستملاك سوى المحاباة، ولا أسنة يحفظ بها ما تمتد إليه يده إلا المراضاة، يظهر بصور مختلفة الألوان متقاربة الأشكال كحافظ عروش الملوك والمدافع عن ممالكهم ومثبت مراكز الأمراء ومسكن الفتن ومخلص الحكومات من غوائل العصيان وواقي مصالح المغلوبين، فكان أول ما يجب عليه ملاحظته في سيره هذا أن لا يأتي من أعماله بما يهتك هذا الستر الرقيق الذي يكفي لتمزيقه رجع البصر وكر النظر، وأن يتحاشى العنف مع أمة يشهد تاريخها بأنها إذا حنقت خنقت، وليس له أن يغتر بعدم مكنتهم وهو يعلم أن الكلمة إذا اتحدت لا تعوزها الوسائط ولا يعدم المتحدون قويا شديد البأس يساعدهم بما يلزمهم لترويج سياسته، وإن المغيظ لا يبالي في الإيقاع بمناوئه أسلم أو عطب، فهو يضر ليضر، إن مسه الضر.
إلا أن غشية النهم ذهبت بعقول المنهومين ووقرت أسماعهم عن حسيس الهمسات المتراسلة من الهند إلى مكة ومن مكة إلى مصر، والكرير
1
الممتد من مصر إلى مكة ومن مكة إلى الهند، وكلها تتلاقى بين تراقي المغرورين بقوتهم المسترسلين في جفوتهم.
إن الرزايا الأخيرة التي حلت بأهم مواقع الشرق جددت الروابط وقاربت بين الأقطار المتباعدة بحدودها المتصلة بجامعة الاعتقاد بين ساكنيها، فأيقظت أفكار العقلاء وحولت أنظارهم لما سيكون من عاقبة أمرهم، مع ملاحظة العلل التي أدت بهم إلى ما هم فيه، فتقاربوا في النظر وتواصلوا في طلب الحق وعمدوا إلى معالجة الحق وعلل الضعف، راجين أن يسترجعوا بعض ما فقدوا من القوة ومؤملين أن تمهد لهم الحوادث سبيلا حسنا يسلكونه لوقاية الدين والشرف، وإن في الحاضر منها لنهزة تغتنم وإليها بسطوا أكفهم، لا يخالونها تفوتهم، ولئن فاتت فكم في الغيب من مثلها، وإلى الله عاقبة الأمور.
تألفت عصبات خير من أولئك العقلاء لهذا المقصد الجليل في عدة أقطار، خصوصا البلاد الهندية والمصرية، وطفقوا يتحسسون أسباب النجاح من كل وجه، ويوحدون كلمة الحق في كل صقع، لا ينون في السعي ولا يقصرون في الجهد، ولو أفضى بهم ذلك إلى أقصى ما يشفق منه حي على حياته.
ولما كانت بدايتهم تستدعي مساعدة من يضارعهم في مثل حالهم؛ رأوا أن يعقدوا الروابط الأكيدة مع الذين يتململون من مصابهم ويحبون العدالة العامة ويحامون عنها من أهالي أوروبا، وكتبوا على أنفسهم النظر في أمر السلطة العامة الإسلامية وفروض القائم بها، وبما أن مكة المكرمة مبعث الدين ومناط اليقين وفيها موسم الحجيج العام في كل عام يجتمع إليه الشرقي والغربي، ويتآخى في مواقعها الطاهرة الجليل والحقير والغني والفقير؛ كانت أفضل مدينة تتوارد إليها أفكارهم ثم تنبث إلى سائر الجهات - والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل.
ولما كان نيل الغاية على وجه أبعد من الخطر وأقرب إلى الظفر؛ يستدعي أن يكون للداعي في كل قلب سليم نفثة حق ودعوة صدق؛ طلبوا عدة طرق لنشر أفكارهم بين من خفي عن شأنهم من إخوانهم، واختاروا أن يكون لهم في هذه الأيام جريدة بأشرف لسان عندهم وهو اللسان العربي، وأن تكون في مدينة حرة كمدينة باريس ليتمكنوا بواسطتها من بث آرائهم وتوصيل أصواتهم إلى الأقطار القاصية؛ تنبيها للغافل وتذكيرا للذاهل، فرغبوا إلى السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني أن ينشئ تلك الجريدة بحيث تتبع مشربهم وتذهب مذهبهم، فلبى رغبتهم، بل نادى حقا واجبا عليه لدينه ووطنه، وكلف الشيخ محمد عبده أن يكون رئيس تحريرها، فكان ما حمل الأول على الإجابة حمل الثاني على الامتثال - وعلى الله الاتكال في جميع الأحوال.
الجريدة ومنهجها
سيأتي في خدمة الشرقيين على ما في الإمكان من بيان الواجبات التي كان التفريط فيها موجبا للسقوط والضعف، وتوضيح الطرق التي يجب سلوكها لتدارك ما فات، والاحتراس من غوائل ما هو آت.
ويستتبع ذلك البحث في أصول الأسباب ومناشئ العلل التي قصرت بهم إلى جانب التفريط والبواعث التي دفعت بهم إلى مهامه حيرة عميت فيها السبل، واشتبهت بها المضارب، وتاه فيها الخريت،
2
وضل المرشد حتى لا يدري السالكون من أين تفجعهم الطوارق المفزعة والمزعجات المدهشة والمدهشات القاتلة.
وتكشف الغطاء ما استطاعت عن الشبه التي شغلت أوهام المترفين، ولبست عليهم مسالك الرشد، وتزيح الوساوس التي أخذت بعقول المنعمين حتى أورثتهم اليأس من مداواة علاتهم وشفاء أدوائهم، وظنوا أن زمان التدارك قد فات وأن العناية بلغت حدها.
وتحاول إشراب الأفهام أن لا حاجة في الوصول إلى نقطة الخلاص المرغوبة إلى قطع دائرة عظيمة، تصورها يوجب فتور الهمم وانحطاط العزائم، وأن تخيل تلك الدائرة الواسعة إنما عرض من الإدبار عن المطلوب وهو تحت الجناح ويكفي في الوصول إليه عطفة نظر وقطع بعض خطوات قصيرة.
وإن الظهور في مظهر القوة لدفع الكوارث إنما يلزم له التمسك ببعض الأصول التي كان عليها آباء الشرقيين وأسلافهم، وهي ما تمسكت به أعز دولة أوروبية وأمنعها، ولا ضرورة في إيجاد المنعة إلى اجتماع الوسائط وسلوك المسالك التي جمعها وسلكها بعض الدول الغربية الأخرى، ولا ملجئ للشرقي في بدايته أن يقف موقف الأوروبي في نهايته، بل ليس له أن يطلب ذلك، وفيما مضى أصدق شاهد على أن من طلبه فقد أوقر نفسه وأمته وقرا أعجزها وأعوزها.
وتنبه على أن التكافؤ في القوى الذاتية والمكتسبة هو الحافظ للعلاقات والروابط السياسية، فإن فقد التكافؤ لم تكن الرابطة إلا وسيلة القوي لابتلاع الضعيف، وتجعل إهاب الوداد المرقش بألوان الملاطفة المدبج بأشكال المجاملة شفافا ينم عما وراءه، وتنقب عن المسالك الدقيقة التي يسري بها الطامعون في دياجر الغفلات.
وتهتم بدفع ما يرمى به الشرقيون عموما والمسلمون خصوصا من التهم الباطلة، التي يوجهها إليهم من لا خبرة له بحالهم ولا وقوف على حقائق أمورهم، وإبطال زعم الزاعمين أن المسلمين لا يتقدمون إلى المدنية ما داموا على أصولهم التي فاز بها آباؤهم الأولون، ولا تهن في تبليغ الشرقيين ما يمسهم من حوادث السياسة العمومية وما يتداوله السياسيون في شئونهم مع اختيار الصادق، وانتقاء الثابت، وتراعي في جميع سيرها تقوية الصلات العمومية بين الأمم وتمكين الألفة في أفرادها وتأييد المنافع المشتركة بينها والسياسيات القويمة التي لا تميل إلى الحيف والإجحاف بحقوق الشرقيين.
ومع كل هذا، فهذه الجريدة تتبع سير الداعين إليها والحاملين عليها، لا تظهر إذا أدلجوا، ولا تنجد إذا غوروا، وتذهب مذاهب الرشد، وتصيب - بحول الله - مواقعه عند من سبق في أزلي علم الله هدايته، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وترسل إلى الذين نعرف أسماءهم مجانا بدون مقابل ليتداولها الأمير والحقير والغني والفقير، ومن لم يصل إلينا اسمه فما عليه إلا أن يكتب إلى إدارة الجريدة بالاسم المعروف به ومحل إقامته على النهج الذي يريده، والله الموفق.
الفصل الأول
الجنسية والديانة الإسلامية
إن استقراء حال الأفراد من كل أمة واستطلاع أهوائها؛ يثبت لجلي النظر ودقيقه وجود تعصب للجنس ونعرة عليه عند الأغلب منهم، وإن المتعصب لجنسه منهم ليتيه بمفاخر بنيه ويغضب لما يمسهم حتى يقتل دون دفعه بدون تنبه منه لطلب السبب ولا بحث في علة هذا الوجدان، حتى ظن كثيرون من طلاب الحقيقة أن التعصب للجنس من الوجدانيات الطبيعية، إلا أنه يبعد ظنهم ما نراه في حال طفل ولد في أمة من الأمم ثم نقل قبل التمييز إلى أرض أمة أخرى وربي فيها إلى أن عقل ولم يذكر له مولده، فإنا لا نرى في طبعه ميلا إليه، بل يكون خالي الذهن من قبله، ويكون مع سائر الأقطار سواء، بل ربما كان آلف لمرباه وأميل إليه؛ والطبيعي لا يتغير.
ولهذا لا نذهب إلى أنه طبيعي، ولكن قد يكون من الملكات العارضة على الأنفس، ترسمها على ألواحها الضرورات؛ فإن الإنسان في أي أرض له حاجات جمة، وفي أفراده ميل إلى الاختصاص والاستئثار بالمنفعة إذا لم يصبغوا بتربية زكية، وسعة المطمع إذا صحبها اقتدار تدعو بطبعها إلى العدوان؛ فلهذا صار بعض الناس عرضة لاعتداء بعض آخر، فاضطروا بعد منازلة الشرور أحقابا طوالا إلى الاعتصاب بلحمة النسب على درجات متفاوتة حتى وصلوا إلى الأجناس، فتوزعوا أمما كالهندي والإنجليزي والروسي والتركماني، ونحو ذلك، ليكون كل قبيل منهم بقوة أفراده المتلاحمة قادرا على صيانة منافعه وحفظ حقوقه من تعدي القبيل الآخر، ثم تجاوزوا في ذلك حد الضرورة - كما هي عادة الإنسان في أطواره - فذهبوا إلى حد أن يأنف كل قبيل من سلطة الآخر عليه، علما بأنه لا بد أن يكون جائرا إذا حكم، ولئن عدل فإن في قبول حكمه ذلا تحس به النفس، وينفعل له القلب.
فلو زالت الضرورة لهذا النوع من العصبية؛ تبع هو الضرورة في الزوال كما تبعها في الحدوث - بلا ريب - وتبطل الضرورة بالاعتماد على حاكم تتصاغر لديه القوى وتتضاءل لعظمته القدرة وتخضع لسلطته النفوس بالطمع، وتكون بالنسبة إليه متساوية الأقدام وهو مبدأ الكل وقهار السماوات والأرض، ثم يكون القائم من قبله بتنفيذ أحكامه مساهما للكافة في الاستكانة والرضوخ لأحكام أحكم الحاكمين، فإذا أذعنت الأنفس بوجود الحاكم الأعلى وأيقنت بمشاركة القيم على أحكامه لعامتهم في التضامن، لما أمر به؛ اطمأنت في حفظ الحق ودفع الشر إلى صاحب هذه السلطة المقدسة، واستغنت عن عصبية الجنس لعدم الحاجة إليها فمحي أثرها من النفوس، والحكم لله العلي الكبير.
هذا هو السر في إعراض المسلمين - على اختلاف أقطارهم - عن اعتبار الجنسيات، ورفضهم أي نوع من أنواع العصبيات ما عدا عصبتهم الإسلامية؛ فإن المتدين بالدين الإسلامي متى رسخ فيه اعتقاده يلهو عن جنسه وشعبه ويلتفت عن الروابط الخاصة إلى العلاقة العامة، وهي علاقة المعتقد.
لأن الدين الإسلامي لم تكن أصوله قاصرة على دعوة الخلق إلى الحق، وملاحظة أحوال النفوس من جهة كونها روحانية مطلوبة من هذا العالم الأدنى إلى عالم أعلى، بل هي كما كانت كافلة لهذا؛ جاءت وافية بوضع حدود المعاملات بين العباد وبيان الحقوق كليها وجزئيها، وتحديد السلطة الوازعة التي تقوم بتنفيذ المشروعات وإقامة الحدود وتعيين شروطها، حتى لا يكون القابض على زمامها إلا من أشد الناس خضوعا لها، ولن ينالها بوراثة ولا امتياز في جنس أو قبيلة أو قوة بدنية وثروة مالية، وإنما ينالها بالوقوف عند أحكام الشريعة والقدرة على تنفيذها ورضاء الأمة، فيكون وازع المسلمين في الحقيقة شريعتهم المقدسة الإلهية التي لا تميز بين جنس وجنس واجتماع آراء الأمة، وليس للوازع أدنى امتياز عنهم إلا بكونه أحرصهم على حفظ الشريعة والدفاع عنها .
وكل فخار تكسبه الأنساب وكل امتياز تفيده الأحساب لم يجعل له الشارع أثرا في وقاية الحقوق وحماية الأرواح والأموال والأعراض، بل كل رابطة سوى رابطة الشريعة الحقة فهي ممقوتة على لسان الشارع، والمعتمد عليها مذموم والمتعصب لها ملوم، فقد قال
صلى الله عليه وسلم : «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية»، والأحاديث النبوية والآيات المنزلة متضافرة في هذا، ولكن يمتاز بالكرامة والاحترام من يفوق الكافة في التقوى - اتباع الشريعة: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، ومن ثم قام بأمر المسلمين في كثير من الأزمان على اختلاف الأجيال؛ من لا شرف له في جنسه، ولا امتياز له في قبيله، ولا ورث الملك عن آبائه، ولا طلبه بشيء من حسبه ونسبه، وما رفعه إلى منصة الحكم إلا خضوعه للشرع وعنايته بالمحافظة عليه.
وإن بسطة ملك الوازعين في المسلمين كان يسديها إليهم على حسب امتثالهم للأحكام الإلهية، واهتدائهم بهديها، وتجردهم عن الاعتلاء الشخصي، وكلما أراد الوازع أن يختص نفسه بما يفوق به غيره، في أبهته ورفاهة معيشته، وأن يستأثر على المحكومين بحظ زائد؛ رجعت الأجناس إلى تعصبها ووقع الاختلاف، وانقبضت سلطة ذاك الوازع.
هذا ما أرشدنا إليه سير المسلمين من يوم نشأة دينهم إلى الآن، لا يعتدون برابطة الشعوب وعصبات الأجناس، وإنما ينظرون إلى جامعة الدين؛ لهذا ترى العربي لا ينفر من سلطة التركي، والفارسي يقبل سيادة العربي، والهندي يذعن لرياسة الأفغاني، ولا اشمئزاز عند أحد منهم ولا انقباض، وأن المسلم في تبدل حكوماته لا يأنف ولا يستنكر ما يعرض عليه من أشكالها وانتقالها من قبيل إلى قبيل ما دام صاحب الحكم حافظا لشأن الشريعة ذاهبا مذاهبها. نعم، إذا نبأ في سيره عنها وجار في حكمه عما نصت عليه وطلب الأثرة بما ليس من حقه؛ انصدعت منه القلوب، وانحرفت عن محبته الأنفس، وأصبح وإن كان وطنيا فيهم أشنع حالا من الأجنبي عنهم.
إن المسلمين اختصوا من بين سائر أرباب الأديان بالتأثر والأسف عندما يسمعون بانفصال بقعة إسلامية عن حكم إسلامي بدون التفات إلى جنسها وقبيلها.
ولو أن حاكما صغيرا بين قوم مسلمين من أي جنس كان تبع الأوامر الإلهية وثابر على رعايتها، وأخذ الدهماء بحدودها وضرب بسهمه مع المحكومين في الخضوع لها، وتجافى عن الاختصاص بمزايا الفخفخة الباطلة؛ لأمكنه أن يحوز بسطة في الملك وعظمة في السلطان، وأن ينال الغاية من رفعة الشأن في الأقطار المعمورة بأرباب هذا الدين، ولا يتجشم في ذلك أتعابا ولا يحتاج إلى بذل النفقات ولا تكثير الجيوش، ولا مظاهرة الدول العظيمة ولا مداخلة أعوان التمدن وأنصار الحرية ... ويستغني عن كل هذا بالسير على نهج الخلفاء الراشدين والرجوع إلى الأصول الأولى في الديانة الإسلامية القويمة، ومن سيره هذا تنبعث القوة وتتجدد لوازم المنعة، أكرر عليك القول بأن السبب هو أن الدين الإسلامي لم تكن وجهته كوجهة سائر الأديان إلى الآخرة فقط، ولكن مع ذلك أتى بما فيه مصلحة العباد في دنياهم وما يكسبهم السعادة في الدنيا والنعيم في الآخرة، وهو المعبر عنه في الإصلاح الشرعي بسعادة الدارين، وجاء بالمساواة في أحكامه بين الأجناس المتباينة والأمم المختلفة.
ابيضت عين الدهر وامتقع لون الزمان حتى أصاب أن بعضا من المسلمين على حكم الندرة يعز عليهم الصبر، ويضيق منهم الصدر لجور حكامهم وخروجهم في معاملتهم عن أصول العدالة الشرعية، فيلجئون للدخول تحت سلطة أجنبية، على أن الندم يأخذ بأرواحهم عند أول خطوة يخطونها في هذا الطريق، فمثلهم كمثل من يريد الفتك بنفسه حتى إذا أحس بالألم رجع واسترجع ... وإن بعض ما يطرأ على الممالك الإسلامية من الانقسام والتفريق إنما يكون منشأه قصور الوازعين وحيدانهم عن الأصول القويمة التي بنيت عليها الديانة الإسلامية، وانحرافهم عن مناهج أسلافهم الأقدمين، فإن منابذة الأصول الثابتة والنكوب عن المناهج المألوفة؛ أشد ما يكون ضررهما بالسلطة العليا، فإذا رجع الوازعون في الإسلام إلى قواعد شرعهم وساروا سيرة الأولين السابقين، لم يمض قليل من الزمان إلا وقد آتاهم بسطة في الملك وألحقهم في العزة بالراشدين أئمة الدين - وفقنا الله للسداد، وهدانا طريق الرشاد.
الفصل الثاني
ماضي الأمة وحاضرها وعلاج عللها
1
سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا . •••
أرأيت أمة من الأمم لم تكن شيئا مذكورا، ثم انشق عنها عماء العدم، فإذا هي بحمية كل واحد منها كون بديع النظام قوي الأركان شديد البنيان، عليها سياج من شدة البأس ويحيطها سور من منعة الهمم، تخمد في ساحاتها عاصفات النوازل، وتنحل بأيدي مديريها عقد المشاكل، نمت فيها أفنان العزة بعدما ثبتت أصولها ورسخت جذورها، وامتد لها السلطان على البعيد عنها والداني إليها، ونفذت منها الشوكة وعلت لها الكلمة وكملت القوة، فاستعلت آدابها على الآداب وسادت أخلاقها وعاداتها على ما كان من ذلك لسابقيها ومعاصريها، وأحست مشاعر سواها من الأمم بأن لا سعادة إلا في انتهاج منهجها وورود شريعتها، وصارت وهي قليلة العدد كثيرة الساحات كأنها للعالم روح مدبر وهو لها بدن عامل.
وبعد هذا كله وهى بناؤها وانتثر منظومها وتفرقت فيها الأهواء وانشقت العصا، وتبدد ما كان مجتمعا وانحل ما كان منعقدا، وانفصمت عرى التعاون وانقطعت روابط التعاضد، وانصرفت عزائم أفرادها عما يحفظ وجودها، ودار كل في محيط شخصه المحدود بنهايات بدنه، لا يلمح في مناظره بارقة من حقوقها الكلية والجزئية، وهو في غيبة عن أن ضروريات حاجاته لا تنال إلا على أيدي الملتحمين معه بلحمة الأمة، وأنه أحوج إلى شد عضدهم من تقوية ساعده، وإلى توفير خيرهم من تنمية رزقه، وكأنه بهذه الغيبة في سبات يخاله الناظر إليه صحوا، وذبول يظنه المغرور زهوا، وأخذ القنوط بآمال أولئك المدهوشين فأبادها، وحدثت فيهم قناعة التهم والرضا بكل حال.
ولئن تنبه خاطر للحق في خيال أحدهم أو استفزه داع من قلبه إلى ما يكسب ملته شرفا أو يعيد إليها مجدا عده هوسا وهذيانا أصيب به من ضعف في المزاج أو خلل في البنية، أو حسب أنه لو أجاب داعي الذمة لعاد عليه بالوبال وأورده موارد الهلكة ، أو لصار من أقرب الأسباب لزوال نعمته ونكد معيشته، ويحكم لنفسه سلاسل من الجبن وأغلالا من اليأس، فتغل يداه عن العمل وتقف قدماه عن السعي، ويحس بعد ذلك بغاية العجز عن كل ما فيه خيره وصالحه، ويقصر نظره عن درك ما أتى أسلافه من قبل، وتجمد قريحته عن فهم ما قام به أولئك الآباء الذين تركوه خليفة على ما كسبوا وقيما على ما أورثوه لأعقابهم، ويبلغ هذا المرض من الأمة حدا يشرف بها على الهلاك ويطرحها على فراش الموت فريسة لكل عاد وطعمة لكل طاعم.
نعم، رأيت كثيرا من الأمم لم تكن ثم كانت، وارتفعت ثم انحطت، وقويت ثم ضعفت، وعزت ثم ذلت، وصحت ثم مرضت، ولكن أليس لكل علة دواء؟ بلى.
واأسفا ما أصعب الداء! وما أعز الدواء! وما أقل العارفين بطرق العلاج! كيف يمكن جمع الكلمة بعد افتراقها وهي لم تفترق إلا لأن كلا عكف على شأنه ... أستغفر الله. لو كان له شأن يعكف عليه لما انفصل عن أخيه وهو أشد أعضائه اتصالا به، ولكنه صرف لشئون غيره وهو يظنها من شئون نفسه، نعم، ربما التفت كل إلى ما هو في فطرة كل حي من ملاحظة حفظ حياته بمادة غذائه، وهو لا يدري من أي وجه يحصلها ولا بأية طريقة يكون في أمن عليها، كيف تبعث الهمم بعد موتها وما ماتت إلا بعدما سكنت زمنا غير قصير إلى ما ليس من معاليها؟ هل من السهل رد التائه إلى الصراط المستقيم وهو يعتقد أن الفوز في سلوك سواه، خصوصا بعدما استدبر المقصد، وفي كل خطوة يظن أنه على مقربة من الحظوة؟ كيف يمكن تنبيه المستغرق في منامه المبتهج بأحلامه، وفي أذنه وقر وفي ملامسه خدر؟ هل من صيحة تقرع قلوب الآحاد المتفرقة من أمة عظيمة تتباعد أنحاؤها وتتنائى أطرافها وتتباين عاداتها وطبائعها؟ هل من نبأة تجمع أهواءها المتفرقة وتوحد آراءها المتخالفة بعدما تراكم جهل وران غبن، وخيل للعقول أن كل قريب بعيد وكل سهل وعر؟ ايم الله، إنه لشيء عسير يعيى في علاجه النطاسي، ويحار فيه الحكيم البصير.
هل يمكن تعيين الدواء إلا بعد الوقوف على أصل الداء وأسبابه الأولى والعوارض التي طرأت عليه، إن كان المرض في أمة، فكيف يمكن الوصول إلى علله وأسبابه إلا بعد معرفة عمرها وما اعتراها فيه من تنقل الأحوال وتنوع الأطوار؟ أيمكن لطبيب يعالج شخصا بعينه أن يختار له نوعا من العلاج قبل أن يعرف ما عرض له من قبل في حياته، ليكون على بينة من حقيقة المرض، وإلا فإن كثيرا من الأمراض تتولد جراثيمها في طور من أطوار العمر ثم لا تظهر إلا في طور آخر لتغلب قوة الطبيعة على مادة المرض فلا يبدو أثرها؟ كلا، إنه ليصعب على الطبيب الماهر تشخيص علة لشخص واحد سنو عمره محدودة وعوارض حياته محصورة، فكيف بمن يريد مداواة ملة طويلة الأجل وافرة العدد؟ لهذا يندر في أجيال وجود بعض رجال يقومون بإحياء أمة أو إرجاع شرفها ومجدها إليها، وإن كان المتشبهون بهم كثيرين، وكما أن المتطبب القاصر في الأمراض البدنية لا يزيد علاجه المرض إلا شدة لولا مساعدة الاتفاق والصدفة، بل ربما يفضي بالمريض إلى الموت، كذلك يكون حال الذين يقومون بتعديل أخلاق الأمم على غير خبرة تامة بشأنها وموجب اعتلالها، ووجوه العلة فيها وأنواعها، وما يكتنف ذلك من العادات، وما يوجد في أفرادها من المذاهب والاعتقادات، وحوادثها المتتابعة على اختلاف مواقعها من الأرض، ومكانتها الأولى من الرفعة، ودرجتها الحالية من الضعة، وتدرجها فيما بين المنزلتين، فإن أخطأ طالب إصلاحها في اكتناه شيء مما ذكرنا تحول الدواء داء والوجود فناء.
فمن له حظ في الكمال الإنساني ولم يطمس من قلبه موضع الإلهام الإلهي؛ لا يجرؤ على القيام بما يسمونه تربية الأمم وإصلاح ما فسد منها، وهو يحس من نفسه أدنى قصور في أداء هذا الأمر العظيم علما أو عملا. نعم، يكون ذلك من محبي الفخفخة الباطلة وطلاب العيش في ظل وظائف ليسوا من حقوقها في شيء.
ظن قوم في هذه الأزمان أن أمراض الأمم تعالج بنشر الجرائد، وأنها تكفل إنهاض الأمم وتنبيه الأفكار وتقويم الأخلاق ... كيف يصدق هذا الظن، وإنا لو فرضنا أن كتاب الجرائد لا يقصدون بما يكتبون إلا نجاح الأمم مع التنزه عن الأغراض، فبعدما عم الذهول واستولت الدهشة على العقول وقل القارئون والكاتبون؛ لا تجد لها قارئا، ولئن وجدت القارئ فقلما تجد الفاهم، والفاهم قد يحمل ما يجده على غير ما يراد منه لضيق في التصور أو ميل مع الهوى، فلا يكون منه إلا سوء التأثير، فيشبه غذاء لا يلائم الطبع فيزيد الضرر أضعافا، على أن الهمة إذا كانت في درك الهبوط، فمن يستطيع تفهيمها فائدة الجرائد حتى تتجه منها الرغبات لاستطلاع ما فيها مع قصر المدة وتدفق سيول الحوادث، إن هذا وحقك لعزيز.
ويظن قوم آخرون أن الأمة المنبثة في أقطار واسعة من الأرض مع تفرق أهوائها وإخلادها إلى ما دون رتبتها بدرجات لا تحصر، ورضاها بالدون من العيش والتماس الشرف بالانتماء لمن ليس من جنسها ولا من مشربها، بل لمن كان خاضعا لسيادتها راضخا لأحكامها؛ مع هذا كله يتم شفاؤها من هذه الأمراض القاتلة بإنشاء المدارس العمومية دفعة واحدة في كل بقعة من بقاعها، وتكون على الطراز الجديد المعروف بأوروبا حتى تعم المعارف جميع الأفراد في زمن قريب، ومتى عمت المعارف كملت الأخلاق واتحدت الكلمة واجتمعت القوة، وما أبعد ما يظنون، فإن هذا العمل العظيم إنما يقوم به سلطان قوي قاهر يحمل الأمة على ما تكره أزمانا حتى تذوق لذته وتجني ثمرته، ثم يكون ميلها الصادق من بعد نائبا عن سلطته في تنفيذ ما أراد من خيرها، ويلزم له ثروة وافرة تفي بنفقات تلك المدارس وهي كثيرة، وموضوع كلامنا في الضعف ودوائه، فهل مع الضعف سلطة تقهر وثروة تغني؟ ولو كان للأمة هذان لما عدت من الساقطين.
فإن قالوا: يمكن التدريج مع الاستمرار والثبات؛ وافقناهم على الإمكان، لولا ما يكون من طمع الأقوياء حتى لا يدعوا لهم سبيلا لأن يستنشقوا نسيم القوة، فأين الزمان لنجاح تلك الوسائل البطيئة الأثر؟
على أنا لو فرضنا مسالمة الدهر، ومنحت الأمة مدة من الزمان تكفي لبث تلك العلوم في بعض الأفراد والاستزادة منها شيئا فشيئا، فهل يصح الحكم بأن هذا التدرج يفيدها فائدة جوهرية، وأن ما يصيبه البعض منها يهيئه للكمال اللائق به ويمكنه من القيام بإرشاد الباقي من أبناء أمته؟ واعجبا! كيف يكون هذا وإن الأمة في بعد عن معرفة تلك العلوم الغريبة عنها؟ وكيف بذرت بذورها، وكيف نبتت واستوت على سوقها وأينعت وأثمرت؟ وبأي ماء سقيت وبأي تربة غذيت، ولا وقوف لها على الغاية التي قصدت منها في مناشئها، ولا خبرة لها بما يترتب عليها من الثمرات؟ وإن وصل إليها طرف من ذلك فإنما يكون ظاهرا من القول لا نبأ عن الحقيقة، فهل مع هذا يصيب الظن بأن مفاجأة بعض الأفراد بها وسوقها إلى أذهانهم المشحونة بغيرها، يقوم من أفكارهم ويعدل من أخلاقهم ويهديهم طرق الرشاد في إفادة إخوانهم؟
لعل الأقرب أن ناقلي تلك العلوم، وهم من أمة هذا شأنها مع ما ينعكس إليهم من الأوهام المألوفة فيها، وما رسخ في نفوسهم على عهد الصبا، وما يعظمونه من أمر الأمة التي تلقوا عنها علومهم؛ يكونون بين أمتهم كخلط غريب لا يزيد طبائعها إلا فسادا.
ماذا يكون من أولئك الناشئين في علوم لم تكن ينابيعها من صدورهم ولو صدقوا في خدمة أوطانهم، يكون منهم ما تعطيه حالهم، يؤدون ما تعلموه كما سمعوه، لا يراعون فيه النسبة بينه وبين مشارب الأمة وطباعها وما مرنت عليه من عاداتها، فيستعملونه على غير وضعه، ولبعدهم عن أصله ولهوهم بحاضره عن ماضيه وغفلتهم عن آتيه يظنونه على ما بلغهم هو الكمال لكل نفس والحياة لكل روح، فيرومون من الصغير ما لا يرام إلا من الكبير وبالعكس، غير ناظرين إلا إلى صور ما تعلموه ولا مفكرين في استعداد من يعرض عليهم وهل يكون له من طباعهم مكان يحمد أو يزيدها على ما بها أضعافا، وما هذا إلا لكونهم ليسوا أربابها، وإنما هم لها نقلة وحملة.
فهؤلاء الصادقون - إلا من وفقه الله منهم بعنايته الإلهية - يكون مثلهم كمثل والدة حنون يلذ لها غذاء فتفيض منه على ولدها وهو رضيع ليساهمها في اللذة، وسنه سن اللبان لا يقبل سواه، فيسرع إليه المرض وينتهي به إلى التلف، فتكون منزلتهم من الأمة منزلة الآلة المحللة يشتتون بقية الجمع ويبددون أخريات الالتئام، إن كان الفساد أبقى للقوم بعض الروابط، فهؤلاء المغرورون يغشونهم بما يذهلهم عنها، وما قصدوا إلا خيرا إن كانوا مخلصين، ويوسعون بذلك الخصاص
2
حتى تعود أبوابا، ويباعدون ما بين الضفاف حتى تصير ميادين لتداخل الأجانب فيهم تحت اسم النصحاء وعنوان المصلحين، ويذهبون بأمتهم إلى الفناء والاضمحلال وبئس المصير.
شيد العثمانيون والمصريون عددا من المدارس على النمط الجديد، وبعثوا بطوائف منهم إلى البلاد الغربية ليحملوا ما يحتاجون إليه من العلوم والمعارف والصنائع والآداب، وكل ما يسمونه تمدنا، وهو في الحقيقة تمدن للبلاد التي نشأ فيها على نظام الطبيعة وسير الاجتماع الإنساني، هل انتفع المصريون والعثمانيون بما قدموا لأنفسهم من ذلك وقد مضت عليهم أزمان غير قصيرة؟ هل صاروا أحسن حالا مما كانوا عليه قبل التمسك بهذا الحبل الجديد؟ هل استنقذوا أنفسهم من أنياب الفقر والفاقة؟ هل نجوا بها من ورطات ما يلجئهم إليه الأجانب بتصرفاتهم؟ هل أحكموا الحصون وسدوا الثغور؟ هل نالوا بها من المنعة ما يدفع عنهم غارة الأعداء عليهم؟ هل بلغوا من البصر بالعواقب والتصرف في الأفكار حدا يميل عزائم الطامعين عنهم؟ هل وجدت فيهم قلوب مازجتها روح الحياة الوطنية فهي تؤثر مصلحة البلاد على كل مصلحة وتطلبها وإن تجاوزت محيط الحياة الدنيا، وإن بادت في سبيلها خلفها وارث على شاكلتها - كما كان في كثير من الأمم؟
نعم، ربما وجد بينهم أفراد يتفيهقون بألفاظ الحرية والوطنية والجنسية وما شاكلها، ويصوغونها في عبارات متقطعة بتراء لا تعرف غايتها ولا تعلم بدايتها، ووسموا أنفسهم زعماء الحرية أو بسمة أخرى على حسب ما يختارون، ووقفوا عند هذا الحد، ومنهم آخرون عمدوا إلى العمل بما وصل إليهم من العلم فقلبوا أوضاع المباني والمساكن وبدلوا هيئات المآكل والملابس والفراش والآنية وسائر الماعون، وتنافسوا في تطبيقها على أجود ما يكون منها في الممالك الأجنبية، وعدوها من مفاخرهم وعرضوها معرض المباهاة؛ فنسفوا بذلك ثروتهم إلى غير بلادهم، واعتاضوا عنها أعراض الزينة مما يروق منظره ولا يحمد أثره، فأماتوا أرباب الصنائع من قومهم وأهلكوا العاملين في المهن لعدم اقتدارهم أن يقوموا بكل ما تستدعيه تلك العلوم الجديدة من الحاجيات الجديدة والكماليات الجديدة؛ لأن مصانعهم لم تتحول إلى الطراز الجديد، وأيديهم لم تتعود على الصنع الجديد، وثروتهم لا تسع جلب الآلات الجديدة من البلاد البعيدة، وهذا جدع لأنف الأمة، يشوه وجهها ويحط شأنها، وما كان هذا إلا لأن تلك العلوم وضعت فيهم على غير أساسها وفجأتهم قبل أوانها.
علمتنا التجارب ونطقت مواضي الحوادث بأن المقلدين من كل أمة، المنتحلين أطوار غيرها، يكونون فيها منافذ وكوى لتطرق الأعداء إليها، وتكون مداركهم مهابط الوساوس ومخازن الدسائس، بل يكونون، بما أفعمت أفئدتهم من تعظيم الذين قلدوهم واحتقار من لم يكن على مثالهم؛ شؤما على أبناء أمتهم يذلونهم ويحتقرون ويستهينون بجميع أعمالهم وإن جلت، وإن بقي في بعض رجال الأمة بقية من الشمم أو نزوع إلى معالي الهمم؛ انصبوا عليه وأرغموا من أنفه حتى يمحى أثر الشهامة وتخمد حرارة الغيرة ويصير أولئك المقلدون طلائع لجيوش الغالبين، وأرباب الغارات يمهدون لهم السبيل ويفتحون الأبواب ثم يثبتون أقدامهم ويمكنون سلطتهم، ذلك بأنهم لا يعلمون فضلا لغيرهم ولا يظنون أن قوة تغالب قواهم.
أقول - ولا أخشى لوما: لو كان في البلاد الأفغانية عدد قليل من تلك الطلائع عندما تغلب على بعض أراضيها الإنجليز لما بارحوها أبد الآبدين، فإن نتيجة العلم عند هؤلاء ليست إلا توطيد المسالك والركون إلى قوة مقلديهم واستقبال مشارق فنونهم، فيبالغون في تطمين النفوس وتسكين القلوب حتى يزيلوا الوحشة التي قد يصون بها الناس حقوقهم ويحفظون بها استقلالهم؛ ولهذا، لو طرق الأجانب أرضا لأية أمة ترى هؤلاء المتعلمين فيها يقبلون عليهم، ويعرضون أنفسهم لخدمتهم بعد الاستبشار بقدومهم، ويكونون بطانة لهم ومواضع لثقتهم، كأنما هم منهم! ويعدون الغلبة الأجنبية في بلادهم مباركة عليهم وعلى أعقابهم. •••
فما الحيلة وما الوسيلة، والجرائد بعيدة الفائدة ضعيفة الأثر لو صحت الضمائر فيها، والعلوم الجديدة لسوء استعمالها رأينا ما رأينا من آثارها، والوقت ضيق والخطب شديد ... أي جهوري من الأصوات يوقظ الراقدين على حشايا الغفلات؟ أي قاصفة تزعج الطباع الجامدة وتحرك الأفكار الخامدة؟ أي نفخة تبعث هذه الأرواح في أجسادها وتحشرها إلى مواقف صلاحها وفلاحها؟ الأقطار فسيحة الجوانب بعيدة المناكب، المواصلات عسرة بين الشرقي والغربي والجنوبي والشمالي، الرءوس مطرقة إلى ما تحت القدم أو منغضة إلى ما فوق السماء، ليس للأبصار جولان إلى الأمام والخلف واليمين والشمال، ولا للأسماع إصغاء، ولا للنفوس رغبات وللأهواء تحكم وللوساوس سلطان.
ماذا يصنع المشفقون على الأمة والزمن قصير؟ ماذا يحاولون والأخطار محدقة بهم؟ بأي سبب يتمكنون ورسل المنايا على أبوابهم؟ لا أطيل عليك بحثا ولا أذهب بك في مجالات بعيدة من البيان، ولكني أستلفت نظرك إلى سبب يجمع الأسباب ووسيلة تحيط بالوسائل، أرسل فكرك إلى نشأة الأمة التي خملت بعد النباهة، وضعفت بعد القوة، واسترقت بعد السيادة وضيمت بعد المنعة، وتبين أسباب نهوضها الأول حتى تتبين مضارب الخلل وجراثيم العلل، فقد يكون ما جمع كلمتها وأنهض همم آحادها ولحم ما بين أفرادها، وصعد بها إلى مكانة تشرف منها على رءوس الأمم وتسوسهم، وهي في مقامها بدقيق حكمتها؛ إنما هو دين قويم الأصول محكم القواعد شامل لأنواع الحكم، باعث على الألفة داع إلى المحبة مزك للنفوس، مطهر للقلوب من أدران الخسائس، منور للعقول بإشراق الحق من مطالع قضاياه، كافل لكل ما يحتاج إليه الإنسان من مباني الاجتماعات البشرية، وحافظ وجودها، وينادي بمعتقديه إلى جميع فروع المدنية.
فإن كانت هذه شرعتها ولها وردت وعنها صدرت، فما تراه من عارض خللها وهبوطها عن مكانتها إنما يكون من طرح تلك الأصول ونبذها ظهريا وحدوث بدع ليست منها في شيء، أقامها المعتقدون مقام الأصول الثابتة، وأعرضوا عما يرشد إليه الدين وعما أتى لأجله وما أعدته الحكمة الإلهية له، حتى لم يبق منه إلا أسماء تذكر وعبارات تقرأ، فتكون هذه المحدثات حجابا بين الأمة وبين الحق الذي تشعر بندائه أحيانا بين جوانحها.
فعلاجها الناجع إنما يكون برجوعها إلى قواعد دينها والأخذ بأحكامه على ما كان في بدايته، وإرشاد العامة بمواعظه الوافية بتطهير القلوب وتهذيب الأخلاق، وإيقاد نيران الغيرة، وجمع الكلمة، وبيع الأرواح لشرف الأمة، ولأن جرثومة الدين متأصلة في النفوس بالوراثة من أحقاب طويلة، والقلوب مطمئنة إليه، وفي زواياها نور خفي من محبته؛ فلا يحتاج القائم بإحياء الأمة إلا إلى نفخة واحدة يسري نفثها في جميع الأرواح لأقرب وقت، فإذا قاموا لشئونهم ووضعوا أقدامهم على طريق نجاحهم وجعلوا أصول دينهم الحقة نصب أعينهم؛ فلا يعجزهم بعد أن يبلغوا بسيرهم منتهى الكمال الإنساني.
ومن طلب إصلاح أمة - شأنها ما ذكرنا - بوسيلة سوى هذه؛ فقد ركب بها شططا، وجعل النهاية بداية وانعكست التربية وخالف فيها نظام الوجود، فينعكس عليه القصد ولا يزيد الأمة إلا نحسا ولا يكسبها إلا تعسا.
هل تعجب أيها القارئ من قولي: إن الأصول الدينية الحقة المبرأة عن محدثات البدع تنشئ للأمم قوة الاتحاد وائتلاف الشمل وتفضيل الشرف على لذة الحياة، وتبعثها على اقتناء الفضائل وتوسيع دائرة المعارف، وتنتهي بها إلى أقصى غاية في المدنية؟ إن عجبت فإن عجبي من عجبك أشد! هل نسيت تاريخ الأمة العربية وما كانت عليه قبل بعثة الدين من الهمجية والشتات وإتيان الدنايا والمنكرات، حتى إذا جاءها الدين فوحدها وقواها وهذبها ونور عقولها وقوم أخلاقها وسدد أحكامها، فسادت على العالم وساست من تولته بسياسة العدل والإنصاف، وبعد أن كانت عقول أبنائها في غفلة عن لوازم المدينة ومقتضياتها نبهتها شريعتها وآيات دينها إلى طلب الفنون المتنوعة والتبحر فيها، ونقلوا إلى ديارهم طب بقراط وجالينوس وهندسة إقليدس وهيئة بطليموس وحكمة أفلاطون وأرسطو، وما كانوا قبل الدين في شيء من هذا، وكل أمة سادت تحت هذا اللواء إنما كانت قوتها ومدنيتها في التمسك بأصول دينها؟
وقد تكون نشأة الأمة قائمة بدعوة الملك وافتتاح الأقطار وطلب السيادة على الأمصار، وتلك الدعوة؛ لما تستدعيه من عظم الهمم وارتفاع النفوس عن الدنايا وبعد الغايات وعلو المقاصد؛ هي التي هذبت أخلاقهم، وقومت أفكارهم، وكفتهم عن معاطاة الرذائل وخسائس الأمور وسوافلها، ثم بعد مضي زمان من نشأتها أصابها من الانحطاط ما أصابها.
فبيان أسباب الخلل فيها وعلاته نفرد له فصلا مستقلا في عدد آخر - إن شاء الله، وهو الموفق للصواب.
الفصل الثالث
النصرانية والإسلام وأهلهما
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . •••
خلق الله الإنسان عالما صناعيا، ويسر له سبيل العمل لنفسه، وهداه للإبداع والاختراع، وقدر له الرزق من صنع يديه، بل جعله ركن وجوده، ودعامة بقائه، فهو على جميع أحواله من ضيق وسعة، وخشونة ورفاهة، وتبد وحضارة؛ صنيعة أعماله ... أقواته من معالجة الأرض بالزراعة أو قيامه على الماشية، وسرابيله وما يقيه الحر والبرد والوجى من عمل يديه نسجا أو خصفا، وأكنانه ومساكنه ليست إلا مظاهر تقديره وتفكيره، وجميع ما يفتتن فيه من دواعي ترفه ونعيمه إنما هي صور أعماله ومجالي أفكاره، ولو نفض يديه من العمل لنفسه ساعة من الزمان وبسط أكفه للطبيعة؛ ليستجديها نفسا من حياة، لشحت به عليه، بل دفعته إلى هاوية العدم، وهو في صنعه وإبداعه محتاج إلى أستاذ يثقفه وهاد يرشده، فكما يعمل لتوفير لوازم معيشته وحاجات حياته يعمل ليعلم كيف يعمل، وليقتدر على أن يعمل، فصنعته أيضا من صنعه، فهو في جميع شئونه الحيوية عالم صناعي كأنه منفصل عن الطبيعة بعيد عن آثارها، حاجته إليها كحاجة العامل لآلة العمل. هذا هو الإنسان في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه.
دعه في هذه الحالة وخذ طريقا من النظر إلى أحواله النفسية؛ من الإدراك والتعقل والأخلاق والملكات والانفعالات الروحية؛ تجده فيها أيضا عالما صناعيا: شجاعته وجبنه، جزعه وصبره، كرمه وبخله، شهامته ونذالته، قسوته ولينه، عفته وشرهه، وما يشبهها من الكمالات والنقائص جميعها تابع لما يصادفه في تربيته الأولى، وما يودع في نفسه من أحوال الذين نشأ فيهم وتربى بينهم، ومرامي أفكاره، ومناهج تعقله، ومذاهب ميله، ومطامع رغباته، ونزوعه إلى الأسرار الإلهية أو ركونه إلى البحث في الخواص الطبيعية، وعنايته باكتشاف الحقيقة في كل شيء، أو وقوفه عند بادئ الرأي فيه، وكل ما يرتبط بالحركات الفكرية إنما هي ودائع اختزنها لديه الآباء والأمهات، والأقوام والعشائر والمخالطون.
وأما هواء المولد والمربي ونوع المزاج، وشكل الدماغ وتركيب البدن، وسائر الغواشي الطبيعية؛ فلا أثر له في الأعراض النفسية والصفات الروحانية إلا ما يكون في الاستعداد والقابلية، على ضعف في ذلك الأثر، فإن التربية وما ينطبع في النفس من أحوال المعاشرين وأفكار المثقفين تذهب به كأن لم يكن أودع في الطبع، نعم إن أفكارا تتجدد، ومعقولات من أخرى تتولد، وصفات تسمو، وهمما تعلو، حتى يفوق اللاحقون فيها السابقين، ويظن أن هذا من تصرف الطبيعة لا من آثار الاكتساب، ولكن الحق فيه أن ثمرة ما غرس ونتيجة ما كسب فهو مصنوع يتبع مصنوعا، فالإنسان في عقله وصفات روحه عالم صناعي.
هذا مما لا يرتاب عليه العقلاء والسذج، ولكن هل تذكرت - مع هذا - أن الأعمال البدنية، إنما تصدر عن الملكات والعزائم الروحية، وأن الروح هي السلطان القاهر على البدن؟ أظنك لا تحتاج فيه إلى تذكير؛ لأنه مما لا يغرب عن الأذهان. إنما قبل الدخول في موضوعنا أقول كلمة حق في الدين، ولا أظن منكرا يجحدها:
إن الدين وضع إلهي، ومعلمه والداعي إليه البشر، تتلقاه العقول عن المبشرين المنذرين، فهو مكسوب لمن لم يختصهم الله بالوحي، ومنقول عنهم بالبلاغ والدراسة والتعليم والتلقين، وهو عند جميع الأمم أول ما يمتزج بالقلوب، ويرسخ في الأفئدة، وتصبغ النفوس بعقائده وما يتبعها من الملكات والعادات، وتتمرن الأبدان على ما ينشأ عنه من الأعمال عظيمها وحقيرها، فله السلطة الأولى على الأفكار وما يطاوعها من العزائم والإرادات، فهو سلطان الروح ومرشدها إلى ما تدبر به بدنها، وكأنما الإنسان في نشأته لوح صقيل، وأول ما يخط في رسم الدين، ثم ينبعث إلى سائر الأعمال بدعوته وإرشاده، وما يطرأ على النفوس من غيره؛ فإنما هو نادر شاذ، حتى لو خرج مارق عن دينه لم يستطع الخروج عما أحدثه فيه من الصفات، بل تبقى طبعته فيه كأثر الجرح في البشرة بعد الاندمال. •••
وبعد هذا، فموضوع بحثنا الآن الملة المسيحية والملة الإسلامية، وهو بحث طويل الذيل، وإنما نأتي فيه على إجمال ينبئك عن تفصيل أن الديانة المسيحية بنيت على المسالمة والمياسرة في كل شيء، وجاءت برفع القصاص واطراح الملك والسلطة، ونبذ الدنيا وبهرجها، ووعظت بوجوب الخضوع لكل سلطان يحكم المتدين بها، وترك أموال السلاطين للسلاطين، والابتعاد عن المنازعات الشخصية والجنسية، بل والدينية.
ومن وصايا الإنجيل: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر»، ومن أخباره: أن الملوك إنما ولايتهم على الأجساد وهي فانية، والولاية الحقيقية الباقية على الأرواح هي لله وحده، فمن يقف على مباني هذه الديانة، ويلاحظ ما قلنا من أن الدين صاحب الشوكة العظمى على الأفكار، مع ملاحظة أن لكل خيال أثرا في الإرادة يتبعه حركة في البدن على حسبه؛ يعجب كل العجب من أطوار الآخذين بهذا الدين السلمي، المنتسبين في عقائدهم إليه؛ فإنهم يتسابقون في المفاخرة والمباهاة بزينة هذه الحياة ورفه العيش فيها، ولا يقفون عند حد في استيفاء لذاتها، ويسارعون إلى افتتاح الممالك، والتغلب على الأقطار الشاسعة، ويخترعون كل يوم فنا جديدا من فنون الحرب، ويبدعون في اختراع الآلات الحربية القاتلة، ويستعملها بعضهم في بعض، ويصولون بها على غيرهم، ويبالغون في ترتيب الجيوش وتدبير سوقها في ميادين القتال، ويصرفون عقولهم في إحكام نظامها، حتى وصلوا غاية صار بها الفن العسكري من أوسع الفنون وأصعبها، وإن أصول دينهم صارفة لعقولهم عن العناية بحفظ أملاكهم، فضلا عن الالتفات إلى طلب غيرها.
الديانة الإسلامية وضع أساسها على طلب الغلب والشوكة والافتتاح والعزة، ورفض كل قانون يخالف شريعتها، ونبذ كل سلطة لا يكون القائم بها صاحب الولاية على تنفيذ أحكامها، فالناظر في أصول هذه الديانة، ومن يقرأ سورة من كتابها المنزل؛ يحكم حكما لا ريب فيه بأن المعتقدين بها لا بد أن يكونوا أول ملة حربية في العالم، وأن يسبقوا جميع الملل إلى اختراع الآلات القاتلة، وإتقان العلوم العسكرية، والتبحر فيما يلزمها من الفنون كالطبيعة والكمياء وجر الأثقال والهندسة وغيرها، ومن تأمل في آية
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة
أيقن أن من صبغ بهذا الدين فقد صبغ بحب الغلبة، وطلب كل وسيلة إلى ما يسهل له سبيلها، والسعي إليها بقدر الطاقة البشرية، فضلا عن الاعتصام بالمنعة والامتناع من تغلب غيره عليه. ومن لاحظ أن الشرع الإسلامي حرم المراهنة إلا في السباقة والرماية، انكشف مقدار رغبة الشارع في معرفة الفنون العسكرية والتمرن عليها.
ولكن مع كل ذلك تأخذه الدهشة من أحوال المتمسكين بهذا الدين لهذه الأوقات؛ إذ يراهم يتهاونون بالقوة، ويتساهلون في طلب لوازمها، وليست لهم عناية بالبراعة في فنون القتال ولا في اختراع الآلات، حتى فاقتهم الأمم سواهم فيما كان أول واجب عليهم، واضطروا لتقليدها فيما يحتاجون إليه من تلك الفنون والآلات، وسقط كثير منهم تحت سلطة مخالفيهم واستكانوا لها ورضخوا لأحكامها، ومن وازن بين الديانتين حار فكره، كيف اخترع مدفع الكروب والمتراليوز، وغيرهما؛ بأيدي أبناء الديانة الأولى قبل الثانية! وكيف وجدت بندقية مارتين في ديار الأولين، قبل وجودها عند الآخرين! وكيف أحكمت الحصون، ودرعت البواخر، وأخذت مغالق البحار بسواعد أهل السلامة والسلم، دون أهل الغلبة والحرب؟!
لم لا يحار الحكيم وإن كان نطاسيا؟! لم لا يقف الخبير دون استكناه الحقيقة؟! هل القرون الخالية والأحقاب الماضية لم تكن كافية لرسوخ الديانتين في نفوس المتمسكين بعراهما؟ هل نبذت كل ملة من الملتين عقائد دينها ظهريا من أجيال بعيدة؟ هل اقتصر النصارى في دينهم على الأخذ بشريعة موسى، واقتفاء سيرة يوشع بن نون؟ هل تخللت بعض آيات الإنجيل من حيث يدرى ولا يدرى بين الخطب والمواعظ التي تتلى على منابر المسلمين، أو ألقي شيء منها في أماني معلميهم وناشري شريعتهم عندما يتربعون في محافل دروسهم؟ هل تبدلت سنة الله في الملتين، هل تحول مجرى الطبيعة فيهما؟ هل استبدت الأبدان فيهما على الأرواح؟ أو وجد للأرواح دبير سوى الفكر والخيال؟ أو انفلتت الأفكار من سلطة الدين؟ أو تعاصت النفوس عن الانتقاش بنقشته، وهو أول حاكم عليها وأقوى مؤثر فيها؟ هل تتخلف العلل عن معلولاتها؟ هل تنقطع النسب بين الأسباب ومسبباتها؟ ماذا عساه يرشد العقول إلى كشف المساتير وحل المعميات؟
أينسب هذا إلى اختلاف الأجناس، وكثير من أبناء الملتين يرجعون إلى أصول واحدة، ويتقاربون في الأنساب الدانية؟ أينسب هذا إلى اختلاف الأقطار، وكثير من القبيلين يتشابهون في طبائع البلدان، ويتجاورون في مواقع الأمكنة؟ ألم يصدر من المسلمين وهم في شبيبة دينهم أعمال بهرت الأبصار، وأدهشت الألباب؟ ألم يكن منهم مثل فارس والعرب والترك الذين دوخوا الممالك واستووا على كرسي السيادة فيها ... كان للمسلمين في الحروب الصليبية آلات نارية أشباه المدافع، فزع لها المسيحيون، وغابوا عن معرفة أسبابها. ذكر ملكام سرجم «إنجليزي» في تاريخ فارس: أن محمودا القزنوني كان يحارب وثنيي الهند بالمدافع، وكانت هي الأسباب في انهزامهم بين يديه سنة 400 من الهجرة، وما كان المسيحيون لذلك العهد يعرفون شيئا منها.
فأي عون من الدهر أخذ بأيدي الملة المسيحية فقدمها إلى ما لم يكن في قواعد دينها؟ وأي صدمة من صدماته دفعت في صدور المسلمين فأخرتهم عن تعاطي الوسائل لما هو أول مفروض في دينهم؟ مقام للحيرة وموضع للعجب! ويظن أن لا بد لهذا التخالف من سبب، نعم، وتفصيله يطول، ولكن نجمل على ما شرطنا أن الدين المسيحي إنما امتد ظله وعمت دعوته في الممالك الأوروبية من أبناء الرومانيين، وهم على عقائد وآداب وملكات وعادات ورثوها عن أديانهم السابقة، وعلومهم وشرائعهم الأولى، وجاء الدين المسيحي إليهم مسالما لعوائدهم ومذاهب عقولهم، وداخلهم من طرق الإقناع ومسارقة الخواطر لا من مطارق البأس والقوة، فكان كالطراز على مطارفهم، ولم يسلبهم ما ورثوه عن أسلافهم، ومع هذا فإن صحف الإنجيل الداعية إلى السلامة والسلم لم تكن لسابق العهد مما يتناوله الكافة من الناس، بل كانت مذخورة عند الرؤساء الروحانيين.
ثم إن الأحبار الرومانيين لما أقاموا أنفسهم في منصب التشريع، وسنوا محاربة الصليب، ودعوا إليها دعوة الدين؛ التحمت آثارها في النفوس بالعقائد الدينية، وجرت منها مجرى الأصول، ولحقها على الأثر تزعزع عقائد المسيحيين في أوروبا، وافترقوا شيعات وذهبوا مذاهب تنازع الدين في سلطته، وعاد وميض ما أودعه أجدادهم في جراثيم وجودهم ضراما، وتوسعوا في فنون كثيرة، وانفسح لهم مجال الفكر فيها، وكانت براعتهم في الفن العسكري واختراع آلات الحرب والدفاع مساوية لبراعتهم في سائر الفنون.
أما المسلمون، فبعد أن نالوا في نشأة دينهم ما نالوا، وأخذوا من كل كمال حربي حظا، وضربوا في كل فخار عسكري بسهم، بل تقدموا سائر الملل في فنون المقارعة وعلوم النزال والمكافحة؛ ظهر فيهم أقوام بلباس الدين وأبدعوا فيه، وخلطوا بأصوله ما ليس منها، فانتشرت بينهم قواعد الجبر، وضربت في الأذهان حتى اخترقتها، وامتزجت بالنفوس حتى أمسكت بعنانها عن الأعمال، هذا إلى ما أدخله الزنادقة فيما بين القرن الثالث والرابع، وما أحدثه السوفسطائية الذين أنكروا مظاهر الوجود وعدوها خيالات تبدو للنظر ولا تثبتها الحقائق، وما وضعه كذبة النقل من الأحاديث ينسبونها إلى صاحب الشرع
صلى الله عليه وسلم
ويثبتونها في الكتب، وفيها السم القاتل لروح الغيرة، وإن ما يلصق منها بالعقول يوجب ضعفا في الهمم وفتورا في العزائم.
وتحقيق أهل الحق وقيامهم ببيان الصحيح والباطل من كل ذلك لم يرفع تأثيره عن العامة، خصوصا بعد حصول النقص في التعليم، والتقصير في إرشاد الكافة إلى أصول دينهم الحقة ومبانيه الثابتة التي دعا إليها النبي وأصحابه، فلم تكن دراسة الدين على طريقها القويم إلا منحصرة في دوائر مخصوصة وبين فئة ضعيفة، لعل هذا هو العلة في وقوفهم، بل الموجب لتقهقرهم، وهو الذي نعاني من عنائه اليوم ما نسأل الله السلامة منه.
إلا أن هذه العوارض التي غشيت الدين، وصرفت قلوب المسلمين عن رعايته - وإن كان حجابها كثيفا - لكن بينها وبين الاعتقادات الصحيحة التي لم يحرموها بالمرة تدافع دائم وتغالب لا ينقطع، والمنازعة بين الحق والباطل كالمدافعة بين المرض وقوة المزاج، وحيث إن الدين الحق هو أول صبغة صبغ الله بها نفوسهم، ولا يزال وميض برقه يلوح في أفئدتهم بين تلك الغيوم العارضة؛ فلا بد يوما أن يسطع ضياؤه ويقشع سحاب الأغيان.
وما دام القرآن يتلى بين المسلمين وهو كتابهم المنزل وإمامهم الحق، وهو القائم عليهم يأمرهم بحماية حوزتهم والدفاع عن ولايتهم، ومغالبة المعتدين، وطلب المنعة من كل سبيل، لا يعين لها وجها، ولا يخصص لها طريقا ... فإننا لا نرتاب في عودتهم إلى مثل نشأتهم، ونهوضهم إلى مقاضاة الزمان ما سلب منهم، فيتقدمون على من سواهم في فنون الملاحمة والمنازلة والمصاولة حفظا لحقوقهم، وضنا بأنفسهم عن الذل وملتهم عن الضياع، وإلى الله تصير الأمور.
الفصل الرابع
انحطاط المسلمين وسكونهم وسبب ذلك
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا . •••
إن للمسلمين شدة في دينهم، وقوة في إيمانهم، وثباتا على يقينهم، يباهون بها من عداهم من الملل، وإن في عقيدتهم أوثق الأسباب لارتباط بعضهم ببعض، ومما رسخ في نفوسهم أن في الإيمان بالله وما جاء به نبيهم
صلى الله عليه وسلم
كفالة لسعادة الدارين، ومن حرم الإيمان فقد حرم السعادتين، ويشفقون على أحدهم أن يمرق من دينه أشد مما يشفقون عليه من الموت والفناء، وهذه الحالة - كما هي في علمائهم - متمكنة في عامتهم، حتى لو سمع أي شخص منهم في أي بقعة من بقاع الأرض عالما كان أو جاهلا أن واحدا ممن وسم بسمة الإسلام في أي قطر ومن أي جنس صبأ عن دينه؛ رأيت من يصل إليه هذا الخبر في تحرق وتأسف يلهج بالحوقلة والاسترجاع، ويعد النازلة من أعظم المصائب على من نزلت به، بل على جميع من يشاركه في دينه، ولو ذكرت مثل هذه الحادثة في تاريخ وقرأها قارئهم بعد مائين من السنين؛ لا يتمالك قلبه من الاضطراب ودمه من الغليان، ويستفزه الغضب ويدفعه لحكاية ما رأى كأنه يحدث عن غريب أو يحكي عن عجيب.
المسلمون - بحكم شريعتهم ونصوصها الصريحة - مطالبون عند الله بالمحافظة على ما يدخل في ولايتهم من البلدان، وكلهم مأمور بذلك لا فرق بين قريبهم وبعيدهم، ولا بين المتحدين في الجنس ولا المختلفين فيه، وهو فرض عين على كل واحد منهم، إن لم يقم قوم بالحماية عن حوزتهم كان على الجميع أعظم الآثام، ومن فروضهم في سبيل الحماية وحفظ الولاية، بذل الأموال والأرواح، وارتكاب كل صعب، واقتحام كل خطب، ولا يباح لهم المسالمة مع من يغالبهم في حال من الأحوال حتى ينالوا الولاية خاصة لهم من دون غيرهم، وبالغت الشريعة في طلب السيادة منهم على من يخالفهم إلى حد لو عجز المسلم عن التملص من سلطة غيره؛ لوجبت عليه الهجرة من دار حربه، وهذه قواعد مثبتة في الشريعة الإسلامية يعرفها أهل الحق، ولا يغير منها تأويلات أهل الأهواء وأعوان الشهوات في كل زمان.
المسلمون يحث كل واحد منه بهاتف يهتف من بين جنبيه يذكره بما تطالبه به الشريعة، وما يفرض عليه الإيمان، وهو هاتف الحق الذي بقي له من إلهامات دينه، ومع كل هذا نرى أهل هذا الدين في هذه الأيام بعضهم في غفلة عما يلم بالبعض الآخر، ولا يألمون لما يألم له بعضهم، فأهل «بلوجستان» كانوا يرون حركات الإنجليز في «أفغانستان» على مواقع أنظارهم ولا يجيش لهم جأش، ولم تكن لهم نعرة على إخوانهم، والأفغانيون كانوا يشهدون تداخل الإنجليز في بلاد فارس ولا يضجرون ولا يتململون، وإن جنود الإنجليز تضرب في الأراضي المصرية ذهابا وإيابا وتقتل وتفتك، ولا ترى نجدة في نفوس إخوانهم المشرفين على مجاري دمائهم، بل السامعين لخريرها من حلاقيمهم، الذين احمرت أحداقهم من مشاهدها بين أيديهم وتحت أرجلهم وعن شمائلهم.
تمسك المسلمين بتلك العقائد وإحساسهم بداعية الحق في نفوسهم، مع هذه الحالة التي هم عليها؛ مما يقضي بالعجب ويدعو إلى الحيرة، ويسبق إلى بيان السبب، فخذ مجملا عنه: إن الأفكار العقلية والعقائد الدينية وسائر المعلومات والمدركات والوجدانيات النفسية، وإن كانت هي الباعثة على الأعمال وعن حكمها، تصدر بتقدير العزيز العليم؛ لكن الأعمال تثبتها وتقويها وتطبعها في الأنفس عليها حتى يصير ما يعبر عنه بالملكة والخلق، وتترتب عليه الآثار التي تلائمها.
نعم، إن الإنسان إنسان بفكره وعقائده إلا ما ينعكس إلى مرايا عقله من مشاهد نظره ومدركات حواسه يؤثر فيه أشد التأثير، فكل شهود يحدث فكرا ، وكل فكر يكون له أثر في داعية، وعن كل داعية ينشأ عمل، ثم يعود من العمل إلى الفكر، ولا ينقطع الفعل والانفعال بين الأعمال والأفكار، ما دامت الأرواح في الأجساد، وكل قبيل هو للآخر عماد.
إن للأخوة وسائر نسب القرابة صورة عند العقل، ولا أثر لها في الاعتصاب والالتحام لولا ما تبعث عليه الضرورات وتلجئ إليه الحاجات، عن تعاون الأنسباء والعصبة على نيل المنافع، وتضافرهم على دفع المضار، وبعد كرور الأيام على المضافرة والمناصرة تأخذ النسبة من القلب مأخذا يصرفه في آثارها بقية الأجل، ويكون انبساط النفس لعون القريب، وغضاضة القلب لما يصيبه من ضيم أو نكبة جاريا مجرى الوجدانيات الطبيعية، كالإحساس بالجوع والعطش والري والشبع، بل اشتبه أمره على بعض الناظرين فعده طبيعا، فلو أهملت صلة النسب بعد ثبوتها والعلم بها، ولم تدع ضرورات الحياة في وقت من الأوقات إلى ما يمكن تلك الصلة ويؤكدها، أو وجد صاحب النسب من يظاهره في غير نسبه أو ألجأته ضرورة إلى ذلك؛ ذهب أثر تلك الرابطة النفسية، ولم يبق منها إلا صورة في العقل تجري مجرى المحفوظات من الروايات والمنقولات.
وعلى مثال ما ذكرنا في رابطة النسب - وهي أقوى رابطة بين البشر - يكون الأمر في سائر الاعتقادات التي لها أثر في الاجتماع الإنساني من حيث ارتباط بعضه ببعض، إذا لم يصحب العقد الفكري ملجئ الضرورة أو قوة الداعية إلى عمل تنطبع عليه الجارحة وتمرن عليه ويعود أثر تكريره على الفكر حتى يكون هيئة للروح وشكلا من أشكالها، فلن يكون منشأ لآثاره، وإنما يعد في الصور العلمية له رسم يلوح في الذاكرة عند الالتفات إليه - كما قدمنا.
بعد تدبر هذه الأصول البينة والنظر فيها بعين الحكمة؛ يظهر لك السبب في سكون المسلمين إلى ما هم فيه مع شدتهم في دينهم، والعلة في تباطؤهم عن نصرة إخوانهم، وهم أثبت الناس في عقائدهم؛ فإنه لم يبق من جامعة بين المسلمين - في الأغلب - إلا العقيدة الدينية مجردة عما يتبعها من الأعمال، وانقطع التعارف بينهم، وهجر بعضهم بعضا هجرا غير جميل؛ فالعلماء - وهم القائمون على حفظ العقائد وهداية الناس إليها - لا تواصل بينهم ولا تراسل، فالعالم التركي في غيبة عن حال العالم الحجازي فضلا عمن يبعد عنهم، والعالم الهندي في غفلة عن شئون العالم الأفغاني، وهكذا.
بل العلماء من أهل قطر واحد لا ارتباط بينهم ولا صلة تجمعهم، إلا ما يكون بين أفراد العامة لدواع خاصة؛ من صداقة أو قرابة بين أحدهم وآخر، أما في هيئتهم الكلية فلا وحدة لهم، بل لا أنساب بينهم، وكل ينظر إلى نفسه ولا يتجاوزها كأنه كون برأسه.
كما كانت هذه الجفوة وذاك الهجران بين العلماء؛ كانت كذلك بين الملوك والسلاطين من المسلمين، أليس بعجيب أن لا تكون سفارة للعثمانيين في مراكش ولا لمراكش عند العثمانيين؟ أليس بغريب أن لا تكون للدولة العثمانية صلات صحيحة مع الأفغانيين وغيرهم من طوائف المسلمين في المشرق؟
هذا التدابر والتقاطع وإرسال الحبال على الغوارب عم المسلمين، حتى صح أن يقال: لا علاقة بين قوم منهم وقوم ولا بلد وبلد إلا طفيف من الإحساس بأن بعض الشعوب على دينهم ويعتقدون مثل اعتقادهم، وربما يتعرفون مواقع أقطارهم بالصدفة إذا التقى بعضهم ببعض في موسم الحجيج العام، وهذا النوع من الإحساس هو الداعي إلى الأسف وانقباض الصدر إذا شعر مسلم بضياع حق مسلم على يد أجنبي عن ملته، لكنه لضعفه لا يبعث على النهوض لمعاضدته.
كانت الملة كجسم عظيم قوي البنية صحيح المزاج، فنزل به من العوارض ما أضعف الالتئام بين أجزائه، فتداعت للتناثر والانحلال، وكاد كل جزء يكون على حدة وتضمحل هيئة الجسم.
بدأ هذا الانحلال والضعف في روابط الملة الإسلامية عند انفصال الرتبة العلمية عن رتبة الخلافة، وقتما قنع الخلفاء العباسيون باسم الخلافة دون أن يحوزوا شرف العلم والتفقه في الدين والاجتهاد في أصوله وفروعه كما كان الراشدون - رضي الله عنهم.
كثرت بذلك المذاهب وتشعب الخلاف من بداية القرن الثالث من الهجرة إلى حد لم يسبق له مثيل في دين من الأديان، ثم انثلمت وحدة الخلافة فانقسمت إلى أقسام: خلافة عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر والمغرب، وأموية في أطراف الأندلس، تفرقت بهذا كلمة الأمة وانشقت عصاها وانحطت رتبة الخلاف إلى وظيفة الملك، فسقطت هيبتها من النفوس، وخرج طلاب الملك والسلطان يدأبون إليه من وسائل القوة والشوكة ولا يرعون جانب الخلافة.
وزاد الاختلاف شدة وتقطعت الوشائج بينهم بظهور جنكيز خان وأولاده، وتيمورلنك وأحفاده، وإيقاعهم بالمسلمين قتلا وإذلالا حتى أذهلوهم عن أنفسهم، فتفرق الشمل بالكلية وانفصمت عرى الالتئام بين الملوك والعلماء جميعا، وانفرد كل بشأنه أو انصرف إلى ما يليه، فتبدد الجمع إلى آحاد، وافترق الناس فرقا كل فرقة تتبع داعيا إما إلى ملك أو مذهب، فضعفت آثار العقائد التي كانت تدعو إلى الوحدة، وتبعث على اشتباك الوشيجة، وصار ما في العقول منها صورا ذهنية تحويها مخازن الخيال، وتلحظها الذاكرة عند عرض ما في خزائن النفس من المعلومات، ولم يبق من آثارها إلا أسف وحسرة يأخذان بالقلوب عندما تنزل المصائب ببعض المسلمين، بعد أن ينفذ القضاء ويبلغ الخبر إلى المسامع على طول من الزمان، وما هو إلا نوع من الحزن على الفائت، كما يكون على الأموات من الأقارب لا يدعو إلى حركة لتدارك النازلة، ولا دفع الغائلة.
وكان من الواجب على العلماء قياما بحق الوراثة التي شرفوا بها على لسان الشارع، أن ينهضوا لإحياء الرابطة الدينية، ويتداركوا الاختلاف الذي وقع في الملك بتمكين الاتفاق الذي يدعو إليه الدين، ويجعلوا معاقد هذا الاتفاق في مساجدهم ومدارسهم حتى يكون كل مسجد وكل مدرسة مهبطا لروح حياة الوحدة، ويصير كل واحد منهم كحلقة في سلسلة واحدة إذا اهتز أحد أطرافها اضطرب لهزته الطرف الآخر، ويرتبط العلماء والخطباء والأئمة والوعاظ في جميع أنحاء الأرض بعضهم ببعض، ويجعلون لهم مراكز في أقطار مختلفة يرجعون إليها في شئون وحدتهم، ويأخذون بأيدي العامة إلى حيث يرشدهم التنزيل وصحيح الأثر، ويجمعوا أطراف الوشائج إلى معقد واحد يكون مركزه في الأقطار المقدسة وأشرفها معهد بيت الله الحرام، حتى يتمكنوا بذلك من شد أزر الدين وحفظه من قوارع العدوان، والقيام بحاجات الأمة إذا عرض حادث الخلل وتطرق الأجانب للتداخل فيها بما يحط من شأنها، ويكون كذلك أدعى لنشر العلوم وتنوير الأفهام وصيانة الدين من البدع، فإن إحكام الربط إنما يكون بتعيين الدرجات العلمية وتحديد الوظائف، فلو أبدع مبدع أمكن بالتواصل بين الطبقات تدارك بدعته ومحوها قبل فشوها بين العامة، وليس بخاف على المستبصرين ما يتبع هذا من قوة الأمة وعلو كلمتها واقتدارها على دفع ما يغشاها من النوازل.
إلا أنا نأسف غاية الأسف إذا لم تتوجه خواطر العلماء والعقلاء من المسلمين إلى هذه الوسيلة، وهي أقرب الوسائل، وإن التفتت إليها في هذه الأيام طائفة من أرباب الغيرة، ورجاؤنا من ملوك المسلمين وعلمائهم من أهل الحمية والحق أن يؤيدوا هذه الفئة ولا يتوانوا فيما يوحد جمعهم ويجمع شتيتهم، فقد دارستهم التجارب ببيان لا مزيد عليه، وما هو بالعسير عليهم أن يبثوا الدعاة إلى من يبعد عنهم، ويصافحوا بالأكف من هو على مقربة منهم، ويتعرفوا أحوال بعضهم فيما يعود على دينهم وملتهم بفائدة، أو ما يخشى أن يمسها بضرر، ويكونوا بهذا العمل الجليل قد أدوا فريضة وطلبوا سعادة، والرمق باق والآمال مقبلة، وإلى الله المصير.
الفصل الخامس
سبات من له حق ... وحراك من لا حق له
هذه دول أوروبا جميعا ودولة فرنسا خصوصا، شاخصة الأبصار إلى ما أصاب مصالحها وأضاع حقوقها في القطر المصري وأضر بتجارتها فيه، ولا تبدي حركة ولا يسمع لها صوت، إلا همس خفي في الجرائد، والدولة العثمانية وهي شديدة الأزر قوية العضد؛ لما لها من المكانة في قلوب الهنديين، وكل إنجليزي قلبه بين أصابع الدولة العثمانية، وأحشاه مستقرة على أناملها، وفي نظرها أن سلطتها أشرفت على الزوال في الأقطار المصرية، وسيادتها عليها كادت تكون اسما، ومع ذلك لا تأتي عملا ولا تخطو خطوة، سوى أنها اكتفت بإقامة الحجج ورفع الصوت بالاستغاثة لدى الدول حتى أبحها الصياح، وليس من يسمع ولا من يجيب.
وذوو الحقوق في الولاية على مصر والأخذ بزمام الحكم فيها على اختلاف مشاربهم، قد شدت أياديهم بحبال من الآمال، وسلاسل من المخاوف، لا يجدون لهم قرارا على فكر، ولا ثباتا على رأي، وإنما هم بين إعصار من الأوهام، وتيارات من هواجس الخيال، يحملقون إلى مواقع الحوادث، حائرين لا يطرف لهم طرف، ولا يغمض لهم جفن.
وعامة الأهالي في الديار المصرية بين فقر كاد يفضي إلى قحط، واختلاف في النظام، وضعف في السلطة، وخبط في الأحكام، كادت تؤدي إلى يأس من الإصلاح، وقد أخذهم الدوار من التلف إلى جوانبهم طورا ينظرون إلى أحكامهم نظر الآمل في هممهم، وحسن تدبيرهم، وآخر ما وعدتهم به الحكومة الإنجليزية من الجلاء عن أوطانهم، وتركهم وما يدبرون لأنفسهم، والقرعة تضرب عند الأمة البريطانية على ديارهم، بدون أن يجعل لهم فيها سهم، كأنما هم عنها أغراب لا يؤبه بهم، ولا يبالى بشأنهم.
نزاع بين رجال السياسة الإنجليزية، بعضهم يدفع الحكومة للاستيلاء على مصر وإعلان السيادة فيها واستلام أزمة أحكامها، وآخرون يقولون: هذا مما يخالف أحكام الزمن، ولا تسوغه شريعة الوفاء، وإنما علينا أن نحل بها عساكرنا زمنا يكفي لقضاء ما نريده فيها، ثم نخليها إذا لم يوجد موجب يحتم البقاء.
عبارات مختلفة، ومعان متشابهة، يتنازعون وهم متوافقون، ويتخالفون وهم متحدون، يذهبون في انتحال الأسباب لما يبتغون مذاهب مختلفة، فبعض الجرائد كجريدة «التايمز» وما على مشربها تعتل بالجنرال جوردون وتهون ما حل به من الفشل، وتتقدم إلى الحكومة الإنجليزية بطلب إنقاذه من الخطر، ولا وسيلة لخلاصه إلا إعلان الحكومة بالسيادة على البلاد المصرية.
فلهذا الإعلان من القوة المعنوية التي تدافع عن الجنرال ما ليس لجيش عرمرم، أما إرسال الجيوش فهو محال لوعرة السبل وكثرة النفقات وشدة الحرارة، ولئن همت به الحكومة فإنما يكون من أعمال اليأس والقنوط، فهذه الجرائد جعلت هذه المصالح الدولية وحقوق الدولة العثمانية وحقوق ستة ملايين من سكان القطر المصري، فداء لرأس الجنرال جوردون، وفي زعمها أن ما تراه ليس رأيا يبديه أرباب الجرائد بل هو ما تراه الأمة البريطانية بأسرها، وربما لا يكون بعيدا.
وبعض الجرائد - وتشاركهم جريدة «التايمز» - تتذرع فيما تطلب بما حصل لأرباب الديون المصرية من القلق على ديونهم، وليس لهم ضمانة ترفع قلقهم، وتسكن اضطرابهم، إلا إعلان السيادة على القطر المصري، وقوم آخرين منهم يجعلون حجتهم مصائب الأهالي المصريين ورزاياهم وما حل ببلادهم من احتلال، ولا ينقذهم من هذا الشقاء إلا السيادة الإنجليزية.
جميعهم على وفاق على أن هذه السيادة هي الجوهر الثمين والسر المكنون، والإكسير المضنون به على غير أهله، متى أبرزوه لم يبق مريض إلا عوفي، ولا ضعيف إلا قوي، ولا فاسد إلا صلح، كأن في هذا الاسم ما في الرقى والطلاسم، يغني عن الجيوش والأموال والعدة والرجال.
ولا نظن أن يكون في هذا الاسم ما يدعيه الإنجليز من القوة، ولا أن تكون في طيه هذه الأسرار العجيبة، ولو أننا فرضنا تنازل أرباب الحقوق عن حقوقهم من الدول الأوروبية والدولة العثمانية وأرباب الشأن والولاية، وسوغوا لحكومة إنجلترا أن تنقش أحرف السيادة في أوراقها الرسمية أو في هواء الديار؛ فليس من السهل عليها أن تزيد الحامية إلى حد يحفظ ملكا عظيما يتاخم بلاد أوروبا، وقد ظهرت آثار قوتها مدة الحلول وما عاد منها على البلاد.
على أن الأهالي كانوا في سكون تام؛ لركونهم إلى ما تعدهم به حكومة إنجلترا من الجلاء عن أوطانهم، فإذا أعلنت السيادة انقصمت علائق الآمال، وانحرفت القلوب ومالت إلى الدعوة القائمة على القرب منها، وانقلب الكافة إلى الذود عن حقوقهم الوطنية أو الملية، ولا يرهبون القوة الإنجليزية في داخل البلاد بعدما علموا شأنها، ويكون هذا حجة جديدة لمحمد أحمد في تأييد دعواه لدى المصريين، ولا يرعبه اسم السيادة بعدما لم ترهبه جيوش الجنرال هكس وجراهام، وفتكه بالأولى وإلجائه الثانية إلى إخلاء سواحل البحر الأحمر، فأي شأن يكون لهذا الاسم الشريف، نعم يكون بداية مشكل جديد في مصر، والله أعلم بعاقبته.
الفصل السادس
التعصب
اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء . •••
لفظ شغل مناطق الناس خصوصا في البلاد المشرقية، تلوكه الألسن وترمي به الأفواه في المحافل والمجامع ، حتى صار تكأة
1
للمتكلمين، يلجأ إليه العيي
2
في تهتهته،
3
والذملقاني
4
في تفيهقه،
5
أخذ هذا اللفظ بمواقع التعبير، فقلما تكون عبارة إلا وهو فاتحها أو حشوها أو خاتمها، يعدون مسماه علة لكل بلاء، ومنبعا لكل عناء، ويزعمونه حجابا كثيفا وسدا بين المتصفين به وبين الفوز والنجاح، ويجعلونه عنوانا على النقص وعلما للرذائل، والمتسربلون بسرابيل الإفرنج الذاهبون في تقليدهم مذاهب الخبط والخلط لا يميزن بين حق وباطل، هم أحرص الناس على التشدق بهذا البدع الجديد، فتراهم في بيان مفاسد التعصب يهزون الرءوس ويعبثون باللحى ويبرمون السبال، وإذا رموا به شخصا للحط من شأنه أردفوه للتوضيح بلفظ أفرنجي «فناتيك»:
6
فإن عهدوا بشخص نوعا من المخالفة لمشربهم عدوه متعصبا، وهمزوا به وغمزوا ولمزوا، وإذا رأوه عبسوا وبسروا، وشمخوا بأنوفهم كبرا وولوه دبرا، ونادوا عليه بالويل والثبور. ماذا سبق إلى أفهامهم من هذا اللفظ، وماذا اتصل بعقولهم من معناه حتى خالوه مبدأ لكل شناعة، ومصدرا لكل نقيصة، وهل لهم وقوف على شيء من حقيقته؟
التعصب قيام بالعصبية، والعصبية من المصادر النسبية، نسبة إلى العصبة، وهي قوم الرجل الذين يعززون قوته، ويدفعون عنه الضيم والعداء، فالتعصب وصف للنفس الإنسانية، تصدر عنه نهضة لحماية من يتصل بها والذود عن حقه، ووجوه الاتصال تابعة لأحكام النفس في معلوماتها ومعارفها.
هذا الوصف هو الذي شكل الله به الشعوب، وأقام بناء الأمم، وهو عقد الربط في كل أمة، بل هو المزاج الصحيح يوحد المتفرق منها تحت اسم واحد، أو ينشئها بتقدير الله خلقا واحدا، كبدن تألف من أجزاء وعناصر، تدبره روح واحدة، فتكون كشخص يمتاز في أطواره وشئونه وسعادته وشقائه عن سائر الأشخاص.
وهذه الوحدة هي مبعث المباراة بين أمة وأمة، وقبيل وقبيل، ومباهاة كل من الأمتين المتقابلتين بما يتوفر لها من أسباب الرفاهة وهناء العيش، وما تجمعه قواها من وسائل العزة والمنعة، وسمو المقام ونفاذ الكلمة، والتنافس بين الأمم كالتنافس بين الأشخاص، أعظم باعث على بلوغ أقصى درجات الكمال في جميع لوازم الحياة بقدر ما تسعه الطاقة.
التعصب روح كلي مهبطه هيئة الأمة وصورتها، وسائر أرواح الأفراد حواسه ومشاعره، فإذا ألم بأحد المشاعر ما لا يلائمه من أجنبي عنه انفعل الروح الكلي، وجاشت طبيعته لدفعه، فهو لهذا مثار الحمية العامة، ومسعر النعرة الجنسية، هذا هو الذي يرفع نفوس آحاد الأمة عن معاطاة الدنايا وارتكاب الخيانات فيما يعود على الأمة بضرر، أو يئول إلى سوء عاقبة، وإن استقامة الطباع ورسوخ الفضيلة في أمة تكون على حسب درجة التعصب فيها والالتحام بين آحادها، يكون كل منهم بمنزلة عضو سليم من بدن حي، لا يجد الرأس بارتفاعه غنى عن القدم، ولا يرى القدمان في تطرفهما انحطاطا في رتبة الوجود، وإنما كل يؤدي وظائفه لحفظ البدن وبقائه.
وكلما ضعفت قوة الربط بين أفراد الأمة بضعف التعصب فيهم؛ استرخت الأعصاب، ورثت الأطناب، ورقت الأوتار، وتداعى بناء الأمة إلى الانحلال كما يتداعى بناء البنية البدنية إلى الفناء، بعد هذا يموت الروح الكلي، وتبطل هيئة الأمة وإن بقيت آحادها، فما هي إلا كالأجزاء المتناثرة، إما أن تتصل بأبدان أخرى - بحكم ضرورة الكون - وإما أن تبقى في قبضة الموت إلى أن ينفخ فيها روح النشأة الأخرى.
سنة الله في خلقه، إذا ضعفت العصبية في قوم رماهم الله بالفشل، وغفل بعضهم عن بعض، وأعقب الغفلة تقطع في الروابط، وتبعه تقاطع وتدابر، فيتسع للأجانب والعناصر الغريبة مجال التداخل فيهم، ولن تقوم لهم قائمة من بعد حتى يعيدهم الله كما بدأهم بإفاضة روح التعصب في نشأة ثانية.
نعم، إن التعصب وصف كسائر الأوصاف، له حد اعتدال وطرفا إفراط وتفريط، واعتداله هو الكمال الذي بينا مزاياه، والتفريط فيه هو النقص الذي أشرنا لرزاياه، والإفراط فيه مذمة تبعث على الجور والاعتداء؛ فالمفرط في تعصبه يدافع عن الملتحم به بحق وبغير حق، ويرى عصبته منفردة باستحقاق الكرامة، وينظر إلى الأجنبي عنه كما ينظر إلى الهمل، لا يعترف به بحق، ولا يرعى له ذمة، فيخرج بذلك عن جادة العدل، فتنقلب منفعة التعصب إلى مضرة ويذهب بهاء الأمة، بل يتقوض مجدها، فإن العدل قوام الاجتماع الإنساني، وبه حياة الأمم، وكل قوة لا تخضع للعدل فمصيرها إلى الزوال، وهذا الحد من الإفراط في التعصب هو الممقوت على لسان الشارع
صلى الله عليه وسلم
في قوله: «ليس منا من دعا إلى عصبية.»
التعصب كما يطلق ويراد منه النعرة على الجنس، ومرجعها رابطة النسب والاجتماع في منبت واحد. كذلك توسع أهل العرف فيه، فأطلقوه على قيام الملتحمين بصلة الدين لمناصرة بعضهم بعضا، والمتنطعون من مقلدة الإفرنج يخصون هذا النوع منه بالمقت، ويرمونه بالتعس، ولا نخال مذهبهم هذا مذهب العقل، فإن لحمة يصير بها المتفرقون إلى وحدة تنبعث عنها قوة لدفع الغائلات وكسب الكمالات؛ لا يختلف شأنها إذا كان مرجعها الدين أو النسب، وقد كان من تقدير العزيز العليم وجود الرابطتين في أقوام مختلفة من البشر، وعن كل منهما صدرت في العالم آثار جليلة يفتخر بها الكون الإنساني، وليس يوجد عند العقل أدنى فرق بين مدافعة القريب عن قريبه ومعاونته على حاجات معيشته، وبين ما يصدر من ذلك عن المتلاحمين بصلة المعتقد ورابطة المشرب.
فتعصب المشتركين في الدين المتوافقين في أصول العقائد - بعضهم لبعض - إذا وقف عند الاعتدال ولم يدفع إلى جور في المعاملة، ولا انتهاك لحرمة المخالف لهم أو نقض لذمته؛ فهو فضيلة من أجل الفضائل الإنسانية، وأوفرها نفعا وأجزلها فائدة، بل هو أقدس رابطة وأعلاها، إذا استحكمت صعدت بذوي المكنة فيها إلى أوج السيادة وذروة المجد، خصوصا إن كانوا من قبيل قوي فيهم سلطان الدين، واشتدت سطوته على الأهواء الجنسية حتى أشرف بها على الزوال كما في أهل الديانة الإسلامية - على ما أشرنا إليه في العدد الثاني من جريدتنا.
ولا يؤخذ علينا في القول بأنه من أقدس الروابط؛ فإنه كما يطمس رسوم الاختلاف بين أشخاص وآحاد متعددة، ويصل ما بينهم في المقاصد والعزائم والأعمال، وكذلك يمحو أثر المنابذة والمنافرة بين القبائل والعشائر، بل الأجناس المتخالفة في المنابت واللغات والعادات، بل المتباعدة في الصور والأشكال، ويحول أهواءها المتضاربة إلى قصد واحد، وهو: تأصيل المجد وتأييد الشرف وتخليد الذكر تحت الاسم الجامع لهم، هذا الأثر الجليل عهد لقوة التعصب الديني، وشهد عليه التاريخ بعدما أرشد إليه العقل الصحيح، وما كانت رابطة الجنس لتقوى على شيء منه.
ثغثغ جماعة من متزندقة هذه الأوقات في بيان مفاسد التعصب الديني، وزعموا أن حمية أهل الدين لما يؤخذ به إخوانهم من ضيم، وتضافرهم لدفع ما يلم بدينهم من غاشية الوهن والضعف، هو الذي يصدهم عن السير إلى كمال المدنية، ويحجبهم عن نور العلم والمعرفة، ويرمي بهم في ظلمات الجهل، ويحملهم على الجور والظلم والعدوان على من يخالفهم في دينهم، ومن رأي أولئك المثغثغين أن لا سبيل لدرء المفاسد واستكمال المصالح إلا بانحلال العصبية الدينية ومحو أثرها، وتخليص العقول من سلطة العقائد، وكثيرا ما يرجفون بأهل الدين الإسلامي، ويخوضون في نسبة مذام التعصب إليهم.
كذب الخراصون، إن الدين أول معلم وأرشد أستاذ وأهدى قائد للأنفس إلى اكتساب العلوم والتوسع في المعارف، وأرحم مؤدب وأبصر مروض بطبع الأرواح على الآداب الحسنة والخلائق الكريمة، ويقيمها على جادة العدل، وينبه فيها حاسة الشفقة والرحمة، خصوصا دين الإسلام؛ فهو الذي رفع أمة كانت من أعرق الأمم في التوحش والقسوة والخشونة، وسما بها إلى أرقى مراقي الحكمة والمدنية في أقرب مدة، وهي الأمة العربية.
قد يطرأ على التعصب الديني من التغالي والإفراط مثل ما يعرض على التعصب الجنسي فيفضي إلى ظلم وجور، ربما يؤدي إلى قيام أهل الدين بإبادة مخالفيهم ومحق وجودهم، كما قامت الأمم الغربية واندفعت على بلاد الشرق لمحض الفتك والإبادة لا للفتح ولا للدعوة إلى الدين في الحرب الهائلة المعروفة بحرب الصليب، وكما فعل الإسبانيوليون بمسلمي الأندلس، وكما وقع قبل هذا وذاك في بداية ما حصلت الشوكة للدين المسيحي، أن صاحب السلطان من المسيحيين جمع اليهود في القدس وأحرقهم، إلا أن هذا العارض لمخالفته لأصول الدين قلما تمتد له مدة، ثم يرجع أرباب الدين إلى أصوله القائمة على قواعد السلم والرحمة والعدل.
أما أهل الدين الإسلامي فمنهم طوائف شطت في تعصبها في الأجيال الماضية، إلا أنه لم يصل بهم الإفراط إلى حد يقصدون فيه الإبادة وإخلاء الأرض من مخالفيهم في دينهم، وما عهد ذلك في تاريخ المسلمين بعدما تجاوزوا حدود جزيرة العرب، ولنا الدليل الأقوم على ما نقول، وهو وجود الملل المختلفة في ديارهم إلى الآن حافظة لعقائدها وعوائدها من يوم تسلطوا عليها وهم في عنفوان القوة وهي في وهن الضعف، نعم كان للمسلمين ولع بتوسيع الممالك وامتداد الفتوحات، وكانت لهم شدة على من يعارضهم في سلطانهم، إلا أنهم كانوا - مع ذلك - يحفظون حرمة الأديان، ويرعون حق الذمة، ويعرفون لمن يخضع لهم من الملل المختلفة حقه، ويدفعون عنه غائلة العدوان، ومن العقائد الراسخة في نفوسهم: «أن من رضي بذمتنا فله ما لنا وعليه ما علينا» ولم يعدلوا في معاملتهم لغيرهم عن أمر الله في قوله:
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ، اللهم إلا ما لا تخلو عنه الطبائع البشرية.
ومن نشأة المسلمين إلى اليوم لم يدفعوا أحدا من مخالفيهم عن التقدم إلى ما يستحقه من علو الرتبة وارتفاع المكانة، ولقد سما في دول المسلمين - على اختلافها - إلى المراتب العالية؛ كثير من أرباب الأديان المختلفة، وكان ذلك في شبيبتها وكمال قوتها، ولم يزل الأمر على ما كان، وفي الظن أن الأمم الغربية لم تبلغ هذه الدرجة من العدل إلى اليوم «فسحقا لقوم يظنون أن المسلمين بتعصبهم يمنعون مخالفيهم من حقوقهم.»
لم يسلك المسلمون من عهد قريب مسلك الإلزام بدينهم والإجبار على قبوله مع شدة بأسهم في بدايات دولهم، وتغلغلهم في افتتاح الأقطار، واندفاع هممهم للبسطة في الملك والسلطة، وإنما كانت لهم دعوة يبلغونها، فإن قبلت وإلا استبدلوا بها رسما ماليا يقوم مقام الخراج عند غيرهم مع رعاية شروط عادلة تعلم من كتب الفقه الإسلامي، هذا على خلاف متنصرة الرومانيين واليونانيين أيام شوكتهم الأولى، فإنهم ما كانوا يطئون أرضا إلا ويلزمون أهلها بخلع أديانهم، والتطوق بدين أولئك المسلطين وهو الدين المسيحي؛ كما فعلوا في مصر وسورية، بل وفي البلاد الإفرنجية نفسها.
هذا فصل من الكلام ساق إليه البيان وفيه تبصرة لمن يتبصر، وتذكرة لمن يتذكر، ثم أعود بك إلى سابق الحديث فيما كنا بصدده: هل لعاقل لم يصب برزيئة في عقله أن الاعتدال من التعصب الديني نقيصة؟ وهل يوجد فرق بينه وبين التعصب الجنسي إلا بما يكون به التعصب الديني أقدس وأطهر وأعم فائدة؟ لا نخال عاقلا يرتاب في صحة ما قررناه، فما لأولئك القوم يهذرون بما لا يدرون؟ أي أصل من أصول العقل يستندون إليه في المفاخرة والمباهاة بالتعصب الجنسي فقط، واعتقاده فضيلة من أشرف الفضائل، ويعبرون عنه بمحبة الوطن، وأي قاعدة من قواعد العمران البشري في التهاون بالتعصب الديني المعتدل وحسبانه نقيصة يجب الترفع عنها؟
نعم، إن الإفرنج تأكد لديهم أن أقوى رابطة بين المسلمين إنما في الرابطة الدينية، وأدركوا أن قوتهم لا تكون إلا بالعصبية الاعتقادية، ولأولئك الإفرنج مطامع في ديار المسلمين وأوطانهم؛ فتوجهت عنايتهم إلى بث هذه الأفكار الساقطة بين أرباب الديانة الإسلامية، وزينوا لهم هجر هذه الصلة المقدسة وفصم حبالها، لينقضوا بذلك بناء الملة الإسلامية ويمزقوها شيعا وأحزابا؛ فإنهم علموا - كما علمنا وعلم العقلاء أجمعون - أن المسلمين لا يعرفون لهم جنسية إلا في دينهم واعتقادهم، وتسنى للمفسدين نجاح في بعض الأقطار الإسلامية، وتبعهم بعض الغفل من المسلمين جهلا وتقليدا فساعدوهم على التنفير من العصبية الدينية بعدما فقدوها ولم يستبدلوا بها رابطة الجنس التي يبالغون في تعظيمها واحترامها حمقا منهم وسفاهة، فمثلهم كمثل من هدم بيته قبل أن يهيئ لنفسه مسكنا سواه فاضطر للإقامة بالعراء معرضا لفواعل الجو وما تصول به على حياته.
من هذا ما سلك الإنجليز في الهند لما أحسوا بالعراء بخيال السلطنة يطوف على أفكار المسلمين منهم لقرب عهدها بهم، وفي دينهم ما يبعثهم على الحركة إلى استرداد ما سلب منهم، وأرشدهم البحث في طبائع الملل إلى أن حياة المسلمين قائمة على الوصلة الدينية، وما دام الاعتقاد المحمدي والعصبة الملية سائدة فيهم فلا تؤمن بعثتهم إلى طلب حقوقهم؛ فاستهووا طائفة ممن يتسمون بسمة الإسلام، ويلبسون لباس المسلمين، وفي صدورهم غل ونفاق وفي قلوبهم زيغ وزندقة، وهم المعروفون في البلاد الهندية بالنيجرية أي الدهريين، فاتخذهم الإنجليز أعوانا لهم على فساد عقائد المسلمين، وتوهين علائق التعصب الديني، ليطفئوا بذلك نار حميتهم ويخمدوا ثائرة غيرتهم، ويبددوا جمعهم، ويمزقوا شملهم، وساعدوا تلك الطائفة على إنشاء مدرسة كبيرة في «عليكر» ونشر جريدة لبث هذه الأباطيل بين الهنديين حتى يعم الضعف في العقائد وترث أطناب الصلات بين المسلمين، فيستريح الإنجليز في التسلط عليهم، وتطمئن قلوبهم من جهتهم كما اطمأنت من جهة غيرهم، وغر أولئك الغفل المتزندقين أن رجال دولة بريطانيا يظهرون لهم رعاية صورية، ويدنونهم من بعض الوظائف الخسيسة - تعس من يبيع ملته بلقمة وذمته برذال العيش!
هذا أسلوب من السياسة الأوروبية أجادت الدول اختباره وجنت ثماره، فأخذت به الشرقيين لتنال مطامعها فيهم، فكثير من تلك الدول نصبت الحبائل في البلاد العثمانية والمصرية وغيرها من الممالك الإسلامية، ولم تعدم صيدا من الأمراء والمنتسبين إلى العلم والمدنية الجديدة، واستعملتهم آلة في بلوغ مقاصدها من بلادهم، وليس عجبنا من الدهريين والزنادقة ممن يتسترون بلباس الإسلام أن يميلوا مع هذه الأهواء الباطلة، ولكنا نعجب من أن بعضا من سذج المسلمين - مع بقائهم على عقائدهم وثباتهم في إيمانهم - يسفكون الكلام في ذم التعصب الديني، ويهجرون في رمي المتعصبين بالخشونة، والبعد عن معدات المدنية الحاضرة، ولا يعلم أولئك المسلمون أنهم بهذا يشقون عصاهم، ويفسدون شأنهم، ويخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المارقين، يطلبون محو التعصب المعتدل، وفي محوه محو الملة ودفعها إلى أيدي الأجانب يستعبدونها ما دامت الأرض أرضا والسماء سماء.
والله ما عجبنا من هؤلاء وهؤلاء بأشد من العجب لأحوال الغربيين من الأمم الإفرنجية الذين يفرغون وسعهم لنشر هذه الأفكار بين الشرقيين ولا يخجلون من تبشيع التعصب الديني ورمي المتعصبين بالخشونة، الإفرنج أشد الناس في هذا النوع من التعصب وأحرصهم على القيام بدواعيه، ومن القواعد الأساسية في حكوماتهم السياسية الدفاع عن دعاة الدين والقائمين بنشره ومساعدتهم على نجاح أعمالهم، وإذا عدت عادية مما لا يخلو عنه الاجتماع البشري على واحد ممن على دينهم ومذاهبهم في ناحية من نواحي الشرق سمعت صياحا وعويلا وهيعات ونياءات تتلاقى أمواجها في جو بلاد المدنية الغربية وينادي جميعهم: ألا قد ألمت ملمة، وحدثت حادثة مهمة، فأجمعوا الأمر وخذوا الأهبة لتدارك الواقعة والاحتياط من وقوع مثلها، حتى لا تنخدش الجامعة الدينية، وتراهم على اختلافهم في الأجناس وتباغضهم وتحاقدهم وتنابذهم في السياسات، وترقب كل دولة منهم لعثرة الأخرى حتى توقع بها السوء؛ يتقاربون ويتآلفون ويتحدون في توجيه قواهم الحربية والسياسية لحماية من يشاكلهم في الدين وإن كان في أقصى قاصية من الأرض، ولو تقطعت بينه وبينهم الأنساب الجنسية.
أما لو فاض طوفان الفتن وطم وجه الأرض وغمر البسيطة من دماء المخالفين لهم في الدين والمذهب، فلا ينبض فيهم عرق ولا يتنبه لهم إحساس، بل يتغافلون عنه ويذرونه وما يجرف حتى يأخذ مده الغاية من حده، ويذهلون عما أودع في الفطر البشرية من الشفقة الإنسانية والمرحمة الطبيعية، كأنما يعدون الخارجين عن دينهم من الحيوانات السائمة والهمل الراعية، وليس من نوع الإنسان الذي يزعم الأوروبيون أنهم حماته وأنصاره، وليس هذا خاصا بالمتدينين منهم، بل الدهريون ومن لا يعتقدون بالله وكتبه ورسله يسابقون المتدينين في تعصبهم الديني، ولا يألون جهدا في تقوية عصبيتهم، وليتهم يقفون عند الحق، ولكن كثيرا ما تجاوزوه، أما إن شأن الإفرنج في تمسكهم بالعصبية الدينية لغريب ...!
يبلغ الرجل منهم أعلى درجة في الحرية كجلادستون، ثم لا تجد كلمة تصدر عنه إلا وفيها نفثة من روح بطرس الراهب،
7
بل لا ترى روحه إلا نسخة من روحه (انظر إلى كتب جلادستون وخطبه السابقة).
فيا أيتها الأمة المرحومة، هذه حياتكم فاحفظوها، ودماؤكم فلا تريقوها، وأرواحكم فلا تزهقوها، وسعادتكم بثمن فلا تبيعوها دون الموت، هذه هي روابطكم الدينية فلا تغرنكم الوساوس ولا تستهوينكم الترهات، ولا تدهشكم زخارف الباطل، ارفعوا غطاء الوهم عن باصرة الفهم، واعتصموا بحبال الرابطة الدينية التي هي أحكم رابطة اجتمع فيها العربي بالتركي، والفارسي بالهندي، والمصري بالمغربي، وقامت لهم مقام الرابطة النسبية حتى إن الرجل منهم ليألم لما يصيب أخاه من عاديات الدهر وإن تناءت دياره، وتقاصت أقطاره.
هذه صلة من أمتن الصلات، ساقها الله إليكم، وفيها عزتكم ومنعتكم وسلطانكم وسيادتكم فلا توهنوها، ولكن عليكم في رعايتها أن تخضعوا لسطوة العدل؛ فالعدل أساس الكون وبه قوامه، ولا نجاح لقوم يزدرون العدل بينهم، وعليكم أن تتقوا الله وتلزموا أوامره في حفظ الذمم، ومعرفة الحقوق لأربابها، وحسن المعاملة وإحكام الألفة في المنافع الوطنية بينكم وبين أبناء أوطانكم وجيرانكم من أرباب الأديان المختلفة، فإن مصالحكم لا تقوم إلا بمصالحهم، كما لا تقوم مصالحهم إلا بمصالحكم، وعليكم أن لا تجعلوا عصبة الدين وسيلة للعدوان، وذريعة لانتهاك الحقوق؛ فإن دينكم ينهاكم عن ذلك ويوعدكم عليه بأشد العقاب، هذا ولا تجعلوا عصبيتكم قاصرة على مجرد ميل بعضكم لبعض، بل تضافروا بها على مباراة الأمم في القوة والمنعة والشوكة والسلطان، ومنافستهم في اكتساب العلوم النافعة والفضائل والكمالات الإنسانية.
اجعلوا عصبيتكم سبيلا لتوحيد كلمتكم، واجتماع شملكم، وأخذ كل منكم بيد أخيه ليرفعه من هوة النقص إلى ذروة الكمال، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
الفصل السابع
القضاء والقدر
مضت سنة الله في خلقه بأن للعقائد القلبية سلطانا على الأعمال البدنية، فما يكون في الأعمال من صلاح أو فساد، فإنما مرجعه فساد العقيدة وصلاحها على ما بينا في بعض الأعداد الماضية، ورب عقيدة واحدة تأخذ بأطراف الأفكار فيتبعها عقائد ومدركات أخرى، ثم تظهر على البدن بأعمال تلائم أثرها في النفس، ورب أصل من أصول الخير وقاعدة من قواعد الكمال إذا عرضت على الأنفس في تعليم أو تبليغ شرع يقع فيها الاشتباه على السامع فتلتبس عليه بما ليس من قبيلها أو تصادف عنده بعض الصفات الرديئة أو الاعتقادات الباطلة فيعلق بها عند الاعتقاد شيء مما تصادفه، وفي كلا الحالين يتغير وجهها ويختلف أثرها.
وربما تتبعها عقائد فاسدة مبنية على الخطأ في الفهم، أو على خبث الاستعداد ، فتنشأ عنها أعمال غير صالحة، وذلك على غير علم من المعتقد كيف اعتقد، ولا كيف يصرفه اعتقاده، والمغرور بالظواهر يظن أن تلك الأعمال إنما نشأت عن الاعتقاد بذلك الأصل وتلك القاعدة.
ومن مثل هذا الانحراف في الفهم وقع التحريف والتبديل في بعض أصول الأديان غالبا، بل هو علة البدع في كل دين - على الأغلب - وكثيرا ما كان هذا الانحراف وما يتبعه من البدع منشأ لفساد الطباع وقبائح الأعمال، حتى أفضى بمن ابتلاهم الله به إلى الهلاك وبئس المصير، وهذا ما يحمل بعض من لا خبرة لهم على الطعن في دين من الأديان، أو عقيدة من العقائد الحقة؛ استنادا إلى أعمال بعض السذج المنتسبين إلى الدين أو العقيدة.
من ذلك عقيدة القضاء والقدر، التي تعد من أصول العقائد في الديانة الإسلامية الحقة، كثر فيها لغط المغفلين من الإفرنج وظنوا بها الظنون، وزعموا أنها ما تمكنت من نفوس قوم إلا وسلبتهم الهمة والقوة، وحكمت فيهم الضعف والضعة، ورموا المسلمين بصفات ونسبوا إليهم أطوارا، ثم حصروا علتها في الاعتقاد بالقدر؛ فقالوا: إن المسلمين في فقر وفاقة وتأخر في القوة الحربية والسياسية عن سائر الأمم، وقد فشا فيهم فساد الأخلاق فكثر الكذب والنفاق والخيانة والتحاقد والتباغض، وتفرقت كلمتهم وجهلوا أحوالهم الحاضرة والمستقبلة، وغفلوا عما يضرهم وما ينفعهم، وقنعوا بحياة يأكلون فيها ويشربون وينامون، ثم لا ينافسون غيرهم في فضيلة، ولكن متى أمكن لأحدهم أن يضر أخاه لا يقصر في إلحاق الضرر به، فجعلوا بأسهم بينهم والأمم من ورائهم تبتلعهم لقمة بعد أخرى.
رضوا بكل عارض، واستعدوا لقبول كل حادث، وركنوا إلى السكون في كسور بيوتهم، يسرحون في مرعاهم، ثم يعودون إلى مأواهم، الأمراء فيهم يقطعون أزمنتهم في اللهو واللعب ومعاطاة الشهوات، وعليهم فروض وواجبات تستغرق في أدائها أعمارهم ولا يؤدون منها شيئا.
يصرفون أموالهم فيما يقطعون به زمانهم إسرافا وتبذيرا، نفقاتهم واسعة ولكن لا يدخل في حسابها شيء يعود على ملتهم بالمنفعة، يتخاذلون ويتنافرون، وينوطون المصالح العمومية بمصالحهم الخصوصية، فرب تنافر بين أميرين يضيع أمة كاملة، كل منهما يخذل صاحبه، ويستعدي عليه جاره، فيجد الأجنبي فيهما قوة فانية وضعفا قاتلا فينال من بلادهما ما لا يكلفه عددا ولا عدة.
شملهم الخوف وعمهم الجبن والخور، يفزعون من الهمس، ويألمون من اللمس، قعدوا عن الحركة إلى ما يلحقون به الأمم في العزة والشوكة، وخالفوا في ذلك أوامر دينهم، مع رؤيتهم لجيرانهم - بل الذين تحت سلطتهم - يتقدمون عليهم ويباهونهم بما يكسبون، وإذا أصاب قوما من إخوانهم مصيبة أو عدت عليهم عادية لا يسعون في تخفيف مصابهم، ولا ينبعثون لمناصرتهم، ولا توجد فيهم جمعيات ملية كبيرة لا جهرية ولا سرية، يكون من مقاصدها إحياة الغيرة، وتنبيه الحمية، ومساعدة الضعفاء، وحفظ الحق من بغي الأقوياء وتسلط الغرباء.
هكذا نسبوا إلى المسلمين هذه الصفات وتلك الأطوار، وزعموا أن لا منشأ لها إلا اعتقادهم بالقضاء والقدر وتحويل جميع مهماتهم على القدرة الإلهية، وحكموا بأن المسلمين لو داموا على هذه العقيدة فلن تقوم لهم قائمة، ولن ينالوا عزا ولن يعيدوا مجدا، ولا يأخذون بحق، ولا يدفعون تعديا، ولا ينهضون بتقوية سلطان، أو تأييد ملك، ولا يزال بهم الضعف يفعل في نفوسهم، ويركس من طباعهم، حتى يؤدي بهم إلى الفناء والزوال - والعياذ بالله - يفني بعضهم بعضا بالمنازعات الخاصة، وما يسلم من أيدي بعضهم يحصده الأجانب.
واعتقد أولئك الإفرنج أنه لا فرق بين الاعتقاد بالقضاء والقدر وبين الاعتقاد بمذهب الجبرية، القائلين: بأن الإنسان مجبور محض في جميع أفعاله، وتوهموا أن المسلمين - بعقيدة القضاء - يرون أنفسهم كالريشة المعلقة في الهواء، تقلبها الرياح كيفما تميل، ومتى رسخ في نفوس قوم أنه لا خيار لهم في قول ولا عمل، ولا حركة ولا سكون، وإنما جميع ذلك بقوة جابرة، وقدرة قاسرة؛ فلا ريب تتعطل قواهم، ويفقدون ثمرة ما وهبهم الله من المدارك والقوى، وتمحى من خواطرهم داعية السعي والكسب، وأجدر بهم - بعد ذلك - أن يتحولوا من عالم الوجود إلى عالم العدم.
هكذا ظنت طائفة من الإفرنج، وذهب مذهبها كثيرون من ضعفاء العقول في المشرق، ولست أخشى أن أقول : كذب الظان، وأخطأه الوهم، وبطل الزاعم، وافتروا على الله والمسلمين كذبا؛ لا يوجد مسلم في هذا الوقت من سني وشيعي، وزيدي وإسماعيلي، ووهابي وخارجي؛ يرى مذهب الجبر المحض، ويعتقد سلب الاختيار عن نفسه بالمرة، بل كل من هذه الطوائف المسلمة يعتقدون بأن لهم جزاء اختياريا في أعمالهم، ويسمى بالكسب، وهو مناط الثواب والعقاب عند جميعهم، وأنهم محاسبون بما وهبهم الله من هذا الجزء الاختياري، ومطالبون بامتثال جميع الأوامر الإلهية، والنواهي الربانية، الداعية إلى كل خير، الهادية إلى كل فلاح، وأن هذا النوع من الاختيار هو مورد التكليف الشرعي، وبه تتم الحكمة والعدل.
نعم، كان بين المسلمين طائفة تسمى بالجبرية ذهبت إلى أن الإنسان مضطر في جميع أفعاله اضطرارا لا يشوبه اختيار، وزعمت أن لا فرق بين أن يحرك الشخص فكه للأكل والمضغ وبين أن يتحرك بقفقفة البرد عند شدته، ومذهب هذه الطائفة يعده المسلمون من منازع السفسطة الفاسدة، وقد انقرض أرباب هذا المذهب في أواخر القرن الرابع من الهجرة ولم يبق لهم أثر، وليس الاعتقاد بالقضاء والقدر هو عين الاعتقاد بالجبر، ولا من مقتضيات ذلك الاعتقاد ما ظنه أولئك الواهمون.
الاعتقاد بالقضاء يؤيده الدليل القاطع، بل ترشد إليه الفطرة، وسهل على من له فكر أن يلتفت إلى أن كل حادث له سبب يقاربه في الزمان، وأنه لا يرى من سلسلة الأسباب إلا ما هو حاضر لديه، ولا يعلم ماضيها إلا مبدع نظامها، وأن لكل منها مدخلا زاهرا فيما بعده بتقدير العزيز العليم، وإرادة الإنسان إنما هي حلقة من حلقات تلك السلسلة، وليست الإرادة إلا أثرا من آثار الإدراك، والإدراك انفعال النفس بما يعرض على الحواس وشعورها بما أودع في الفطرة من الحاجات، فلظواهر الكون من السلطة على الفكر والإرادة ما لا ينكره أبله، فضلا عن عاقل، وإن مبدأ هذا الأسباب التي ترى في الظواهر مؤثرة إنما هو بيد مدبر الكون الأعظم الذي أبدع الأشياء على وفق حكمته، وجعل كل حادث تابعا لشبهه كأنه جزاء له، خصوصا في العالم الإنساني.
ولو فرضنا أن جاهلا ضل عن الاعتراف بوجود إله صانع للعالم، فليس في إمكانه أن يتملص من الاعتراف بتأثير الفواعل الطبيعية والحوادث الدهرية في الإرادات البشرية، فهل يستطيع إنسان أن يخرج عن هذه السنة التي سنها الله في خلقه؟ هذا أمر يعترف به طلاب الحقائق فضلا عن الواصلين. وإن بعضا من حكماء الإفرنج وعلماء سياستهم التجئوا إلى الخضوع لسلطة القضاء، وأطالوا البيان في إثباتها، ولسنا في حاجة إلى الاستشهاد بآرائهم.
إن للتاريخ علما فوق الرواية عني بالبحث فيه العلماء من كل أمة، وهو العلم الباحث عن سير الأمم في صعودها وهبوطها، وطبائع الحوادث العظيمة وخواصها، وما ينشأ عنها من التغيير والتبديل في العادات والأخلاق والأفكار، بل في خصائص الإحساس الباطن والوجدان، وما يتبع ذلك كله من نشأة الأمم، وتكون الدول، أو فناء بعضها واندراس أثره.
هذا الفن الذي عدوه من أجل الفنون الأدبية وأجزلها فائدة بناء البحث فيه على الاعتقاد بالقضاء والقدر، والإذعان بأن قوى البشر في قبضة مدبر للكائنات ومصرف للحادثات، ولو استقلت قدرة البشر بالتأثير ما انحط رفيع، ولا ضغف قوي، ولا انهدم مجد، ولا تقوض سلطان.
الاعتقاد بالقضاء والقدر إذا تجرد عن شناعة الجبر يتبعه صفة الجراءة والإقدام، وخلق الشجاعة والبسالة، ويبعث على اقتحام المهالك التي توجف بها قلوب الأسود، وتنشق منها مرائر النمور، هذا الاعتقاد يطبع الأنفس على الثبات، واحتمال المكاره، ومقارعة الأهوال، ويحليها بحلى الجود والسخاء، ويدعوها إلى الخروج من كل ما يعز عليها، بل يحملها على بذل الأرواح، والتخلي عن نضرة الحياة؛ كل هذا في سبيل الحق الذي قد دعاها للاعتقاد بهذه العقيدة.
الذي يعتقد بأن الأجل محدود، والرزق مكفول، والأشياء بيد الله يصرفها كما يشاء، كيف يرهب الموت في الدفاع عن حقه وإعلاء كلمة أمته، أو ملته، والقيام بما فرض الله عليه من ذلك؟ وكيف يخشى الفقر مما ينفق من ماله في تعزيز الحق وتشييد المجد، على حسب الأوامر الإلهية، وأصول الاجتماعات البشرية؟
امتدح الله المسلمين بهذا الاعتقاد مع بيان فضيلته في قوله الحق :
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم . اندفع المسلمون في أوائل نشأتهم إلى الممالك والأقطار يفتحونها ويتسلطون عليها، فأدهشوا العقول وحيروا الألباب بما دوخوا الدول وقهروا الأمم، وامتدت سلطتهم من جبال بيريني الفاصلة بين إسبانيا وفرنسا إلى جدار الصين، مع قلة عدتهم وعددهم، وعدم اعتيادهم على الأهوية المختلفة، وطبائع الأقطار المتنوعة، أرغموا الملوك وأذلوا القياصرة والأكاسرة في مدة لا تتجاوز ثمانين سنة، إن هذا ليعد من خوارق العادات وعظائم المعجزات.
دمروا بلادا، ودكدكوا أطوادا، ورفعوا فوق الأرض أرضا ثانية من القسطل، وطبقة أخرى من النقع، وسحقوا رءوس الجبال تحت حوافر جيادهم، وأقاموا بدلها جبالا وتلالا من رءوس النابذين لسلطانهم، وأرجفوا كل قلب وأرعدوا كل فريصة، وما كان قائدهم وسائقهم إلى جميع هذا إلا الاعتقاد بالقضاء والقدر.
هذا الاعتقاد هو الذي ثبتت به أقدام بعض الأعداد القليلة منهم أمام جيوش يغص بها الفضاء، ويضيق بها بسيط الغبراء، فكشفوهم عن مواقعهم، وردوهم على أعقابهم.
بهذا الاعتقاد لمعت سيوفهم بالمشرق، وانقضت شهبها على الحيارى في هبوات الحروب من أهل المغرب، وهو الذي حملهم على بذل أموالهم وجميع ما يملكون من رزق في سبيل إعلاء كلمتهم، لا يخشون فقرا ولا يخافون فاقة، هذا الاعتقاد هو الذي سهل عليهم حمل أولادهم ونسائهم ومن يكون في حجورهم إلى ساحات القتال في أقصى بلاد العالم، كأنما يسيرون إلى الحدائق والرياض، وكأنهم أخذوا لأنفسهم بالتوكل على الله أمانا من كل غادرة، وأحاطوها من الاعتماد عليه بحصن يصونهم من كل طارقة.
وكان نساؤهم وأولادهم يتولون سقاية جيوشهم، وخدمتها فيما تحتاج إليه، لا يفترق النساء والأولاد عن الرجال والكهول إلا بحمل السلاح، ولا تأخذ النساء رهبة، ولا تغشى الأولاد مهابة.
هذا الاعتقاد هو الذي ارتفع بهم إلى حد كان ذكر اسمهم يذيب القلوب، ويبدد أفلاذ الأكباد، حتى كانوا ينصرون بالرعب، ويقذف به في قلوب أعدائهم فيهزمون بجيش الرهبة قبل أن يشيموا بروق سيوفهم ولمعان أسنتهم، بل قبل أن تصل إلى تخومهم أطراف جحافلهم.
بكائي على السالفين ونحيبي على السابقين، أين أنتم يا عصابة الرحمة وأولياء الشفقة، أين أنتم يا أعلام المروءة، وشوامخ القوة؟ أين أنتم يا آل النجدة وغوث المضيم يوم الشدة؟ أين أنتم يا خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر؟ أين أنتم أيها الأمجاد الأنجاد القوامون بالقسط الآخذون بالعدل الناطقون بالحكمة، المؤسسون لبناء الأمة؟ ألا تنظرون من خلال قبوركم إلى ما أتاه خلفكم من بعدكم، وما أصاب أبناءكم ومن ينتحل نحلتكم، انحرفوا عن سنتكم، وجاروا عن طريقكم فضلوا عن سبيلكم وتفرقوا فرقا وأشياعا، حتى أصبحوا من الضعف على حال تذوب لها القلوب أسفا، وتحترق الأكباد حزنا، أضحوا فريسة للأمم الأجنبية لا يستطيعون ذودا عن حوضهم، ولا دفاعا عن حوزتهم، ألا يصيح من برازخكم صائح منكم ينبه الغافل، ويوقظ النائم، ويهدي الضال إلى سواء السبيل؟ «إنا لله وإنا إليه راجعون.»
أقول، وربما لا أخشى واهما ينازعني فيما أقول: إنه من بداية تاريخ الاجتماع البشري إلى اليوم ما وجد فاتح عظيم، ولا محارب شهير، نبت في أوسط الطبقات، ثم رقي بهمته إلى أعلى الدرجات، فذلت له الصعاب، وخضعت الرقاب، وبلغ من بسطة الملك ما يدعو إلى العجب، ويبعث الفكر لطلب السبب؛ إلا كان معتقدا بالقضاء والقدر، سبحان الله! الإنسان حريص على حياته شحيح بوجوده على مقتضى الفطرة والجبلة، فما الذي يهون عليه اقتحام المخاطر، وخوض المهالك، ومصارعة المنايا، إلا الاعتقاد بالقضاء والقدر، وركون قلبه إلى أن المقدر كائن ولا أثر لهول المظاهر.
أثبتت لنا التواريخ أن كورش الفارسي «كيخسرو»، وهو أول فاتح يعرف في تاريخ الأقدمين؛ ما تسنى له الظفر في فتوحاته الواسعة، إلا لأنه كان معتقدا بالقضاء والقدر، فكان لهذا الاعتقاد لا يهوله هول، ولا توهن عزيمته شدة، وإن إسكندر الأكبر اليوناني كان ممن رسخ في نفوسهم هذه العقيدة الجليلة، وجنكيز خان التتري صاحب الفتوحات المشهورة كان من أرباب هذا الاعتقاد، بل كان نابليون الأول بونابرت الفرنساوي من أشد الناس تمسكا بعقيدة القضاء، وهي التي كانت تدفعه بعساكره القليلة على الجماهير الكثيرة، فيتهيأ له الظفر، وينال بغيته من النصر.
فنعم الاعتقاد الذي يطهر النفوس الإنسانية من رذيلة الجبن، وهو أول عائق للمتدنس به عن بلوغ كماله في طبقته أيا كانت، نعم، إننا لا ننكر أن هذه العقيدة وقد خالطها في نفوس بعض العامة من المسلمين شوائب من عقيدة الجبر، وربما كان هذا سببا في رزيئتهم ببعض المصائب التي أخذتهم بها الحوادث في الأعصر الأخيرة، ورجاؤنا في الراسخين من علماء العصر أن يسعوا جهدهم في تخليص هذه العقيدة الشريفة من بعض ما طرأ عليها من لواحق البدع، ويذكروا العامة بسنن السلف الصالح وما كانوا يعملون، وينشروا بينهم ما أثبته أئمتنا - رضي الله عنهم - كالشيخ الغزالي وأمثاله من أن التوكل والركون إلى القضاء إنما طلبه الشرع منا في العمل، لا في البطالة والكسل، وما أمرنا الله أن نهمل فروضنا، وننبذ ما أوجب علينا، بحجة التوكل عليه، فتلك حجة المارقين عن الدين، الحائدين عن الصراط المستقيم، ولا يرتاب أحد من أهل الدين الإسلامي في أن الدفاع عن الملة في هذه الأوقات صار من الفروض العينية على كل مؤمن مكلف، وليس بين المسلمين وبين الالتفات إلى عقائدهم الحقة التي تجمع كلمتهم، وترد إليهم عزيمتهم، وتنهض غيرتهم لاسترداد شأنهم الأول؛ إلا دعوة خير من علمائهم، وإن جميع ذلك موكول إلى ذمتهم.
أما ما زعموه في المسلمين من الانحطاط والتأخر فليس منشأه هذه العقيدة (ولا غيرها من العقائد الإسلامية)، ونسبته إليها كنسبة النقيض إلى نقيضه، بل أشبه ما يكون بنسبة الحرارة إلى الثلج والبرودة إلى النار، نعم، حدث للمسلمين بعد نشأتهم نشوة من الظفر، وثمل من العز والغلب، وفاجأهم وهم على تلك الحال صدمتان قويتان: صدمة من طرف الشرق وهي غارة التتر من جنكيز خان وأحفاده، وصدمة من جهة الغرب وهي زحف الأمم الأوروبية بأسرها على ديارهم، وإن الصدمة في حال النشوة تذهب بالرأي، وتوجب الدهشة والسبات بحكم الطبيعة، وبعد ذلك تداولتهم حكومات متنوعة، ووسد الأمر فيهم إلى غير أهله ، وولي على أمورهم من لا يحسن سياستها، فكان حكامهم وأمراؤهم من جراثيم الفساد في أخلاقهم وطباعهم، وكانوا مجلبة لشقائهم وبلائهم، فتمكن الضعف من نفوسهم، وقصرت أنظار الكثير منهم على ملاحظة الجزئيات التي لا تتجاوز لذاته الآنية، وأخذ كل منهم بناصية الآخر، يطلب له الضرر ويلتمس له السوء من كل باب، لا لعلة صحيحة ولا داع قوي، وجعلوا هذا ثمرة الحياة، فآل الأمر بهم إلى الضعف والقنوط وأدى إلى ما صاروا إليه.
ولكني أقول - وحق ما أقول: إن هذه الملة لن تموت ما دامت هذه العقائد الشريفة آخذة مأخذها من قلوبهم، ورسومها تلوح في أذهانهم، وحقائقها متداولة بين العلماء الراسخين منهم، وكل ما عرض عليهم من الأمراض النفسية والاعتلال العقلي، فلا بد أن تدفعه قوة العقائد الحقة، ويعود الأمر كما بدأ وينشطون من عقالهم، ويذهبون مذاهب الحكمة والتبصر في إنقاذ بلادهم، وإرهاب الأمم الطامعة فيهم، وإيقافها عند حدها، وما ذلك ببعيد، والحوادث التاريخية تؤيده، فانظر إلى العثمانيين الذي نهضوا بعد تلك الصدمات القوية (حروب التتر والحروب الصليبية) وساقوا الجيوش إلى أرجاء العالم، واتسعت لهم ميادين الفتوحات، ودوخوا البلاد وأرغموا أنوف الملوك، ودانت لسلطانهم الدول الإفرنجية، حتى كان السلطان العثماني يلقب بين الدول بالسلطان الأكبر.
ثم ارجع البصر تجد هزة في نفوسهم وحركة في طباعهم أحدثها فيهم ما توعدتهم به الحوادث الأخيرة من رداءة العاقبة وسوء المنقلب: حركة سرت في أفكار ذوي البصيرة منهم في أغلب الأنحاء شرقا وغربا، وتألفت من خيارهم عصبات للحق كتبت على نفسها نصرة العدل والشرع، والسعي بغاية الجهد لبث أفكارها، وجمع الكلمة المفترقة، وضم الأشتات المتبددة، وجعلوا من أصغر أعمالهم نشر جريدة عربية، لتصل بما يكتب فيها بين المتباعدين منهم وتنقل إليهم بعض ما يضمره الأجانب لهم، وإنا نرى عدد الجمعية الصالحة يزداد يوما بعد يوم، نسأل الله تعالى نجاح أعمالها، وتأييد مقصدها الحق، ورجاؤنا من كرمه أن يترتب على حسن سعيها أثر مفيد للشرقيين عموما، وللمسلمين خصوصا.
الفصل الثامن
الفضائل والرذائل وأثرهما
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين . •••
قالوا: للإنسان كمال، مفروض عليه أن يسعى إليه، وقالوا: إنه عرضة لنقص يجب عليه الترفع عنه، وقالوا: كماله في استيفاء ما يمكن من الفضائل، ونقصه في التلوث برذيلة من الرذائل، فما هي الفضائل وما هي الرذائل، الفضائل سجايا للنفس من مقتضاها التأليف والتوفيق بين المتصفين بها، كالسخاء والعفة والحياء ونحوها، فالسخيان لا يتشاحان ولا يتنازعان في التعامل، فإن من سجية كل منهما البذل في الحق، والمنع إذا اقتضاه الحق، فكل يعرف حده فيقف عنده.
فلا يوجد موضوع للنزاع عند معاطاة الأعمال المالية، والأعفاء لا يتزاحمون على مشتهى من المشتهيات؛ فإن من خلق كل منهم التجافي عن الشهوة، وفي طبيعته الإيثار بالرغائب.
وهكذا، إذا استقريت جميع ما عده علماء التهذيب من الصفات الفاضلة؛ تجد أن من لوازم كل فضيلة منها التأليف بين المتصفين بها في متعلق الأثر الناشئ عن تلك الفضيلة، فإذا اجتمعت الفضائل أو غلبت في شخصين؛ مالت نفوسهما إلى الاتحاد والالتئام في جميع الأعمال والمقاصد أو جلها، ودامت الوحدة بينهما بمقدار رسوخ الفضيلة، وعلى هذا النحو يكون الأمر في الأشخاص الكثيرة، فالفضائل هي مناط الوحدة بين الهيئة الاجتماعية وعروة الاتحاد بين الآحاد، تميل بكل منهما إلى الآخر إلى من يشاكله حتى يكون الجمهور من الناس كواحد منهم، يتحرك بإرادة واحدة، ويطلب في حركته غاية واحدة.
مجموع الفضائل هو العدل في جميع الأعمال، فإذا شمل طائفة من نوع الإنسان وقف بكل من آحادها عند حده في عمله، لا يتجاوزه بما يمس حقا للآخر فيه يكون التكافؤ والتوازر، لكل شخص من أفراد الإنسان وجود خاص به، وأودعت فيه العناية الإلهية من القوى ما به يحفظ وجوده، وما به التناسل لبقاء النوع، وهو في هذا يساوي سائر أفراد الحيوان، لكن قضت حكمة الله أن يكون الإنسان ممتازا عن بقية الأنواع الحيوانية بكون آخر، ووجود أرقى وأعلى، وهو كون الاجتماع، حتى يتألف من أفراده الكثيرة بنية واحدة يعمها اسم واحد ، والأفراد فيها كأعضاء تختلف في الوظائف والأشكال، وإنما كل يؤدي عمله لبقاء البنية الجامعة وتقويتها وتوفير حظها من الوجود؛ ليعود إليه نصيب من عملها الكلي كما أودع الله في أعضاء أبداننا وبنيتنا الشخصية.
والفضائل في المجتمع الإنساني كقوة الحياة المستكملة في كل عضو ما يقدره على أداء عمله مع الوقوف عند حد وظيفته، كاليد بها البطش والتناول وليس من خصائصها الإبصار، والعين بها الإبصار وتميز الألوان والأشكال وليس من وظائفها البطش، والكل حي بحياة واحدة، وإن شئت قلت: الفضائل في عالم الإنسان كالجذبة العامة في العالم الكبير، فكما أن الجذبة العامة يحفظ بها نظام الكواكب والسيارات، وبالتوازن في الجاذبية ثبت كل كوكب في مركزه، وحفظت النسبة بينه وبين الكوكب الآخر، وانتظم بها سيره في مداره الخاص بتقدير العزيز العليم، حتى تمت حكمة الله في وجود الأكوان وبقائها؛ كذلك شأن الفضائل في الاجتماع الإنساني، بها يحفظ الله الوجود الشخصي إلى الأجل المحدود ويثبت البقاء النوعي إلى أن يأتي أمر الله.
أي أمة يكون الواضع فيها والرافع، والحارث والوازع، والجالب والدافع، وجميع من يدير أمورها، ويسوسها في شئونها إنما هم أفراد منها، من هاماتها أو من لهازمها «من الأعلياء والأوساط، بل سائر الأطراف» ويكون كل واحد منها قائما بحق الكل، ولا يختار مقصدا يعكس مقصد الكل، ولا يسعى إلى غاية تميل به من غاية الكل، ولا يهمل عملا يتعلق بالأمة، حتى يكون الجميع كالبنيان المتين لا تزعزعه العواصف ولا تدكه الزلازل، وبقوة كل منهم يجتمع للأمة قوة، تحفظ بها موقعها، وتدفع بها عن شرفها ومجدها، وترد غارة الأغيار عليها، فهي الأمة التي سادت فيها الفضائل، واستعلت فيها مكارم الأخلاق.
إن أمة هذا شأنها لا يتخالف أفرادها إلا للتآلف، ولا يتغايرون إلا للاتحاد، فمثلهم في اختلاف أعمالهم كمثل المتدابرين على محيط دائرة يتفارقان في مبدأ السير ليتلاقيا على نقطة من المحيط، ومثالهم في تغاير مأخذهم لجلب منافعهم كجاذبي طرفي خيطة واحدة - حبل واحد - كل آخذ بطرف، مع تعادل القوتين، ففي جذب أحدهما لصاحبه إبعاد لنفسه عنه من وجه، وحفظ لمكان قربه منه من وجه آخر ، فلا يفترقان ولا يتباينان، ولا تفنى منفعة أحدهما في منفعة الآخر، أما إن مسالك الأفراد من مثل هذه الأمة بما منحوه من الارتباط بينهم كأنصاف دائرة مركزها حياة الأمة وعظمتها، ولا يخرج ولا واحد منهم عن محيط الجنسية، وإنهم في جلب منافعها واستكمال فوائدها كالجداول تمد البحر لتستمد منه.
يرى كل واحد منهم أن ما تبتهج به النفوس البشرية وتمتاز بالميل إليه عن سائر الحيوانات من رفعة المكانة والغلب وبسط الجاه ونفاذ الكلمة؛ إنما يمكن إذا توفر للأمة حظها من هذه المزايا فيسعى جهده لإبلاغ كل واحد من الأمة أقصى ما يؤهله استعداده ليأخذ بسهم مما يناله، فلا يهمل ولا يخون في الدفاع عن فرد من أفرادها، فضلا عن هيئتها العامة، وإلا فقد خان نفسه؛ لأنه أبطل آلة من آلات عمله، وقطع سببا من أسباب غايته، ولا يحتقر واحدا من الآحاد، ولا يزدري بعمله، ويحسب الشخص من الأمة - وإن كان صغيرا - بمنزل مسمار صغير في آلة كبيرة، لو سقط منها تعطلت الآلة بسقوطه.
عليك أن تنظر في حقائق الصفات لتحكم بما ينشأ عنها من الأثر الذي بيناه: التعقل والتروي وانطلاق الفكر من قيود الأوهام، والعفة والسخاء والقناعة والدماثة (لين الجانب)، والوقار والتواضع وعظم الهمة، والصبر والحلم والشجاعة والإيثار (تقديم الغير بالمنفعة على النفس)، والنجدة والسماحة والصدق والوفاء والأمانة، وسلامة الصدر من الحقد والحسد، والعفو والرفق والمروءة والحمية وحب العدالة والشفقة.
ألا ترى لو عمت هذه الصفات الجليلة أمة من الأمم أو غلبت في أفرادها لا يكون بينها سوى الاتحاد والالتئام التام؟ هل يوجد مثار للخلاف والتنافر بين عاقلين حرين، صادقين وفيين، كريمين شجاعين، رفيقين صابرين، حليمين متواضعين، وقورين عفيفين رحيمين؟ أما والله لو نفخت نسمة من أرواح هذه الفضائل على أرض قوم وكانت مواتا لأحيتها، أو قفرا لأنبتتها، أو جدبا لأمطرتها من غيث الرحمة ما يسبغ نعمة الله عليها، ولأقامت لها من الوحدة سياجا لا يخرق، وحرزا منيعا لا يهتك، وإن أولى الأمم بأن تبلغ الكمال في هذه السجايا الشريفة أمة قال نبيهم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.» الفضيلة حياة الأمم؛ تصون أجسامها عن تداخل العناصر الغريبة، وتحفظها من الانحلال المؤدي إلى الزوال
وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون .
وأما الرذائل فهي كيفيات خبيثة تعرض للأنفس، من طبيعتها التحليل والتفريق بين النفوس المتكيفة بها، كالقحة (قلة الحياء) والبذاء (التطاول على الأعراض بما لا تقتضيه الحشمة والأدب من الكلام)، والسفه والبله، والطيش والتهور، والجبن والدناءة والجزع، والحقد والحسد، والكبرياء واللجاج والسخرية، والغدر والخيانة والكذب والنفاق، فأي صفة من هذه الصفات تلوث بها نفسان ألفت بينهما العداوة والبغضاء، وذهبت بهما مذاهب الخلاف إلى حيث لا يبقى أمل في الوفاق؛ فإن طبيعة كل واحدة منها إما مجاوزة الحدود في التعدي على الحقوق، وإما السقوط إلى ما لا يمكن معه للشخص أداء الواجب عليه لمن يشاركه في الجنسية أو الملة أو القبيلة أو العشيرة أو بأي نوع من أنواع التعامل.
والإنسان مجبول بالطبع على النفرة ممن يتعدى على حقوقه أو يمنعه حقا منها، وإن شئت فتخيل وقحين بذيئين سفيهين جبانين بخيلين (كل يمنع الآخر حقه)، شرهين حاقدين حاسدين متكبرين (كل لا يستحسن إلا فعل نفسه)، لجوجين خائنين غادرين كاذبين منافقين، هل يمكن أن يجمعهما مقصد أو توحد بينهما غاية؟ أليس كل وصف على حدته قاضيا بانتباذ كل من صاحبه وإن لم تكن داعية، وكفى بخلقه وصفته باعثا قويا للتنابذ.
هذه الرذائل إذا فشت في أمة نقضت بناءها ونثرت أعضاءها بددتها شذر مذر، واستدعت بعد ذلك طبيعة الوجود الاجتماعي؛ أن تسطو على هذه الأمة قوة أجنبية عنها لتأخذها بالقهر، وتصرفها في أعمال الحياة بالقسر، فإن حاجاتهم في المعيشة طالبة للاجتماع، وهو لا يمكن مع هذه الأوصاف، فلا بد من قوة خارجة تحفظ صورة الاجتماع إلى حد الضرورة.
هذه صفات إذا رسخت في نفوس قوم صار بأسهم بينهم شديدا، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، تراهم أعزة بعضهم على بعض أذلة للأجنبي عنهم، يدعون أعداءهم للسيادة عليهم، ويفتخرون بالانتماء إليهم، يمهدون السبل للغالبين إلى النكاية بهم ، ويمكنون مخالب المغتالين من أحشائهم، ويرون كل حسن من أبناء جنسهم قبيحا، وكل جليل منهم حقيرا، إذا نطق أجنبي بما يدور على ألسنة صبيانهم عدوه من جوامع الكلم ونفائس الحكم، وإذا غاص أحدهم بحر الوجود واستخرج لهم درر الحقائق وكشف لهم دقائق الأسرار عدوه من سقط المتاع، وقالوا بلسان حالهم أو مقالهم: ليس في الإمكان أن يكون منا عارف ومن المحال أن يوجد بيننا خبير! ويغلب عليهم حب الفخفخة والفخر الكاذب، ويتنافسون في سفاسف الأمور ودنياتها.
يرتابون في نصح الناصحين، وإن قامت على صدقهم أقطع البراهين، يسخرون بالواعظين، وإن كانوا في طلب خيرهم من أخلص المخلصين، يبذلون جهدهم لخيبة من يسعى لإعلاء شأنهم، وجمع كلمتهم، ويقعدون له بكل سبيل، يقيمون في طريقه العقبات، ويهيئون له أسباب العثار، تراهم بتضارب أخلاقهم وتعاكس أطوارهم كالبدن المصاب بالفالج لا تنتظم لأعضائه حركة، ولا يمكن تحريك عضو منه على وجه مخصوص لمقصد معلوم، فتنفلت أعمالهم عن حد الضبط، وتخرج عن قواعد الربط، فساد طباعهم بهذه الأخلاق يجعلهم منبعا ومبعثا للضر، يصير الواحد منهم كالكلب الكلب، أول ما يبدأ بعض صاحبه قبل الأجنبي، بل كالمبتلى بجنون مطبق، أول ما يفتك بمربيه ومهذبه ثم يثني بطبيبه ومن يعالج داءه، تكون الآحاد منهم كالأمراض الأكالة من نحو الجذام والآكلة، يمزقون الأمة قطعا وجذاذات بعدما يشوهون وجهها ويشوشون هيئتها.
أولئك قوم يسامون في مراعي الدنايا والخسائس لتغلب النذالة على سائر أوصافهم، فينتفخون على أبناء جلدتهم، ويذلون لقزم الأجانب فضلا عن عليتهم، وبهذا يمكنون الذلة في نفوسهم، من دونهم، ويطبعونها على الخضوع للغرباء، بل الأعداء الألداء، من طبقة إلى طبقة حتى تضمحل الأمة وتنسخ هيئتها وتفنى في أمة أو ملة أخرى، سنة الله في تبديل الدول وفناء الأمم
وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ، أعاذنا الله من هذه العاقبة، وحرس أمتنا وملتنا من المصير إلى هذه النهاية.
بقيت لنا لمحة نظر إلى ما به تقتنى الفضائل، وتمحص النفوس من الرذائل، حتى تسعد الجمعيات البشرية بالاتحاد، وتصون به أكوانها من الفساد «كل مولود يولد على الفطرة» مادة مستعدة لقبول كل شكل، والتلون بأي لون، فهل ينال كمال الفضيلة من آبائه وأسلافه؟ أنى يكون لهم حظ منها وقد كانوا ناشئين على مثل ما نشأ وليدهم؟ يرشدنا رائد الحق إلى أن الاعتدال في أصول الأخلاق، والتحلي بحلية الفضائل وترويض القوى والآلات البدنية على العمل بآثارها؛ إنما يكون بالدين، ولن يتم أثر الدين في نفوس الآخذين به فيصيبوا حظا وافرا مما يرشد إليه فيتمتعوا بحياة طبية وعيشة مرضية؛ إلا إذا قام رؤساء الدين وحملته وحفظته بأداء وظائفهم؛ من تبيين أوامره ونواهيه وتثبيتها في العقول ودعوة الناس إلى العمل بها، وتنبيه الغافلين عن رعايتها وتذكير الساهين عن هديها، أما إذا أهمل خدمة الدين وظائفهم أو تهاونوا في تأدية أعمالها؛ ضعف اليقين في النفوس، وذهلت العقول عن مقتضيات العقائد الدينية، وأظلمت البصائر بالغفلة، وتحكمت الشهوات البهيمية، وتسلطت الحاجات المعاشية، ومال ميزان الاختيار مع الهوى، فحشدت إلى الأنفس أوفاد الرذائل، فيحق على الناس كلمة العذاب، ويحل بهم من الشقاء ما أشرنا إليه سابقا.
هذه علل الخراب في كل أمة، لقد ظهر أثرها في أمم لا تحصى عددا من بداية كون الإنسان إلى الآن، ولم يزل بقايا بعضها يشهد على ما فتكت به الرذائل فيهم، بعدما بدلوا وغيروا، كما في طائفة الدهيرو «منك» من سكنة الأقطار الهندية المعروفين عند الأوروبيين بطائفة «باريا»
قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل ، فالدين وهو السائق إلى السعادة في الدنيا كما يسوق إليها في الآخرة.
تقلب قلب الدهر على بعض طوائف من المسلمين في أقطار مختلفة من الأرض وسلبهم تيجان عزهم وألقاها على هامات قوم آخرين، واليوم ينازع طوائف أخرى، ولا نخاله يتغلب عليهم، فكشف هذا عن نوع من الضعف، ولا يكون ناشئا إلا عن شيء من الإهمال في اتباع أوامر الشرع الإسلامي ونواهيه بحكم قول الله في كتابه :
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وقد يكون ذلك، وربما لا ينكر الآن أن كثيرا من عامة المسلمين وإن صحت عقائدهم من حيث ما تعلق به الاعتقاد، إلا أنهم لا ينهجون في بعض أعمالهم منهاج الشريعة الغراء، وهذا مما يحدث ضعفا في قوة الأمة بقدر الميل عن جادة الاعتدال في الفضائل والأعمال
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم .
إلا أن المسلمين لم يزالوا على أصول الفضائل الموروثة عن أسلافهم، ولهم حسن الإذعان بما جاء به شرعهم وكتاب الله متلو على ألسنتهم، وسنة نبيهم يتناقلونها رواية ودراية، وسير الخلفاء الراشدين والسلف الصالح مرسومة على صفحات نفوس الخاصة منهم، فليس ما طرأ على بعضهم من الغفلة عن متابعة الشرع وما تسبب عنه من الضعف في القوة إلا عرضا لا يبقى، وحالا لا يدوم.
انظر نظرة إنصاف إلى ما أودعته آيات القرآن من غرر الفضائل وكرائم الشيم، وإلى حرص المسلمين على احترام كتابهم وتبجيله؛ تجد من نفسك حكما باتا بأن علماء الديانة الإسلامية لو نشطوا لأداء وظائفهم المفروضة عليهم بحكم وراثتهم لصاحب الشرع، والمحتومة على ذمتهم بأمر الله الموجه إلى الذين يعقلونه، وهم هم في قوله الحق:
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ، وبالحض الإلهي المفهوم من قوله:
فلولا نفر من كل فرقة منهم (من المؤمنين)
طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ، ولو قاموا يعظون العامة بما ينطق به القرآن، ويذكرونهم بما كان عليه صاحب الشرع
صلى الله عليه وسلم
وخلفاؤه الناهجون على سنته من الأخلاق المحمودة والأعمال المبرورة؛ لرأيت أن الأمة الإسلامية ناشطة من عقالها، متضافرة على إعادة مجدها وصيانة ولايتها العامة من الضعف، وبيضة دينها من الصدع، كل ذلك في أقرب وقت، ولن تكون إلا صيحة واحدة فإذا هم قيام ينظرون.
ولا ريب أن الراسخين في العلم من أهل الدين الإسلامي يعلمون أن ما أصيب به المسلمون في هذه الأزمان الأخيرة، إنما هو مما امتحنهم الله به جزاء على بعض ما فرطوا، وليس للناس على الله حجة، فالرجاء في هممهم وغيرتهم الدينية وحميتهم الملية أن يوجهوا العناية إلى رتق الفتق قبل اتساعه، ومداواة العلة قبل استحكامها، فيذكروا أبناء الملة بأحكام الله، ويحكموا بينهم روابط الأخوة والألفة كما أمر الله في كتابه وعلى لسان نبيه، ويبذلوا الجهد لمحو اليأس والقنوط الذي ملك أفئدة البعض منهم، ويقنعوهم أنه لا ييأس من لطف الله إلا الذين في قلوبهم مرض وفي عقائدهم زيغ، ويسيروا بهم في سبيل يجمع كلمتهم، ويوحد وجهتهم، ويقوي فيهم إباءة الضيم، والنفرة من الذل، ويحرك فيهم روح الأنفة، حتى لا تسمح نفس أحدهم أن يأتي الدنية في دينه، ويكشفوا لهم حقيقة وعد الله ووعده الحق في قوله:
وكان حقا علينا نصر المؤمنين .
الفصل التاسع
الوحدة الإسلامية
وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم . •••
أظلت ولاية الإسلام ما بين نقطة الغرب الأقصى إلى تونازني على حدود الصين في عرض ما بين فازان من جهة الشمال وبين سرنديب تحت خط الاستواء. أقطار متصلة، وديار متجاورة، يسكنها المسلمون، وكان لهم فيها السلطان الذي لا يغالب. أخذ بصولجان الملك منهم ملوك عظام، فأداروا بشوكتهم كرة الأرض إلا قليلا، ما كان يهزم لهم جيش، ولا يعكس لهم علم، ولا يرد قول على قائلهم، قلاعهم وصياصيهم متلاقية، ومنابتهم ومغارسهم في سهوبهم (أراضيهم السهلة الواسعة) وأخيافهم (الأراضي المنحدرة عن الجبل) رابية مزدهية بأنواع النبات، حالية بأصناف الأشجار، صنع أيدي المسلمين، ومدنهم كانت آهلة مؤسسة على أمتن قواعد العمران تباهي مدن العالم بصنائع سكانها وبدائعهم، وتفاخرها بشموس الفضل، وبدور العلم، ونجوم الهداية، من رجال لهم المكان الأعلى في العلوم والآداب.
كان في نقطة الشرق من حكمائهم: ابن سينا والفارابي والرازي، ومن يشاكلهم. وفي الغرب ابن باجه وابن رشد وابن الطفيل، ومماثلوهم. وما بين ذلك أمصار تتزاحم فيها أقدام العلماء في الحكمة والطب والهيئة والهندسة وسائر العلوم العقلية، هذا فضلا عن العلوم الشرعية التي كانت عامة في جميع طبقات الملة، كان خليفتهم العباسي ينطق بالكلمة فيخضع لها فغفور الصين،
1
وترتعد منها فرائص أعظم الملوك في أوروبا، ومن ملوكهم في قرونهم المتوسطة مثل محمود الغزنوي، وملكشاه السلجوقي، وصلاح الدين الأيوبي، وكان منهم في المشرق مثل تيمور الكوركان، وفي الغرب السلطان محمد الفاتح، والسلطان سليم والسلطان سليمان العثماني. أولئك رجال قضوا ولم يطو الزمان ذكرهم ولم يمح أثرهم.
كان لأساطيل المسلمين سلطة لا تبارى في البحر الأبيض والأحمر والمحيط الهندي، ولها الكلمة العليا في تلك البحار إلى زمان غير بعيد، كان مخالفوهم يدينون لملكوت فضلهم كما يذلون لسلطان عليهم.
والمسلمون اليوم هم يملئون تلك الأقطار التي ورثوها عن آبائهم وعديدهم لا ينقص عن أربعمائة مليون، وأفرادهم في كل قطر بما أشربت قلوبهم من عقائد دينهم أشجع وأسرع إقداما على الموت ممن يجاورهم، وهم بذلك أشد الناس ازدراء بالحياة الدنيا وأقلهم مبالاة بزخرفها البطل.
جاءهم القرآن بمحكم آياته يطالب الناظرين بالبرهان على عقائدهم، ويعيب الأخذ بالظنون والتمسك بالأوهام، ويدعو إلى الفضائل وعقائل الصفات، فأودع في أفكارهم جراثيم الحق وبذر في نفوسهم بذور الفضل، فهم بأصول دينهم أنور عقلا وأنبه ذهنا وأشد استعدادا لنيل الكمالات الإنسانية، وأقرب إلى الاستقامة في الأخلاق. وربما يرون لأنفسهم من الاختصاص بالشرف، وما وعدوا به على لسان كتابهم الصادق من إظهار شأنهم على شئون العالم أجمع ولو كره المبطلون.
لا يرغبون بسلطة لغيرهم عليهم، ولا يحوم بفكر واحد منهم أن يخضع لذي سطوة من سواهم، وإن بلغت من الشدة أو اللين ما بلغت؛ لما بينهم من الإخاء المؤزر بمناطق العقائد، يحسب كل واحد منهم أن سقوط طائفة من بني ملته تحت سلطة الأجانب سقوط لنفسه، ذلك إحساس يشعر به وجدانه ولا يجد عنه مسليا، وبما ساخ (غاص ورسب) في نفوسهم من جذور المعارف التي أرشدهم إليها دينهم، ونالوا منها النصيب الأعلى في عنفوان دولتهم؛ يعدون أنفسهم أولى الناس بالعلم وأجدرهم بالفضل.
ذلك شأنهم الأول وهذا وصفهم الآن، ولكنهم مع هذا كله وقفوا في سيرهم، بل تأخروا عن غيرهم في المعارف والصنائع بعد أن كانوا فيها أساتذة العالم، وأخذت ممالكهم تنقص أطرافها وتتمزق حواشيها مع أن دينهم يرسم عليهم أن لا يدينوا لسلطة من يخالفهم، بل الركن الأعظم لدينهم طرح ولاية الأجنبي عنهم وكشفها عن ديارهم، بل منازعة كل ذي شوكة في شوكته.
هل نسوا وعد الله لهم بأن يرثوا الأرض وهم العباد الصالحون؟ هل غفلوا عن تكفل الله لهم بإظهار شأنهم على سائر الشئون ولو كره المجرمون؟ هل سهوا عن أن الله اشترى منهم - لإعلاء كلمته - أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة؟ لا، لا، إن العقائد الإسلامية مالكة لقلوب المسلمين حاكمة في إرادتهم، وسواء في العقائد الدينية والفضائل الشرعية عامتهم وخاصتهم.
نعم، يوجد للتقصير في إنماء العلوم، وللضعف في القوة، أسباب أعظمها تخالف طلاب الملك فيهم؛ لأنا بينا أن لا جنسية للمسلمين إلا في دينهم، فتعدد الملكة عليهم كتعدد الرؤساء في قبيلة واحدة، والسلاطين في جنس واحد، مع تباين الأغراض وتعارض الغايات، فشغلوا أفكار الكافة بمظاهرة كل خصم على خصمه، وألهوا العامة بتهيئة وسائل المغالبة وقهر بعضهم لبعض، فأدت هذه المغالبات وهي أشبه شيء بالمنازعات الداخلية إلى الذهول عما نالوا من العلوم والصنائع، فضلا عن التقصير في طلب ما لم ينالوا منها، والإعسار دون الترقي في عواليها، ونشأ من هذا ما تراه من الفاقة والاحتياج وعقبه الضعف في القوة والخلل في النظام، وجلب تنازع الأمراء على المسلمين تفرق الكلمة وانشقاق العصا، فلهوا بأنفسهم عن تعرض الأجانب بالعدوان عليهم.
هذا كان من أمراء المسلمين مع ما فيه من الضرر الفادح عندما كانوا منفردين في ميادين الوغى، لا يجاريهم فيها سواهم من الملل ولكن ضرب الفساد في نفوس أولئك الأمراء بمرور الزمان، وتمكن من طباعهم حرص وطمع باطل، فانقلبوا مع الهوى، وضلت عنهم غايات المجد المؤثل، وقنعوا بألقاب الإمارة وأسماء السلطنة وما يتبع هذه الأسماء من مظاهر الفخفخة وأطوار النفخة ونعومة العيش مدة من الزمان، واختاروا موالاة الأجنبي عنهم المخالف لهم في الدين والجنس، ولجئوا للاستنصار به وطلب المعونة منه على أبناء ملتهم ؛ استبقاء لهذا الشبح البالي والنعيم الزائل.
هذا الذي أباد مسلمي الأندلس، وهدم أركان السلطنة التيمورية في الهند، وفي أطلالها وعلى رسومها شيد الإنجليز ملكهم بتلك الديار، هكذا تلاعبت أهواء السفهاء بالممالك الإسلامية، ودهورتها أمانيهم الكاذبة في مهاوي الضعف والوهن، قبح ما صنعوا وبئس ما كانوا يعملون، أولئك اللاهون بلذاتهم، العاكفون على شهواتهم، هم الذين بددوا شمل الملة، وأضاعوا شأنها، وأوقفوا سير العلوم فيها، وأوجبوا الفترة في الأعمال النافعة، من صناعة وتجارة وزراعة بما غلوا من أيدي بنيها.
ألا قاتل الله الحرص على الدنيا والتهالك على الخسائس، ما أشد ضررهما وما أسوأ أثرهما، نبذوا كلام الله خلف ظهورهم، وجحدوا فرضا من أعظم فروضه، فاختلفوا والعدو على أبوابهم، وكان من الواجب عليهم أن يتحدوا في الكلمة الجامعة، حتى يدفعوا غارة الأباعد عنهم، ثم لهم أن يعودوا لشئونهم، ماذا أفادتهم المغالاة في الطمع والمنافسة في السفاسف؟ أفادتهم حسرة دائمة في الحياة، وشقاء أبديا بعد الممات، وسوء ذكر لا تمحوه الأيام.
أما وعزة الحق وسر العدل، لو ترك المسلمون وأنفسهم بما هم عليه من العقائد مع رعاية العلماء العاملين منهم؛ لتعارفت أرواحهم وائتلفت آحادهم، ولكن واأسفا! تخللهم أولئك المفسدون الذين يرون كل السعادة في لقب أمير أو ملك ولو على قرية لا أمر فيها ولا نهي، هؤلاء الذين حولوا أوجه المسلمين عما ولاهم الله، وخرجوا على ملوكهم وخلفائهم، حتى تناكرت الوجوه وتباينت الرغائب.
الاتفاق والتضافر على تعزيز الولاية الإسلامية، من أشد أركان الديانة المحمدية، والاعتقاد به من أوليات العقائد عند المسلمين، لا يحتاجون فيه إلى أستاذ يعلم، ولا كتاب يثبت، ولا رسائل تنشر، إن رعاة المسلمين - فضلا عمن علاهم - تتصاعد زفراتهم، وتفيض أعينهم من الدمع؛ حزنا وبكاء على ما أصاب ملتهم من تفرق الآراء، وتضارب الأهواء، ولولا وجود الغواة من الأمراء، ذوي المطامع في السلطة بينهم؛ لاجتمع شرقيهم بغربيهم، وشماليهم بجنوبيهم، ولبى جميعهم نداء واحدا، إن المسلمين لا يحتاجون في صيانة حقوقهم، إلا إلى تنبه أفكارهم لمعرفة ما به يكون الدفاع، واتفاق آرائهم على القيام به عند لزومه، وارتباط قلوبهم الناشئ عن إحساس بما يطرأ على الملة من الأخطار.
ألم تر أمة الروس، هل تجد فيها ما يزيد على هذه الأصول الثلاثة؟ هي أمة متأخرة في الفنون والصنائع عن سائر أمم أوروبا وليس في ممالكها ينابيع للثروة، ولئن كانت فليس هناك ما يستفيضها من الأعمال الصناعية، فهي مصابة بالحاجة والإعواز، غير أنه تنبه أفكار آحادها لما به يكون الدفاع عن أمتهم واتفاقهم في النهوض به وارتباط قلوبهم؛ صير لها دولة تميد لسطوتها رواسي أوروبا، لم يكن للروسية مصانع لمعظم الآلات الحربية، ولكن لم يمنعها ذلك عن اقتنائها، ولم يرتق فيها الفن العسكري إلى حد ما عليه جيرانها، إلا أن هذا لم يقعدها عن جلب ضباط من الأمم الأخرى لتعليم عساكرها، حتى صار لجيشها صولة تخيف، وحملة تخشاها دول أوروبا.
فما الذي أقعدنا عن مشاكلة غيرنا، فيما هو أيسر الأشياء علينا، ونحن أشد الناس ميلا إليه: من رعاية شرف الملة والتألم بما يحط منه والتعاون على صون الوحدة الجامعة لنا عن كل ما يثلمها، ما رد الأفكار عن الحركة، وما أقعد الهمم عن النهوض، إلا أولئك المترفون، يحرصون على طيب في المطعم، ولين في المضجع، وتطاول في البنيان، وتفاخر بالخدم والخول، ولا يراعون في حرصهم ما بعد يومهم، ويحافظون على لقب موضوع ورسم متبوع، يقنعون منه بالاحتفال لهم في المواسم والأعياد وهز الرءوس وثني الأعطاف، تعظيما وتبجيلا، ثم تذييل الأوراق الرسمية بأسماء ليس لها مسميات، هؤلاء الساقطون يرضون لتخيل هذه المواثل (جمع ماثل، من الرسوم: ما ذهب أثره) بكل دنيئة، هؤلاء يقبلون من تصرف أعدائهم في بيوتهم ما لا يقبله واحد من آحاد الناس دون موته، أولئك صاروا في أعناق المسلمين سلاسل وأغلالا، يحبسون هذه الأسود عن فريستها بل يجعلونها طعمة للثعالب، لا حول ولا قوة إلا بالله.
أيا بقية الرجال، ويا خلف الأبطال، ويا نسل الأقيال؛ هل ولى بكم الزمان، هل مضى وقت التدارك، هل آن أوان اليأس؟ لا، لا، معاذ الله أن ينقطع أمل الزمان منكم، إن من أدرنة إلى يشاور دولا إسلامية متصلة الأراضي ، ومتحدة العقيدة يجمعهم القرآن، لا ينقص عددهم عن خمسين مليونا، وهم ممتازون بين أجيال الناس بالشجاعة والبسالة، أليس لهم أن يتفقوا على الذب والإقدام كما اتفق عليه سائر الأمم؟ ولو اتفقوا فليس ذلك ببدع منهم، فالاتفاق من أصول دينهم، هل أصاب الخدر مشاعرهم فلا يحسون بحاجات بعضهم البعض؟ أليس لكل واحد أن ينظر إلى أخيه بما حكم الله في قوله:
إنما المؤمنون إخوة
فيقيمون بالوحدة سدا يحول عنهم هذه السيول المتدفقة عليهم من جميع الجوانب؟
لا ألتمس بقولي هذا أن يكون مالك الأمر في الجميع شخصا واحدا، فإن هذا ربما كان عسيرا، ولكني أرجو أن يكون سلطان جميعهم القرآن، ووجهة وحدتهم الدين، وكل ذي ملك على ملكه يسعى بجهده لحفظ الآخر ما استطاع، فإن حياته بحياته وبقاءه ببقائه، إلا أن هذا بعد كونه أساسا لدينهم تقضي به الضرورة، وتحكم به الحاجة في هذه الأوقات.
هذا آن الاتفاق، هذا آن الاتفاق، ألا إن الزمان يواسيكم بالفرص، وهي لكم غنائم، فلا تفرطوا، إن البكاء لا يحيي الميت، إن الأسف لا يرد الفائت، إن الحزن لا يدفع المصيبة، إن العمل مفتاح النجاح، إن الصدق والإخلاص سلم الفلاح، إن الوجل يقرب الأجل، إن اليأس وضعف الهمة من أسباب الحتف
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون
ألا لا تكونوا ممن كره الله انبعاثهم فثبطهم، وقيل اقعدوا مع القاعدين، احذروا أن تقعوا تحت قول الله:
رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ، إن القرآن حي لا يموت، ومن أصابه نصيب من حمده فهو محمود، ومن أصيب بسهم من مقته فهو ممقوت، كتاب الله لا ينسخ فارجعوا إليه، وحكموه في أحوالكم وطباعكم
وما الله بغافل عما تعملون .
ولعل أمراء المسلمين قد وعظوا بسوء مغبة أعمال السالفين وهموا بملافاة أمرهم، قبل أن يقضى عليهم، بما رزئ به المفرطون من قبلهم، ورجاؤنا أن أول صيحة تبعث إلى الوحدة وتوقظ من الرقدة، تصدر عن أعلاهم مرتبة، وأقواهم شوكة، ولا نرتاب في أن العلماء العاملين ستكون لهم اليد الطولى في هذا العمل الشريف، والله يهدي من يشاء ولله الأمر من قبل ومن بعد.
الفصل العاشر
الوحدة والسيادة أو الوفاق والغلب «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا.» •••
أمران خطيران، تحمل عليهما الضرورة تارة، ويهدي إليهما الدين تارة أخرى، وقد تفيدهما التربية وممارسة الآداب، وكل منهما يطلب الآخر ويستصحبه، بل يستلزمه، وبهما نمو الأمم وعظمها ورفعتها واعتلاؤها؛ وهما: الميل إلى وحدة تجتمع، والكلف بسيادة لا توضع، وإذا أراد الله بشعب أن يوجد ويلقي بوانيه (يثبت ويقيم) إلى أجل مسمى؛ أودع في ضآضئه (أصوله) هذين الوصفين الجليلين، فأنشأه خلقا سويا، ثم استبقى له حياته بقدر ما مكن فيه من الصفتين إلى منتهى أجله.
كل أمة لا تمد ساعدها لمغالبة سواها لتنال منها بالغلب ما تنمو به بنيتها، ويشتد به بناؤها؛ فلا بد يوما أن تقضم وتهضم وتضمحل ويمحى أثرها من بسيط الأرض، إن التغلب في الأمم كالتغذي في الحياة الشخصية، فإذا أهمل البدن من الغذاء وقفت حركة النمو، ثم ارتدت إلى الذبول والنحول، ثم أفضت إلى الموت والهلاك، وليس من الممكن لأمة أن تحفظ قوامها، وتصول على من يليها لتختزل منه ما يكون مادة لنمائها، إلا أن تكون متفقة في تحصيل ما تحتاج إليه هيئتها.
إذا أحسست من أمة ميلا إلى الوحدة فبشرها بما أعد الله لها في مكنون غيبه من السيادة العليا والسلطة على متفرقة الأمم.
إذا تصفحنا تاريخ كل جنس واستقرينا أحوال الشعوب في وجودها وفناها؛ وجدنا سنة الله في الجمعيات البشرية: حظها من الوجود على مقدار حظها من الوحدة، ومبلغها من العظمة على حسب تطاولها في الغلب، وما انحرف شأن قوم وما هبطوا عن مكانتهم، إلا عند لهوهم بما في أيديهم، وقناعتهم بما تسنى لهم، ووقوفهم على أبواب ديارهم، ينظرون طارقهم بالسوء، وما أهلك الله قبيلا إلا بعدما رزئوا بالافتراق، وابتلوا بالشقاق، فأورثهم ذلا طويلا وعذابا وبيلا، ثم فناء سرمديا.
الوفاق تواصل وتقارب، يحدثه إحساس كل فرد من أفراد الأمة بمنافعها ومضارها، وشعور جميع الآحاد في جميع الطبقات بما تكسبه من مجد وسلطان، فيلذ لهم كما يلذ أشهى مرغوب لديهم، وبما تفقده من ذلك، فيألمون له كما يألمون لأعظم رزء يصابون به، وهذا الإحساس هو ما يبعث كل واحد على الفكر في أحوال أمته، فيجعل جزءا من زمنه للبحث فيما يرجع إليها بالشرف والسؤدد، وما يدفع عنها طوارق الشر والغيلة.
ولا يكون همه بالفكر في هذا أقل من همه بالنظر في أحواله الخاصة، ثم لا يكون نظرا عقيما حائزا بين جدران المخيلة، دائرا على أطراف الألسنة، بل يكون استبصارا تتبعه عزيمة يصدر عنها عمل يثابر على استكماله بما يمكن من السعة، وما تحتمله القدرة على نحو ما يكون في استحصال مواد المعيشة بلا فرق، بل تجد الأنفس أن شأن الأمة في المكان الأول من النظر، والدرجة الأولى من الاعتبار، والشئون الخاصة في المنزلة الثانية منهما.
ولا تقف فيما تجد عند جلب المصالح ودرء المفاسد لأوقاتها الحاضرة، بل يأخذ العقلاء منها سبلا من التفكير، ويخترطون سيوفا من الهمة، ليصيبوا من سعيهم شوارد من القوة، ونواد من المكنة، ويستخرجوا دفائن من الثروة ويجمعوا ذلك للأمة، لصيانة حياتها إلى حد العمر اللائق بها، كما يسعى الحازم جهده لتوفير ما يلزم لمعيشته، وما يطمئن به قلبه في دفع حاجته مدة العمر الغالب، بل يزيد عليه ما فيه الكفاية لأبنائه من بعده، وإن الدور الأول من أعمار الأمم لا ينقص عن خمسة قرون ثم تتلوه سائر الأدوار، وأولها أقصرها وهو سن الطفولية، وبدء الكمال فيما يليه، فما أرفع همم العقلاء في الأمم المستبصرة!
إذا بلغ الإحساس من مشاعر أفراد الأمة إلى الحد الذي بيناه، رأيت في الدهماء منهم والخاصة همما تعلو، وشيما تسمو، وإقداما يقود، وعزما يسوق، كل يطلب السيادة والغلب، فتتلاقى هممهم، وتتلاحق عزائمهم في سبيل الطلب، فيندفعون للتغلب على الذين يلونهم، كما تندفع السيول على الوهاد، ولا تقف حركتهم دون الغاية مما نهضوا إليه، ويكون نزوهم على الأمم بعد الغلب الأول تدفقا من الطبع لا يحتاج إلى فكر وروية إلا في إعداد وسائل الفوز والظفر.
هذا الأمران - الوفاق والغلب - عمادان قويان وركنان شديدان من أركان الديانة الإسلامية، وفرضان محتومان على من يستمسك بها، ومن خالف أمر الله فيما فرض منهما عوقب من مقته بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة، جاء في قول صاحب الشرع: «إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا»، وإن المؤمن ينزل من المؤمن منزلة أحد أعضائه إذا مس أحدها ألم تأثر له الآخر، وجاء في نهيه: «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا»، وأنذر ما شذ عن الجماعة بالخسران والهلكة، وضرب له مثل الشاة القاصية تكون فريسة للذئاب.
هذا كله بعدما أمر الله عباده بالاعتصام بحبله، ونهاهم عن التفرق والتغابن، وامتن عليهم بنعمة الأخوة بعد أن كانوا أعداء، ونطق الكتاب الإلهي:
إنما المؤمنون إخوة ، وطلب من المخاطبين بآياته أن يبادروا بإصلاح ذات البين عند التخالف، ثم شدد على وجوب الإصلاح وإن أدى إلى مقاتلة الباغي، فقال:
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ، وإنما أمر الله الدخول فيما اتفق عليه المؤمنون وتوحيد الكلمة الجامعة:
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ، وتوعد الكتاب الأقدس كل من انحرف عن سبيل المؤمنين بالعقاب الأليم، فحكم بأن من يتبع غير سبيل المؤمنين يوله الله ما تولى، ويصله جهنم وساءت مصيرا، وفي أمره الصريح إيجاب التعاون على البر والتقوى، ولا بر أحق بالتعاون عليه من تعزيز كلمة الحق وإعلاء منار الأمة.
وأخبر الصادق
صلى الله عليه وسلم
أن: «يد الله مع الجماعة»، وكفى بالقدرة الإلهية عونا إذا صح الاجتماع وصدقت الألفة، وقد بلغت مكانة الاتفاق في الشريعة الإسلامية أسمى درجة في الرعاية الدينية، حتى جعل إجماع الأمة واتفاقها على أمر من الأمور كاشفا عن حكم الله وما في علمه ، وأوجب الشرع الأخذ به على عموم المسلمين، وعد جحوده مروقا من الدين ، وانسلاخا عن الإيمان، ومن عناية الشارع بأمر الاتفاق قوله
صلى الله عليه وسلم : «لو دعيت إلى حلف الفضول لفعلت» (حلف الفضول: ما كان من هاشم وزهرة وتيم، حيث وفدوا على عبد الله بن جدعان وتحالفوا على أن يدفعوا الظلم ويأخذوا الحق من الظالم، وسمي حلف الفضول؛ لأنهم تحالفوا على أن لا يدعوا عند أحد فضلا يزيد عن حقه ويكون نواله بالظلم إلا أخذوه منه وردوه لمستحقيه)، فهو من حلف الجاهلية، وقد صرح الشارع بقبوله لو دعي إليه، هذا إجمال الأدلة على وجوب الاتفاق وحظر المنابذة والمغابنة بين المسلمين، بل وبينهم وبين غيرهم ممن رضي بذمتهم وقبل جوارهم بالمعروف في شرعهم، فإن سبيل المؤمنين يسعه ولا يضيق عنه.
وأما السعي لإعلاء كلمة الحق وبسطة الملك وعموم السيادة، فلا تجد آية من آيات القرآن الشريف إلا وهي داعية إليه، جاهرة بمطالبة المسلمين بالجد فيه، حاظرة عليهم أن يتوانوا في أداء المفروض منه، ومن الأوامر الشرعية أن لا يدع المسلمون تنمية ملتهم حتى لا يكون فتنة ويكون الدين كله لله، وفي السنة المحمدية والسيرة النبوية، مما يضافر آيات القرآن ما جمعه العلماء في مجلدات يطول عدها، هذا حكم ديننا لا يرتاب فيه أحد من المؤمنين به والمستمسكين بعروته.
هل يمكن لنا - ونحن على ما نرى من الاختلاف والركون إلى الضيم - أن ندعي القيام بفروض ديننا؟ كيف ومعظم الأحكام الدينية موقوف إجراؤه على قوة الولاية الشرعية، فإن لم يكن الوفاق والميل إلى الغلب فرضين لذاتهما، أفلا يكونان مما لا يتم الواجب إلا به؟ فكيف وهما ركنان قامت عليهما الشريعة - كما قدمنا؟ هل لنا عذر نقيمه عند الله يوم العرض والحساب، يوم لا ينفع خلة ولا شفاعة بعد هدم هذين الركنين، وأيسر شيء علينا إقامتهما وعديدنا خمسمائة مليون أو يزيد، هل يتيسر لنا - إذا خلونا بأنفسنا وجادلتنا ضمائرنا - أن نقنعها ونرضيها بما نحن عليه الآن؟
كل هذه الرزايا التي حطت بأقطارنا، ووضعت من أقدارنا، ما كان قاذفنا ببلائها، ورامينا بسهامها إلا افتراقنا وتدابرنا والتقاطع الذي نهانا الله ونبيه عنه. لو أدينا حقوقا تطالبنا بها تلك الكلمة التي تهل بها ألسنتنا، وتطمئن قلوبنا بذكرها - وهي كلمة الله العليا - هل كان يمكن للأغراب أن يمزقوا ممالكنا كل ممزق؟ وهل كان يلمع سيف العدوان في وجوهنا؟ وهل كنا نشيم نيران الأعداء إلا وأقدامنا في صياصيهم، وأيدينا على نواصيهم؟ إن لأبناء الملة الإسلامية يقينا بما جاء به شرعهم، لكن أليس على صاحب اليقين بدين أن يقوم بما فرض الله عليه في ذلك الدين؟
أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين .
ولا ريبة في أن المؤمن يسره أن يعلمه الله صادقا لا كاذبا، وأي صدق تظهره الفتنة ويمتاز به الصادق من الكاذب إلا الصدق في العمل، هل يود المسلم لو يعمر ألف سنة في الذل والهوان وهو يعلم أن الازدراء بالحياة هو دليل الإيمان، أنرضى - ونحن المؤمنون - وقد كانت لنا الكلمة العليا أن تضرب علينا الذلة والمسكنة، وأن يستبد في ديارنا وأموالنا من لا يذهب مذهبنا، ولا يرد مشربنا، ولا يحترم شريعتنا، ولا يرقب فينا إلا ولا ذمة، بل أكبر همه أن يسوق علينا جيوش الفناء حتى يخلي منا أوطاننا، ويستخلف فيها بعدنا أبناء جلدته، والجالية من أمته؟
لا. لا. إن المخلصين في إيمانهم الواثقين بوعد الله في نصر من ينصر الله الثابت في قوله:
إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم
لا يتخلفون عن بذل أموالهم وبيع أرواحهم، والحق داع والله حاكم والضرورة قاضية، فأين المفر؟ المبصر بنور الله يعلم أنه لا سبيل لنصر الله وتعزيز دينه إلا بالوفاق وتعاون المخلصين من المؤمنين، هل يسوغ لنا أن نرى أعلامنا منكسة، وأملاكنا ممزقة، والقرعة تضرب بين الغرباء على ما بقي في أيدينا، ثم لا نبدي حركة، ولا نجتمع على كلمة، وندعي مع هذا أننا مؤمنون بالله وبما جاء به محمد؟ واخجلتاه لو خطر هذا ببالنا ! ولا أظنه يخطر ببال مسلم يجري على لسانه شاهد الإسلام.
إن الميل للوحدة والتطلع للسيادة وصدق الرغبة في حفظ حوزة الإسلام؛ كل هذه صفات كامنة في نفوس المسلمين قاطبة، ولكن دهاهم بعض ما أشرنا إليه في أعداد ماضية، فألهاهم عما يوحي به الدين في قلوبهم وأذهلهم أزمانا عن سماع صوت الحق يناديهم من بين جوانحهم، فسهوا وما غووا، وزلوا وما ضلوا، ولكنهم دهشوا وتاهوا، فمثلهم مثل جواب المجاهيل من الأرض في الليالي المظلمة، كل يطلب عونا وهو معه ولكن لا يهتدي إليه، وأرى أن العلماء العاملين لو وجهوا فكرتهم لإيصال أصوات بعض المسلمين إلى مسامع بعض؛ لأمكنهم أن يجمعوا بين أهوائهم في أقرب وقت، وليس بعسير عليهم ذلك بعدما اختص الله من بقاع الأرض بيته الحرام بالاحترام وفرض على كل مسلم أن يحجه ما استطاع، وفي تلك البقعة يحشر الله من جميع رجال المسلمين وعشائرهم وأجناسهم، فما هي إلا كلمة تقال بينهم من ذي مكانة في نفوسهم تهتز لها أرجاء الأرض، وتضطرب لها سواكن القلوب، هذا ما أعدتهم له العقائد الدينية.
فإن أضفت إليه ما أذاب قلوبهم من تعديات الأجانب عليهم، وما ضاقت به صدورهم من غارات الغرباء على بلادهم، حتى بلغت أرواحهم التراقي، ذهبت إلى أن الاستعداد بلغ من نفوس المسلمين حدا يوشك أن يكون فعلا، وهو مما يؤيد الساعين في هذا المقصد، ويهيئ لهم فوزا ونجاحا بعون الله الذي ما خاب قاصده، وهو ربي إليه أدعو وإليه أنيب.
الفصل الحادي عشر
الأمل وطلب المجد
إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون .
ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون . •••
تلك آيات الكتاب الحكيم، تنبئ عن سر عظيم، اختص الله به الإنسان، ورفعه به على سائر الأكوان، ليبلغ به المقام المحمود، ويحوز ما أعدته له العناية الإلهية من الكمال اللائق به، راجع نفسك، وأصغ لمناجاة سرك؛ تجد في وجدانك ميلا قويا، وحرصا شديدا، يدفعك إلى طلب المجد، وعلو المنزلة في قلوب أبناء جنسك، ثم ارفع بصرك إلى سواد أمة بتمامها؛ تجد مثل ذلك في كليتها كما هو في آحادها، تبتغي رفعة المكانة في نفوس الأمم سواها، ذلك أمر فطري جبل الله عليه طبيعة هذا النوع منفردا ومجتمعا.
ليس من السهل على طالب المجد وعلو المكانة أن يصل إلى ما يطلب، ولكنه يلاقي في الوصول إليه وعرا في السبل، وعقبات تصد عن المسير، ومع هذا فلا يضعف حرصه، ولا ينقص ميله، يقطع شعابا، ويعاني صعابا، حتى يرقى ذروة المجد، ويتسنم شاهق العزة، ولو قام في وجهه مانع عن الاسترسال في مسيره والتجأ للسكون؛ رأيته يتململ كأنما يتقلب على الرمضاء، ولو سبر الحكيم الخبير أعمال البشر، ونسب كل عمل إلى غاية العامل منه؛ رأى أن معظمها في طلب الكرامة وعلو المقام، كل على حسبه، وما يتعلق منها بتقويم المعيشة ليس شيئا مذكورا بالنسبة لما يتعلق بشئون الشرف.
هذه خلة ثابتة في الكافة من كل شعب على اختلاف الطبقات من أرباب المهن إلى أصحاب الأمر والنهي، كل ينافس أهل طبقته في أسباب الكرامة بينهم، ويأنف من ضعته فيهم ويحرص على ما يحله من قلوبهم محل الاعتبار، حتى إذا بلغ الغاية مما به الرفعة عندهم، تخطى حدود تلك الطبقة ودخل في طبقة أخرى، ونافس أهلها في الجاه، ولا يزال يتبع سيره ما دام حيا يخطر في بسيط الأرض؛ ذلك لأن الكمال الإنساني ليس له حد، ولا تحده نهاية، وليس في استطاعة أحد من الناس أن يقنع نفسه ويعتقد أنه بلغ من الكمال حدا ليست بعده غاية.
سبحان الله! ماذا أخذت محبة الشرف من قلب الإنسان، وماذا ملكت من أهوائه؟ يعده ثمرة حياته وغاية وجوده، حتى إنه يحتقر الحياة عند فقده والعجز عن دركه، أو عند مسه والخوف من سلبه، أرأيت أن فقيرا ذا أسمال لا يؤبه له إذا اعتدى عليه من تطول يده إليه بفعلة تهينه، أو قذفة تشينه؛ يغلبه الغضب للدفاع عن المنزلة التي هو فيها فيرتكب مخاطرة ربما تفضي به إلى الموت، وإن القذف أو الإهانة ما نقصت شيئا من طعامه ولا شرابه، ولا خشنت مضجعه في مبيته، آلاف مؤلفة من الناس في الأجيال المختلفة والأجناس المتنوعة ألقوا بأنفسهم إلى المهالك، وماتوا دفاعا عن الشرف أو طلبا للكرامة والمجد.
جل شأن الله، لا يهنأ للإنسان طعام ولا شراب، ولا يلين له مضجع إلا أن يلحظ فيه أن ما نال منه أعلى مما نال سواه، مع وقوف بعض من الناس على ذلك ليعترفوا له بالأعلوية فيه، كأن لذة التغذية والتوليد إنما وضعت لتكون وسيلة للذة المباهاة والمفاخرة، فما ظنك بسائر اللذائذ.
كم يعاني الإنسان من التعب البدني، وكم يقاسي من مشاق الأسفار، وكم يخاطر بروحه في اقتحام الحروب والمكافحات، وكم يتحمل في الانقطاع عن اللذات، مع التمكن منها، كل ذلك لينال شهرة أو ليكسب فخارا أو ليحفظ ما أتاه الله منه، ما أجل عناية الله بالإنسان! لا يعيش إلا ليشرف فيشرف به العالم، وكل لذة دون الشرف فهي وسيلة إليه، بل الحياة الدنيا هي السبيل الوعرة يسلكها الحي إلى ما يستطيع من المجد، وفي نهاية الأجل يفارقها قرير العين بما قارب منه، آسف الفؤاد على ما قصر عنه.
ما هو المجد الذي يسعى إليه الإنسان بالإلهام الإلهي، ويخوض الأخطار في طلبه ويقارع الخطوب في تحصيله؟ هو شأن تعترف النفوس لصاحبه بالسؤدد، وتذعن له بالاعتلاء، وتلقي إليه قياد الطاعة، يكون هذا له ولكل من يدخل في نسبته إليه من ذوي قرابته وعشيرته وسائر أمته، فتنفذ كلمته إليه وكلمة المتصلين به، والملتحمين معه في شئون من سواهم، وهو أعظم مكافأة من العزيز الحكيم على معاناة الأوصاب لتحصيل ذلك الشأن في هذه الحياة الأولى، فما كان يحسبه طالب المجد عائدا إلى نفسه بالمنفعة، يبارك فيه مدبر الكون فيفيض خيره على بني جلدته أجمعين، واها! تلك حكمة بالغة: إذا نال الواحد من الأمة مطلبه من المجد نالت الأمة حظها من السؤدد، نعم، وهل نال ما نال إلا بمعونة سائر الآحاد منها؟
ذلك تقدير العزيز العليم . ماذا يستطيع المجاهد وحده، وماذا يكسبه من سعيه؟ إن لم يكن له إعضاد من بني قبيله، فمن كان همه أن يصعد إلى عرش العزة، ويرقى إلى ذروة السيادة، فعليه أن يهيئ نفسه والمنتمين إليه لتحصيل كل ما يعد في العالم الإنساني فضيلة وكمال، ما أصعب القيام بخدمة هذا الميل الفطري والإلهام الإلهي! وما أشد ما تحمل النفوس في قضاء بعض الوطر مما يتصل به! وما أعظم الحامل للأنفس على تجشم المصاعب لنيل ما تميل إليه من هذا الأمر الرفيع! ما هذا الباعث الشريف الذي يسهل على الأرواح كل صعب ويقرب كل بعيد، ويصغر كل عظيم، ويلين كل خشن، ويسليها عن جميع الآلام، ويرضيها بالتعرض للتهلكة ومفارقة الحياة، فضلا عن بذل كل نفيس، والسماح بكل عزيز، هذا الباعث الجليل، وهذا الموجب الفعال هو الأمل.
الأمل ضياء ساطع في ظلام الخطوب، ومرشد حاذق في يهماء الكروب، وعلم هاد في مجاهيل المشكلات، وحاكم قاهر للعزائم إذا اعترتها فترة، ومستفز للهمم إن عرض لها سكون، ليس الأمل هو الأمنية والتشهي اللذين يلمحهما الذهن تارة بعد أخرى، ويعبر عنهما بليت لي كذا من المال وكذا من الفضل مع الركون إلى الراحة والاستلقاء على الفراش، واللهو بما يبعد عن المرغوب كأن صاحبهما يروم أن يبدل الله سنته في سير الإنسان عناية بنفسه الشريفة أو الخسيسة، فيسوق إليه ما يهجس بخاطره دون أن يصيب تعبا أو يلاقي مشقة، إنما الأمل رجاء يتبعه عمل، ويصحبه حمل النفس على المكاره، وعرك لها في المشاق والمتاعب، وتوطينها لملاقاة البلاء بالصبر، والشدائد بالجلد، وتهوين كل ملم يعرض لها في سبيل الغرض من الحياة، حتى يرسخ في مداركها أن الحياة لغو إذا لم تغذ بنيل الأرب، فيكون بذل الروح أول خطوة يخطوها القاصد فضلا عن المال الذي لا يقصد منه إلا وقاية بناء الحياة من صدمات حوادث الكون.
وكما كان الميل للرفعة أمرا فطريا، كذلك الأمل وثقة النفس بالوصول إلى غاية سعيها من ودائع الفطرة، غير أن ثبوتهما في فطرة عموم البشر كان داعيا للمزاحمات والممانعات، فإن كل واحد بما أودع في جبلته يطلب الكرامة والتمكن في قلب الآخر، فكل طالب ومطلوب.
ولم تبلغ سعة العقل الإنساني إلى درجة تعين لكل فرد من الأفراد عملا تكون له به المنزلة العليا في جميع النفوس، غير ما يكون به للآخر مثل تلك المنزلة، حتى يكون جميعهم أمجادا شرفاء بما يأتون من أعمالهم، ولكنهم تزاحموا في الآمال والأهواء، ومسالكهم ضيقة، ومشارعهم ضنكة، فنشأت تلك المقاومات والمصادمات بين النوع البشري؛ حكمة من الله ليعلم الذي جاهدوا ويعلم الصابرين.
فإذا توالى الصدام على شخص أو قوم حدث في الهمم ضعف وأصابها انحطاط، وحصل الفساد في هاتين الحليتين الشريفتين «الرجاء وطلب المجد»، كما يحصل الفساد في سائر الأخلاق الفاضلة بسوء التربية وربما يئول الضعف إلى اليأس والقنوط - نعوذ بالله منهما.
ماذا يكون حال القانطين المنقطعة آمالهم، يحكمون على أنفسهم بالحطة، ويسجلون عليها العجز عن كل رفعة، فيأتون الدنايا ويتعاطون الرذائل، ولا ينفرون من الإهانة والتحقير بل يوطنون أنفسهم على قبول ما يوجه إليهم من ذلك - أيا كان - فتسلب منهم جميع الإحساسات والوجدانات الإنسانية التي يمتاز بها الإنسان عن الأنعام، فيرضون بما ترضى به البهائم، فلا يهتمون إلا بحاجات قبقبهم وذبذبهم.
ثم يا ليتهم يكونون هملا وسوائب يرعون النبات، ويتبعون مواقع الغيث، ولكنهم وإن تركوا العمل لأنفسهم فالله تعالى يسلط عليهم من يكلفهم بالعمل لغيرهم، فيكونون كالنمال الحمالة لا تستفيد مما تحمل شيئا، وظيفتها أن تسعى وتشقى ليسعد غيرها ويستريح، فيعالجون العمل في الفلاحة والصناعة وغيرهما من الأعمال الشاقة، ويدأبون بأشد مما يدأب العامل لنفسه، ثم لا ينالون مما يعملون شيئا.
ثمرات كسبهم بأسرها محولة إلى الذين سادوا عليهم بهممهم (هذا الذي يتجشمه الذليل في ذله من مشاق الأعمال ومعاناة المكاره لو تحمل بعضا منه في طلب العزة لأصاب حظه منها) بل تصير درجة القانطين عند من سادوا عليهم أدنى من درجة الحيوانات العاملة، فإن السائدين يشعرون - بحكم البداهة - أن هؤلاء أسقطوا أنفسهم عن منزلة كانوا سيستحقونها بمقتضى الفطرة الإنسانية، ورضوا لها بما دون حقها، بل بما لا يصح أن يكون من شأنها، وكفروا نعمة الله في تكوينهم على الشكل الإنساني وإيداعهم ما أودع في أفراد الإنسان، فيعاملهم أولئك السادات بما لا يعاملون به ما يقتنون من الحيوانات، ولنا على ذلك شاهد العيان في الأمم التي أدركها اليأس وسقطت في أيدي الأجانب.
ونظن أنه يوجد أقوام آخرون سامهم سادتهم في الزمن السابق - ويسومونهم الآن - ما لا تسام به السوائم الراعية، وهم على القرب منا وليسوا ببعيد عنا.
عجبا، كيف تتبدل أحكام الجبلة وكيف يمحى أثر الفطرة؟ كيف تسفل النفس حتى لا تطلب رفعة؟ وكيف تقنط حتى لا يكون لها أمل، والأمل وحب الكرامة طبيعيان في الإنسان؟ بعد إمعان النظر نجد السبب في ذلك ظن الإنسان أن جميع أعماله إنما تصدر عن قدرته وإرادته بالاستقلال، وأن قوته هي سلطان أعماله، وليس فوق يده يد تمده بالمعونة أو تصده بالقهر، فإذا صادفته الموانع مرة بعد أخرى وقطعت عليه سبيل الوصول لمطلبه، رجع إلى قدرته فوجدها فانية، وقوته فرآها واهنة، فيعترف بوهنه، ويسكن إلى عجزه، فييأس ويقنط، ويذل ويسفل اعتقادا منه بأنه لا دافع لتلك الموانع التي تعاصت على قدرته، ومتى كانت قوة المانع أعظم من قوته فلا سبيل إلى العمل لاستحالة قهر المانع، فيقطع الأمل فيقع في الشقاء الأبدي.
أما لو أيقن أن لهذا الكون مدبرا عظيم القدرة تخضع كل قوة لعظمته، وتدين كل سطوة لجبروته الأعلى، وأن ذلك القادر العظيم بيده مقاليد ملكه يصرف عباده كيف يشاء؛ لما أمكن مع هذا اليقين أن يتحكم فيه اليأس، وتغتال آماله غائلة القنوط، فإن صاحب اليقين لو نظر إلى ضعف قدرته لا يفوته النظر إلى قوة الله التي هي أعلى من كل قوة، فيركن إليها في أعماله، ولا يجد اليأس إلى نفسه طريقا، فكلما تعاظمت عليه الشدائد زادت همته انبعاثا في مدافعتها معتمدا على أن قدرة الله أعظم منها، وكلما أغلق في وجهه باب فتحت له من الركون إلى الله أبواب، فلا يمل ولا يكل، ولا تدركه السآمة، لاعتقاده أن في قدرة مدبر الكون أن يقهر الأعزاء، ويلقي قيادهم إلى الأذلاء، وأن يدك الجبال، ويشق البحار، ويمكن الضعفاء من نواصي الأقوياء، وكم كانت لقدرة الله من هذه الآثار.
فتشتد عزيمته ويدأب فيما كلفه الله من السعي لنيل الكمال والفوز بما أعده الله له من السعادة في الأولى والآخرة، وما كان لموقن بالله وبقدرته وعزته وجبروته أن يقنط وييأس، ولهذا أخبر الله تعالى عن الواقع والحقيقة التي لا ريبة فيها بما قال وهو أصدق القائلين:
إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ، وبما حكي من قول نبيه إبراهيم:
ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ، فقد جعل الله اليأس والقنوط دليلا على الكفر، ومن أين يطرق اليأس قلبا عقد على الإيمان بالله وقدرته الكاملة.
لهذا نقول: إن المسلمين لا يسمح لهم يقينهم بالله وبما جاء به محمد - عليه الصلاة والسلام - أن يقنطوا من رحمة ربهم في إعادة مجدهم مع كثرة عددهم، ولا يسوغ لهم إيمانهم أن يرضخوا للذل، ويرضوا للضيم، ويتقاعدوا عن إعلاء كلمتهم وهم إلى الآن محفوظون مما ابتلي به كثير من الأمم، فإن لهم ملوكا عظاما، ولا يزال في أيديهم ملك عظيم على بسيط الأرض، وإن من الحق أن نقول: إن أبواب رحمة الله مفتحة لديهم وما عليهم سوى أن يلجوها، وإن روح الله نافحة عليهم وما يلزمهم سوى أن يستنشقوها، والفرص دائما تمد أيديها إليهم تطلب إنهاضهم وتنبه غافلهم وتوقظ نائمهم، وليس عليهم في استرجاع مكانتهم الأولى والصعود إلى مقامهم الأول إلا أن يجمعوا كلمتهم ويتعاونوا على ما يقصدون من إعزاز ملتهم، وذلك أيسر ما يكون عليهم، بعد تمكن الجامعة الدينية بينهم، فأي موجب لليأس وأي داع للقنوط وبين أيديهم كتاب الله الناطق بأن اليأس من أوصاف الضالين، وهل توجد واسطة بين الرشد والغي
فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ هل يكون للقانطين فيهم من عذر؟ أيرضون بالعبودية للأجانب بعد تلك السيادة العليا، ماذا يبتغون من الحياة إن كانت في ذل وإهانة وفقر وفاقة وشقاء دائم بيد عدو غاشم؟ أيطمئنون وهم بين أجنبي حاكم، وبغيض شامت، ومقبح غبي، ومشنع دني، ومعير خسيس ، يرمونهم بضعف العقول ونقص الاستعداد، ويحكمون بأن محالا عليهم أن يصيروا أمة في عداد الأمم؟ ألم ينسلخ الإنسان عن كل خاصة إنسانية؟ كيف يرضى بحياة مكتنفة بكل هذه التعاسات والمكدرات؟ أينسون أنهم كانوا الأعلين في الأرض وما طال على ذلك الزمان، ولا محيت التواريخ ولا عفت الآثار، ولا اضمحلت بالكلية شوكة المسلمين من وجه الأرض.
إن كان للعامة عذر في الغفلة عما أوجب الله عليهم، فأي عذر يكون للعلماء وهم حفظة الشرع والراسخون في علومه، لم لا يسعون في توحيد متفرق المسلمين؟ لم لا يبذلون الجهد في جمع شملهم؟ لم لا يفرغون الوسع لإصلاح ما فسد من ذات بينهم؟ لم لا يأتون على ما في الطاقة لتقوية آمال المسلمين، وتذكيرهم بوعود الله التي لا تخلف لمن صدق في طاعته واليقين به، وتبشيرهم بهبوب روح الله على أرواحهم؟
بلى، إن قوما شرح الله صدرهم للإيمان قاموا بهذا الأمر في مواقع مختلفة من الأرض، يجمع التواصل بينها عقدة واحدة، إلا أن أملنا في بقية المسلمين أن يتفقوا معهم ويقوموا بتعضيدهم، ليتمكن الجميع من نصر الله
إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم .
الفصل الثاني عشر
رجال الدولة وبطانة الملك وكيف يجب أن يكونوا؟
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون . •••
قالوا: تصان البلاد ويحرس الملك بالبروج المشيدة، والقلاع المنيعة، والجيوش العاملة، والأهب الوافرة، والأسلحة الجيدة، قلنا: نعم، هي أحراز وآلات لا بد منها للعمل فيما يقي البلاد، ولكنها لا تعمل بنفسها، ولا تحرس بذاتها، فلا صيانة بها ولا حراسة إلا أن يتناول أعمالها رجال ذوو خبرة، وأولو رأي وحكمة، يتعهدونها بالإصلاح زمن السلم، ويستعملونها فيما قصدت له زمن الحرب.
وليس بكاف حتى يكون رجال من ذوي التدبير والحزم وأصحاب الحذق والدراية يقومون على سائر شئون المملكة، يوطئون طريق الأمن، ويبسطون بساط الراحة، ويرفعون بناء الملك على قواعد العدل، ويوقفون الرعية عند حدود الشريعة، ثم يراقبون روابط المملكة مع سائر الممالك الأجنبية ليحفظوا لها المنزلة التي تليق بها بينها، بل يحملوها على أجنحة السياسة القويمة إلى أسمى مكانة تمكن لها.
ولن يكونوا أهلا للقيام على هذه الشئون الرفيعة حتى تكون قلوبهم فائضة بمحبة البلاد، طافحة بالمرحمة والشفقة على سكانها، وحتى تكون الحمية ضاربة في نفوسهم آخذة بطباعهم، يجدون في أنفسهم منبها على ما يجب عليهم، وزاجرا عما لا يليق بهم، وغضاضة وألما موجعا عندما يمس مصلحة الدولة ضرر، ويوجس عليها من خطر، ليتيسر لهم بهذا الإحساس وتلك الصفات أن يؤدوا أعمال وظائفهم كما ينبغي، ويصونوها من الخلل الذي ربما يفضي قليله إلى فساد كبير في الملك، فهؤلاء الرجال بهذه الخلال هم المنعة الواقية والقوة الغالبة.
يسهل على حاكم في أي قبيل أن يكتب الكتائب ويجمع الجنود ويوفر العدد من كل نوع بنقد النقود وبذل النفقات، ولكن من أين يصيب بطانة من أولئك الذين أشرنا إليهم: عقلاء رحماء، وأباة أصفياء، تهمهم حاجات الملك كما تهمهم ضرورات حياتهم؟ لا بد أن يتبع في هذا الأمر الخطير قانون الفطرة، ويراعي ناموس الطبيعة؛ فإن متابعة هذا الناموس تحفظ الفكر من الخطأ وتكشف له خفيات الدقائق، وقلما يخطئ في رأيه أو يتأود في عمله من أخذ به دليلا، وجعل له من هديه مرشدا، وإذا نظر العاقل في أنواع الخطأ التي وقعت في العالم الإنساني من كلية وجزئية وطلب أسبابها؛ لا يجد لها من علة سوى الميل عن قانون الفطرة، والانحراف عن سنة الله في خلقه.
من أحكام هذا الناموس الثابت أن الشفقة والمرحمة والحمية والنعرة على الملك والرعية؛ إنما تكون لمن له في الأمة أصل راسخ ووشيج يشد صلته بها، هذه فطرة فطر الله الناس عليها، إن الملتحم مع الأمة بعلاقة الجنس أو المشرب يراعي نسبته إليها ونسبتها إليه، ويراها لا تخرج عن سائر نسبه الخاصة به، فيدافع الضيم عن الداخلين معه في تلك النسبة دفاعه عن حوزته وحريمه (راجع رأيك فيما تشهده كثيرا حتى بين العامة عندما يرمي أحدهم أهل البلد الآخر أو دينه بسوء على وجه عام، كسوري ينتقد المصريين أو مصري ينتقد السوريين)، هذا إلى ما يعلمه كل واحد من الأمة أن ما تناله أمته من الفوائد يلحقه حظ منها، وما يصيبها من الأرزاء يصيبه سهم منه، خصوصا إن كان بيده هامات أمورها وفي قبضته زمام التصرف فيها؛ فإن حظه من المنفعة أوفر ومصيبته بالمضرة أعظم، وسهمه من العار الذي يلحق الأمة أكبر، فيكون اهتمامه بشئون الأمة التي هو منها وحرصه على سلامتها بمقدار ما يؤمله من المنفعة أو يخشاه من المضرة.
فعلى ولي الأمر في الدولة أن لا يكل شيئا من عمله إلا إلى أحد رجلين: إما رجل يتصل به في جنسية سالمة من الضعف والتمزيق موقرة في نفوس المنتظمين فيها، محترمة في قلوبهم، يحملهم توقيرها واحترامها على التفاني في وقايتها من كل شين يدنو منها، ولم توهن روابطها اختلافات المشارب والأديان، وإما رجل يجتمع معه في دين قامت جامعته مقام الجنسية، بل فاقت منزلته من القلوب منزلتها، كالدين الإسلامي الذي حل عند المسلمين - وإن اختلفت شعوبهم - محل كل رابطة نسبية، فإن كلا من الجامعتين - الجنسية على النحو السابق والدينية - مبدآن للحمية على الملك ومنشآن للغيرة عليه.
أما الأجانب الذين لا يتصلون بصاحب الملك في جنس ولا في دين تقوم رابطته مقام الجنس، فمثلهم في المملكة كمثل الأجير في بناء بيت، لا يهمه إلا استيفاء أجرته، ثم لا يبالي أسلم البيت أو جرفه السيل أو دكته الزلازل، هذا إذا صدقوا في أعمالهم يؤدون منها بمقدار ما يأخذون من الأجر، واقفين فيها عند الرسم الظاهر، فإن الواحد منهم لا يشرف بشرف الأمة الذي هو خادم فيها ولا يمسه شيء مما يمسها من الضعة؛ لأنه منفصل عنها، إذا فقد العيش فيها فارقها وارتد إلى منبته الذي ينتسب إليه، بل هو في حال عمله وخدمته لغير جنسه لاصق بمنبته في جميع شئونه ما عدا الأجر الذي يأخذه.
وهذا معلوم ببداهة العقل فلا يجد في طبيعته ولا في خواطر قلبه ما يبعثه على الحذر الشديد مما يفسد الملك أو الحرص الزائد على ما يعلي شأنه، بل لا يجد باعثا يبعثه على الفكر فيما يقوم مصلحته من أي وجه، هذه حالهم هي لهم بمقتضى الطبيعة لو فرضنا صدقهم وبراءتهم من أغراض أخر، فما ظنك بالأجانب لو كانوا نازحين من بلادهم فرارا من الفقر والفاقة وضربوا في أرض غيرهم طلبا للعيش من أي طريق، وسواء عليهم في تحصيله صدقوا أو كذبوا، وسواء وفوا أو قصروا، وسواء راعوا الذمة أو خانوا، أو لو كانوا مع هذا كله يخدمون مقاصد لأممهم يمهدون لها طرق الولاية والسيادة على الأقطار التي يتولون الوظائف فيها - كما هو حال الأجانب في الممالك الإسلامية، لا يجدون في أنفسهم حاملا على الصدق والأمانة، ولكن يجدون منها الباعث على الغش والخيانة.
1
ومن تتبع التواريخ التي تمثل أحوال الأمم الماضية وتحكي لنا عن سنة الله في خليقته وتصريفه لشئون عباده؛ رأى أن الدول في نموها وبسطتها ما كانت مصونة إلا برجال منها يعرفون لها حقها كما تعرف لهم حقهم، وما كان شيء من أعمالها بيد أجنبي عنها، وأن تلك الدول ما انخفض مكانها ولا سقطت في هوة الانحطاط إلا عند دخول العنصر الأجنبي فيها، وارتقاء الغرباء إلى الوظائف السامية في أعمالها؛ فإن ذلك كان في كل دولة آية الخراب والدمار، خصوصا إذا كان بين الغرباء وبين الدولة التي يتناولون أعمالها منافسات وأحقاد مزجت بها دماؤهم، وعجنت بها طينتهم من أزمان طويلة.
نعم، كما يحصل الفساد في بعض الأخلاق والسجايا الطبيعية لسبب العوارض الخارجية؛ كذلك يحصل الضعف والفتور في حمية أبناء الدين والأمة، ويطرأ النقص على شفقتهم ومرحمتهم، فينقص بذلك اهتمام العظماء منهم بمصالح الملك إذا كان ولي الأمر لا يقدر أعمالهم حق قدرها، وفي هذه الحالة يقدمون منافعهم الخاصة على فرائضهم العامة، فيقع الخلل في نظام الأمة ويضرب الفساد، ولكن ما يكون من ضره أخف وأقرب إلى التلافي من الضرر الذي يكون سببه استلام الأجانب لهامات الأمور في البلاد؛ لأن صاحب اللحمة في الأمة وإن مرضت أخلاقه واعتلت صفاته إلا أن ما أودعته الفطرة وثبت في الجبلة، لا يمكن محوه بالكلية، فإذا أساء في عمله مرة أزعجه من نفسه صائح الوشيجة الدينية أو الجنسية، فيرجع إلى الإحسان مرة أخرى، وإن ما شد بالقلب من علائق الدين أو الجنس لا يزال يجذبه آونة بعد آونة لمراعاتها والالتفات إليها، ويميله إلى المتصلين معه بتلك العلائق وإن بعدوا.
لهذا يحق لنا أن نأسف غاية الأسف على أمراء الشرق، وأخص من بينهم أمراء المسلمين، حيث سلموا أمورهم ووكلوا أعمالهم؛ من كتابة وإدارة وحماية؛ للأجانب عنهم، بل زادوا في موالاة الغرباء والثقة بهم حتى ولوهم خدمتهم الخاصة بهم في بطون بيوتهم، بل كادوا يتنازلون لهم عن ملكيتهم في ممالكهم، بعدما رأوا كثرة المطامع فيهم لهذا الزمان، وأحسوا بالضغائن والأحقاد الموروثة من أجيال بعيدة، وبعدما علمتهم التجارب أنهم إذا ائتمنوا خانوا، وإذا عززوا أهانوا، يقابلون الإحسان بالإساءة والتوقير بالتحقير، والنعمة بالكفران، ويجازون على اللقمة باللطمة، والركون إليهم بالجفوة، والصلة بالقطيعة، والثقة فيهم بالخدعة.
أما آن لأمراء الشرق أن يدينوا لأحكام الله التي لا تنقض؟ ألم يأن لهم أن يرجعوا إلى حسهم ووجدانهم؟ ألم يأت وقت يعملون فيها بما أرشدتهم الحوادث ودلتهم عليه الرزايا والمصائب؟ ألم يحن لهم أن يكفوا عن تخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم؟
ألا أيها الأمراء العظام، ما لكم وللأجانب عنكم، ها أنتم تحبونهم ولا يحبونكم، قد علمتم شأنهم ولم تبق ريبة في أمرهم
إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ، سارعوا إلى أبناء أوطانكم وإخوان دينكم وملتكم، وأقبلوا عليهم ببعض ما تقبلون به على غيرهم؛ تجدوا فيهم خير عون وأفضل نصير، اتبعوا سنة الله فيما ألهمكم وفطركم عليه كما فطر الناس أجمعين، وراعوا حكمته البالغة فيما أمركم وما نهاكم؛ كي لا تضلوا ويهوي بكم الخطل إلى أسفل سافلين، ألم تروا، ألم تعلموا، ألم تحسوا، ألم تجربوا ، إلى متى؟ إلى متى؟ إنا لله وإنا إليه راجعون.
الفصل الثالث عشر
كم حكمة لله في حب المحمدة الحقة
العالم الإنساني كتاب المعتبر، وسفر المستبصر، وكل قرن من قرونه صفحة، وكل جيل من الناس سطر فيه أو جملة، ولنا في كل ما خطه القلم الإلهي عبرة.
أول ما يفيدنا النظر فيه وقوفنا على أحوال الشعوب في أطوارها المختلفة، وأدوارها المتبدلة، فترى أمما علت وسمت وحلقت في جو المعالي وجازت في الرفعة مسارح النظر، ثم انحدرت بعد هذا وتدهورت وعفت رسومها، ولم يبق لها أثر إلا في الروايات والأحاديث، ومنها أجيال كانت في ثني العدم ثم اكتست حلية الوجود، واتخذت من الاجتماع الإنساني مكان الهامة من الجسد، ثم انطوت وأخنت عليها أمهات قشعم، ومنها ما نراه اليوم يسحب مطارف العزة، ويشرف على العالم بالأمر والنهي من شواهق القوة.
فمن الناس من تتجلى له هذه الشئون وتلك الأطوار كما تعرض عليه التماثيل ينبسط لبعضها إذا أعجبه، وينقبض للآخر إذا أنكره، وهو في غفلة عن منشأ ظهورها وعلل انقلابها، فإن سئل عن السبب قال: سبحان الله! هكذا كان وهكذا يكون، وما هو إلا بخت يسعد فيسعد به السعداء، وينحس فيتعس به الأشقياء.
ومنهم من تنفذ بصيرته إلى الحقيقة، فيقف على ما هيأه الله من الأسباب التي تتبعها أحوال الأمم في صعودها وهبوطها، ويعلم أن ما سيق من الخير لأمة إنما كان بأيدي آحاد من أمثالها جدوا وجاهدوا، وبما بذلوا من نفائسهم وأنفسهم فازوا بتأصيل المجد لشعوبهم وبني جنسهم، ويرى لأولئك الأعلام ذكرا يرفع ومكانة من القلوب تحمد، وتمييزا عند الخلف بالكرامة، وهم لم يخالفوا الناس في جسومهم ودمائهم، وإنما تقدموهم بهممهم، وقد يسوقه الاعتبار إلى الاقتداء بهم رغبة في اقتطاف ثمار الثناء وتخليد الذكر، فإذا أخذ مأخذهم، واستقام على طريقهم فلا يكاد يخطو بعض خطوات ومبدأ المسير تحت نظره، حتى تتعثر أقدامه في أياد مقطعة، ورءوس مجذوذة، وأشلاء مبددة، وشعور منثورة، وصدور مدقوقة، ويشهد الطريق مضرسة بقبور الشهداء، من طلاب الحق والناهجين في منهاجه، ولا محيص عن سلوكها، وتبدو له غابات وأدغال يرجع إليه منها صدى زئير الآساد وزمجرة الضراغم، ولا بد له من اختراقها.
هكذا تنكشف لطالب المعالي موحشات مدهشات مصاولة المخاطر أدناها، والموت الشريف أقصاها وأعلاها، فتارة يخور عزمه ويضعف همه فينكص على عقبيه، ويرتد إلى أسوأ حاليه، ويرتع في مراتع أمثاله، حتى يروح إلى عطنه الأولى به وهو العدم، وتارة يوحي إليه الإلهام الإلهي أن الشخص في خاصته والأمم في هيئاتها ونوع الإنسان في مجموعه، تطالبها صورة الإبداع بأعمال شريفة دونها إجهاد الأنفس في السعي، وحملها على ما لا تهوى، ومغالبة الأهوال والغوائل، وفيما أودع الله الإنسان من القوى العالية، والخواص السامية، أكبر مساعد على ما تندفع إليه الهمة، وتنبعث له العزيمة.
إن من أحياه الله بالحياة الإنسانية كلما هاجمته المصاعب لا يزداد إلا حرصا على قهرها، كما أن صاحب الشمم لا يزيده الخصام إلا حدة في الجدال، وإصرارا على إقناع المخاصم، وكثير ممن على شكل الإنسان يحيا حياته هذه بروح حيوان آخر، وهو يعاني فيها من الشقاء أشد مما يعانيه الإنسان في إبراز مزايا الإنسان.
إن صاعد الجبل ربما يجد شيئا من التعب ويخشى مفترسة الكواسر، ولكن قد ينجو منها ويستريح على القنة، ويعتصم بمكانه من الرفعة، وتقصر عنه يد المتناول، أما من أخلد إلى أسفل فحظه من الحياة خوف لا ينقطع، وإشفاق لا يزول، كل لحظة توعده بالسقوط في صيد الصائد، والوقوع بين أنياب الغائل، مات من الناس كثير في طلب العلاء ولم ينالوا، وبلغ كثير من المطالبين غاية ما أملوا، ولكن هلك بالفتك أضعاف هؤلاء وهؤلاء ممن رئموا الخمول، ورضوا بالحياة الحيوانية - هذه أحاديث الحق ونفثات الروح الزكية تبعث من أيده الله ووهبه نعمة العقل إلى مداومة السير واقتفاء أثر الماضين إلى أشرف المقاصد، فإما وصل وإما مات كما يموت الكرام.
لم تنل أمة من الأمم مزية من المزايا المحمودة عند بني البشر، سواء في العلوم والمعارف، والآداب والفضائل، أو القوانين والنواميس العادلة، أو العسكرية وقوة الحماية ؛ حتى خرج آحاد منها إلى ما تخشاه النفوس وتهابه القلوب، وسلكوا تلك المسالك الوعرة، فبلغوا بأممهم أقصى ما بلغت بهم هممهم، مع الاعتماد على العناية الأزلية في جميع سيرهم.
ماذا يريد القانون في خدمة الأمم أو النوع الإنساني، والمنفقون لحياتهم في أعمال فادحة يعود نفعها على من تجمعه معهم جامعة الأمة أو الملة أو يشاركهم في النوع؟ أليس قد جعل الله لكل شيء سببا؟ أليس من سنة الله في عباده أن لا تتجه الإرادة البشرية إلى حركة تصدر عن المريد إلا بعد تصور غاية تعود إلى ذاته، وبعد اليقين أو راجح الظن بأنه يستفيد الغاية من العمل؟ فإن كل الأجل يذهب في مساورة الآلام الروحية، والعمر ينفد في مناهدة الأوصاب البدنية، فماذا يقصدون من أعمالهم؟ إن كان يوجد في أبناء جلدتهم، وذوي ملتهم، من يساعد حوادث الكون إلى إيلامهم، وممانعتهم في مقاصدهم، وصدهم عن السعي فيما يرجع خيره إلى أنفس المعارضين، ويثخن فيهم جراح اللوم والتقريع والشماتة والتشنيع، أو يدافعهم بالمكافحة والمنازلة، فما الذي يبتغون من جدهم وكدهم؟ لا لذة تجتنى، ولا ألم يتقى، فما هذا الباعث القوي الذي غلب الأهواء، ولم يضعفه جهد البلاء؟
نعم، أودع الله في الإنسان ميلا أقوى من كل ميل، وهو أخص خاصة فيه يمتاز بها عن غيره من الأنواع، وهو (حب المحمدة الحقة وحسن الذكر من وجوه الحق)، أقول هذا تفاديا من حب المحمدة من أي وجه، حقا كان أو باطلا، وطلب الثناء بالزور والغش والرياء، والظهور بمظاهر الأخيار، مع تبطن سرائر الأشرار، فإن هذا من أسوأ الخلال، وإنما يعرض بعد اعتلال الفطرة وفساد الطبيعة.
المحمدة هي الغذاء الروحاني، والمقوم النفساني، وكلما قرب الشخص من الكمال الإنساني تهاون بالشهوات أو ازدرى باللذائذ الحسية، وقوي فيه الميل إلى المحمدة الباقية، وبذل الوسع فيما يفيدها من جلائل الأعمال، تأمل، إن الفاضل يرى له في هذا العالم أجلين، أقصرهما الأجل المحدود من يوم ولادته إلى نهاية العمر المقدر، والآخر أبعد من هذا نهاية، وبدايته عندما ينجم من عمله الصالح أثر لمنفعة تشمل أمته أو تعم النوع الإنساني، وغاية هذا الأجل عندما يمحى أثره من ألواح النفوس وصفحات التاريخ، فللروح الفاضلة وجودان: وجود في بدنها الخاص، ووجود في جميع الأبدان، وهو ما يكون بحلولها من كل روح محل الكرامة والتبجيل، ولا ريب أن هذا الأجل الطويل، وهذا الوجود العريض؛ خير من ذاك الأجل القصير، وذاك الوجود الكز،
1
وحقيق بالإنسان أن يبيع ما هو أدنى بالذي هو خير.
يطول بي الكلام فأقصر، إن الله الذي وهب كل نوع ما به كماله، وضع في جبلة البشر ميلا إلى الحمد، وألهمهم تأدية حقه لمستحقه، ألم تر انطلاق الألسن في كل أمة بالثناء على كل من كان سببا لها في مجد ورفعة، أو نهوض من سقطة، أو توحيد كلمة، أو تجديد قوة، أو كمال في فضيلة، أو تقدم في علم أو صنعة، ويرسمونه في الألواح، ويسجلون مدحته في بطون التواريخ، ويرفعون له الهياكل والتماثيل، ويحفظون له ذكرا حميدا يتناقله الأبناء عن الآباء، حتى ينقرضوا وينقرض العالم.
إذا جحدت الأمة حق العالم لها، أو قصرت في استحسان عمله، ضعفت الهمم، وقل السعي في المصالح العامة، وانقبضت الأيدي عن تعاطيها، فهبطت شئون الأمة، فافترقت وماتت.
إن الله - جل شأنه - قرن كل حادث بسبب، فإذا استوى لدى الأمة الحسن والقبيح، والطيب والخبيث، والفضيلة والرذيلة، والمصلحة والمفسدة، وفقد منها التمييز، ولم تقدر أعمال العاملين حق قدرها، ولم تعرف معروفا، ولم تنكر منكرا، سلبت آحادها الميل إلى المعالي والكمالات، وكان هذا أشد نكاية بها من جور الظالمين، وتغلب الغالبين.
وظلم الظالم لا يدوم، وسطوة الغالب لا تثبت، إذا كان جمهور الأمة يقابل الإحسان بالاعتراف، والفضل بالحمد، فإنه يوجد منها من يشتري هذه المكافأة بتخليصها وإنقاذها، وأما فقد هذا الإحساس الشريف، فهو أشبه علة بالهرم، لا عقبى له إلا الموت والهلاك.
كيف لا تكون المحمدة الحقة نعمة على النفوس الإنسانية، يسعى لها الأعلون من بني الإنسان، وقد امتن الله بها على نبيه فيما يقول له:
ورفعنا لك ذكرك ، وكيف لا تكون حقا تطالب به الطبيعة، وقد سمح الله لمستحقيها بالتحدث بنعم الأعمال الصالحات، كما سوغ ذلك لنبيه في قوله:
وأما بنعمة ربك فحدث .
قلب طرفك في تواريخ الأمم، أقصاها وأدناها، تجد برهانا قاطعا على أن الأمة متى بخست قيم الأعمال العالية، وازدري فيها بشأن الفضيلة؛ فقدت ما به قوامها، وانهدم بناؤها، وذهبت كما ذهب أمس، ولا جرم أن الكفران مقرون بزوال النعم.
يمكنني أن أختم كلامي هذا بكلمة شكر لهذه العصابة الطاهرة التي أقدمت في هذه الآونة النحسة، ووقفت على شفير الخطر، وكتبت على نفسها السعي في توحيد المسلمين، ويسرنا أنا نرى عددها كل يوم في ازدياد، نسأل الله نجاح أعمالها وتأييد مقاصدها، إنه نعم المولى ونعم النصير.
الفصل الرابع عشر
الشرف
كلمة يهتف بها أقوام مختلفة من الناس، إلا أن أكثرهم عن حقيقة معناها غافلون، فئة ترى الشرف في تشييد القصور، والتعالي في البنيان، وزخرفة الحوائط والجدارن، ووفرة الخدم والحشم، واقتناء الجياد، وركوب العربات، وفئة أخرى تتوهم أن الشرف في لبس الفاخر من الثياب، والتزين بألوان الألبسة وأنواعها، والتحلي بحلي الجواهر الثمينة، مرصعة بالأحجار الكريمة، كالألماس والياقوت والزمرد ونحوها.
وفئة تتخيل الشرف في الألقاب والرتب كالبيك والباشا، أو في الوسامات المعروفة بالنياشين وعلو أسمائها كالأول من الصنف الفلاني، والثاني من الدرجة الفلانية، حتى إنك ترى الرجل يسلب مال أخيه، وينهب ثروة أقاربه وذويه، أو بني ملته ومواطنيه، ليشيد بما يصيب من السحت قصرا، ويرفع بناء، ويزخرف بيتا، ويقيم له حراسا من المماليك، وخفراء من الغلمان، ويظن بذلك أنه نال مجدا وفخارا سرمديا، وصح لحاله أن يعنون بعنوان الشرف.
وتجد الآخر يذهب في الكسب أشنع مما يذهب الأول ليكتسي برفيع الثياب، ويتزين بأجمل الحلي، أو ليكون له من ذلك ما يفاخر به أمثاله، ويتخيل أنه بلغ به درجة من الرفعة لا يدانى فيها، ويعبر عن حاله هذا بلفظ الشرف، ويتوهم أنه وصل الحقيقة من معناه.
ومنهم ثالث يسهر ليله ويقطع نهاره، بالفكر في وسيلة ينال بها لقبا من تلك الألقاب، أو يحصل بها وساما أو يستفيد وشاحا، وسواء عنده الوسائل يطلبها أيا كان نوعها، وإن أفضت إلى خراب بلاده، أو تذليل أمته، أو تمزيق ملته، وعنده أنه رقى الذروة من معنى الشرف.
نحن نرى هذه الأوهام قائمة مقام الحقائق في أذهان كثير من الناس، ولكن لا نظنها طمست عين الحق فيهم، حتى عموا عن إدراك أخطائهم وانحرافهم عن الصواب في وهمهم. ماذا يجد من نفسه المباهي بقصوره، وولدانه وحوره؟ ألا يحس من نفسه أنه وإن حاز منها على أعلى ما يتصوره العقل، فذاته التي هي أعز لديه من جميع ما كسب لم تستفد شيئا من الكمال، وأن جميع ما حصله فهو أجنبي عنه، وليس له نسبة إلا نسبة العناء في تحصيله؟ ألا يرى أن كثيرا ممن بلغ مبلغه أو فاقه، سلبتهم صروف الدهر ما بأيديهم، فأصبحوا بصفاتهم وجواهر ذاتهم، فإن لم تكن على جانب من الكمال الإنساني انخرطت في سلك الطبقات السافلة، ولم يبق لهم في القلوب منزلة ولا في النفوس مكانة.
ماذا يشعر به المفاخر بحليه ولباسه إذا تجرد منه وخلى بنفسه إن لم يكن لذاته حلية من الفضيلة وزينة من الكمال، ألا يكون هو وعراة الفقراء سواء؟ أولا يجد من سره عند المفاخرة أنه يجول مع الغانيات وربات الخدور، في ميدان واحد؟ ماذا يتصور الزاهي برتبته، المعجب بوسامه، إن لم يكن قبل وسمته أو الصعود لرتبته، على حال تجل، أو كمال يبجل، أليس يشعر أنه لو سلب الوسام، أو نزع عنه الوشاح، يعود إلى منزلته من الاحتقار؟ فإن نال الكرامة عند بعض السذج واللقب معلق عليه، أليس ذلك تعظيما للقب لا للملقب به، ألا تكون هذه الكرامة عارضا سريع الزوال، بل رسما ظاهرا لا يمس بواطن القلوب؟
نعم، لهذه الألقاب الشريفة شأن يرتفع به النظر إذا سبق بعمل يعترف عموم العالم بشرفه، وكان اللقب دليلا عليه أو مشيرا إليه، كما يكون لمثلها حال يسقط به الاعتبار إذا تقدمها فعلة يمقتها العقلاء من النوع البشري، وكان الوسام أو اللقب عنوانا على ما اقترف كاسبه، وعلامة على ما اجترم.
انظر وتدبر ولا تخطئ، فما أنت من الصواب ببعيد، إن عثمان الغازي الذي لقبه أعداؤه بأسد «بلاونه» نال رتبة ومنح لقبا، وحظي بمكانة رفيعة بين الطبقة العليا من العظماء في دولته، بعدما دفع بروحه للموت في المدافعة عن ملته، وجاهد في إعلاء كلمة دينه، بما شهد له الأعداء والأصدقاء.
وإن بعض الأمراء في دار إسلامية علقت عليهم ألقاب شريفة من دولة كدولة الإنجليز جزاء لهم على ما تقدموا أمام جيوش أعدائهم، لافتتاح بلادهم، حتى مكنوا الإنجليز من ديارهم، وجميع المسلمين الآن يكابدون الجهد في إيجاد الوسائل لخروجهم منها ... أين موقع النيشان من صدر عثمان الغازي من موقعه على صدور أولئك المخدوعين، أظن رجع النظر بين الموقعين يثبت لك أن النيشان يشرف بشرف العمل الذي جعل دليلا عليه ويسقط بسقوطه.
ماذا غر أولئك الواهمين على اختلافهم، ألا يعلمون أن الثياب المعلمة بالدم، الموشاة بالنجيع، الملونة بالمهج، هي التي حفظت للابسيها ذكرا حسنا لا ينقطع، وأثرا مجيدا لا يمحى، إن الذين ضرجوا بدمائهم في طلب المجد لمللهم هم الذين خشعت لذكرهم الأصوات، وأجمعت على فضلهم خواطر القلوب.
ألم يصل إليهم أن الذين قضوا نحبهم في غيابات الجب، وانتهت حياتهم في ظلمات السجن، لطلب حق مسلوب أو حفظ مجد موجود؛ هم الذين سما ذكرهم إلى شرف الشمس الأعلى، وعلت أسماؤهم على جميع الأسماء، أظن أن الذين كانوا في الغرفات العالية ينظرون إلى جناتهم وحدائقهم، ويشرفون على الناس من شرفات قصورهم، وقصروا حياتهم على التمتع بما نالوا؛ لم يبق لهم ذكر ولم يكن لهم في حياتهم شأن، إلا ما هو محصور في دوائر بيوتهم.
ولا يختلف عنهم أولئك الذين كانوا يسحبون مطارف الرفه، ويكتسبون حلل الخز والديباج، ذهبوا وذهبت معهم أكسيتهم، فارتدوا من حيث أتوا لا يعلم متى جاءوا إلى الدنيا، ومتى انكشفوا عنها.
هل سمعنا أن أحدا يذكر بين بني البشر بأنه نال نيشان كذا وحصل رتبة كذا؟ نعم، يقولون: علم وعمل ، وأعطى وبذل، ورفع ووضع، وجاهد وكافح، وأباد وأبقى، وما يشاكل ذلك من الأعمال التي لها أثر ثابت، إذا ذكر الإسكندر الأكبر هل يخطر بالبال إن كان له قصر أو لا؟ أي أبله يطلب سيرة نابليون الأول في آثار قصر كان يسكنه، أو في خرق ثياب كان يلبسها؟ وهل بلغ عظماء العالم ما بلغوا من مقامات الشرف بعدما شيدوا وزينوا وترفهوا وتنعموا، أم كان جميع ما ينالون من ذلك بعد أن يسودوا ويفتحوا ويغلبوا ويأخذوا بالنواصي؟
خدع قوم بالأحلام وغرتهم الأوهام، ففرطوا في شئون بلادهم، وباعوا مجدها الشامخ بتلك الأسماء التي لا مسمى لها، وزعموا، وإن لم تطاوعهم ضمائرهم، أنهم رقوا من مكانة الشرف وإن كان خاصا بهم بعدما علموا أن الرتب والنياشين جاوزت حدها، ونالها غير أهلها، فلو أنهم أصغوا لما تحدثهم به سرائرهم، وتعنفهم به خواطر أفئدتهم، ورمقوا بأبصارهم ما يحيط بهم؛ لعلموا أنهم في أخس المنازل وأبعد المزاجر، وأدركوا خطأهم في معنى الشرف وجورهم عن جادة الصواب في طلبه، لو أحسوا بما رزئت به أوطانهم، وما لصق من الذل والعار بذراريهم، لطرحوا الوشاحات، ونبذوا الوسامات، ولبسوا أثواب الحداد، ونفروا خفافا وثقالا لطلب الشرف الحقيقي.
الشرف حقيقة محدودة كشفتها الشرائع، وحددتها عقول الكاملين من البشر، وليس لذي شاكلة إنسانية أن يرتاب في فهمها، إلا من ختم الله على قلبه، وجعل على بصره غشاوة.
الشرف بهاء للشخص، يحوم عليه بالأنظار، ويوجه إليه الخواطر والأفكار، وجمال يروق حسنه في البصائر والأبصار، ومشرق ذلك البهاء عمل يأتيه طالبه يكون له أثر حسن في أمته أو بني ملته، أو في النوع الإنساني عامة، كإنقاذ من تهلكة، أو كشف لجهالة، أو تنبيه لطلب حق سلب، أو تذكير بمجد سبق، وسؤدد سلب، أو إنهاض من عثرة، أو إيقاظ من غفلة، أو إرشاد لخير يعم، أو تحذير من شر يغم، أو تهذيب أخلاق، أو تثقيف عقول، أو جمع كلمة وتجديد رابطة، أو إعادة قوة وانتشال من ضعف، أو إيقاد حمية، أو حضو لغيرة.
من أتى عملا من الأعمال له أثر من هذه الآثار فهو الشريف وإن كان يسكن الخصاص والأكواخ، ويلبس الدلوق والأسمال، ويقتات بنبات البر، ويبيت على تراب الفقر، ويتوسد نشز الأرض، ويضرب في كل واد، ويتردد بين الربى والوهاد، هذا له حلية من عمله، وزينة من فضله، وبهاء من كماله، وضياء من جده، يهدي إليه ضالة الألباب، وتائهة الأفئدة، تعرفه المشاعر الحساسة ولا تنكره، وتكتنفه ذرات القلوب المتطايرة إليه ولا تنفصل عنه، له من روحه قصور شاهقة، وغرفات شائقة، ومناظر رائقة، وجمال باهر، ونور زاهر، لا يكاد يخفى حتى يظهر، ولا يكاد يستر حتى يبصر، إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه إلى أعلى عليين، حياة طيبة في القلوب وعزة مشرقة في جبهة الزمان
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .
نعم، وقد ينبعث عليه من أرباب الطباع الفاسدة بعض الكرائه، فيسلقونه بالألسنة، ويرشقونه بسهام اللوم، ولا تروق في أنظارهم أزهار أعماله، ولا أنوار مزاهره؛ لبعدها عن فهمهم، وغرابتها على حواسهم؛ لما ألفوه من الانكباب على تلك السفاسف الساقطة التي عدوها شرفا، وحسبوها مجدا، وقد بيناها كما كشفتها الشرائع وآراء العقلاء، وإنما مثلهم مثل الجعل ينفر من رائحة الورد، ويألف روائح القذر، لا يبعد أن يسخر بالعامل الفاضل أناس لا أخلاق لهم، أو يقصده بالأضرار من لا ذمة له، ولكنهم بأنفسهم يهزءون، وبمصالحهم يضرون، ولا يطول عليهم الزمان في هذا العمى، بل لا يلبثون إذا بدت الثمرة الشهية أن يهرعوا لاقتطافها، ويطعموا من جناها، ولا يسعهم بعد ذلك إلا الحمد لغارس الشجرة، وحافظ الثمرة، وإن كان دونهم في تلك الزخارف التي لا قيمة لها في نظر العاقل؛ ثم يكون عقابهم على ما فرط منهم ندما على الخطيئة، وأسفا على السيئة، وألما في قلوبهم تهيجه ذكرى ما قاموا من سوء عملهم، وانكشاف نقصهم لدى وجدانهم. هكذا تمنح العناية الإلهية هذه الكرامة لصاحب العمل الشريف ما دام حيا، فإذا غابت شمسه عن أفق هذا العالم لم تحجب أشعة ضيائه التي فاضت منه على نجوم هاديات، وبدور منيرات، نعم إنه يموت ويتوارى خلف حجاب العدم بجسمه، ولكنه قائم في الأفئدة، شاهد على الألسنة، حي يرزق عند ربه - ونعمت الحياة حياته، ولمثل هذا فليعمل العاملون.
الفصل الخامس عشر
الأمة وسلطة الحكم المستبد
وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون . •••
إن الأمة التي ليس لها في شئونها حل ولا عقد، ولا تستشار في مصالحها، ولا أثر لإرادتها في منافعها العمومية، وإنما هي خاضعة لحاكم واحد إرادته قانون، ومشيئته نظام، يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، فتلك أمة لا تثبت على حال واحد، ولا ينضبط لها سير، فتعتورها السعادة والشقاء، ويتداولها العلم والجهل، ويتبادل عليها الغنى والفقر، ويتناوبها العز والذل، وكل ما يعرض عليها من هذه الأحوال - خيرها وشرها - فهو تابع لحال الحاكم، فإن كان حاكمها عالما حازما أصيل الرأي، علي الهمة، رفيع المقصد، قويم الطبع؛ ساس الأمة بسياسة العدل، ورفع فيها منار العلم، ومهد لها طرق اليسار والثروة، وفتح لها أبوابا للتفنن في الصنائع، والحذق في جميع لوازم الحياة، وبعث في أفراد المحكومين روح الشرف والنخوة، وحملهم على التحلي بالمزايا الشريفة من الشجاعة والشهامة وإباء الضيم، والأنفة من الذل، ورفعهم إلى مكانة عليا من العزة، ووطأ لهم سبل الراحة والرفاهة، وتقدم بهم إلى كل وجه من وجوه الخير.
وإن كان حاكمها جاهلا سيئ الطبع، سافل الهمة، شرها مغتلما جبانا، ضعيف الرأي، أحمق الجنان، خسيس النفس، معوج الطبيعة؛ أسقط الأمة بتصرفه إلى مهاوي الخسران، وضرب على نواظرها غشاوات الجهل، وجلب عليها غائلة الفاقة، وجار في سلطته عن جادة العدل، وفتح أبوابا للعدوان، فيتغلب القوي على حقوق الضعيف، ويختل النظام، وتفسد الأخلاق، وتخفض الكلمة، ويغلب اليأس فتمتد إليها أنظار الطامعين، وتضرب الدول الفاتحة بمخالبها في أحشاء الأمة.
عند ذلك إن كان في الأمة رمق من الحياة وبقيت فيها بقية منها، وأراد الله بها خيرا؛ اجتمع أهل الرأي وأرباب الهمة من أفرادها وتعاونوا على اجتثاث هذه الشجرة الخبيثة، واستئصال جذورها قبل أن تنشر الرياح بذورها وأجزاءها السامة القاتلة بين جميع الأمة، فتميتها وينقطع الأمل من العلاج، وبادروا إلى قطع هذا العضو المجذم قبل أن يسري فساده إلى جميع البدن فيمزقه، وغرسوا لهم شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وجددوا لهم بنية صحيحة سالمة من الآفات - استبدلوا الخبيث بالطيب.
وإن انحطت الأمة عن هذه الدرجة وتركت شئونها بيد الحاكم الأبله الغاشم يصرفها كيف يشاء، فأنذرها بمضض العبودية، وعناء الذلة، ووصمة العار بين الأمم؛ جزاء على ما فرطوا في أمورهم، وما ربك بظلام للعبيد.
الفصل السادس عشر
دعوة الفرس إلى الاتحاد مع الأفغان «إذا أراد الله بقوم خيرا جمع كلمتهم.» •••
سرنا من الجرائد الفارسية صدقها في خدمة أوطانها واعتدالها في مشاربها، وزادنا مسرة اهتمامها بترجمة بعض الفصول المهمة من جريدتنا ونقلها إلى اللسان العذب الفارسي مما تظن فيه تنبيها لأفكار المسلمين، واستلفاتا لعقولهم إلى ما فيه خيرهم، فلها منا ومن كل مخلص في محبة ملته أوفر الشكر، خصوصا جريدة «اطلاع» التي تطبع في مدينة «طهران»، وهذا المنهج القويم مما تعم به الفائدة في جميع الأقطار الإسلامية؛ فإن جميعها بعد بلاد العرب، وإن اختلفت ألسنة سكانها باختلاف شعوبهم، إلا أنهم ينطقون باللغة الفارسية، فهي في الشرق كاللسان الفرنساوي في الغرب، وكان بودنا أن يعززوا أفكارنا بما تجود به قرائحهم السليمة، وأذهانهم الصافية، وترشدهم إليه عقولهم العالية، خصوصا فيما يتعلق بالدعوة للوحدة الإسلامية، وإحياء الرابطة الملية بين المسلمين، لا سيما في الاتفاق بين الإيرانيين والأفغانيين.
هاتان طائفتان هما فرعان لشجرة واحدة، وشعبتان ترجعان لأصل واحد، هو الأصل الفارسي القديم، وقد زادهما ارتباطا اجتماعهما في الديانة الحقة الإسلامية، ولا يوجد بينهما إلا نوع من الاختلاف الجزئي لا يدعو إلى شق العصا، وتمزيق نسيج الاتحاد، وليس بسائغ عند العقول السليمة أن يكون مثل هذا التغاير الخفيف سببا في تخالف عنيف.
ليس ببعيد على همم الإيرانيين وعلو أفكارهم أن يكونوا أول القائمين بتجديد الوحدة الإسلامية، وتقوية الصلات الدينية، كما قاموا في بداية الإسلام بنشر علومه، وحفظ أحكامه وكشف أسراره، وما قصروا في خدمة الشرع الشريف بأية وسيلة.
نعم، البخاري ومسلم، والنيسابوري والنسائي والترمذي، وابن ماجه وأبو داود، والبغوي وأبو جعفر البلخي والكليني، وغيرهم ممن أنبتتهم أراضي إيران؛ أبو بكر الرازي الطبيب الشهير والإمام فخر الدين الرازي ممن نشئوا في طهران؛ أبو حامد الغزالي حجة الإسلام، وأبو إسحق الإسفراييني والبيضاوي وخواجه نصير الدين الطوسي والأبهري وعضد الملة والدين، وغيرهم من علماء الكلام والأصول ممن تفتخر بهم بلاد فارس وهم فخار للمسلمين؛ الفيلسوف الشهير أبو علي بن سينا، وشهاب الدين المقتول، ومن على شاكلتهم ممن جبلوا من تراب فارس.
إن أهل فارس كانوا من أول القائمين بخدمة اللسان العربي وضبط أصوله، وتأسيس فنونه؛ منهم: سيبويه، وأبو علي الفارسي، والرضي، ومنهم: عبد القاهر الجرجاني، مؤسس علوم البلاغة لبيان إعجاز القرآن، وفهم دقائقه على قدر الطاقة البشرية، وصاحب صحاح الجوهري من إحدى قراهم، ومجد الدين الفيروز آبادي من إحدى بلدانهم، والزمخشري، والسكاكي، وأبو الفرج الأصفهاني، وبديع الدين الهمذاني، وغيرهم ممن بينوا دقائق القرآن، وشيدوا معالم الدين، كلهم من أرض فارس.
الطبري أول المؤرخين، والإصطخري، والقزويني أول الجغرافيين، كانوا في بلاد فارس، الشبلي كان من نهاوند، وأبو يزيد البسطامي كان من بسطام، والأستاذ الهروي، وهو الأستاذ الحقيقي للشيخ محيي الدين بن العربي؛ كان من هراة وكلها بلاد إيران.
هل ينسى صدر الشريعة وفخر الإسلام البزدوي والآمدي، والمرغيناني والسرخسي، والسعد التفتازاني، والسيد الشريف والأبيوردي، وكلهم من أبناء فارس، من أين كان القطب الشيرازي، والصدر الشيرازي، ورأس الحكمة في المتأخرين ميرباقر الداماد، وميرفند ركسي وغيرهم؛ كانوا من أهل فارس.
أي فضل كان ولم يكن لهم فيه اليد الطولى؟ أي مزية من الله بها على الإسلام ولم يكونوا من السابقين لاقتنائها؟ نعم، وفيهم جاء من قول النبي
صلى الله عليه وسلم : «لو كان العلم في الثريا لناله رجال من فارس.»
فيا أيها الفارسيون تذكروا أياديكم في العلم، وانظروا إلى آثاركم في الإسلام، وكونوا للوحدة الدينية دعامة، كما كنتم للنشأة الإسلامية وقاية، أنتم بما سبق لكم أحق الناس بالسعي في استرجاع ما كان لكم في فتوة الإسلام، أنتم أجدر المسلمين بوضع أساس الوحدة الإسلامية، وما ذلك ببعيد على طيب عناصركم وقوة عزائمكم ، أظن لا يخفى عليكم أن هذا الوقت هو أحسن الأوقات لندائكم بالوحدة مع الأفغانيين والتحالف معهم على مقاومة العادين؛ لتكونوا بالاتحاد معهم حصنا حصينا، وحرزا منيعا، تقف دونه أقدام الطامعين، أظنكم لم تنسوا أن استيلاء الإنجليز على الممالك الهندية، إنما تم بوقوع الخلاف بينكم وبين الأفغانيين.
هل يخفى عليكم أن كل مسلم في الهند شاخص بصره إلى طرف بنجاب ينتظر قدومكم إذا اتحدتم مع إخوانكم الأفغانيين، حصلت لكم تجارب كثيرة وشهدتم من مظاهر الحوادث ما فيه أكمل عبرة، فهل يصح بعد هذا أن تستمروا على التجافي والتباعد، مع علمكم أن الوحدة منبت الشوكة؟
هذا آن التآخي والتوافق، هذه أوقات التحالف والتواثق، أحاط الأعداء ببلادكم، شرقا وغربا، وكل يشحذ سيفه ويسدد سهمه، حتى تمكنه الفرصة من شن الغارة على أطراف بلادكم، فلو ضاعت الفرصة في هذا الوقت فربما لا تصادفونها في غيره، الإنجليز في ارتباك شديد في المسألة المصرية مع ضعفهم في القوة العسكرية، ومتورطون باختلاف الدول عليهم ومعاكستهم لمقاصدهم.
الأمير عبد الرحمن خان أمير أفغانستان على ما نعهده من أول شيبوبته أشد الناس عداوة للإنجليز، وبينه وبينهم حزازات لا تزول، بل نقول: إن عداوة الإنجليز سارية في عروق الأفغانيين عموما ممتزجة بدمائهم، فلو حصل الاتفاق الآن بين سلطنة الشاه وبين إمارة الأفغان، لوجدت قوة إسلامية جديدة في المشرق بين سائر الطوائف الإسلامية، وينبعث فيهم وفي سائر المسلمين حياة جديدة، وتتجدد لهم آمال جليلة، وتنتعش بذلك أرواح المؤمنين، هذا وقت تنبهت فيه أفكار الأفغانيين إلى أعمال جيرانهم في المسألة المصرية، وتحركت فيهم السواكن، وهي أعظم فرصة لأهل فارس في دعوتهم للاتحاد معهم.
هذا عمل من أجل الأعمال وأجزلها فائدة، وإن من أكبر الفضل أن يقوم أهل الفضل من أهالي إيران بتحرير الفصول ونشر الرسائل في بيان فوائد الاتفاق بين الطائفتين، وإن لذلك لأثرا عظيما في النفوس خصوصا إن كانت من أقلام العلماء الأعلام، والمجتهدين الكرام.
العالم الإنساني عالم الفكر والكلام، فإحكام الفكر الصالح ونشره في الكتب والرسائل والجرائد مما يؤثر أجمل الأثر في تهذيب الناس وتثقيف عقولهم، وإزالة الضغائن المفسدة لمعاشهم ومعادهم، فإذا قام المستبصرون وخطبوا ووعدوا، وكتبوا ونشروا، مع الوقوف عند الحدود الدينية، والأصول الشرعية، كان فضل الله كافلا لهم النجاح.
أي فرق بين الأفغانيين وإخوانهم الإيرانيين، كل يؤمن بالله وبما جاء به محمد
صلى الله عليه وسلم ، عبد الرحمن خان بما أكسبته التجارب أول من يتقدم لهذا الاتفاق، ولا نشك أن شاه إيران لما اطلع عليه في سياحاته وشاهده في أسفاره لا يأبى المبادرة إليه والسعي فيه، إن البادئ بالعمل في هذا المقصد الأسمى هو صاحب الفضل الأعظم بين المسلمين خصوصا وبين العالم عموما ويجني ثمرته في وقت قريب.
كان الألمانيون يختلفون في الدين المسيحي على نحو ما يختلف الإيرانيون مع الأفغانيين في مذاهب الديانة الإسلامية، فلما كان لهذا الاختلاف الفرعي أثر في الوحدة السياسية، ظهر الضعف في الأمة الألمانية، وكثرت عليها عاديات جيرانها، ولم يكن لها كلمة في سياسة أوروبا، وعندما رجعوا إلى أنفسهم وأخذوا بالأصول الجوهرية، وراعوا الوحدة الوطنية في المصالح العامة، أرجع الله إليهم من القوة والشوكة ما صاروا به حكام أوروبا وبيدهم ميزان سياستها.
رجاؤنا في الأفاضل الكرام صاحب جريدة «فرهنك» الأصفهانية، وصاحب جريدة «أطلاع» الطهرانية، وسائر أرباب الجرائد الإيرانية أن يوجهوا أفكارهم إلى هذا المطلب الرفيع، ويجعلوا له محلا فسيحا في جرائدهم، وينشروها في بلادهم، وبلاد الأفغان، باللسان الفارسي، وهو لسان الطائفتين، وما هي إلا أيام ثم نرى علائم النجاح - إن شاء الله رب العالمين.
الفصل السابع عشر
امتحان الله للمؤمنين
الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين . (العنكبوت: 1-3)
من الناس، بل أغلب الناس، من يقول: آمنا، وللإيمان آثار، ثم يحسبون أن الله يتركهم وما يقولون، ويدعهم وما يتوهمون، ويعاملهم - سبحانه - وهو الحكم العدل بما يظنون في أنفسهم قبل أن يبتليهم أيهم أحسن عملا، حتى تظهر أنفسهم لأنفسهم، ويعلموا هل هم حقيقة مؤمنون أو هذه دعوى سولتها النفس، وغرت بها الأماني، وأنهم تائهون في أوهامهم يحسبون أنهم على شيء، وهم خلو من كل شيء، ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، إلا في غيه حتى يبتليه في دعوى الإيمان ليعلم الله الذين جاهدوا ويعلم الصابرين ولئلا تكون للناس على الله حجة.
حاشا حكيما، أنزل الكتب وأرسل الرسل، ووعد وأوعد وبشر وأنذر، وقوله الصدق ووعده الحق؛ أن يجازي من بني عقيدته على خيال ليس له أثر، وظن ليس له أساس، وبالسعادة السرمدية، والنعيم الأبدي، إن المغتر بزعمه، الحائر في ظلمات أوهامه، الذي لا يسهل عليه الإيمان احتمال المشاق وتجشم المصاعب في سبيله؛ ليس بمعزل عن المنافقين الذين حكم الله عليهم بالشقاء الأبدي والعذاب المخلد.
الإيمان يغلب كل هوى، ويقهر كل أمنية، ويدفع بالنفس إلى طلب مرضاة الله بلا سائق ولا قائد سواه، يقول الله - وهو أصدق الصادقين:
لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين * إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون (التوبة: 44-45)، هذا قضاء الله وهذا حكمه على الذين يستأذنون في بذل أرواحهم وأموالهم في أداء فريضة الإيمان، حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون.
صدق الله وصدقت كتبه ورسله، إن للعقائد الراسخة آثارا تظهر في العزائم والأعمال وتأثيرا في الأفكار والإرادات، لا يمكن للمعتقدين أن يزيحوها عن أنفسهم ما داموا معتقدين، هكذا الإيمان في جميع شئونه وأطواره، له خواص لا تفارقه، ونزعات لا تزايله، وصفات جليلة لا تنفك عنه، وخلائق عالية سامية لا تباينه، بها كان يمتاز المؤمنون في الصدر الأول، وكان يعترف بمزيتهم وعلو منزلتهم من كانوا يجحدون عقيدتهم، نعم، هم الذين صبروا في نيران امتحان الله وابتلائه حتى ظهر إيمانهم ذهبا إبريزا صافيا من كل غش، وأعد الله لهم جزاء على صبرهم نعيما مقيما، ما أصعب ابتلاء الله وما أشد فتنته، وما أدق حكمته في ذلك ليميز الله الخبيث من الطيب!
نعم، إن دون ابتلاء الله خلع العادات، وتحمل الصعوبات، وبذل الأموال، وبيع الأرواح، كل خطر فهو تهلكة ينبغي البعد عنها إلا في الإيمان، فكل تهلكة فيه فهي نجاة، وكل موت في المحاماة عن الإيمان فهو بقاء أبدي، وكل شقاء في أداء حقوق الإيمان فهو سعادة سرمدية، المؤمن يبذل ماله فيما يقتضيه إيمانه ولا يخشى الفقر، وإن كان الشيطان يعده الفقر، ليس في النفقة لأداء حق الإيمان تبذير ولو أتت على كل ما في أيدي المؤمنين، إن للمؤمن حياة وراء هذه الحياة، وإن له لذة وراء لذاتها، وإن له سعادة غير ما يزينه الشيطان من سعادتها، هكذا يرى المؤمن إن كان الإيمان مس قلبه ولو لم يبلغ العناية من كماله.
إن الفرار من محنة الله في الإيمان مجلبة للخزي الأبدي، إن الفرار من صدمة جيش الضلال وإن بلغت أقصى ما يتصور موجب للشقاء السرمدي، لا سعادة إلا بالدين، ودون حفظ الدين تتطاير الأعناق، إن للإيمان تكاليف شاقة وفرائض صعبة الأداء إلا على الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، إن القيام بفرائض الإيمان محفوف بالمخاطر، مكتنف بالمكاره، كيف لا وأول ما يوجبه الإيمان خروج الإنسان عن نفسه وماله وشهواته ووضع جميع ذلك تحت أوامر ربه؟
لن يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون الله ورسوله أحب إليه من نفسه، أول إحساس يلم بنفس المؤمن أنه في هذه الدنيا عابر سبيل إلى دار أخرى خير من هذه الحياة وأبقى، وأول خطوة يخطوها المؤمن بذل روحه إذا دعاه داعي الإيمان، ولا داعي أرفع صوتا وأبين حجة من نداء الحق على لسان أنبيائه، لا يقبل الله في صيانة الإيمان عذرا ولا تعلة ما دامت الرجل تمشي والعين تنظر واليد تعمل، إن امتحان الله للمؤمنين سنة من سننه.
الفصل الثامن عشر
ومن يضلل الله فما له من هاد . (الرعد: 33)
يوجد بين بني البشر نفوس لم يرضها الإسلام، ولم تقنع بالكفر، تتلون تلون الحرباء، وتتشكل تشكل الأغوال، وتتقلب تقلب الدهر الخئون، لا ترضى بحال، ولا تنسج على منوال، يضحكون وقت البكاء، ويمرحون عند اشتداد اللأواء، ويبكون لأوقات المسرة، ويضجرون لسعة الرحمة، مثلهم كمثل الحسك المثلث الأضلع ، كله شوك حيثما قلبته، تراهم في النهار مسلمين متقلبين بين مذاهب الإسلام، يصبحون سنيين ويقيلون شيعيين ويقضون طرف اليوم وهابيين، فإذا جن الليل رأيتهم دهريين إباحيين! أولئك الذين غضب الله عليهم ويلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون.
منهم أناس من أرباب الجرائد الساقطة في الهند، يريدون أن يتزلفوا للحكومة الهندية الإنجليزية بما فيه مضرة أوطانهم وأبناء الملة التي ولدا فيها؛ لينالوا من ظالميهم جائزة ما، أو ليكون لهم في دوائرهم اسم ما، فأخذوا يثولون بعض فصول العروة الوثقى ويحولونها عن وجهتها جهلا، أو عنادا ولوما، ويحرفون الكلم عن مواضعه على حسب أهوائهم الخسيسة، وطباعهم الخبيثة - قاتلهم الله أنى يؤفكون - أولئك قوم عرفناهم وليس لهم بين قومهم شأن يعرفون به فليس يهمنا أمرهم، وإنا نقدم الشكر للجرائد المهمة الهندية الناهجة في خدمة أوطانهم منهج الحق، السالكة جادة الاعتدال على ما تعنى به من ترجمة فصول العروة الوثقى إلى اللسان الهندي تعميما للفائدة في أبناء أوطانها، جزاها الله عن المسلمين خيرا.
الفصل التاسع عشر
أسباب حفظ الملك
أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور . (الحج: 46)
أهلك الله شعوبا، وأباد قبائل، ودمر بلادا، ولا يزال عدل الله يبدل قوما بقوم ويأتي لكل حين بأناس آخرين، حكيم سبقت رحمته غضبه، جعل لكل عمل جزاء، وعين بحكمته لكل حادث سببا
ولا يظلم ربك أحدا (الكهف: 49)، وليست أفعاله جزافا، ولا يصدر عنه شيء عبثا، أمر الله عباده بالسير في الأرض
قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين (الأنعام: 11) ليريهم قضاءه الحق وحكمه العدل، فيمن سلف ومن خلف، فيطيعوا أوامره، ويقفوا عند حدود شرائعه، ويفوزوا بخير الدنيا وسعادة الآخرة، من كان له قلب يعقل وعين تبصر، وعقل يفقه، وتتبع حوادث العالم، وتدبر كيفية انقلاب الأمم، وخاض في تواريخ الأجيال الماضية، واعتبر بما قص الله علينا في كتابه المنزل ؛ يحكم حكما لا يخالطه ريب، بأنه ما حاق السوء بأمة وما نزلت بها نازلة البلاء، وما مسها الضر في شيء إلا وكانت هي الظالمة لنفسها، بما تجاوزت حدود الله وانتهكت حرماته، ونبذت أوامره العادلة، وانحرفت عن شرائعه الحقة، وحرفت الكلم عن مواضعه، وأولت من كلامه تعالى على حسب الأهواء والشهوات.
كما أن للأغذية والأدوية، واختلاف الفصول والأهوية، أثرا ظاهرا في الأمزجة بتقدير العزيز العليم، كذلك اقتضت حكمة الله أن يكون لكل عمل من الأعمال الإنسانية، ولكل طور من أطوار البشر، أثر في الهيئة الاجتماعية؛ ولهذا كان من رحمته بعباده تحديد الحدود، وتقرير الأحكام ليتبين الخير من الشر، ويتميز النفع من الضر، فأرسل الرسل، وأنزل الكتب، فمن خالف الأوامر الإلهية فقد ظلم نفسه، فليستعد لخزي الدنيا وعذاب الآخرة.
إن تأثير الفواعل الكونية في أطوار الحياة قد يخفى سببه حتى على الطبيب الماهر، أما تأثير أحوال بني الإنسان في هيئة إجماعهم، فيسهل على سره لكل ذي إدراك، إن لم تكن عين بصيرته عمياء.
ألم تر أن الله جعل اتفاق الرأي في المصلحة العامة والاتصال بصلة الألفة في المنافع الكلية سببا للقوة واستكمال لوازم الراحة في هذه الحياة الدنيا، والتمكن من الوصول لخير الأبد في الآخرة. وجعل التنازع والتغابن علة للضعف، وداعيا للسقوط في هوة العجز عن كل فائدة دنيوية أو أخروية، ومهيئا لوقوع المتنازعين في مخالب العاديات من الأمم، فمن نظر نظرة في أحوال الشعوب ماضيها وحاضرها، ولم يكن مصابا بمرض القلب، وعمى البصيرة؛ أدرك سر أمر الله في قوله:
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا (آل عمران: 103)، وسر نهيه في قوله:
ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم (الأنفال: 46)، أي جاهكم وعظمتكم وعلو كلمتكم.
إن الله تعالى يجعل الركون إلى من لا يصح الركون إليه، والثقة بمن لا تنبغي الثقة به، سببا في اختلال الأمر وفساد الحال، فمن وثق في عمله بمن ليس منه في شيء، ولا تجمعه معه جامعة حقيقية، ولا تصله به رابطة صحيحة، وليس في طبعه ما يبعثه على رعاية مصلحته، أو كتم سره، ولا ما يحمله على بذل الجهد في جلب منفعته، ودفع المضار عنه؛ فلا ريب يفسد حاله، ويسوء مآله، وإن كان ملكا ضاع ملكه، أو أميرا بطل أمره، والحوادث عاهدة، وأحوال المغرورين ناطقة، فمن لم يرزأ بعمى البصيرة يدرك بأول التفات سر نهي الله تعالى في قوله:
لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق (الممتحنة: 1)، وقوله:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر (آل عمران: 118)، وسائر نواهيه المبنية على الحكمة البالغة المرشدة إلى مصالح الدارين.
لكل شخص في طبقته من أمته عمل مفروض عليه، وواجب يلزمه القيام به، ليحفظ بذلك لنفسه حياة طيبة في هذه الدنيا، ويعد لها مآلا صالحا في الآخرة، وهو إنسان له قلب واحد، لو جعل معظم همه في شيء فإنه سائر الأشياء، فلو توغل في الشهوات، وبالغ في الترف، وبطر فيما أنعم الله عليه، فقد أغفل فرائضه، وأضر بنفسه، وحرم من منافعه، وحل به من عقاب الله أشد الوبال، وخسر الدنيا والآخرة معا، وربما مست آثار أعماله بالسوء من يجاوره، واحترق بناره الموقدة بفساد أخلاقه وانحرافه عن سنن الحق من يساكنه في بلدته، أو يواطنه في مدينته، وهذه آثار المترفين في كل أمة تنطق بما لا يعجم إلا على أذن صماء، وتشهد بما لا يخفى إلا على بصيرة كمهاء، وإن فيما قص الله علينا من أحوال المترفين لأكبر عبرة:
وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين (القصص: 58)،
حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون * لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون (المؤمنون: 64-65)،
ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون (غافر: 75)، هذه عواقب اللاهين بحظوظهم عما أوجب الله عليهم،
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى (طه: 124).
ما أوتي الإنسان من العلم إلا قليلا، لا يمكن لإنسان وحده أن يحيط بوجوه المنافع الخاصة بنفسه، ولا أن يطلع على منابع فوائده ليكسبها، أو يكشف مكامن مضاره فيتقيها، خلق الإنسان ضعيفا فأرشده الله للاستعانة بغيره من بني جنسه
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا (الحجرات: 13)، خلقنا محتاجين للعون مضطرين للصبر، وهدانا ربنا للتعاون والتناصر.
هذا مما يحكم به العقل في المصالح الخاصة، فكيف لو كان شخص ولاه الله رعاية أمة، وألقى إليه بزمام شعب مصالحه التامة تحت إرادته، وهو الوازع فيه والواضع والرافع؟ لا ريب أن مثل هذا الشخص أحوج إلى المشورة والاستفادة من آراء العقلاء، وهو أشد افتقارا إلى ذلك ممن يكون سعيه لمتعلقات ذاته، وتكون سعة دائرة افتقاره إلى التشاور على مقدار سعة سلطانه، وقد أمر الله نبيه وهو المعصوم من الخطأ تعليما وإرشادا فقال:
وشاورهم في الأمر (آل عمران: 159)، وقال فيما امتدح به المؤمنين:
وأمرهم شورى بينهم (الشورى: 38)، أي بصر يزوغ عن هذا الصراط المستقيم؟! أي بصيرة لا تهتدي إلى هذا المنهج القويم:
أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين (المؤمنين: 68).
إن وازع البلاد والقائم على الملك لو ألمح لمحة إلى نفسه لرأى أن بلاده في كل وقت معرضة لأطماع الطامعين، وأن الحرص المودع في طباع البشر، يحرك جيرانه كل آن للسطوة على ممالكه ليذلوا قومه، ويستعبدوا أهله، ويستأثروا بمنافع أرضهم وثمار كدهم، ويمنحوها أبناء جلدتهم، فعليه وعلى من يشركه في أمره من عماله، والحكام النائبين عنه في إيالاته، وقواد جيشه، وعلى كل أرباب الرأي، ومن بهم قوام الملك، أن يستعدوا لدفع طوارئ العدوان، ورفع نوازل الغارات الأجنبية، فلو فرطوا في إعداد لوازم الدفاع، أو تساهلوا فيما يكف عنهم سيل الأطماع، أو تهاونوا فيما يشد قوتهم، ويقوي شوكتهم بأي وجه كان ومن أي نوع كان؛ فقد عرضوا ملكهم للهلاك وألقوا بأنفسهم في مهاوي الأخطار.
هذا مما يفهمه الأبله والحكيم، ويصل إليه إدراك الجاهل والعليم، وهو سر الإفصاح والإبهام في قوله تعالى:
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة (الأنفال : 60)، أمر بإعداد القوة ووكلها إلى الطاقة وحكم الاستطاعة، على حسب ما يقتضيه الزمان، وما تكون عليه حالة من تخشى غوائلهم، هذا أمر الله ينبه الغافل، ويذكر الذاهل:
فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (النساء: 78).
إعطاء كل ذي حق حقه، ووضع الأشياء في مواضعها، وتفويض أعمال الملك للقادرين على أدائها؛ مما يوجب صيانة الملك، وقوة السلطان، ويشيد بناء السلطة، ويحكم دعائم السطوة، ويحفظ نظام الداخل من الخلل، ويشفي نفوس الأمة من العلل، هذا مما تحكم به بداهة العقل، وهو عنوان الحكمة التي قامت بها السماوات والأرض، وثبت بها نظام كل موجود، وهو العدل المأمور به على لسان الشرع في قوله تعالى:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان (النحل: 90)، كما أن الجور عن الاعتدال والميل عن سبيل الاستقامة في كل جزء من أجزاء العالم يوجب فناءه واضمحلاله، كذلك الجور في الجمعيات البشرية يسبب دمارها، لهذا حثت الأوامر الإلهية على العدل، وكثر النهي في الكتاب المجيد عن الظلم والجور، والحكام أولى من توجه إليه الأوامر والنواهي في هذا الباب، العدل هو الحكمة التي امتن الله بها على عباده، وقرنها بالخير الكثير فقال:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا (البقرة: 269)، هي مظهر من أجل مظاهر صفاته العلية، فهو الحكم العدل وهو اللطيف الخبير.
من سار في الأرض، وتتبع تواريخ الأمم، وكان بصير القلب؛ علم أنه ما انهدم بناء ملك، ولا انقلب عرش مجد، إلا لشقاق واختلاف، أو ثقة بمن لا يوثق به، وتخلل العنصر الأجنبي، أو استبداد في الرأي، واستنكاف عن المشورة، وإهمال في إعداد القوة، والدفاع عن الحوزة، أو تفويض الأعمال لمن لا يحسن أداءها ووضع الأشياء في غير مواضعها، فيكون جور في الحكم، واختلال في النظم، وفي كل ذلك حيد عن سنن الله، فيحصل غضبه بالخاطئين، وهو أحكم الحاكمين.
لو تدبرنا آيات القرآن، واعتبرنا بالحوادث التي ألمت بالممالك الإسلامية لعلمنا أن فينا من حاد عن أوامر الله وضل عن هديه، ومنا من مال عن الصراط المستقيم الذي ضربه الله لنا وأرشدنا إليه، وبيننا من اتبع أهواء النفس وخطوات الشيطان،
ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم (الأنفال: 53)، فعلى العلماء الراسخين - وهم روح الأمة وقواد الملة المحمدية - أن يهتموا بتنبيه الغافلين عن ما أوجب الله، وإيقاظ النائمة قلوبهم عما فرض الدين، ويعلموا الجاهل، ويزعجوا نفس الذاهل، ويذكروا الجميع بما أنعم الله به على آبائهم، ويستلفتوهم إلى ما أعد الله لهم لو استقاموا، ويحذروهم سوء العاقبة لو لم يتداركوا أمرهم بالرجوع إلى ما كان عليه النبي
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه ورفض كل بدعة، والخروج عن كل عادة سيئة لا تنطبق على نصوص الكتاب العزيز، ويقصوا عليهم أحوال الأمم الماضية، وما نزل بها من قضاء الله عندما حادت عن شرائعه، ونبذت أوامره
فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون (الزمر: 26).
على العلماء أن يزيلوا اليأس بتذكير وعد الله ووعده الحق في قوله تعالى:
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا (النور:55)، هذه وظيفة العلماء الراسخين وما هم بقليل بين المسلمين، ولا نظنهم يتهاونون فيما فوض الله إليهم، ووكل إلى ذمتهم، وهم أمناء الدين وحملة الشرع، ورافعو لواء الإسلام، وأوصياء الله على المؤمنين، أعانهم الله علي خير أعمالهم، ونفع بهم المؤمنين بإرشادهم.
الفصل العشرون
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين . (القصص: 5)
للإنسان عقل سمي، وفكر علي، وحدس قوي، وبراعة في الاستدلال، ومهارة في الاستنباط، ومع هذا كله تراه في رأيه عليلا، ولا يصيب في مقاصده إلا قليلا، تشابه علل الحوادث في تنوعها يحول بين المرء وعلم الحوادث الآتية، ويحجب عن نظره جادة الصواب، فيخبط في خطأ ويخوض في عمه، وتلتبس عليه المقدمات، فتشبه النتائج، فيختل قياس الاستنباط؛ هذا ما يحمل كثيرا من الناس على الحكم باستحالة ممكن، أو إمكان مستحيل.
لو أن حاذقا بصيرا بفنون السياسة، وخبيرا بأحوال الأمم، ذهب إلى البلاد الهندية قبل اليوم بأربعين سنة، وساح في أرجائها ووقف على أحوال أولاد السلاطين المغوليين وما هم فيه من الذلة، وأحفاد «تبيوسلدان» وما أصابهم من الفقر والمسكنة، وسلالة سلاطين «أوده» وما نزل بهم من الهوان، ونوابي «كارناتك» وأمراء السند وما حل بهم من الصغار، وتدبر شئون «مرتة» تلك القبيلة العظيمة القاطنة في «فونا» و«ستارة» وما حولها، وأحاط بالبلاء المنصب على غيرهم من سائر الأمراء والرجوات العظام؛ ثم لاحظ سلطة الإنجليز وتغلبهم على تلك البلاد وما أعدوه لقهرها من الآلات الحربية، والحصون القوية، وما هم عليه من الحذق في الحيل والخدع السياسية، وما عليه رعاياهم من الضعف والعجز وسلامة القلب وغرة الجنان؛ ولو أتى من الفكر في لواحق هذه الأحوال على غاية جهده؛ لحكم، بناء على ما لديه من المقدمات وما يحضره من الأقيسة، بأن أولئك الأقوام وسلائل الأمراء وأحفاد السلاطين، قد ضرب عليهم الذل الأبدي، وسجلت عليهم العبودية السرمدية، بل ربما ذهب به الوهم إلى الحكم عليهم بتحتم الفناء ولزوم الاضمحلال؛ فإن الناظر في شئونهم ما كان يحضره إلا صولة الإنجليز وسعة اقتدارهم، وخضوع الهنديين وشدة عجزهم، ما كان يخطر في ذلك الوقت بخاطر أحد أن الأيام تأتى بهذا الحادث الجديد.
إن الروسية تقطع الفيافي من وراء بحر الخزر حاملة عواملها رافعة أعلامها ضاربة في تلك البوادي، زاحفة إلى حدود الهند، ما كان يختلج في صدر أحد في تلك الأوقات أن حرص الإنجليز وطمعهم في الاستيلاء على مصر يوجب انحراف الدول عنهم ويقتضي قيام رجل السياسة «البرنس بسمارك» لجمع كلمة الدول على مصادمتهم، ما كان يحوم في خيال أن قائما يسمى محمد أحمد يقوم بدعوة دينية في أعالي السودان وبعد إرغامه للإنجليز مرات يحرك قلوب الهنديين ويوقظ نائميهم، ويثير الساكن من خواطرهم وينهض الهمم، ويحيي الآمال فيهم بعد القنوط وتنتشر دعوته في أرجاء الهند. نعم، ومن أين يكون للإنسان علم هذه الحوادث وهي محجوبة بستار الغيب، فهو معذور في أحكامه مقسور على أوهامه.
نرى دوائر السوء تدور بالحكومة الإنجليزية، وقد تهيأت ضاربات الشر للوثبة عليها، وليس لها حليف في أوروبا، وإن استئثارها بمنافع الأمم، وطمعها في الاختصاص بمصالح العالم أبعد عنها الأصدقاء، ونفر منها الأولياء، فكانت هذه السقطة بهزة لنهوض الروسية وتقدمها إلى الحدود الهندية، ومن مصلحة الدول في أوروبا خصوصا دولة الألمان - على ما يظهر من جرائدها الرسمية - أن تؤيد الروسية فيما تقصد من فتح الهند؛ فإن اندفاع السيل الروسي على تخوم الهند خير لأوروبا عموما وألمانيا خصوصا من انحداره إلى بعض المواقع الأوروبية، وأنجع في صيانة السلم الأوروبي إذا جاء يوم التصادم بين روسيا والإنجليز على حدود الهند - وما هو ببعيد - كان قضاء السوء على الجيش الإنجليزي في الصدمة الأولى فيما نظن لقلة عدده، ولأن العدد الغالب فيه من الهنديين الحرجة صدورهم المجروحة قلوبهم المترقبين لفرصة تمكنهم من الخروج على حكامهم الظالمين، فإذا وقعت الهزيمة اشتعلت نار الثورة في عموم الهند، ومحيت سلطة الإنجليز بأيدي الهنديين.
ليس من الممكن للروسية أن تستولي على الأقطار الهندية استيلاء مطلقا لأول وهلة؛ فإن البلاد واسعة أطرافها شاسعة تحتاج في إداراتها والمحافظة عليها إلى ملايين من الناس يعسر عليها جذبهم من بلادها البعيدة، نعم إن الإنجليز تسلطوا على الهند ولكن في أحقاب، فدولة روسيا ملجأ بحكم الضرورة إلى تشكيل ممالك في الهند يديرها رجال من العائلات الملكية والقديمة من أولاد سلاطين المغول وذرية سيبو سلطان وأمراء السند و«أوده» و«كارناتك» والمرتيين وغيرهم، وتكتفي دولة الروس بعقد محالفات تجارية بينها وبين تلك الممالك، وربما كانت هذه السيرة توافق بعض الإمارات الإسلامية المستقلة وبعض ممالك المسلمين، وقد يكون من مصلحة دولة إيران وإمارة أفغانستان أن تتفقا مع الروسية اتفاقا يفيد كلا من المتحالفين.
إن الروسية ما جاءت إلى «مرو» لتهلك عساكرها في قفارها، ولا يصدها عن سيرها إخلاصها في محبة الإنجليز ولا ارتباطها معهم بعهد، مع علمها أن لا عهد لهم، إنما جاءت لتفتح باب التجارة مع أثرى قطر في الشرق وتهدم سلطان الإنجليز فيه؛ فإن الأثرة الإنجليزية ما تركت مصلحة تجارية تتمتع بها أمة من الأمم.
هذا عارض سوء على حكومة بريطانيا، ولكنه سحاب رحمة على الهنديين بما انتقم الله لهم من عدوهم، فبذلك فليفرحوا، وليعد الأمراء أنفسهم لما أعد الله لهم من العزة بعد الذلة، والحرية بعد العبودية، والخلاص من قهر حكومة لا ترحم صغيرا ولا توقر كبيرا.
لا نظن ولن نظن أن يجد الإنجليز لهم يوم التصادم نصيرا من دول أوروبا ولا من دول المشرق ولا من الهنديين ولا من صنف البشر؛ لأنه لا توجد نفس تشعر بوجود حكومة الإنجليز على سطح الأرض إلا وقد مسها منهم شيء من الضر.
إن حكومة الإنجليز تشعر بقربها من هذا الخطر العظيم، وتعلم أن ما ينزل بها من المصائب في الهند لا يقصر ضرره على حالها فيه، ولكنه يزلزل جزائر بريطانيا، فإن حياتها ومجدها ليس إلا بالهند، كيف لا يشعر الإنجليز بسوء عاقبتهم وهم يحسون بضعفهم في القوى العسكرية، وانحراف قلوب رعاياهم الهنديين عنهم، واحتدامها غيظا عليهم، عجل الله لهم ما فيه خير الضعفاء.
الفصل الحادي والعشرون
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم . (آل عمران: 105)
أزفت هجمة الروسية على الهند، وسير الدول في سياستها وحرصها على تقرير السلم في أوروبا يمد الروس في مقاصدهم ويهيئ لهم الأسباب ويقرب مدة الوصول، هذا طور من السياسة جديد لو اتفقت فيه دولة إيران مع إمارة أفغانستان لكان لكل منهما حظ وافر ونفع جزيل، إن الروسية وإن كانت تنصرها نفرة قلوب الهنديين من الإنجليز إلا أن في طريقها عقبات لا يذللها إلا موالاة الفرس والأفغان.
إن الهند بعيد من معسكرات الروس ودونه مسالك مجهولة وطرق ملتوية وليس الروس من الخبرة بها في شيء، الروس في حاجة للمواصلة مع أمراء الهند وفي ضرورة للوقوف على أخلاقهم ومجاري ميلهم ومواقع أهوائهم، ولا سبيل يوصلهم إلى ذلك إلا إشراك الفارسيين والأفغانيين في أعمالهم الحربية والسلمية، ليس من السهل على الروسية أن تستعين بدولة فارس وإمارة الأفغان على فتح أبواب الهند إلا أن تساهمهما في الغنيمة وتشركهما في المنفعة، وإلا كانا سدا محكما دون أهم غاياتها.
كيف يمكن للروسية أن تخرق تلك الأجسام الآخذة بطريق الهند وهي مرابض الأسود؟! كيف تتوهم السلامة في معابرها الضيقة إذا قصدت الاختصاص بالفريسة؟! إن الروسية لا تخفى عليها صعوبة الأمر، ولا يغيب عنها أن كشف أمة عظيمة عن بلاد سكنتها أحقابا ونالت فيها أعلى مجد وأعظم فخار؛ يعد من أعظم الأعمال ويحتاج لكثرة الأعوان والأنصار، وليس بين يديها من يصح به الاستنصار إلا دولة الفرس وحكومة الأفغان؛ فليس من الحكمة في العمل أن تختص دونها بثمراته، خصوصا وأنها لا تبتغي سوى فتح أبواب الهند للتجارة.
فعلى الأفغانيين أن يرفعوا أبصارهم ويستقبلوا حظهم بفكر سديد وعقل رشيد، ويتقدموا للاتفاق مع إخوانهم الإيرانيين، فليس بينهم وبينهم ما يصح عليه الاختلاف في المصالح العمومية، فالجميع من أصل واحد، وتجمعهم رابطة واحدة، وهي أشرف الروابط «رابطة الدين الإسلامي»، وليعلموا أن استمرارهم على التخالف في مثل هذا الوقت ربما يجلب الضرر عليهم وعلى إخوانهم المسلمين من الهنديين، وعلى الفارسيين والأفغانيين أن يراعوا الكلمة الجامعة والصلة الجنسية ولا يجعلوا الاختلاف الفرعي في المذهب سببا في خفض الكلمة الإسلامية، وقطع الصلة الحقيقية، فليس من العقل أن يقام من خلاف جزئي علة لاضمحلال الكل.
أظن أن قد علم كل من القبيلين أن الاختلاف بينهما هو الذي جلب على كل منهما ما جلب، هذا الخلاف الفرعي بينهم استعمله بعض السياسيين في الأزمان السابقة آلة للشقاق والمناوءات، وربما جنوا من غرسهم ثمارا آتية، ولكنه الآن لا يثمر إلا الدمار والبوار، وهذا مما لا أخاله يخفى على عاقل.
لا يجوز للأفغانيين في هذا الوقت أن يقفوا عند هذا الخلاف الفرعي فليجوزوه إلى الوحدة الأصلية؛ فإن الأخطار حاطتهم من كل جانب، ولا منجاة لهم إلا بالاتفاق مع إخوانهم الفارسيين، هذا وقت التآخي، وهذه فرصة الالتئام، ليس للأفغانيين عذر، ولا للتعلة عندهم محل، لا سيما وقد تولى الصدارة في الدولة الفارسية رجل عظيم القدر رفيع الشأن، واسع العرفان، لا تحجبه شئون الكثرة عن ذات الوحدة، ولا تقف به أطوار التلوين دون منازل التمكين، ولا تشغله مظاهر الفرق عن مقامات الجمع، يتجلى له الواحد في مراتب الكثير، وتنجلي له حقيقة الأحدية في المنازل العددية، فالاتحاد مشربه، والائتلاف مذهبه، وعندي أنه الأب الرحيم لكل إيراني بدون استثناء، يسعى لجمع كلمتهم بلا ملاحظة اختلاف المذهب، ولا تفارق في الفروع، وإنما يراعي الجامعة الحقة، فعلى الأفغانيين أن يمدوا سواعدهم في هذه الأوقات لمحالفة إخوانهم ولا يضيعوا هذه الفرصة، وعلى القبيلين أن يجعلوا وفاقهم سياجا لأوطانهم، وعدة لمكافحة أعدائهم، ومنبعا فياضا لخير بلادهم، فينالوا شرفا رفيعا، ويورثوا أعقابهم مجدا مخلدا.
الفصل الثاني والعشرون
سنن الله في الأمم وتطبيقها على المسلمين
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . (الرعد: 11)
ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . (الأنفال: 53)
تلك آيات الكتاب الحكيم، تهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم، ولا يرتاب فيها إلا القوم الضالون، هل يخلف الله وعده ووعيده وهو أصدق من وعد وأقدر من أوعد؟ هل كذب الله رسله؟ هل ودع أنبياءه وقلاهم؟ هل غش خلقه وسلك به طريق الضلال؟ نعوذ بالله! هل أنزل الآيات البينات لغوا وعبثا؟ هل افترت عليه رسله كذبا؟ هل اختلقوا عليه إفكا؟ هل خاطب الله عبيده برموز لا يفهمونها، وإشارات لا يدركونها؟ هل دعاهم إليه بما لا يعقلون؟ نستغفر الله! أليس قد أنزل القرآن عربيا غير ذي عوج، وفصل فيه كل أمر وأودعه تبيانا لكل شيء؟ تقدست صفاته وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، هو الصادق في وعده ووعيده، ما اتخذ رسولا كذابا، ولا أتى شيئا عبثا، وما هدانا إلا سبيل الرشاد، ولا تبديل لآياته، تزول السماوات والأرض ولا يزول حكم من أحكام كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
يقول الله:
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون (الأنبياء: 105)، ويقول:
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين (المنافقون: 8)، وقال:
وكان حقا علينا نصر المؤمنين (الروم: 47)، وقال:
ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا (الفتح: 28). هذا ما وعد الله في محكم الآيات مما لا يقبل تأويلا، ولا ينال هذه الآيات بالتأويل إلا من ضل عن السبيل، ورام تحريف الكلم عن مواضعه، هذا عهده إلى تلك الأمة المرحومة، ولن يخلف الله عهده، وعدها بالنصر والعزة وعلو الكلمة، ومهد لها سبيل ما وعدها إلى يوم القيامة، وما جعل لمجدها أمدا، ولا لعزتها حدا.
هذه أمة أنشأها الله عن قلة، ورفع شأنها إلى ذروة العلى، حتى ثبتت أقدامها على قنن الشامخات، ودكت لعظمتها عوالي الراسيات، وانشقت لهيبتها مرائر الضاريات، وذابت للرعب منها أعشار القلوب، هال ظهورها الهائل كل نفس وتحير في سببه كل عقل، واهتدى إلى السبب أهل الحق فقالوا: قوم كانوا مع الله فكان الله معهم، جماعة قاموا بنصر الله واسترشدوا بسنته فأمدهم بنصر من عنده.
هذه أمة كانت في نشأتها فاقدة الذخائر، معوزة من الأسلحة وعدد القتال، فاخترقت صفوف الأمم واختطت ديارها، ولا دفعتها أبراج المجوس وخنادقهم، ولا صدتها قلاع الرومان ومعاقلهم، ولا عاقها صعوبة المسالك، ولا أثر في همتها اختلاف الأهوية، ولا فعل في نفوسها غزارة الثروة عند من سواها، ولا راعها جلالة ملوكهم، وقدم بيوتهم، ولا تنوع صنائعهم، ولا سعة دائرة فنونهم، ولا عاق سيرها أحكام القوانين، ولا تنظيم الشرائع، ولا تقلب غيرها من الأمم في فنون السياسة.
كانت تطرق ديار القوم فيحتقرون أمرها، ويستهينون بها، وما كان يخطر ببال أحد أن هذه الشرذمة القليلة تزعزع أركان تلك الدول العظيمة، وتمحو أسماءها من لوح المجد، وما كان يختلج بصدر أن هذه العصابة الصغيرة تقهر تلك الأمم الكبيرة، وتمكن في نفوسها عقائد دينها، وتخضعها لأوامرها وعاداتها وشرائعها؛ لكن كان كل ذلك، ونالت تلك الأمة المرحومة - على ضعفها - ما لم تنله أمة سواها، نعم قوم صدقوا ما عاهدوا الله عليه فوفاهم أجورهم مجدا في الدنيا، وسعادة في الآخرة.
هذه الأمة يبلغ عددها اليوم زهاء أربعمائة مليون من النفوس، وأراضيها آخذة من المحيط الأطلسي إلى أحشاء بلاد الصين، تربة طيبة ، ومنابت خصبة، وديار رحبة، ومع ذلك نرى بلادها منهوبة، وأموالها مسلوبة، تتغلب الأجانب على شعوب هذه الأمة شعبا شعبا، ويتقاسمون أراضيها قطعة بعد قطعة، ولم يبق لها كلمة تسمع، ولا أمر يطاع، حتى إن الباقين من ملوكها يصبحون كل يوم في ملمة، ويمسون في كربة مدلهمة، ضاقت أوقاتهم عن سعة الكوارث التي تلم بهم، وصار الخوف عليهم أشد من الرجاء لهم.
هذه هي الأمة التي كانت الدول العظام يؤدون لها الجزية عن يد وهن صاغرات، استبقاء لحياتهن، وملوكها في هذه الأيام يرون بقاءهم في التزلف إلى تلك الدول الأجنبية، ويا للمصيبة ويا للرزية!
أليس هذا بخطب جلل، أليس هذا ببلاء نزل؟ ما سبب هذا الهبوط، وما علة هذا الانحطاط؟ هل نسيء الظن بالوعود الإلهية؟ معاذ الله! هل نستيئس من رحمة الله ونظن أن قد كذب علينا؟ نعوذ بالله! هل نرتاب في وعده بنصرنا بعد أن أكده لنا؟ حاشاه سبحانه، لا كان شيء من ذلك ولن يكون، فعلينا أن ننظر لأنفسنا ولا لوم لنا إلا عليها، إن الله تعالى برحمته قد وضع لسير الأمم سننا متبعة، ثم قال:
ولن تجد لسنة الله تبديلا (الأحزاب: 62).
أرشدنا سبحانه في محكم آياته إلى أن الأمم ما سقطت من عرش عزها، ولا بادت ومحي اسمها من لوح الوجود؛ إلا بعد نكوبها عن تلك السنن التي سنها الله على أساس الحكمة البالغة، إن الله لا يغير ما بقوم من عزة وسلطان، ورفاهة وخفض عيش وأمن وراحة؛ حتى يغير أولئك القوم ما بأنفسهم من نور العقل وصحة الفكر، وإشراق البصيرة والاعتبار بأفعال الله في الأمم السابقة والتدبر في أحوال الذين جاروا عن صراط الله فهلكوا وحل بهم الدمار، ثم لعدولهم عن سنة العدل، وخروجهم عن طريق البصيرة والحكمة، حادوا عن الاستقامة في الرأي، والصدق في القول، والسلامة في الصدر، والعفة عن الشهوات، والحمية على الحق، والقيام بنصره، والتعاون على حمايته، خذلوا العدل ولم يجمعوا همهم على إعلاء كلمته، واتبعوا الأهواء الباطلة، وانكبوا على الشهوات الفانية، وأتوا عظائم المنكرات، خارت عزائمهم، فشحوا ببذل مهجهم في حفظ السنن العادلة، واختاروا الحياة في الباطل على الموت في نصرة الحق، فأخذهم الله بذنوبهم وجعلهم عبرة للمعتبرين.
هكذا جعل الله بقاء الأمم ونماءها في التحلي بالفضائل التي أشرنا إليها، وجعل هلاكها ودمارها في التخلي عنها، سنة ثابتة لا تختلف باختلاف الأمم، ولا تتبدل بتبدل الأجيال، كسنته تعالى في الخلق والإيجاد، وتقدير الأرزاق وتحديد الآجال، علينا أن نرجع إلى قلوبنا، ونمتحن مداركنا، ونسبر أخلاقنا، ونلاحظ مسالك سيرنا؛ لنعلم هل نحن على سيرة الذين سبقونا بالإيمان، هل نحن نقتفي أثر السلف الصالح، هل غير الله ما بنا قبل أن نغير ما بأنفسنا، وخالف فينا حكمه وبدل في أمرنا سنته - حاشاه وتعالى عما يصفون.
بل صدقنا الله وعده، حتى إذا فشلنا وتنازعنا في الأمر وعصيناه من بعد ما أرى أسلافنا ما يحبون، وأعجبتنا كثرتنا فلم تغن عنا شيئا، فبدل عزنا بالذل، وسمونا بالانحطاط، وغنانا بالفقر، وسيادتنا بالعبودية، نبذنا أوامر الله ظهريا، وتخاذلنا عن نصره، فجازانا بسوء أعمالنا، ولم يبق لنا سبيل إلى النجاة سوى التوبة والإنابة إليه، كيف لا نلوم أنفسنا ونحن نرى الأجانب عنا يغتصبون ديارنا، ويستذلون أهلها، ويسفكون دماء الأبرياء من إخواننا، ولا نرى في أحد منا حراكا.
هذا العدد الوافر والسواد الأعظم من هذه الملة لا يبذلون في الدفاع عن أوطانهم وأنفسهم شيئا من فضول أموالهم، يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، كل واحد منهم يود لو يعيش ألف سنة، وإن كان غذاؤه الذلة وكساؤه المسكنة، ومسكنه الهوان، تفرقت كلمتنا شرقا وغربا، وكاد يتقطع ما بيننا، لا يحن أخ لأخيه، ولا يهتم جار بشأن جاره، ولا يرقب أحدنا في الآخر إلا ولا ذمة، ولا نحترم شعائر ديننا، ولا ندافع عن حوزته، ولا نعززه بما نبذل من أموالنا وأرواحنا حسبما أمرنا.
أيحسب اللابسون لباس المؤمنين أن الله يرضى منهم بما يظهر على الألسنة ولا يمس سواد القلوب؟! هل يرضى الله عنهم بأن يعبدوه على حرف، فإن أصابهم خير اطمأنوا به، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم خسروا الدنيا والآخرة؟! هل ظنوا أن لا يبتلي الله ما في صدورهم، ولا يمحص ما في قلوبهم؟! ألا يعلمون أن الله لا يذر المؤمنين على ما هم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب، هل نسوا أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم للقيام بنصره وإعلاء كلمته، لا يبخلون في سبيله بمال، ولا يشحون بنفس؟! فهل لمؤمن بعد هذا أن يزعم نفسه مؤمنا وهو لم يخط خطوة في سبيل الإيمان، لا بماله ولا بروحه؟!
إنما المؤمنون هم الذين إذا قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم لا يزيدهم ذلك إلا إيمانا وثباتا، ويقولون في إقدامهم: حسبنا الله ونعم الوكيل، كيف يخشى الموت مؤمن وهو يعلم أن المقتول في سبيل الله حي يرزق عند ربه، متمتع بالسعادة الأبدية، في نعمة من الله ورضوان؟! كيف يخاف مؤمن من غير الله، والله يقول:
فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين (آل عمران: 175)؟!
فلينظر كل إلى نفسه، ولا يتبع وساوس الشيطان، وليمتحن كل واحد قلبه قبل أن يأتي يوم لا تنفع فيه خلة ولا شفاعة، وليطبق بين صفاته وبين ما وصف الله به المؤمنين، وما جعله الله من خصائص الإيمان. فلو فعل كل منا ذلك لرأينا عدل الله فينا واهتدينا.
يا سبحان الله، إن هذه أمتنا أمة واحدة، والعمل في صيانتها من الأعداء أهم فرض من فروض الدين عند حصول الاعتداء، يثبت ذلك نص الكتاب العزيز، وإجماع الأمة سلفا وخلفا، فما لنا نرى الأجانب يصولون على البلاد الإسلامية، صولة بعد صولة، ويستولون عليها دولة بعد دولة، والمتسمون بسمة الإيمان آهلون لكل أرض، متمكنون بكل قطر، ولا تأخذهم على الدين نغرة، ولا تستفزهم للدفاع عنه حمية.
ألا يا أهل القرآن لستم على شيء حتى تقيموا القرآن، وتعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي، وتتخذوه إماما لكم في جميع أعمالكم، مع مراعاة الحكمة في العمل، كما كان سلفكم الصالح، ألا يا أهل القرآن هذا كتابكم فاقرءوا منه:
فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت (محمد: 20)، ألا تعلمون فيمن نزلت هذه الآية؟! نزلت في وصف من لا إيمان لهم، هل يسر مؤمنا أن يتناوله هذا الوصف المشار إليه بالآية الكريمة، أوغر كثيرين من المدعين للإيمان ما زين لهم من سوء أعمالهم، وما حسنته لديهم أهواؤهم
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (محمد: 24).
أقول، ولا أخشى نكيرا: لا يمس الإيمان قلب شخص إلا ويكون أول أعماله تقديم ماله وروحه في سبيل الإيمان، لا يراعي في ذلك عذرا ولا تعلة، وكل اعتذار في القعود عن نصرة الله فهو آية النفاق وعلامة البعد عن الله.
مع هذا كله نقول إن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة كما جاءنا به نبأ النبوة، وهذا الانحراف الذي نراه اليوم نرجو أن يكون عارضا يزول، ولو قام العلماء الأتقياء وأدوا ما عليهم من النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأحيوا روح القرآن، وذكروا المؤمنين بمعانيه الشريفة، واستلفتوهم إلى عهد الله الذي لا يخلف؛ لرأيت الحق يسمو، والباطل يسفل، ولرأيت نورا يبهر الأبصار، وأعمالا تحار فيها الأفكار.
وإن الحركة التي نحسها من نفوس المسلمين في أغلب الأقطار هذه الأيام تبشرنا بأن الله قد أعد النفوس لصيحة حق يجمع بها كلمة المسلمين، ويوحد بها بين جميع الموحدين، ونرجو أن يكون العمل قريبا؛ فإن فعل المسلمون وأجمعوا أمرهم للقيام بما أوجب الله عليهم؛ صحت لهم الأوبة، وصحت منهم التوبة، وعفا الله عنهم، والله ذو فضل على المؤمنين.
فعلى العلماء أن يسارعوا إلى هذا الخير، وهو الخير كله: جمع كلمة المسلمين، والفضل كل الفضل لمن يبدأ منهم بالعمل
من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا .
الفصل الثالث والعشرون
الوهم (اللهم اكشف عن بصائرنا ستار الأوهام حتى نرى الحقائق كما هي كي لا نضل ونشقى.)
ألا قاتل الله الوهم؛ الوهم طورا يكون مرآة المزعجات، مجلي المفزعات، وطورا يكون ممثلا للمسرات، حاكيا للمنعشات، وهو في جميع أطواره حجاب الحقيقة، غشاء على عين البصيرة، لكن له سلطان على الإرادة وحكم على العزيمة، فهو مجلبة الشر، ومنفاة الخير.
الوهم يمثل الضعيف قويا، والقريب بعيدا، والمأمن مخافة، والموئل مهلكا، الوهم يذهل الواهم عن نفسه، ويصرفه عن حسه، يخيل الموجود معدوما، والمعدوم موجودا، الواهم في كون غير موجود، وعالم غير مشهود، يخبط فيه خبط المصروع، لا يدري ماذا أدركه وماذا تركه، الوهم روح خبيث يلابس الروح الإنسانية، وهي في ظلام الجهل، إذا خفيت الحقائق تحكمت الأوهام، وتسلطت على الإرادات، فتقود الواهمين إلى بيداء الضلالة، فيخبطون في مجاهيل، لا يهتدون إلى سبيل، ولا يستقيمون على طريق.
كان الإنجليز أمة مجتمعة القوى، مستكملة العدد مستعدة للفتوحات، وذلك في زمان بليت فيه الأمم الشرقية بتفريق الكلمة، واختلاف الأهواء، وحجبت بالجهل عن معرفة أحوال الغربيين وصنائعهم وعوائدهم، فكان الشرقيون يعدون كل غريبة معجزة، وكل بديع من الاختراع سحرا أو كرامة، فانتهز الإنجليز تلك الفرصة واندفعوا إلى الشرق وبسطوا سلطتهم على غالب أرجائه، وما دهموا سكانه إلا ببعض غرائب الصنعة الأوروبية التي أثارت فيهم خواطر الأوهام.
ثم زاد الوهم قوة ما نصبه الإنجليز من حبائل الحيلة والمكر، حتى خلبوا قلوب المساكين وأذهلوهم عما في أيديهم، بل أخذوهم عن عقولهم وخطرات قلوبهم، فسلبوا أموالهم، وانتزعوا منهم أراضيهم، وأجلوهم عن أملاكهم، فاستغنت الأمة الإنجليزية بما سلبت، وأثرت بما نهبت، وترفهت بما ملكت، واليوم تراها حاكمة على أقطار واسعة، وأنحاء شاسعة، وقواها منقسمة على تلك الأقطار، متوزعة فيها، فلا ترى في كل إيالة من إيالاتها الشرقية إلا نزرا من العدة والعدد، وهي في جميعها ضعيفة واهنة، لا تستطيع ذودا ولا دفاعا.
وإن أخف حركة في تلك الأنحاء توجب زعزعة في تلك القوة أو هدمها بالمرة، وقد ظهر هذا الأمر على الأمة الإنجليزية، فهي دائما في رجفة على أملاكها، في خيفة من تمزقها وضياعها، تتوجس من كل حادثة في العالم، وتقلق لأية حركة تحدث في الوجود، وكل ملمة تلم بالشرق أو الغرب توجب بحدوثها زلزلة في قوى الإنجليز المتوزعة في الأنحاء الضعيفة في جميع الأرجاء .
ومع هذا كله نرى الأمر لم يزل خفيا على الشرقيين، محجوبا عنهم بحجاب الوهم، يمثل الوهم لكل شرقي أن الإنجليز على ما كانوا عليه في ماضي زمانهم، فمثل الشرقيين مع الإنجليز كمثل مار في مفازة يرى بها جثة أسد مطروحة على طريقه فاقدة الحياة عديمة الحراك، فيتوهمها سبعا ضاريا ومفترسا قويا فينكب عن الطريق وهما وريبة بدون تحقيق لما تخوف منه، يرتعد ويسقط ويموت خوفا أو يضل بعد ذلك عن الجادة، وتختلط عليه مسالك الوصول إلى غايته، وربما صادف مهلكة في ضلاله ومتلفة في غيه.
بل لا نخطئ إن قلنا: إن هذا الوهم كان متسلطا على الغربيين كما هو متسلط على الشرقيين، فالأوروبيون كانوا ينظرون إلى إنجلترا في أملاكها البعيدة كما ينظرون إليها في جزائر بريطانيا، وكانت حكومة إنجلترا متحصنة ممتنعة في هذه القبة الوهمية، متربعة على عرش هذه العظمة الخيالية، يحس الإنجليز بضعف قوتهم فيجتهدون دائما في ستره ولا ستار أكثف من الوهم.
ولهذا نراهم في كل حادثة يجلبون ويصيحون ويزأرون ليثيروا بالضوضاء هواجس الأوهام، فتحول أنظار الناظرين، وتغشى بصائر المستبصرين، فتحول دون استطلاع الحقيقة، وإلا فقليل من الالتفات يكشفها فتقوم قيامة الخراب على الإنجليز.
ذهب الإنجليز إلى الهند في قوى مجتمعة وتسابقوا مع فرنسا وهولندا والبرتغال في ميدان الأراضي الهندية الواسعة، فحازوا في هذه المباراة قصب السبق بما امتازوا به من الدهاء والمكر، وبما ساعدهم على ذلك من غفلة الهنديين لذاك العهد أو طيب قلوبهم، فمالت النفوس إلى الإنجليز اغترارا، وتغلبوا على تلك البلاد واستقلوا بأمرها شيئا فشيئا، وما أبقوا لغيرهم من الدول إلا مضائق من الأرض لا تذكر، وأول ما استمالوا به القلوب السالمة قولهم: إننا نريد تخليصكم من هذه الدول الظالمة (فرنسا، وهولندا والبرتغال) فإنها تريد التسلط على ممالككم، أما نحن - الإنجليز - فلا نريد إلا تحريركم واستقلالكم.
ثم إنا نرى للإنجليز الآن في الهند والهند الصينية وبورما سلطة على نحو مائتين وخمسين مليونا من النفوس جميعها كاره لتلك السلطة الإنجليزية، طالب للتخلص منها، يفضل أية سلطة سواها، ظالمة كانت أو عادلة، كأنما يتصور كل واحد من أفراد تلك الأمم أنه لا توجد حكومة في العالم تبلغ في ظلمها مبلغ الإنجليز، ولا تصل إلى ما وصل إليه الإنجليز في الكبرياء والجبروت، ولكن مع هذه البغضاء الآخذة بقلوب أولئك الرعايا، ومع سعة ديارهم وتباعد أرجائها، وشدة ميلهم للتملص من تلك السلطة الظالمة؛ لا يوجد فيهم قوة تقهرهم على الخضوع لتلك الحكومة المبغوضة إلا خمسون ألف جندي إنجليزي، مع أنه يوجد من الممالك الصغيرة التي لها نوع من الاستقلال وتخشى زوال ما بقي لها، ما لو جمعت قواها لبلغت أكثر من ثلاثمائة ألف جندي، هذا فضلا عمن يمكنه حمل السلاح من أهالي البلاد التي دخلت في الحكومة الإنجليزية وزال استقلالها بالمرة.
فلولا الوهم الذي استولى على المشاعر والحواس حتى أذهلها عما بين يديها، بل عما هو موجود فيها؛ ما بقيت هذه النفوس الكثيرة العدد الفائقة القوة في قبضة قوم ضعاف يسومونهم عذاب الذل والهوان، ولو لمح أولئك المساكين أنفسهم لمحة اعتبار، وأدركوا ما آتاهم الله من القوة الطبيعية، ونظروا إلى ضعف الإنجليز في الحالة الحاضرة؛ لرأوا موئل الخلاص بين أيديهم، وملجأ النجاة تحت أرجلهم، وعلموا أن استقلالهم لأنفسهم وبلادهم لا يحتاج إلى تجشم تعب ولا تكلف مشقة، ولا يدعو إلى بذل أموال وافرة، ولا سفك دماء غزيرة.
يوجد في الدول الأوروبية من يهاب دولة الإنجليز اعتبارا لما في سلطتها من الممالك الواسعة والأمم العظيمة مما لم يبلغ عدده رعية دولة من الدول، ويقيس شأنها وقوتها في تلك الأطراف القاصية بما يراه في جزائر بريطانيا، ويظن أن لها قدرة على الدفاع عن تلك الممالك تساوي قدرتها عليه في بريطانيا أو تقرب منها، ولم يلتفت إلى أن جسم الإنجليز قد مد في الطول والعرض إلى حد لو حصلت فيه أدنى هزة لتقطعت أوصاله (رق حتى انقطع).
تفرقت قواهم في بسيط الأرض حتى لم تبق لهم في موضع قوة، ورعاياهم في كل صقع في ضجر لا مزيد عليه يترقبون في كل آن زحفا من خارج يعينهم على ما يقصدون من النكاية بحكامهم الظالمين.
لو التفتت تلك الدولة التي تهاب إنجلترا إلى حقيقة الأمر لما احتاجت في معارضتها ومنازلتها إلى تدبر ولا مشورة، فقد وصل الأمر من الظهور إلى حد لا يحتاج إلى دقة الفكر لولا حجاب الوهم، قاتل الله الوهم!
إن العثمانيين ينظرون إلى دولة الإنجليز كما ينظرون إلى دولة الروس، مع ملاحظة أن دولة إنجلترا تحكم على مائتين وخمسين مليونا من النفوس، فيظنون، لهذا النظر، أن معارضة هذه الدولة ربما تجلب الضرر، وليتهم مدوا أنظارهم إلى ما وراء ذلك؛ ليتبين لهم قوتها العسكرية، وماذا يمكنها أن تسوق من الجنود إلى ميادين القتال، ويتضح لهم أن هذه الملايين الكثيرة لا اعتداد بها في قوة دولة إنجلترا، فإنما هي في الحقيقة قوة لأعدائها عليها، وهي في ارتقاب الفرص لخلع طاعتها، فمتى ارتكبت دولة إنجلترا بالحرب مع دولة أخرى رأيت مائتين وخمسين مليونا تقاتل عساكر الإنجليز، خصوصا خمسين مليونا من المسلمين في حكومة إنجلترا يعدون الدولة العثمانية قبلة لهم وملاذا يلجئون إليه، وهم أول قوم حربيين في البلاد الهندية.
ليت العثمانيين يعلمون أن دولة إنجلترا إنما تستميل المسلمين في الهند بكونها حليفة الدولة العثمانية ونصيرة لها ومدافعة عن حقوقها، أما والله لو علم العثمانيون ما لهم من السلطة المعنوية على رعايا الإنجليز، واستعملوا تلك السلطة استعمال العقلاء؛ لما تجرعوا مرارة الصبر على تحكمات الإنجليز وحيفهم في أعمالهم، وتعديهم على حقوق السلطان في مثل المسألة المصرية، التي هي في الحقيقة أهم مسألة عثمانية أو إسلامية.
إن سكنة مصر كانوا أيام عرابي على قسمين، قسم يروم حفظ الحالة القديمة والوقوف عند ما يرسم به توفيق باشا، وقسم كان يميل بأحد جانبيه إلى عرابي، ويهاب بالجانب الآخر سلطة الرسم القديم، فكان هذا القسم الثاني في ريبة من أمره، ولا عزيمة من الريب، والقسم الأول مخلد إلى الفشل، فدخل الإنجليز بلا حرب حقيقية وإنما بنوع من الترهيب وقليل من الترغيب وخفيف من الدسائس، صادف قلوبا مستعدة فأخذ منها مقاما، فانحلت الرابطة وتفرق الناس عن عرابي بزوال جانب الميل إليه من قلوبهم، ومع ذلك ما كان يعتقد واحد منهم أن الإنجليز يبتغون من البلاد شيئا سوى أنهم يؤيدون توفيق باشا وينقذونه من الثائرين عليه.
فتساهل المصريون في الأمر بحسن ظنهم في حكومة الإنجليز مع ما جاءهم من الحجة القوية القائمة على أن صاحب السيادة الشرعية في رضاء عن تصرفها، بهذا فاز الإنجليز واستقرت أقدامهم. أما وقد مضى الزمان الكافي لظهور غدرهم، وسوء نيتهم، فلا يوجد من الأهالي المصريين من يميل إليهم، بل لا يوجد إلا من يبغضهم ويتمنى فناءهم، ويود لو يعمل عملا لهلاكهم، ولكن الوهم يجسم المخافة ويكبح العزيمة.
إن أهالي مصر كأنهم ذهلوا عن الأسباب التي مكنت الإنجليز من بلادهم، كأنهم يظنون أن المصريين كانوا على كلمة واحدة في مدافعة الإنجليز، ثم تغلبت عليهم القوة الإنجليزية وقهرتهم جميعا. كأن المصريين نسوا ما كان بينهم وأن الإنجليز ما دخلوا بلادهم إلا بمعونتهم، هذا هو الوهم العجيب.
إن الذين كانوا من مدة سنتين سببا في تغلب العساكر الإنجليزية وحلولها في وادي النيل وأنه لولاهم ما استقر لها قدم فيه؛ يظنون الآن أن تلك العساكر قادرة على قهر الأهالي عموما وإخضاعهم لحكومة بريطانيا، وبهذا الظن الباطل يستسلمون لأعدائهم كرها ويجارونهم في أهوائهم نفاقا.
هلا ينظر المصريون نظرة متأمل إلى القوة الإنجليزية؛ ليعلموا أن ليس في طاقة بريطانيا، لو أفرغت جهدها، أن تبعث إلى مصر والسودان أزيد من عشرين ألف جندي! ألا يعلمون أنه إذا اشتغل الجند الإنجليز بالسودان وحصلت حركة خفيفة في الشرقية والبحيرة والفيوم لارتبك الإنجليز وخارت عزائمهم والتجئوا لترك البلاد لأهلها؟! ألا قاتل الله الوهم!
إن للإنجليز قوة حربية بحرية لا تنكر، ولكن مبلغ تلك القوة البحرية هو الذي ظهر أثره في سواكن لا يمكن أن تعمل عملا فيما يبعد عن البحر أكثر من فرسخين، فلو فرضنا أن الإنجليز أطلقوا قنابلهم على السواحل، فهل في استطاعتهم أن يقيموا تحت ظلال القنابل إلى أبد الآبدين؟! إذا كان الأهالي في داخل البلاد يناوئونهم وليس لهم من القوة العسكرية البرية ما يقهرهم على الطاعة، ليس في الأمر شيء سوى الوهم، هذا الوهم تمزقت حجبه عن بصائر الغربيين فعلموا من هم الإنجليز ... ضعيف يسطو على حقوق الأقوياء، صوت عال وشبح بال، قامت الدول على معارضتهم؛ لعلمها أن الإنجليز صاروا للأمم كالدودة الوحيدة على ضعفها تفسد الصحة وتدمر البنية، لكن بقي أن يزول هذا الوهم عن الشرقيين؛ حتى يستفيدوا من هذه الحركات ويستقلوا بأمورهم ولا ينتقلوا من عبودية إلى أخرى، ولا يستبدلوا سيدا أجنبيا بسيد آخر، اللهم ارفع عنا حجب الأوهام، وهيئ لنا الرشد في أمورنا، واحفظنا من الغواية، واهدنا إلى خير نهاية.
الفصل الرابع والعشرون
الجبن
أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة . (النساء: 78)
قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم . (الجمعة: 8)
شهد العيان ودلت الآثار على ما صدر من بعض أفراد الإنسان من أعمال تحير الألباب، وتدهش الأفكار، ينظر إليها ضعفاء العقول فيعدونها معجزات وإن لم تكن في أزمنة النبوات، ويحسبونها خوارق عادات وإن لم تكن من تحدي الرسالات، وقد ينسبها الغفل إلى حركات الأفلاك وأرواح الكواكب وموافقة الطوالع، ومن القاصرين من يظنها من أحكام الصدف وقذفات الاتفاق؛ عجزا عن إدراك الأسباب، وفهم الصواب.
وأما من آتاه الله الحكمة ومنحه الهداية، فيعلم أن الحكيم الخبير - جل شأنه وعظمت قدرته - أناط كل حادث بسبب وكل مكسوب بعمل، وأنه قد اختص الإنسان من بين الكائنات بموهبة عقلية ومقدرة روحانية، يكون بهما مظهرا لعجائب الأمور، وبهذه المقدرة وتلك الموهبة مناط التكاليف الشرعية، وبهما استحقاق المدح أو الذم عند العقلاء، والثواب أو العقاب عند واسع الكرم سريع الحساب.
إذا رجع البصير إلى القياس الصحيح رأى في تشابه القوى الإنسانية وتماثل الفطرة البشرية ما يدل على تقارب العقول، بل على استواء المدارك، وأرشده الفكر السليم إلى أن فضل الله قد أعد كل إنسان للكمال، ومنحه ما يكون به مصدرا لفضائل الأعمال ، على تفاوت لا يظهر به الاختلاف بينها إلا للنظر الدقيق. هنا وقفة الحيرة ... استعداد فطري للكمال في خلقة الإنسان، ميل كلي في كل فرد لأن ينفرد بالفخار، ويمتاز بجلائل الآثار، وفضل عام من الجواد المطلق - سبحانه وتعالى - لا يخيب طالبا، ولا يرد سائلا، إذا صدق القاصد في قصده، وأخلص السالك في جده، فما العلة في إخلاد الجمهور الأعظم من بني الإنسان إلى دنيات المنازل وقصورهم عن الوصول إلى ما أعدته لهم العناية ويستفزهم إليه الميل الغريزي، خصوصا إن كانت النفوس مؤمنة بعدل الله، مصدقة بوعده ووعيده، ترجو ثوابا على الباقيات الصالحات، وتخشى عقابا على ارتكاب الخطيئات، وتعترف بيوم العرض الأكبر، يوم تجزى كل نفس بما كسبت
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (الزلزلة: 7-8)، ماذا يقعد بالنفوس عن العمل؟! ماذا ينحدر بها في مزالق الزلل؟! إذا ردت المسببات إلى أسبابها، وطلبت الحقائق من حدودها ورسومها وجدنا لهذا علة هي أم العلل ومنشأ يقرن به كل خلل: «الجبن».
الجبن هو الذي أوهى دعائم الممالك فهدم بناءها، هو الذي قطع روابط الأمم فحل نظامها، هو الذي أوهن عزائم الملوك فانقلبت عروشهم، وأضعف قلوب العالمين فسقطت صروحهم، هو الذي يغلق أبواب الخير في وجوه الطالبين، ويطمس معالم الهداية عن أنظار السائرين، يسهل على النفوس احتمال الذلة، ويخفف عليها مضض المسكنة، ويهون عليها حمل نير العبودية الثقيل، يوطن النفس على تلقي الإهانة بالصبر والتذليل بالجلد، ويوطئ الظهور الجاسية لأحمال من المصاعب أثقل مما كان، يتوهم عروضه عند التحلي بالشجاعة والإقدام، الجبن يلبس النفس عارا دون القرب منه موت أحمر عند كل روح زكية وهمة علية، يرى الجبان وعر المذلات سهلا، وشظف العيش في المسكنات رفها ونعيما.
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
لا، بل يتجرع مرارات الموت في كل لحظة، ولكنه راض بكل حال وإن لم يبق له إلا عين تبصر الأعداء، ولا ترى الأحياء، ونفس لا يصعد لا بالصعداء، وإحساس لا يلم به إلا ألم اللأواء. هذه حياته: أضاع كل شيء في القناعة بلا شيء، وهو يظن أنه أدرك البغية، وحصل المنية.
ما هو الجبن؟ انخذال في النفس عن مقاومة كل عارض لا يلائم حالها، وهو مرض من الأمراض الروحية، يذهب بالقوة الحافظة للوجود التي جعلها الله ركنا من أركان الحياة الطبيعية، وله أسباب كثيرة لو لوحظ جوهر كل منها لرأينا جميعها يرجع إلى الخوف من الموت، الموت مآل كل حي ومصير كل ذي روح، ليس للموت وقت يعرف، ولا ساعة تعلم، ولكنه فيما بين النشأة وأرذل العمر ينتظر في كل لحظة، ولا يعلمه إلا مقدر الآجال - جل شأنه:
وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت (لقمان: 34).
يشتد الخوف من الموت إلى حد يورث النفس هذا المرض القاتل بسبب الغفلة عن المصير المحتوم، والذهول عما أعده الله للإنسان من خير الدنيا وسعادة الآخرة إذا صرف قواه الموهوبة فيما خلقت لأجله، نعم يغفل الإنسان عن نفسه فيظن ما جعله الله واقيا للحياة - وهو الشجاعة والإقدام - سببا في الفناء، يحسب الجاهل أن في كل خطوة حتفا، ويتوهم أن في كل خطوة خطرا، مع أن نظرة واحدة لما بين يديه من الآثار الإنسانية، وما ناله طلاب المعالي من الفوز بآمالهم، وما ذللوا من المصاعب في سيرهم؛ تكشف له أن تلك المخاوف إنما هي أوهام وأصوات غيلان، ووساوس شياطين، غشيته فأدهشته، وعن سبيل الله صدته، ومن كل خير حرمته.
الجبن فخ تنصبه صروف الدهر وغوائل الأيام؛ لتغتال به نفوس الإنسان، وتلتهم به الأمم والشعوب. هو حبالة الشيطان يصيد بها عباد الله ويصدهم عن سبيله، هو علة لكل رذيلة، ومنشأ لكل خصلة ذميمة، لا شقاء إلا وهو مبدؤه، ولا فساد إلا وهو جرثومته، ولا كفر إلا وهو باعثه وموجبه، ممزق الجماعات، ومقطع روابط الصلات، هازم الجيوش، ومنكس الأعلام، ومهبط السلاطين من سماء الجلالة إلى أرض المهانة، ماذا يحمل الخائنين على الخيانة في الحروب الوطيسة، أليس هو الجبن؟ ماذا يبسط أيدي الأدنياء لدنيئة الارتشاء، أليس هو الجبن؟ ربما تتوهم بعد المثال، فتأمل، فإن الخوف من الفقر يرجع بالحقيقة إلى الخوف من الموت، وهو علة الجبن، سهل عليك أن تعتبر هذا في الكذب والنفاق وسائر أنواع الأمراض المفسدة لمعيشة الإنسان، الجبن عار وشنار على كل ذي فطرة إنسانية خصوصا الذين يؤمنون بالله ورسله واليوم الآخر، ويؤملون أن ينالوا جزاء لأعمالهم أجرا حسنا ومقاما كريما.
ينبغي أن يكون أبناء الملة الإسلامية - بمقتضى أصول دينهم - أبعد الناس عن هذه الصفة الردئية (الجبن)؛ فإنها أشد الموانع عن أداء ما يرضي الله وإنهم لا يبتغون إلا رضاه، يعلم قراء القرآن أن الله قد جعل حب الموت علامة الإيمان، وامتحن الله به قلوب المعاندين، ويقول في ذم من ليسوا بمؤمنين:
ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب (النساء: 77). الإقدام في سبيل الحق، وبذل الأموال والأرواح في إعلاء كلمته أوسمة يتسم بها المؤمنون، لم يكتف الكتاب الإلهي بأن تقام الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتكف الأيدي، وعد ذلك مما يشترك فيه المؤمنون والكافرون والمنافقون، بل جعل الدليل الفرد هو بذل الروح في إعلاء كلمة الحق والعدل الإلهي، بل عده الركن الوحيد الذي لا يعتد بغيره عند فقده.
لا يظن ظان أنه يمكن الجمع بين الدين الإسلامي وبين الجبن في قلب واحد، كيف يمكن هذا وكل جزء من هذا الدين يمثل الشجاعة ويصور الإقدام، وإن عماده الإخلاص لله والتخلي عن جميع ما سواه لاستحصال رضاه؟!
المؤمن من يوقن أن الآجال بيد الله يصرفها كيف يشاء ولا يفيده التباطؤ عن أداء الفروض زيادة في الأجل، ولا ينقصه الإقدام دقيقة منه، المؤمن من لا ينتظر بنفسه إلا إحدى الحسنيين: إما أن يعيش سيدا عزيزا، وإما أن يموت مقربا سعيدا، وتصعد روحه إلى أعلى عليين، ويلتحق بالكروبيين والملائكة المقربين.
من يتوهم أنه يجمع بين الجبن وبين الإيمان بما جاء به محمد
صلى الله عليه وسلم ، فقد غش نفسه وغرر بعقله ولعب به هوسه وهو ليس من الإيمان في شيء، كل آية من القرآن تشهد على الجبان بكسبه في دعوى الإيمان؛ لهذا نؤمل من ورثة الأنبياء أن يصدعوا بالحق، ويذكروا بآيات الله، وما أودع الله فيها من الأمر بالإقدام لإعلاء كلمته، والنهي عن التباطؤ والتقاعد في أداء ما أوجب الله من ذلك، وفي الظن أن العلماء لو قاموا بهذه الفريضة (الأمر بذاك المعروف والنهي عن هذا المنكر) زمنا قليلا، ووعظوا الكافة بتبيين معاني القرآن الشريف وإحيائها في أنفس المؤمنين؛ رأينا لذلك أثرا في هذه الملة يبقى ذكره أبد الدهر، وشهدنا لها يوما تسترجع فيه مجدها في هذه الدنيا وهو مجد الله الأكبر، فالمؤمنون بما ورثوا عن أسلافهم وبما تمكن في أفئدتهم من آثار العقائد؛ لا يحتاجون إلا لقليل من التنبيه، ويسير من التذكير، فينهضون نهضة الأسود فيستردوا مفقودا ويحفظوا موجودا، وينالوا عند الله مقاما محمودا.
الفصل الخامس والعشرون
زلزال الإنجليز في السودان
نقلت الجرائد الإنجليزية برقية وردت إلى جريدة ألستنداراد من دونقلا، ثم كررت ذكره وثبتت مفاده أياما متواليات، ومحصله: أن الألسن تلهج في مدينة دونقلا وفيما بين الجيوش الإنجليزية بقدوم جيش محمد أحمد، والحديث مستفيض في جميع المعسكرات بأنه زاحف إليهم بجيشين أحدهما يأتي من الصحراء والآخر على شطوط النيل، وأنهم لا بد أن يلاقوا منه صدمة شديدة لا قبل لهم باحتمالها.
وقد استولى بذلك الإضراب والتشويش على أفكار العساكر خصوصا عساكر مدير دونقلا؛ خوفا وفزعا، ولكن لما أيقنوا به واطمأنوا إليه من أن السلطان راض عن أعمال محمد أحمد، بل صدرت منه التنبيهات إلى جميع المؤمنين في تلك الأطراف بأن يتجنبوا محاربة هذا القائم، وأن يعتبروا الإنجليز في منزلة العدو الألد ويقاوموهم مقاومة الآيسين. ا.ه.
كنا نعلم أن جميع المسلمين وعموم الوطنيين يرون من فروض ذمتهم السعي في معاكسة سير الإنجليز وإقامة الموانع في طريقهم بقدر الطاقة والإمكان؛ قياما بما يوجبه الدين والوطن، ولا يحتاجون في الانبعاث لهذا العمل الشريف إلى أمر سلطاني؛ فإن الشريعة الإلهية والنواميس الطبيعية في كل ملة وكل قطر من أقطار الأرض تطالب كل شخص بصيانة وطنه والذود عن حوزته وتبيح الموت دونه، بل توجبه في مدافعة الباغين عليه، وتدعو كل ذي عقل لأخذ الحذر من حيل المحتالين، والتوقي من الأرواح الشريرة الخبيثة التي تتجلى في أشكال من الصور، منها ما يخطف برونقه الظاهر لب الألباب ويهذب بهوه الصوري بنور الأبصار، وهي منابع الشر ومصادر الفساد ومهب رياح الفتن والاختلال، تلك أرواح الأجانب ونفوس الأباعد الذين يهتكون حرم البلاد ويخفضون شئون العباد ويغمطون الحقوق ويفسدون الأخلاق ويذلون النفوس.
المدافعة عن الوطن أمر طبيعي، وفرض معاشي يكاتف في دعوة الطبيعة إليه الميل إلى الطعام والشراب، فليس يمدح القائمون به ولا يثنى عليهم في أدائه. نعم، تتجلى صورهم الجميلة محلاة بأوصافها الفاضلة في مزايا التواريخ عندما يمر النظر إليها على تماثيل الخائنين الذين جاوزوا تخوم الطبيعة وصيغت لهم هياكل من اللعن الأبدي مسربلة بالخزي والعار السرمدي، هكذا يعرف الشيء بضده.
لسنا نعني بالخائن من يبيع بلاده بالنقد ويسلمها للعدو بثمن بخس أو بغير بخس - وكل ثمن تباع به البلاد فهو بخس - بل خائن الوطن من يكون سببا في خطوة يخطوها العدو في أرض الوطن، بل من يدع قدما لعدو تستقر على تراب الوطن وهو قادر على زلزلتها، ذاك هو الخائن، في أي لباس ظهر وعلى أي وجه انقلب.
القادر على فكر يبديه، أوتدبير يأتيه، لتعطيل حركات الأعداء ثم يقصر فيه؛ فهو الخائن، من لم يستطع عملا وأمكنه أن يرشد العامل وتهاون في النصيحة؛ فقد خان، من سوف عمل اليوم إلى الغد وتوانى في تضليل كيد الأعداء بقول أو فعل؛ فقد ارتكب خطيئة الخيانة. وكل خائن لوطنه أو ملته فهو ملعون على ألسنة الأنبياء والمرسلين وممقوت في نظر العالم أجمعين.
ما أعظم جريمة الخيانة (المساهلة في شئون الأوطان) يأتي الزمان بطوله على كل شيء فيمحو أثره ويطمس رسمه إلا وصمة الخيانة، فلا تطويها الأدهار، ولا يخفيها تطاول الأعصار، محيت أسماء العظماء والملوك والسلاطين، ولكن لم تمح أسماء الخائنين ، لوث على وجه الزمان ودرن في صفحة الإمكان مكتنفة باللعنة محفوفة بالمقت إلى أبد الآبدين، لا يحيط القلم بوصف الخائن وما يتبعه من الشنائع، ولكن النفوس مهما تدانت في الإدراك تشعر بعظم جرمه، فلنرجع إلى موضوع كلامنا.
كنا على يقين ولا نزال عليه، أن الذات الشاهانية وهي الأب الأكبر لعموم المسلمين، وهي الكافلة للشريعة الحافظة للدين؛ هي أجدر الناس بالالتفات إلى حركة الأعداء في البلاد الإسلامية، وهي لا تألو جهدا في تعويق سيرهم وإحباط أعمالهم، ولا يمكن أن يطمئن للسلطان قلب وهو يرى أن أمة عظيمة من أخلص الأمم في الولاء له والخضوع لشوكته سقطت تحت السلطة الأجنبية، وإنه لحرج الصدر من أعمال الحكومة الإنجليزية وعدوانها على الحقوق العثمانية والإسلامية والمصرية بلغت غشمرة الإنجليز إلى حد لا يحتمل، فليس من الغريب أن تضيق بها الصدور وتفيض بالغيظ منها القلوب وتبلى منها دروع الصبر وتذوب سابغات الجلد.
فيا أيها المصريون، هذه دياركم وأموالكم وأعراضكم وعقائد دينكم وأخلاقكم وشريعتكم، قبض العدو على زمام التصرف فيها غيلة واختلاسا، زحف العدو إليكم تحت راية المحبة، ثم قلب لكم ظهر المجن، وتناول بيده الظالمة شئونكم العامة، من عسكرية ومالية وإدارة وقضاء، ولم يبق لكم شيئا إلا الحرمان من خدمة أوطانكم، وأنتم أحق بها وطالما دافعتم عنها في الأيام السابقة.
هذا، وهو لم يأمن طوارق السياسة الخارجية ولم يمح القوى الداخلية، يطلب استمالة القلوب إليه، وجمع النفوس عليه، فكيف به إذا رسخت أقدامه، وارتكزت أعلامه، وخلا له الجو من المعارضين؟! ماذا ترجون من مطاولته، وماذا تؤملون في إرخاء العنان له، وماذا تهابون في معارضته والأخذ على يده؟!
أما رجاء الخير منه فوهم فاسد وخيال باطل؛ فقد رأيتم أنه أفسد شئونكم، وأقلق راحتكم، وحرم رجالكم من الخدم، وأفقر آلافا مؤلفة من العائلات، ووهب من بلادكم لأعدائكم، وأضر بمنافعكم العامة من زراعة وتجارة وصناعة، فأغلق أبواب الكسب في وجوهكم، وقصد إلى التدخل فيما يختص بأمور دينكم (كالأوقاف)، وعمد إلى خرق سياجكم وإزالة قوتكم بطرد جنودكم، وهذه أوائل أعماله ، فكيف تكون نهايتها؟! فماذا تخشون منه؟
هل تخشون أن تنقص أموالكم، وثمرات كسبكم إذا أديتم حقوق وطنكم وحاربتم عدوكم؟! ربما يختلج هذا بخاطر بعضكم، وهو من عجيب الخواطر، أنتم واقعون بسكونكم فيما تخافون منه، انتقصت الأموال والثمرات، وفاضت العبرات وزادت الحسرات، وإن زدتم في الخضوع زادكم عدوكم خسارا وأوسعكم خرابا ودمارا، إن رسخت قدم العدو بينكم لا يبقى منكم غني إلا افتقر، ولا عظيم إلا احتقر، وإن شئتم فانظروا مستقبلكم في مرآة حاضركم، واقرءوا حالكم في تواريخ من سبقكم.
هل تخشون إذا قمتم بفروضكم أن يأتي الخطر على حياتكم؟! يمكن أن يعرض هذا الوهم بخيال طائفة منكم، ولكن فلتعلموا أن عدوكم في هذا الوقت ضعيف العزيمة خائر القوة، الدول متألبة عليه يترقب منها في كل آن مطالبته بنتائج أعماله ومحاسبته على عواقب تصرفه، ثم هو يخشاكم كما يخشى الدول أو أشد خشية، إنه مسرع في سيره منطلق إلى مقصده بغاية ما يمكنه؛ ليتخذ لنفسه قرارا مكينا، ومقرا أمينا، ولا يخفى عليكم أن المسرع في جريه يكبه على وجهه عثرة في مدرة، فلو ظهرت منكم في هذا الوقت مقاومة خفيفة، أو مؤاخذة طفيفة، أو تظاهرتم بالنفرة وعدم الرضاء عن سيره فيكم، وجهرتم بذلك، لرأيتهم أن ماءه سراب، وسحابه جهام، وسيفه كهام، وأوقفتم سيره واستعليتم بقوتكم على ضعفه، وأقمتم للدول حجة قوية في كبحه ورد جماحه، وإلزامه باحترام الحقوق العامة والخاصة، ونزع قوة العمل من يد استبداده، وتخويلها لسلطة تحفظ بها الموازنة بين حقوقكم وحقوق أوروبا كافة.
أما لو تركتم عدوكم حتى ينتهي لمقره، ويقوى على أمره، ويدوخ السودان، ويحيط بجيوشه أعالي البلاد المصرية - لا أناله الله ذلك - صعب بعد هذا تعريفه بقدره، وإيقافه عند حده، وضعفت حجة الدول في معارضته، إن أقوم حجة للدول عليه هي عجزه عن القيام بما كتب على نفسه من تقرير الراحة وإصلاح ما كان يظن من الخلل في مصر، فلو تمكن عدوكم بسكونكم من إظهار قدرته وإقامة الدليل على كفاءته للولاية عليكم، فقد فاز بالسيادة فيكم وأصبحت دماؤكم وأموالكم وجميع شئون حياتكم في قبضة جوره.
في إمكانكم الآن أن تضروا بعدوكم وليس في إمكانه أن يضر بكم، فإذا مضى زمن انعكست القضية وأصبحتم في عجز عن مقاومته وأصبح وفي يده عصا الجبروت لإذلالكم.
إن كنتم تخافون من الموت أو التذليل فهل هو الآن على بعد منكم؟! أليس يؤخذ منكم الأبرياء بالشبه الباطلة، ويهانون ويذلون وكثير منهم يقتلون؟! إن عدوكم هذا سيحاسبكم على خطرات قلوبكم وحركات دمائكم في أبدانكم، ويفعل بإخوانكم في ديار غير دياركم، ثم لا يبقي على أحد منكم، فأنتم اليوم أصحاب أمركم وهذا قصده إليكم، وفي إمكانكم أن تستعينوا الله في التحصن من خطر آجل، بدون ضرر عاجل، فإن شئتم فارحموا أنفسكم، وإلا فأنتم ساقطون، فيما منه تخافون.
يا قوم يؤثر في كتبكم من كلام سلفكم: الشجاع محب حتى لعدوه، والجبان مبغض حتى لأبيه وأمه، تعلمون أنه ما عز قوم بالخضوع، ولا استهين شعب بالإباء، لماذا تعدون أنفسكم في الدرجة الدنيا عمن سواكم؟! ألستم تتشابهون في الخلقة مع أعدائكم؟! ألستم تمتازون عنهم بالإيمان الصادق، والعقائد الصحيحة؟! ألستم تنتسبون إلى أولئك الأبطال الذي دوخوا البلاد وسادوا العباد؟! ألستم تدعون أنكم أشرف عنصرا وأكرم جوهرا، فإن قمتم بطلب حقوقكم فهل يصيبكم أكثر مما يصيب أعداءكم؟ إن كان الموت فهم يخشونه، إن كان الخسار فهم يرهبونه، إنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون.
لأي شيء يخاطر عدوكم بماله ودمه للتغلب على ما ليس له؟ ولأي سبب لا تقدمون بشيء من شهامتكم في حفظ ما هو لكم؟! إن هذا لشيء عجاب! هل نذكركم بقول شاعركم:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
ليس هذا مقام التذكير، وليس المكان مكان المباراة في المجد والمسابقة إلى معالي الأمور، إنما الكلام الآن في الدفاع عن الحياة وصيانة ضروريات المعيشة، فإن لم يستفزكم طلب العلا وسمو الهمم فليستفزكم تصور الشقاء المنتظر، الذي رأيتم بوادره ونعوذ بالله أن تدرككم أواخره، أستغفر الله، لا تزال ترجى فيكم النجدة والشمم والرفعة، لا يزال دينكم يترقب منكم حمية عليه وغيرة لدفع الغائلة عنه.
إن صاحب الدين
صلى الله عليه وسلم
ينتظر فيما يعرض عليه من أعمالكم نهضة لإعلاء كلمة الحق وإنقاذه من مخالب أعدائه، وإن الله في عزة جبروته لن يدعكم على ما أنتم عليه حتى يعلم الصادقين منكم ويعلم الصابرين:
يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله (الصف: 14)،
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين (آل عمران: 139).
باب النتف والأخبار
الفصل الأول
سياسة إنجلترا في الشرق
هلع على ما في البيت فهلوع لإغلاق الباب، فانخلع المصراع وانقض الجدار من ورائه.
هذا شأن دولة بريطانيا في الهند، وقناة السويس، قصارى بغيتها أن تكون في أمن على هذا الباب، وكان سهلا عليها أن تخلص النية في مسالمة أرباب الولاية عليه، فيقونه بأرواحهم وأموالهم، ثم هي تفوز بفوائده إلى الأبد.
إلا أن جيشان الأوهام، وموحشات الأحلام، دفعتها لمباشرة حمايته بنفسها، فإذا الأمر أصعب من أن ينال، وأساس البيت أوهى من أن يدوم.
أرادت دولة إنجلترا بعد تبوئها أرض مصر، أن تدخلها تحت حمايتها، وأن تبدل العساكر الوطنية بإنجليزية، وأن تقيم في السودان سلطنة مستقلة، وحاولت في ذلك إرضاء المصريين بأنه من الضرورات لتنظيم أحوالهم وإقرار الراحة بينهم، وتسكين روع العثمانيين بحفظ الحق وتخفيف الوزر، وكان لكل أن يستبشر بهذه الخدمة الجليلة إن تمت، ولولا ما لدولة إنجلترا من تقسيم الممالك التيمورية في الهند، وإقامتها لكل قسم حامية من قبلها، وكان هذا أكبر الأسباب وأصغرها لاستيلائها على الأقطار الهندية، وإنا لنأسف على التفاوت بين الزمانين، والتباين بين المكانين، فلا الإحسان الإنجليزي يمكن تتميمه، ولا العثمانيون والمصريون يستبشرون بنوله، وخطر الأمرين غير يسير.
ظهرت دعوى المهدوية في السودان، واشتد أزر القائم بها بمسارعة الإنجليز إلى التداخل في مصر بحجة حفظ باب الهند، وعظم خطب الداعي بعدما أراق دماء غزيرة، ودبت روح دعوته إلى سواحل البحر الأحمر وحدود مصر الطبيعية ، وأمالت القلوب إليه نفرتها من السلطة الإنجليزية.
يقرب من الظن أن نفثاته مازجت أفئدة العرب في فيافي طرابلس، أو قاربت، وأن هذه النيران التي يشعلها بالبكاء على الدين والنواح على امتهانه، لا تلبث أن تنقض شرارة منها على جزيرة العرب، وفيها يصعد عويل الدين ونحيبه إلى عنان السماء، وعند ذلك يمسي باب الهند بين ألسنة النيران من جهتين بل من ثلاث جهات، أيبعد عند العقل وبريطانيا لاهية بإنقاذ الباب أن تتقد النيران في البيت؟! إن الخطر اليوم أشد مما اهتمت بدفعه سابقا، ماذا أخذت من الوسائل لدفع هذه الغائلة؟
أرسلت جوردون باشا إلى السودان لتفريق كلمة المحاربين ورقية محمد أحمد الحمداني، السودانيون لم تلتئم جراحهم من ظلم جوردون أيام كان حاكما مستبدا عليهم، وفي علمهم أنه أعدى أعداء الديانة الإسلامية؛ فقد طلب وهو فيهم قسسا من السويس لنشر المذهب البروتستانتي بين مسلميهم، فهل تمكنه الفصاحة الإنجليزية أن يمحص صدور العرب من الضغينة الدينية والدنيوية، بعدما رسخت أعواما، ويمحوها في بضعة أيام، وهل يسهل عليه إرضاء محمد أحمد، بعدما قام بدعوة عظيمة كهذه بمنحه لقب أمير كوردفان، أو هل يقنع صاحب هذه الدعوى بمثل هذا اللقب بعدما تسنى له من الفتوحات واستولى على تلك البلاد بدون إذن جوردون، قد يظن هذه الظنون من لا وقوف له على حقيقة دعوى المهدوية وموقعها من قلوب المسلمين، ويكفي لكشف بعض ما في الغيب ما اتفقت عليه الجرائد الإنجليزية والفرنسية وأثبتته المخابرات الرسمية من إخفاق جوردون في سعيه كما تراه في غير هذا المقام.
ساقت خمسة آلاف، وعلى بعض الروايات: أربعة آلاف جندي تحت قيادة الجنرال جراهام إلى سواحل البحر الأحمر لاسترجاع شرف بيكر باشا، وثار ضباطه من الإنجليز (أما هكس باشا وضباط جيشه فلبعدهم عن البحر لا شرف لهم ولا ثأر)، وغلب هذا الجيش، المدرب الكامل العدة الشاكي السلاح من أجود طرز، ثلاثة آلاف من عراة العرب السودانيين (بمعنى أنه قتل منهم ثمانمائة بدوي) والقبائل على عصبيتها لم تحن بعد، هل بهذا تدفع الغوائل ؟! أيظن ذو عقل أن فاتحا فتك بعشرة آلاف جندي مرة وألفين وخمسمائة مرة أخرى جميعها تحت إمرة مشاهير من جيش إنجلترا يخور عزمه لانهزام شرذمة من المنتسبين إليه، وهل يؤثر هذا وهنا في اعتقاد المذعنين لدعوته؟! سبحان الله! كان لغلبة هذا الجيش رجة في إنجلترا، وخيل لحكومتها أنه نجاح في العمل، وربما نشأ هذا الخيال من التهنئات التي وردت إليها من الدول وسفرائها مما لم ينله نابليون الأول وغليوم الألماني.
أقول، وحق ما أقول، إن الضريم شديد، فإن ترك امتد وأخاف الدانية والقاصية، وليس في إمكان جوردون ولا أحذق سياسي في إنجلترا أن يخمد لبه والمناوشات البريطانية تحضره فتزيده اشتعالا، وإنما يتيسر إطفاؤه لأولي العزم من العثمانيين والمصريين؛ لكونهم على شاكلة صاحب الدعاوى وبيدهم عنانها.
كان من حذق الإنجليز لو اكتفوا في حفظ باب الهند بعضد العثمانيين وخضوع المصريين مع القوة البريطانية، والتفتوا إلى ترميم سياج الهند من الجهة الشمالية، ماذا يفيدهم سد الباب إذا وهى الأساس فتداعت الجدران وخر السقف، إن قبائل التركمان في «مرو» مع شرس طباعهم لحقوا بدولة الروس اختيارا بعدما كانوا مستقلين في أمورهم لا يدينون لسلطة أجنبية عنهم، فأي مانع يمنع تركمان سرخس، وهم سنيون، من الاقتداء بهم؛ تخلصا من حكومة فارس المخالفة لهم في المذهب، فإن تم هذا فتح للروس طريق فراه إلى قاين إلى سجستان، وأي قوة تصدها عن طمعها، وإن حلت في سجستان أو فراه فأية عقبة بينها وبين الهند؟
إن قبائل أزبك من سكان «ميمنة» و«أندخو» و«شيورغان» و«سربول» وسائر بلاد بلخ إلى «وبلميان» في ضجر من الحكومة الأفغانية، أفلا يتبع هؤلاء أثر أبناء أعمامهم التركمان، فإن غفلوا فتحت لهم روسيا بابا من الملاطفة، وذهبت بهم في طرق من سياسة اللين لتشويقهم إلى الدخول في حمايتها والتملص من نير الأفغانيين، وليس في قوة حكومة الأفغان كبحهم إن أرادوا لضعفها فيهم.
إن قبائل هزازة من الشيعة الساكنين في الجبال الممتدة من هراة إلى كابول ينتحلون الأسباب للخروج على حكومة الأفغان نفرة من سلطة السنيين، وقد كانوا في الحرب الأخيرة بين الإنجليز والأفغان متفقين مع الإنجليز، فهم بعدما يرون جيرانهم انحازوا إلى الروس، أفلا ينزعون إلى مجاراتهم خصوصا إذ لمعت لهم بوارق الوعود الروسية، هذا كله يكون، فتشرف روسيا بعد على الميدان المتسع الممتد من هراة إلى قندهار إلى غزنة بل إلى كابول من جهات كثيرة، فهل بعد هذا يبقى للهند سياج؟ وهل يمكن أن يقام في وجه روسيا مانع من المسير إليه؟ وهل ينفع عند ذلك الوقوف على نافذتي «قناة السويس»؟
أليس يسهل على الروس عند إشرافهم على تلك المواقع الإيقاع بين قبائل الأفغان وبين المرشحين للإمارة، ويتخذون منهم أحزابا كما فعلوا بخوانين القرم؟
تقربت دولة روسيا إلى ألمانيا والنمسا في هذه الأيام، وانعقدت بينهم معاهدة على حفظ السلم في أوروبا إلى زمن غير قصير، ولم يكن هذا التقرب مبنيا على ما يخيله السياسيون في كل دولة على حسب مصالحهم، وإنما رأت روسيا أن الوقت وقت العمل في آسيا، فطلبت الراحة من جهة حدودها الأوروبية لتتفرغ لإجراء مقاصدها في أطراف الهند، وإن الفزع من هذا الانتقال الفجائي قد ظهر أثره في جميع الجرائد الإنجليزية.
ليت الإنجليز صرفوا قوتهم ووجهوا عزيمتهم لدفع ما يلم بهم من الخطر القريب ولم يقعوا في شرك المسألة المصرية، فإن ما كانوا يخافونه من مصر كان وهما صرفا، فلما طرقوها أوقدوا فتنة ما كانت تخطر ببال أحد، ثم هم في عجز عن علاجها، وإننا نظن كما يزعم الوزارء العثمانيون أن الإنجليز ليس في إمكانهم أن يكسروا سورتها بأنفسهم، ولا بد لهم من يوم يلجئون فيه إلى ذوي العزيمة من العثمانيين والمصريين - وإلى الله عاقبة الأمور.
الفصل الثاني
مصر
كانت حكومة هذه البلاد في الربع الأول من القرن الماضي (الهجري) تعد من نوع حكومة الأشراف، ويحسبها المؤرخون في تلك الأوقات بدرجة لا تعرف هيئتها، ولا يصل بحث الباحث إلى كنهها، وإذا عبروا عنها بالتقريب قالوا: طرز قديم كان معروفا في أغلب أنحاء المسكونة.
ثم أعجب الدهر فيها بغرائبه بعدما فوضت أمورها لمحمد علي باشا، فلم يمض قليل من الزمن حتى دخلت في طور جديد من أطوار المدنية، وظهر فيها شكل بسيط من الحكومة النظامية وتقدمت فيه على جميع الممالك الشرقية بلا استثناء، وعد هذا التقدم السريع من عجائب الأمور.
1
هل كان في حسبان أحد أن يستلم زمام الحكومة في مصر رجل من بعض قرى الرومللي لم يتربع في دروس العلم ولم يجبل في مصانع السياسة، إلا أن طبيعته الفطرية كانت فائضة بحب الحضارة، وبث العلوم، وتأسيس قواعد العمران، مع تدفق همته لبلوغ الغاية مما يميل إليه؟!
تقدمت بعد ذلك فيها الزراعة تقدما غريبا، واتسعت دائرة التجارة، وعمرت معاهد العلم، وانتشرت في أرجائها مبادئ المعارف الصحيحة، وتقاربت أنحاؤها، واتصلت أطرافها بما أنشئ فيها من سكك الحديد وخطوط التلغراف، وتعارفت أهاليها، وائتلف الجنوبي بالشمالي، والشرقي بالغربي، وقوي فيهم معنى الأخوة الوطنية، بعد أن كانوا لبعد الشقة بين بلدانهم كأنهم أبناء أقطار مختلفة، وتواصلوا في المعاملات، وتشاركوا في المنافع، واعتدلت المشارب المذهبية، حتى كان لهم زمن أحسن فيه كل واحد بنسبته من الآخر، وارتفعت بذلك أصواتهم، بعدما جالت فيه أفكارهم.
تفجرت من أرض مصر ينابيع الثروة، وعمدت بقاعها وطفحت ففاض خيرها على ما يجاورها من الأقطار الشرقية، بل وصل مد نيلها إلى أراضي البلاد الغربية، وتوارد إليها الغرباء، وقصاد الكسب من كل مكان، وما خاب لها قاصد، ولا أخفق فيها سعي ساع، فأثرى في مغانيها الفقراء، وعز بها الأذلاء، وصارت قبلة لآمال كثير من الغربيين، ومحط رحال الراجين من الشرقيين، وكل وافد إليها يجد أهلا خيرا من أهله، وسكنا خيرا من سكنه، وتكاثرت فيها العناصر الغريبة، حتى كان الداخل إليها يخيل له أنه تحت برج بابل يوم تبلبلت الألسن.
وساد بها الأمن وعمت الراحة، وضارعت في كل أحوالها نوع ما عليه الممالك الأوروبية العظيمة، وكان المتأمل في سيرها هذا يحكم حكما ربما لم يكن بعيدا من الواقع، أن عاصمتها لا بد أن تصير في وقت قريب أو بعيد كرسي مدنية لأعظم الممالك الشرقية، بل كان ذلك أمرا مقررا في أنفس جيرانها من سكان البلدان المتاخمة لها، وهو أملهم الكبير، كلما ألم خطب أو عرض خطر، غير أن الأيام كأنها حسدتها على ما منحته، فعثر العاقل، وفرط المالك، وأعثر المعجب، وتهور الغبي، وخار الأفين، فتقرب البعيد، وبعد القريب، ونزل بمصر ما لم يكن له أثر إلا حواشي طوامير الأوهام - ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ألحمت إدارة الحكومة بما ليس من نسيج سداها، وانتفضت منها أصول على وجه غير مألوف، ففتحت للدسائس أبواب وأنساب، بين طبقات الناس، دهاة سياسة، وطلاب غايات، فتفرق اتصال، وتقطعت أوصال، فضعفت السلطة الوازعة، ونبذت الطاعة، والتهبت نيران الفتن.
قضاء حل بتلك البلاد، فاحتاجت في إعادة شأنها الأول إلى رأي قويم، وعزم ثابت، ووازع قوي، تدين لسطوته النفوس، وإن من ذوي الحقوق فيها من يجمع هذه الأوصاف، وله من القلوب المكانة العليا، وكان يسهل عليها القيام بما يعهد إليه، لكن تحكم طمع وأخطأ ظن، فتخلفت النتيجة، واشتدت الحاجة.
أشفقت دولة الإنجليز على طريق الهند، كما يقال، أو ظنت أن آن التقدم بعض خطوات قد آن، فرأت أن إعادة الأمن وتثبيت الراحة في مصر من فرائض ذمتها، فكان من التحريق والتدمير والقتل والشنق والحبس والإبعاد والتغريم، وما شاكل ذلك مما لا حاجة لبيانه، وعم بعض أنواع الهون، حتى لم يبق ممن يعرف اسمه أحد إلا مسه ضرمه، ما خلا أشخاصا قلائل، وهذه المرهبات على ما بها من القوة لم تبلغ الغرض من تأمين طريق الهند لإشرافه على الخطر من وجه آخر، ولم تأت بما كان يؤمل منها لنظام البلاد.
أليست المالية هي مرمى أنظار دول أوروبا، وما وضع نظام في البلاد ولا أحدث تغيير بمشورتهم إلا لوقاية الخزينة من العجز عن أداء ما يتعلق بها من الحقوق الأوروبية؟ اليوم رزئت بالنقص في الإيراد، وحملت من تعويضات متالف الحرب أربعة ملايين من الجنيهات، ورميت بنفقات جيش الحلول، وحرب السودان، ومصاريف إخلائه، وما يضاف إلى كل هذا مما يظهره المستقبل ، فاختلت الموازين، وبطل قانون الجبايات، وأي مصيبة على المالية أعظم من نوازلها الحاضرة؟!
عقد العزم على إلغاء الجيش الوطني، وهو قوة البلاد وبه فخارها، وكأنه لم توجد وسيلة لتنظيم جنود مصر، وقصر الجهد عن مجاراة محمد علي باشا، وإبراهيم باشا، اللذين دوخا كثيرا من الأقطار بجنود مصرية.
إن كان كل ما تقدم من الشدائد والخطوب وزيادة النفقات وإلغاء العساكر الوطنية إنما يتخذ سبيلا لراحة الأهالي، وتحسين أحوالها، فنعمت الوسائل إذا أدت إلى غاياتها، لكن أين السبيل من المقصد، وأين هذه المعدات من تلك الغايات؟
واأسفا على حالة الأهالي بعد هذا! حكم من لا دافع لحكمه بطرد آلاف من الوطنيين الموظفين في دوائر الحكومة، وما منهم أحد إلا ويتبعه عائلة وأولاد، ولا قوت لهم إلا من مرتب عائلهم، وما مرن على عمل للكسب سوى ما نشأ فيه من خدمة الحكومة، ألم يمس هؤلاء ضر الفقر؟! ألم يعضهم ناب الجوع؟! ألم يهتك مستورهم؟! ألم يضق ذرعهم؟! ألم يصبحوا كساة بسرابيل الكآبة، عراة من أكسية المسرة؟! إن لم يكن كل هذا فقد كان جله، وإن صدى أنينهم يتلى في صفحات الجرائد الوطنية العربية والإفرنجية وسيتبع السابقين منهم اللاحقون، حتى لا يجد وطني في البلاد من المهن إلا ما لا يليق بالإنجليزي تعاطيه من سفاسف الأمور - كما هو في البلاد الهندية.
اضطرب ميزان السلطة العامة لتعاكس قواها المختلفة فاشتبه الأمر على العمال، وظنوا أن لا تبعة عليهم فيما يعملون، فانطلق ما غل من أيديهم، وحكموا أهواءهم في أداء وظائفهم، فخبطوا وخلطوا، أفعمت السجون بأعيان الرعية، ورفعت أذناب الكرابيج لتشريح أبدانهم، واستعملت آلات التعذيب، وامتدت مخالب الجور لتجريدهم من بقايا أموالهم، وثمرات كسبهم، وحدث نوع من الحكم المطلق عزيز المثال، بعث عليهم عذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم، ولبسوا شيعا وأذيق بعضهم بأس بعض. وما الله بغافل عما يعمل الظالمون.
غلقت أبواب العمل من وجوهه الرسمية في الإدارات، وتعطلت أشغال المحاكم، وشخصت الأبصار لعاقبة هذا التنازع بين القوى الحاكمة، فاتسع نطاق الفوضى وارتفع حجاب المنعة، فإذا الفلاح لا يبالي بعمدته، والعمدة لا يبالي بمأمور مركزه، والمأمور لا يحترم مديره، وسرى التهاون إلى الدوائر العليا، وعاد الأمر لقوة الساعد وكثرة الأعوان فعاثت اللصوص، وكثر قطع الطرق في كل ناحية.
وارتفعت الأصوات بالشكوى منهم في عموم الجرائد الوطنية، فوقفت حركة الأعمال العمومية، وبدت للناس شئون عدلت بهم عن ضرورات معاشهم، وامتنع المدينون من أداء ما عليهم لدائنيهم من التجار والربويين؛ فقبض المقرضون أيديهم واحتكروا نقودهم لفقد ثقتهم وإشفاقهم من الضياع على رءوس أموالهم، وإن أصيبوا بالحرمان من الربح وابتلوا بالخسارة في رأس المال من قبيل آخر.
واشتدت الحاجة بالفلاحين إلى ما يعوض عليهم من ماشية في الحراثة بعدما اغتالها التيفوس، وما يجددون أو يصلحون به آلاتهم الزراعية، ويستعينون به على نجاحها حسب العادة التي ألفوها، فعميت عليهم من السبل، وضاقت بهم المسالك، ولم يجدوا لسد حاجتهم سبيلا؛ ففسدت الزراعة وانتقصت ثمراتها، وانحطت أسعار الحاصلات لارتباك الأحوال إلى حد ما كان يسمع إلا في القصص وروايات القدماء قبل محمد علي باشا، ومطالب الحكومة في ضرائبها ورسومها على حالها الأول مع الإغلاظ في اقتضائها، فعم العسر وأحاط الضنك، وتقوضت آلاف من البيوت التجارية، وأتربت أيدي ملايين من عمال الصناعة، وأعدم المزارعون قاطبة إلا نزر يسير من حفظة الكنوز أو المستأثرين بأموال الكافة نهبا وسلبا.
باع الفلاح أثاث بيته، بل وما أبقاه التيفوس من عاملة أرضه، بعدما ذهبت الحاجة بحلي حرمه وبناته ليؤدي ما عليه لحكومته، ولم ينل من نضارة العيش ما يقوم بحفظ حياته، وعاد إلى الفطرة الأولى يقتات بأقوات البهائم ويسرح مسارح الحيوانات إلا قليلا منهم الله يعلمهم.
وزاد الويل بمحق الحرية الشخصية، والأخذ بالشبه وإن ضعفت، واتباع بواطل التهم وإن بعدت، أو استحالت، حتى أخذ الفزع من القلوب مأخذه، وبلغ منها مبلغه، فلا ترى مارا بطريق إلا وهو يستلفت خلفه لينظر؛ هل تعلق بأثوابه شرطي يقوده إلى السجن، أو يقتضي منه فدا. وكل معروف الاسم من المصريين ينتظر في كل خطوة عثرة، وفي كل نهضة سقطة ، وله من كل شاخص دهشة ومن كل طارق لبابه غشية، أي شقاء ينتظره الحي في حياته أشنع من هذا؟!
هذا ما تنشق له المرائر من أحوال سكان القطر المصري، هذا بعض ما يضيق به الصدر، وتنقبض له الأنفس، مما رزئوا به بعدما تكفل أحباؤهم الأولون بالدفاع عنهم وتخليصهم من الفوضوية السابقة، هذه طلائع الإصلاح المبشر به من زمان بعيد على ألسنة رسله، أصبح الأهالي حيارى في أموالهم، تائهين عن رشادهم، لا يعلمون ماذا يحل بهم، يذكرون من أحوالهم السابقة ما كانت الدول الأوروبية تسميه ضيقا وعناء وتمنيهم بالإنقاذ منه فيحنون إليه ويودون لو رجعوا إليه، ويحسبونه غاية سعادتهم، بعد هذه الحالة التي هم فيها.
أبعد هذا يصح لمصري أن يظن أن تلك الرزايا التي حلت ببلاده من نحو عشرين شهرا كانت مقدمة لإصلاحها وتنظيم شئونها؟! نعم يمكن أن يخطر بالبال أنها تمهيد لعمل صناعي في الأراضي المصرية كتقويم طرقها، وإقامة جسورها، وتكثير جداولها، وتقوية مواد الخصب فيها، حتى تعود بعد مدة جنة من جنات الدنيا، أو روضة من رياض الآخرة، أما الأهالي فليسوا بموضع النظر فإنهم إن هلكوا ورث الأرض بعدهم قوم آخرون.
فإن لم يكن هذا فليكن تمام الإصلاح الذي لا يمثله الخاطر، في وقتنا الحاضر، ولا يكفي للبداة فيه سنون معدودة على قياس الإصلاح المنتظر في بلاد بنجاب (من الممالك الهندية)، فإن الدولة التي تولت إصلاح الشئون المصرية في هذه الأيام، دخلت بلاد بنجاب بهذه الحجة، واستولت عليها من مدة أربعين سنة، ولم تزل إلى الآن حكومتها عسكرية، ولم يشرع فيها بتنظيم مدني، فلينتظر إخواننا المصريون فإنا معهم من المنتظرين.
الفصل الثالث
أعجوبة
ظهر لمراسل التايمس بالإسكندرية في هذه الأيام ما كان ظاهرا عند الكافة عامتهم وخاصتهم، ولم يخف على غبي ولا ذكي ولا أعمى ولا بصير، بل لم يحصل فيه أدنى شبهة في زمن من الأزمان الماضية، فأبرق إلى جريدة التايمس يثبت فيه ما يأتي: إنه يوجد بين طبقات الأهالي جمهور كثير ينفر من سلطة الإنجليز (وخجل أن يقول جميع الأهالي)، كذلك وأنهم لا يسرون بإرسال العساكر إلى توكار ، بل بلغ الأسف منهم غايته عندما سمعوا بانتصار جراهام على العربان.
ويقرب من هذه الأعجوبة ما أجاب به جرانفيل موزورس باشا عندما بين له لزوم التداخل العثماني في حوادث السودان، حيث قال: إن العساكر التركية تلاقي من معارضة المصريين مثل ما تلاقي العساكر الإنجليزية، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
الفصل الرابع
غريبة
روت جريدة التان، عن الجرائد الإنجليزية: أن الخديو الحالي عقد عزمه على الاستعفاء من منصبه، إلا أن حرمه (زوجته) عارضته فيما عزم عليه كل المعارضة، وعندما أشار إليها بما في نيته تناولت مقراضا وجزت شعرها؛ علامة على الحداد وأقسمت أن لا تلبس الجوارب والأحذية حتى توقن بعدوله عن مقصده هذا، وهي من ذاك الوقت تمشي حافية وتنتظر آخر عزيمة من زوجها الخديو.
ولعل هذا من مبالغات الجرائد الإنجليزية، أو يكون منشؤه إلحاح السير بارين عليه بطلب حماية إنجلترا - كما رواه كثير من الجرائد، أو إجباره على التنازل، كما روته جرائد أخرى.
الفصل الخامس
جوردون باشا
إن جوردون باشا بعدما نصب نفسه للمدافعة عن حرية السودانيين زمانا طويلا، وكثر ما توسل بذلك لعودته حاكما للسودان؛ نال في هذه الحوادث بغيته، وأرسل من قبل دولته لعمل سوداني فوصل الخرطوم وافتتح أعماله بمخالفة مشربه، فأعلن إباحة بيع الرقيق وإلغاء معاهدة سنتي 1877-1879، ثم تعدى على حقوق السلطان بدعاوى مختلفة، منها أنه جاء نائبا عنه، وتضاربت أقواله في مأموريته، فادعى أنه حاكم عام على الأقطار السودانية بأمر دولته والحكومة المصرية، مع تصريحه بأن الحكومة المصرية لا دخل لها من الآن في إدارة السودان رأسا واعترافه بإمارة الشيخ محمد أحمد على كوردفان.
هذه كل وسائله لامتلاك قلوب السودانيين، ولم يلبث أن ظهر ضعف سياسته عند جميعهم؛ لعلمهم السابق بأطواره، فكان ما أجمعت عليه الجرائد الإنجليزية والفرنسية من عدم نجاحه في مأموريته، فإن الأخبار الخصوصية الواردة من الخرطوم متفقة في أن ما أشيع من البهجة بقدوم جوردون محي أثره وتحول إلى اضطراب وقلق وتشويش في الأفكار، وأن القبائل فيما وراء الخرطوم تسخر بمنشوره وتهزأ بوعده ووعيده .
وهذا الضرب من السياسة ربما يستغربه من لا يعرف حال جوردون، أما المصريون جميعا والسودانيون خصوصا فلا يعجبون منه لوقوفهم على أحواله من قبل، وإنما العجيب من كون الحكومة الإنجليزية ذهلت عن أن ثورة دينية لا يمكن إطفاؤها بيد من يخالف الثائرين دينا وشكلا ولغة وإن كان عاقلا سياسيا.
يثبت هذا الذي قلناه ما ورد إلى «الديلي نيوز» من أن الجنرال جوردون بعث برقية أثبت فيها أنه عاجز عن مساعدة الحامية المصرية في السودان ما لم يكن تحت إمرته جيوش على النيل الأبيض والنيل الأزرق، وما جاء من مكالمته لمراسل التايمس حيث صرح له أنه لم يعد في إمكانه أن يفعل أزيد مما فعل (وما فعل شيئا) لتقرير الراحة بين السكان، وأن العزم على إخلاء السودان فتح للشيخ محمد أحمد سبيلا لإثارة القبائل بين بربر والخرطوم، وفي أثناء المحادثة أظهر احتياجه لفرقتين من العساكر ترسل إليه من جيش الجنرال جراهام، ومما قاله: إنه من الضروري تعيين زبير باشا خلفا له في الخرطوم ويفوض إليه إعادة الراحة ومقاومة الثائرين، وهذا من عجيب تدبيره؛ فإن هذا الباشا إن لم يكن معتقدا بصاحب دعوة المهدوية، فعنده أعظم باعث للاتفاق معه، فإنه لم ينس ما حل بأولاده وأقاربه من القتل صبرا، وما سلب من أمواله نهبا وغصبا، فكيف يميل لمساعدة الحكومة المصرية على إخضاع الثائرين عليها؟!
الفصل السادس
جراهام وعثمان دجمة
بعث الجنرال جراهام قائد جيش الإنجليز في جهة سواكن، بمنشورات إلى رؤساء القبائل يعدهم ويمنيهم ويهددهم ويتوعدهم لينفصلوا عن عثمان دجمة، وإلى عثمان يرعد له ويبرق، ويرغي ويزبد، ويطلب منه التسليم، فورد الجواب من عثمان برفض الطلب والاستعداد للحرب، وردت الرسائل من واحد وعشرين شيخا من مشايخ القبائل ناطقة بأنه لا واسطة بين الإنجليز ومساعديهم، وبين القبائل السودانية إلا السيف، ثم قالوا: إن كل من لا يصدق بدعوى المهدي فإنه سيكون لا محالة فريسة للموت وطعمة للهلاك.
فاضطر الجنرال جراهام لإعادة التهديد مرة أخرى على النحو الأول، ويغلب على الظن أن الجواب يكون الجواب.
وجاء في جرائد الإنجليز أن الشيخ المرغني (وهو شيخ طريقة من المسلمين) بعث إلى عثمان دجمة رقيما يستدعيه للطاعة، ويحذره من مقاومة العساكر الإنجليزية، فأجابه عثمان دجمة بأن في عزمه شرب دماء الإنجليز وكل من يساعدهم فإنه يحارب بسيف الإسلام، وفي ختام جوابه نصح للمرغني، وطلب منه أن يقوم بإرشاد الإنجليز إلى ترك الحرب ووضع السلاح، وهو أولى له من نصح مشايخ القبائل العربية والإسلامية.
الفصل السابع
المسألة المصرية
إن المسألة المصرية صبغت في إنجلترا عدة صبغات من يوم نشأتها، وكلما عرضت على العقول في لون خيل لها أنه أجود ما في الدن، حتى إذا مضى عليه زمان خفي وأعقبه لون جديد، وهي في انتقالاتها هذه لا تزداد إلا أشكالا، ولا تزيد إنجلترا في إنهائها إلا ارتباكا.
كان بود مستر جلادستون أن ينهج في سياسته منهج سلفائه من الإنجليز، يحبو إلى مقصده بالأناة والتؤدة، ويلتوي في مسيره إلى معاطف متخالفة، ويرى أن سلوك الجادة مما لا تقتضيه الحكمة، ولا يسوغه الحذق، حتى يبلغ الغاية ويقطع الخلال (الطريق بين الرمال) ولا يظهر له أثر يقتفى، أو كان كما يزعمون أو كما يدعى، ونادى به على عهد بيكونسفيلد من أنه لا يميل إلى الفتوحات، وهمه البعد بإنجلترا عن المدخلات في الأمور الأجنبية بالقوة الحربية، إلا أن الحوادث المصرية ألجأته إلى العدول عن مشربه، والتطور بغير طوره، فتضاربت آراؤه وتردد في أعماله، وسار سيرة المتخبط، ونشأ من طلعه في السياسة توعر السبل على حكومته في بلوغ ما تريد، وحدث عنه النزاع بينه وبين بقية الوزراء فيما يجب اتباعه من بعد، وهو الآن في حيرة بين التمسك بمذهبه السياسي، والاستقالة من المنصب، وبين الانفلات منه والتعرض للوم العقلاء والسقوط من منزلته في قلوب أحزابه، وهذه الحيرة مهدت لمعارضيه من الحزب المحافظ طريقا للسعي في إسقاطه من مكانته السياسية وإهباطه من كرسي الوزارة.
الذي أباح لمستر جلادستون أن يركب غير طريقه، ويتداخل في مصر بقوة السلاح؛ ما زعمه من احتياج تلك البلاد إلى إقرار الراحة، وتخليصها من خلل الفوضى، ومن مصلحة إنجلترا أن تتولى إغاثتها مما وقعت فيه، فمد يده لوضع قواعد العدالة، وتخليص الحكومة من الضعف وإعادة الأمن إلى البلاد، وكان يظن أن هذا المطلوب يتم بهدم طوابي الإسكندرية، والحلول في ثكن القاهرة، فيكون قد كسب أجرا أو نال ملكا جديدا أو حفظ مصلحة مهمة، بأعمال خفية، ونفقات قليلة، وكلمات غير طويلة، ولكن مع الأسف لم يساعده التوفيق على نوال البغية.
تتابعت الفتن وعلا لياقها حتى لذعه فنبهه لما لم يخطر له على بال، فاضطر لسوق العساكر، ومداومة الحروب، ومع هذا لم تؤيد الحكومة التي انتصر لها، ولم يكف محمد أحمد عن دعوته، ولم يهن عزم عثمان دجمة بهذه الصدمات المتتالية، وأجمعت الجرائد على أنه نادى بالحرب الدينية وهو يجمع متفرقة العرب ليزيدها إلى قبيله، ويهاجم الإنجليز مرة ثالثة، وأكد رواة الأخبار أن محمد أحمد أنبأ من قبل أنه سيهزم مرتين قبل تمام ظفره بالإنجليز، فكانت هذه الهزمات مما يقوي الاعتقاد به ويجمع الكلمة عليه - ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فهذه المصاعب شوشت أفكار البرلمان، وحركت الخواطر على الوزارة الجلادستونية، وتخوف رئيس الوزارة من عواقب المداولات في المسائل المصرية، فتأخر عن حضور الجلسات من مدة أيام، وقام وزير الحربية مقامه في التعبير عن أفكار الوزارة، وفهم من بعض خطاباته أن من نية الحكومة أن تحفظ الثغور المصرية بعساكرها، وأن تحل في شرق السودان، وأن تتولى إدارة الحكومة المصرية كما تراه في غير هذا المحل، فقامت الحجة بكلامه هذا في حزب المحافظين، ووبخوا الحكومة على ضعفها السابق والتجائها للعدول عن سياستها في هذه الأوقات.
ولم يكن من رأي جلادستون أن تصرح الحكومة بمقاصدها، وتظهر مشرعها بوجه جلي، ووقع الخلاف بينه وبين وزير الحربية، وكثير من أعضاء الوزارة، على جملة مواضيع في المسألة المصرية، وزاد الخلاف شدة ميل جلادستون لمرضاة الأيرلنديين وتجافي بقية الوزراء عن رغبته، وثبت الرئيس في آرائه وهو يفضل الاستعفاء على التساهل في شيء منها، ومن هذا غلب على الظن أنه سيحصل انقلاب في الوزارة أو فض البرلمان، وأكدت قرب ذلك جريدة التايمس وجريدة الديلي نيوز، وهي نصف رسمية، وجاءت الأخبار الأخيرة متفقة على أن وزارة جلادستون في خطر.
فإذا انقلبت الوزارة الإنجليزية، وخلفتها أخرى، من أي حزب كان، فما عساها تفعل لحل المسألة المصرية والتخلص من الورطة، أقبل الصيف وصعب على عساكر الإنجليز أن تأتي بحركات عسكرية في أطراف السودان الشرقية مدة أشهر، ويتعذر حفظ المواصلة بين سواكن وبربر والخرطوم، فإن طلبوا عساكر هندية كما أنبأت به البرقية انكشف للهنديين بتكرر طلب العساكر من الهند ضعف القوة البريطانية، واجترءوا على حامية الهند وهناك الهول الأكبر.
في هذه المدة وهي غير قصيرة يتيسر لمحمد أحمد ودعاته أن يجمعوا قواهم وينالوا من المنعة ما يتعسر على عساكر الهند مقاومته، بل هم الآن على القرب مما نقول، ففي الأخبار الصحيحة أن حالة النيل الأعلى لا ترضي الحكومة الإنجليزية، والبلاد المجاورة للخرطوم في ثوران شديد، وقد انقطع الأمل من فتح الطريق بين بربر وعاصمة نوبيا، ومحمد أحمد مهتم من نحو شهر بجمع قوة عظيمة يساعده على تنظيمها ضباط من أركان الحرب فيهم اثنا عشر أوروبيا وستون ضابطا مصريا نجوا من عساكر هكس.
ذكرت جميع ذلك جريدة الديلي نيوز واعترف مستشار خارجية إنجلترا أن المواصلة بين شندي والخرطوم منقطعة، ولم يصله خبر عن جوردون من حادي عشر هذا الشهر، فإذا ترك هذا الخطب الجلل للقوة الإنجليزية فلا نظنه إلا يصدع جدار الهند كما بينا في العدد الماضي، ويذهب بكل ما يعبر عنه بالمصالح الأوروبية في مصر (وليكن ذلك).
ولا نظن أن دول أوروبا تسمح بضياع مصالحها في الأقطار المصرية، خصوصا بعض الدول التي كانت تسابق إنجلترا في وادي النيل وانحط مقامها فيه بالتداخل الإنجليزي الذي ليست له حدود معروفة، ولا غايات معلومة، وإلى هذا تشير جريدة التان الفرنسية الوزارية حيث تقول: إن إنجلترا لا يمكنها أن تضع مصر تحت حمايتها حتى تناقش الحساب بين أيدي أوروبا، وتنوه به جريدة سان بترسبورج حيث تقول: إن روسيا ليس في عزمها أن تفتتح بعمل في مصر، فإن إنجلترا اعترفت في جميع الأوقات بأن المسائل المصرية لها هيئة دولية، وبناء على هذا لا يمكن القطع في شيء منها إلا باتفاق أوروبا، هذا إذا تمكنت إنجلترا أن تأخذ على نفسها إطفاء الفتن وإجهاض الثورات، واستطاعت القيام بما تكتب على ذاتها، ففي نهايته تطلب عند أوروبا بما تقتضيه مصلحة كل دولة منها.
فإن عجزت - كما هو الغالب على الظن - أو طال عليها الزمان، وهي بين ظفر وانهزام ولا تتجاوز في حركاتها العسكرية شواطئ البحر؛ فلا ريب أن القلق يستفز الدول لطلب وسائل أخرى سوى ما تهيئه دولة إنجلترا، وإنا نرى، وسيحكم الزمان لنا إن شاء الله، أن حفظ حقوق الأوروبيين، وضبط البلاد المصرية وإخماد نيران الفتنة فيها لا يتم إلا على أيدي أهلها - ويفعل الله ما يشاء.
الفصل الثامن
الإنجليز في السودان
إن البرقيات التي وردت من سواكن جميعها متفقة على أن العساكر الإنجليزية هاجمت معسكر عثمان دجمة في ثمانية منقسمة إلى مربعين، وبعد أن فارقت زفربا غارت عليها العرب بعدد وافر مع بسالة الأيس ودخلت في المربع الأول وهو المقدمة وكانت فيه مذبحة هائلة، وتقهقرت العساكر الإنجليزية وتركت مدافعها بعدما قتل منها جم غفير بأسنة العرب وحرابهم.
إلا أن فرقة من مشاة البحرية جاءت من القلب وسدت الخلل الذي وقع في صفوف العساكر من هجمات العرب ودفعت قوة المهاجم، ولم تكد المربعات الإنجليزية تلتئم وتعود إلى الانتقام حتى هاجمتها جيوش عثمان مرة أخرى ببأس شديد وانقضت عليها من الجناحين، والتحمت مقتلة عنيفة وترامى العرب على الموت واستهانوا بالحياة مفضلين الشهادة على التقهقر والتسليم.
وتضافرت الأخبار على أن العرب أظهروا من البسالة والشجاعة ما لا يوصف، حتى قال الرواة: إن ما شاهدوه منهم يعد من غرائب الأعمال البشرية، إلا أن الروايات اختلفت في عدد من قتل منهم ومن عساكر الإنجليز، فبعضها أوصل قتلى العرب إلى ثلاثة آلاف وبعضها إلى أقل، ثم جاءت الأخبار الرسمية (وما أدراك ما الأخبار الرسمية وما تبالغ في قتل أعدائها) مصرحة بأنها ألفان، أما قتلى الإنجليز فقد بالغوا في قلتها حتى أوصلوها إلى مائتين أو ثلاثمائة، بعدما اعترفوا بأن العرب فتكوا فيهم فتكا ذريعا.
وعلى أي حال قد انتهت الواقعة بانسحاب العرب إلى جبالهم ورجعت العسكر الإنجليزية بغاية السرعة إلى سواكن، وتركت المواقع التي استولت عليها، وتوافد إليها العرب مع قائدهم عثمان واجتمعت له في الموقع الذي هوجم فيه قوة حملته على الشموخ بأنفه والنداء باستعداده لمهاجمة العساكر الإنجليزية وأنه لا يقبل التسليم.
إنا لنعجب كما يعجب سائر الجرائد الأوروبية من هذه الرجعة العربية بعد الطنطنة بالنصر والظفر والإعلان بأن العساكر الإنجليزية نالت من الشرف أعلى ما يناله جيش في قتال، فإن سرعة الرجوع شاهد بين على أن هذا الجيش المنظم يقتدر على حفظ مركزه في ساحة الحرب وأنه خشي التلف لو بقي فيه فعاد راجعا إلى شواطئ البحر.
فكأن المقتلة لم تكن إلا كرة أعقبتها قوة حتى عدتها بعض الجرائد هزيمة وحسبتها من الخطأ العظيم؛ لأنها تجرئ العرب على البقاء في الطريق الذي يصل سواكن ببربر وقطع الطريق على سالكيه، وإنا لا نوافقهم على ذلك لكنا نعدها عجزا ظاهرا عن مقاومة العربان في جبالهم.
وما أشبه فعلة الإنجليز هذه بفعلتهم من نحو عشرين سنة عندما كان يحارب في حدود الهند سرايا الأمير عبد الله الوهابي وخوندسوات، فإنه بعدما انهزم في جبال «سوات وبنير» شر هزيمة وترك مدافعه وذخائره رجع ثانية ودخل قرية صغيرة من قرى تلك الجبال، وفاجأها ليلا على غفلة وأحرقها فقتل أهلها جميعا وانقلب راجعا إلى بلاده في الهند من ليلته، وأعلن بأنه قتل وسلب ونهب وظفر وانتصر! فليعتبر المعتبرون.
وكأن الجنرال جراهام بعمله هذا لم يرد إطفاء الفتنة في الأراضي المصرية، وإنما قصد رد شرف العساكر الإنجليزية والأخذ بثأر بعض من قتل منها سابقا، وإقامة البرهان لأوروبا على أن العساكر الإنجليز يقدرون على محاربة العربان ويستطيعون الهجوم عليهم، نعم، إنه لم يغفل التدبير بالكلية، فإن الجرائد أخبرت أنه وضع رأس عثمان دجمة في المساومة وجعل لمن يأتي به ألف ليرا إنجليزية، ونعم ما دبر ولكن يخاف أن عثمان عندما يبلغه الخبر يضع رأس الجنرال في المزايدة، ويجعل لمن يأتي به مائة قنطار من سن الفيل، ويكون الخطر على الجنرال أعظم!
ثم إن الجرائد الإنجليزية - على عادتها من ترويج سياسة حكومتها في الحروب - أشاعت أن الجنرال جراهام بعد رجوعه إلى سواكن دعا بعض رؤساء القبائل وذكرهم في إقرار الراحة بين سكان البلاد السودانية ورغب إليهم أن يتعهدوا به، فأجاب بأنه غير ممكن لهم إلا بمساعدة العساكر الإنجليزية، وأنهم استصوبوا ما نشره الجنرال من تعيين الجعالة على جز رأس عثمان بمبلغ ألف ليرا إنجليزية، وهذا مما لا نظنه بالعرب؛ لمخالفته طباعهم وبنوا أخلاقهم على الخضوع للأجنبي عنهم وما عهد ذلك فيهم من يوم نشأتهم العربية إلى اليوم، وبعد إنهاء الكلام معهم أخذ في ذم عثمان على ما روته تلك الجرائد؛ حيث لم يظفر به بأنه كذاب وخائن لبلاده وأبناء جلدته، فإنه الذي عرضهم لسفك الدم وإتلاف الأرواح.
وقد ذكرنا هذا بقصة أحد القواد الأفغانيين؛ حيث عرض نفسه لخدمة الإنجليز في الحرب الأفغانية الأخيرة، فأمدوه بمبالغ وافرة لإعانته على العمل، فأخذ ما أخذ ونثره في قومه وهيأهم به للكر على الإنجليز والنكاية بهم ونال منهم ما نال، وبعدما ذاقوا منه الوبال أخذوا في نشر المنشورات وتحرير الإعلانات بأن هذا الرجل قليل الوفاء خائن العهود لا يثبت على قوله ولا يفي بوعده، مع أن الوفاء هو أداء حق الوطن والمدافعة عنه والقيام بذمامه، وكل عهد يخالفه فالذمة تنكره والصدق يأباه كائنا ما كان.
هذه أسطورة أمر الجنرال جراهام، وأما الجنرال جوردون فقد أخبرت بعض الجرائد الإنجليزية أنه في خطر وأنه يوجد قلق عظيم في مصر من جهته، ويثبت هذا الخبر امتناع وزير الحربية في إنجلترا من عرض المخابرات التي جرت بينه وبين الجنرال خوفا من تأثيرها في الأذهان.
وروت جريدة الديلي نيوز، بناء على تلغراف ورد إليها: أن زبير باشا صرح باستعداده لأن يخلف جوردون باشا في السودان، وهو يظن أنه لا يمكن إعادة الأمن إلى تلك البلاد إلا بطرق سلمية، ولا يستطيع أن يبدي فكره في شأن المهدي قبل أن يخابره وهو في ريب من اعتقاد السودانيين بنبوته (كذا)، ومما قال: إن تجارة الرقيق يمكن إلغاؤها بالتدريج عندما يشرع سكان السودان في معرفة فوائد التمدن ومنافعه، ثم كذب ما أشيع عنه من البغض للجنرال جوردون.
نعم إن زبير باشا لا يبغض الجنرال في هذه الأوقات ما دام في القاهرة، أما إذا وصل إلى السودان فيمكن أن تعود إليه الضغينة التي مازجت قلبه سنين عديدة.
الفصل التاسع
صدى دعوة السودان
وردت برقية من تاشكند إلى جريدة الساندر الإنجليزية مفادها أنه حصل اضطراب عظيم في أفكار المسلمين سكنة بخارى عندما سمعوا بانتصار أعراب السودان وظفرهم الأول، وظهر فيهم داع جديد يحث على الحرب ومقاتلة الذين ينتهبون الأراضي الإسلامية لتوسيع ممالكهم، ويهدد صاحب السلطة العامة بين المسلمين بخلعه من مغرسه إذا لم ينشر اللواء الأخضر (المغالبة ومصادمة المعتدى عليهم).
هذا برهان جلي على ما أنذر به سابقا من أن دعوى المهدوية في السودان لهذه الأوقات التي صدم المسلمين فيها أشباه الحوادث الماضية في القرن الخامس والسادس من الهجرة، ستدعو إلى حركة عامة يصيح فيها الشرقي بالغربي، ويصعب على الإنجليز وهو في مجراها أن يتنكب عنها دون أن تعروه هزة من مفزعاتها، خصوصا والمظاهرة الدينية في البلاد المحكومة بسلطة أقوى وأظهر.
إن بلاد بخارى بينها وبين السودان مسافات متطاولة وأبعاد متنائية، ويظن الناظر في لوح الجغرافيا أن المواصلات بينها منقطعة، ومع ذلك سرى التنافس بين القطرين في الغيرة بغاية السرعة، فما ظنك ببلاد هي أقرب إلى مبعث الدعوى وأدنى منها منالا؟! يغلب على الظن أن الروح هبطت إليها ولكن تتحرك بحركة العقل وتنمو على القوانين الطبيعية والشرائع السياسية والاعتقادية، فلا يشعر الأقوياء إلا وقد بات بحلاقمهم المستضعفون، والأرض أرض الله يورثها من يشاء من عباده الصالحين.
إذا سهلت الحوادث ظهور الكوامن ومهدت بروز المغيبات ماذا يمكن أن يؤخذ به من الوسائل لوقاية العد القليل من غيلة الجمهور الأغلب الذي لا يقاوم، وما أمكنت مقاومته في الأزمان الخالية؟!
نظن أن لا وسيلة لهذا إلا بتسليم الأمر لأربابه والدخول إليه من بابه، وتركه للمسلمين يرضي بعضهم بعضا ويدافع بأسهم بأس بعض، فإن كان هذا هو نهاية السير، فمن الخطأ السياسي أن لا يبدأ به قبل اشتداد الكرب، وعظيم الخطب - والله الهادي إلى طريق الرشاد.
الفصل العاشر
اضطراب سياسة الإنجليز في مصر
تشاكلت أفكار السياسيين من الإنجليز في لوم الحكومة على سياستها المصرية، قال اللورد سالسبري في بعض الاجتماعات العظيمة: إن الحكومة الإنجليزية بالتواء سياستها وتذبذبها وضعت من شرف إنجلترا وخفضت اسمها، وعرضت أجل المصالح الإمبراطورية «الهند» للخطر، ثم تكلم في منشور جوردون باشا المبيح لبيع الرقيق فقال: ليس من الممكن لمسيو جلادستون أن يبيح تجارة الرقيق على حفافي النيل وهو يحظرها على سواحل البحر الأحمر (والأولى أن يبيحها في جمعية البقاع لاستحالة منعها مطلقا)، وذكرت جريدة «البال مال جازيت» أن مستشار جمعية منع الرق في لندن أرسل إلى اللورد جرانفيل خطابا بالنيابة عن أعضاء الجمعية يلقي عليه التبعة في تسمية زبير باشا واليا على السودان الشرقية، وأن الجمعية اتفقت آراؤها على أن مساعدة الحكومة الإنجليزية لرجل كزبير باشا تكسبها عارا وحطة في نظر أوروبا. •••
وقالت جريدة الديلي نيوز: «الصحيح أن الارتباك الواقع في مالية مصر أقلق وزارة إنجلترا وبعثها على البحث في إيجاد وسيلة لإدخال النقود إلى مصر؛ فإنها في غاية الحاجة إليها، ويؤكد أن الحكومة الإنجليزية ستعرض أفكارها على البرلمان في هذا الشأن، وفي الظن أن ما تعرضه عليه يكون متعلقا بضمانة القرض المصري (دخول مصر في حماية إنجلترا رسميا).» إلا أن عددا عديدا من الأحرار في البرلمان صرحوا بعدم قبولهم أي فكر يعرض عليهم في هذه المسألة، ومع هذا فقد كذبت هذه الجريدة ما أشيع في الدوائر المالية من أن في عزم الحكومة الإنجليزية أن تعد قرضا للبلاد المصرية مبلغه ثمانية ملايين بفائدة ثلاثة ونصف في المائة.
الفصل الحادي عشر
برلمان إنجلترا
انعقدت له جلسة من أيام لم يحضرها المستر جلادستون؛ لأنه كان مريضا (أو متمارضا لخوفه من عاقبة المداولة فيها) فناب عنه في الكلام هرتنكتون وزير الحربية، وابتدأ يطلب نقودا لنفقات حلول الجيش الإنجليزي في الأقطار المصرية وبين الدواعي إلى ما طلب، فعارضه المسيو لابوشير (وهو من الحزب الحر الذي يأبى أن تدخل إنجلترا في أي حرب كانت) وطلب تنقيص المبلغ الذي طلبه وزير الحربية، ثم دارت المباحثة في المسألة المصرية وحمي وطيس الجدال فيها، وتكلم الخطباء عن ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وبينوا الأغلاط التي ارتكبتها الحكومة في سياستها وماذا يجب الآن إعداده من وسائل الخلاص، وقال اللورد نورثكوت (وهو رئيس حزب المعارضين لسياسة الحكومة): إن خطاب وزير الحربية دل على تغيير عظيم في أفكار الوزارة، فقد علمنا من كلامه أنها جارت الرأي العمومي في البلاد وأذعنت لمقتضيات الحوادث، وعدلت عن السياسة المرتجة المتزعزعة، واعترفت بما تعهدت به، وقبلت أن تقوم بوفائه بعد أن كانت تحاول التملص منه، وفهم منه أيضا أن بلاد السودان إذا تركت لصغار السلاطين القدماء الذين يحاولون استعادة ممالكهم ليقيموا فيها إمارات صغيرة، فإن الخرطوم تكون مستثناة لأهميتها في راحة البلاد المصرية.
إن البحر الأحمر لما كان تابعا لقنال السويس ومرتبطا بطريق الهند، فمصالح إنجلترا تقضي بأن تكون الثغور المصرية (من الإسكندرية إلى ما وراء عدن فتدخل رشيد ودمياط وبورسعيد وسواكن ومصوع) بيد الإنجليز ما دام المصريون عاجزين عن الدفاع عنها، ووضح في خطابه (وزير الحربية) أن أفكار الوزارة في هذه الأوقات متجهة لأن تحمل عساكرها في مسافات طويلة من السودان الشرقي لعلمها بلزوم اتصال شواطئ البحر الأحمر بالمراكز التي تبقى في السودان، وأن توصل سواكن ببربر بخرطوم، وهذا الرأي الذي أبداه وزير الحربية يستدعي الحلول في مصر إلى مدة أطول من المدة التي صرح بها سابقا.
كانوا بدأوا في استدعاء قسم من العساكر وصمموا على استدعاء قسم آخر منها، لكنهم الآن لا يريدون إلا تقرير حكومة أهلية (كذا) قادرة أن تقوم بنفسها وتأتي أعمالا مفيدة لبلادها، وبعدما كانوا يستعملون الألفاظ المبهمة في شأنهم مع مصر، صرحوا بالحالة التي يجب أن تكون عليها مصر حتى تتركها إنجلترا وشأنها، ويريد وزير الحربية بحكومة ثابتة قادرة ما تكون موضع الثقة لرعاياها والأوروبيين المستوطنين في البلاد ومحل من النقود التي تحمل إليها (دينا وقرضا). •••
قالت جريدة التان بعد ذكرها هذه المباحثة: إن الوزارة الإنجليزية حادت عن منهجها الأول، وصرحت بقبول التبعة في مداخلاتها التي كانت تؤمل التخلص منها متى أرادت، إلا أنها الآن حملت حملا ثقيلا على ماليتها وسياستها الخارجية، إنها لم تصرح بكلمة حماية حتى اليوم ولكنها المراد من عبارتها، وتزعم أنها منساقة إليها قهرا لغرض أن تمنح مصر إدارة قويمة وجهادية منظمة وقضاء عادلا، وهذه الحماية تمتد من شمال الدلتا إلى الخرطوم ومن الخرطوم إلى البحر الأحمر، ولكن يصعب على إنجلترا أن تنال هذه الحماية ما لم تناقش في الحساب بين يدي أوروبا، وإنا لنأسف على فقد اللورد بيكونسفيلد، ونتمنى لو كان حيا حتى يذكر المسيو جلادستون بخطبه المشتعلة غيظا، المفعمة لوما وتقريعا على من يميل لسياسة الحروب والفتوحات.
قالت صحيفة الديلي نيوز - وهي شبه رسمية: إن الوزارة الحالية (الإنجليزية) في خطر، وإنه في يوم الخميس الماضي كان الكلام دائرا في مجلس البرلمان على تغيير وزاري وعلى حل المجلس، وإنه لا يمنع من ذلك رفض اللائحة التي قدمها لابوشير في لوم الحكومة، ثم قالت: إن البلاد (الإنجليزية) لا بد لها أن تتهيأ لإبداء أفكارها في شأن الوزارة وتصرفها داخل البلاد وخارجها.
ويقال في الدوائر السياسية: إن تأخر مستر جلادستون عن الحضور في جلسات المجلس يومي السبت والأحد لم يكن ناشئا عن انحراف الصحة وإنما كان تعللا ومراوغة ليس إلا.
1
الفصل الثاني عشر
الباب العالي
إن كان البرهان يدفع غارة أو يهزم عسكرا أو يفتح بلادا؛ فهذا أقوى ما يكون من البرهان على أوضح حق يوجد.
كتب مراسل التان في الأستانة كتابا مفصلا عن أفكار أعاظم العثمانيين في المسألة المصرية وما للباب العالي من الحقوق، فما أثبته أن العثمانيين في ضجر من إجحاف إنجلترا وجورها عن العدل في معاملة السلطان وعدم الاكتراث بما له من الحق الثابت، وتصرفها في مصر بدون مراعاة رضاه، وأن بعض الرجال العظام بين له حيف إنجلترا وتعديها على المعاهدات الدولية والفرمانات الشاهانية، وأثبته بأدلة منها ما أجابت به إنجلترا عن بلاغ الباب العالي إلى الدول من نحو سنتين في بداية الارتباكات المصرية، حيث قالت: إنها ترغب حفظ الحالة المقررة في مصر (الاستاتو كو)
1
على مقتضى الفرمانات السلطانية والعهود الدولية، وإنه لا يسوغ التغيير فيها بوجه ما إلا باتفاق الدول.
ومنها نص الفرمان الصادر بتولية توفيق باشا؛ فإنه صريح في أن مصر بحدودها الطبيعية وملحقاتها تعد من الأملاك العثمانية وإنه لا يسمح للخديو أن يتنازل عن قطعة أرض منها - صغرت أو كبرت - لأجنبي، كائنا من كان لأي سبب ولا بأي وجه، ولا يسوغ له أن يتخلى عن شيء من الامتيازات الممنوحة لمصر مهما كنت الأسباب والحوادث، ولا يجوز له عقد شرط أو عهد إلا بعد عرضه على الدولة ورضاها، ويحظر عليه تجديد قرض مالي إلا فيما يتعلق بتسوية المسائل المالية التي كانت لذاك العهد.
ومنها أن قنال السويس لم يفتح إلا بعد استئذان الباب العالي، فكيف ساغ لإنجلترا الآن أن تتولى فصل السودان عن مصر، وأن تتداول في فتح قنال آخر، وأن تتدبر في قرض جديد تحمله على عواتق الحكومة المصرية، وأن تتناول حماية الثغور بعساكرها بدون الاتفاق مع الباب العالي ولا مشاورة الدول العظيمة؟!
وأنا في حيرة مما أراد هذا العظيم في إقامة الحجج! هل أراد إظهار ما كان خافيا على دول أوروبا وهم يعلمونه حق العلم، أو بيان أن إنجلترا أخطأت في فهم هذه الفرمانات وتلك المعاهدات، أو حاول إقناعها بالدليل والبرهان؟! ولكنا نعلم أن حكومة بريطانيا لا تفزع من الاحتجاج ولا ترهب الجدال؛ فإنها تمرنت على ذلك من أزمان طويلة مع الملوك والأمراء الشرقيين، وأمكنها - في أحوال كثيرة - أن تجيب عما يرد عليها من الاعتراضات، وإن بلغت مقدماتها من الظهور حد البداهة.
ولولا هذا لما احتدت جريدة التايمس عندما بلغها نبأ مؤداه أن جرانفيل طلب من السلطان أن يرسل حامية تركية إلى سواكن، وبالغت في إنكار ذلك بقولها: إنه مما لا يخطر بالبال، ثم تعللت بما لا يذهب على فطنة أحد حيث قالت: إن إنجلترا لا تريد أن تحامي عن حقوق السلطان بعدما صارت بضعفه نسيا منسيا.
الفصل الثالث عشر
أيرلندا
في كل يوم يقيم الإنجليزي برهانا منطقيا ودليلا جدليا على أنه ما ذهب إلى مصر إلا بقصد إقرار الراحة ووضع قواعد العدالة، ولكنه كلما رتب مقدماته لإقناع السذج بقضاياه المشهورة عارضه الأيرلنديون ببراهين عملية تنقض ترتيبه وتبطل نتيجته، فإنه لا يمضي وقت من الأوقات إلا ولهم فيه عمل لكسر شوكة الحكومة الإنجليزية في أيرلندا، يضعون الديناميت لتدمير الأبنية وهدم الجسور وتعطيل السكك الحديدية، ويفتكون برجال الحكومة ويتضجرون من ظلمها ويطلبون كل وسيلة للتملص من سلطتها، وهم في سيرهم لا يهنون ولا يفترون.
هيئت وليمة للمستر بارنل رئيس حزب الأيرلنديين، حضرها جم غفير منهم؛ احتفالا بعيد سان بتريس، وفيهم كثير من أعضاء البرلمان، فألقى عليهم خطابا أظهر فيه مسرته من تقدم الحركة الجنسية في أيرلندا وأوصى الأيرلنديين أن لا يعتمدوا على حزب من الأحزاب الإنجليزية وإنما يكون اعتمادهم على نشاطهم واجتهادهم، ثم قال: إن له في المستقبل أملا حسنا، وختم كلامه بقوله: إن اليوم الذي يجتمع فيه الأيرلنديون على اختلاف أحزابهم في بسيطة أرضهم هو قريب وسيكونون عما قليل تحت حكم برلمان أيرلندي، وفي ذلك الوقت لا قبله ترسل أيرلندا إلى إنجلترا رسالة سلمية، وعند رفع كئوس الشراب أبى الحاضرون ذكر الملكة وإنما رفع بارنل أول كأس ونادى باسم الأمة الأيرلندية، وطلب من الحاضرين ذلك.
هكذا يطلب الإنجليز ضم أراض إلى أملاكهم فتنفصل عنهم أراض أخرى، وإلى الله علم العاقبة.
الفصل الرابع عشر
الفرنسيون في التونكين
مضت عدة أشهر والفرنسيون ينتظرون ما تؤدي إليه حركات عساكرهم في بلاد تونكين ، وكادوا يرتابون من حسن العاقبة حتى وردت البرقية إلى وزير الحربية في باريس من القائد العام: بأن العساكر الفرنسية دخلت باكنين من طريق يوصل إلى لانسون، وأن الصينيين انهزموا إلى نواحي نكبين حيث اشتدت عليهم المهاجمات الفرنسية من جهتي الشمال والشرق وخسروا خسائر جسيمة، ولم يجرح من الفرنسيين سوى سبعين رجلا، وحاز العساكر الفرنسية كميات وافرة من الذخائر وبطارية من مدافع الكروب وجدوها في قلعة باكنين، يظن كثير من رجال السياسة الفرنسية أن فرنسا قد أتمت عملها بالاستيلاء على هذا الموقع المهم.
وأكد هذا الظن ما ورد بالبرقية من بكنين إلى جريدة ألستاندرد أن ملكة الصين عندما بلغها استيلاء الفرنسيين على باكنين عقدت مجلسا حربيا لدراسة الموقف في الأمور الصينية الحاضرة، فقرر الأعضاء وبينهم الأمير كونج على أنه يلزم الاتفاق مع الحكومة الفرنسية بطرق ودية.
وفي حسباننا أن مثل هذه الفتوحات لا تسلي أحزان الفرنسيين، ولا تعزيهم على ما خسروه في مصر، وأن ذاك الضماد لا يقطب هذه الجراح.
الفصل الخامس عشر
منشورات
روت جريدة التان عن جريدة سان بترسبورج أن إمبراطور روسيا أظهر رغبته في السفر إلى برلين في الصيف القادم مع الإمبراطورة، ولم يعلم تاريخ توجهه بالتحديد إلى الآن، ويظن أن سفره هذا يكون قبل سفر إمبراطور ألمانيا (أمس) حسب عادته.
وتعد هذه الزيارات من مؤكدات المواصلات بين دولتي الروس وألمانيا، وهو مما يوسع لروسيا ميدان الجولان في آسيا - كما بينا سابقا. •••
وردت إلى الديلي نيوز برقية من القاهرة مفادها أن قبيلة تراشي في بربر انضمت إلى قبائل كوردفان المعتقدين بمحمد أحمد ... وهذا مما يقنع الناظرين في الحركات السودانية بأن هذه المبالغات التي يذيعها الإنجليز في انتصارهم لم تؤثر شيئا في نفوس القبائل، ولم توهن اعتقادهم بذلك المدعي السوداني، ويقيم دليلا على ما قلناه من أن هذه النيران الملتهبة لا يطفئها إلا رجل من عظماء المسلمين. •••
نشرت في عدة مدن من أيرلندا إعلانات ثورية وجدها أعوان الشرطة ملصقة على جدران الشوارع والأماكن العمومية، مكتوب فيها هذه الكلمات: «حرب أهلية في شهر مارس 1884»، وهو الشهر الحالي فتناول الشرطيون تمزيقها بغاية السرعة ، وكان الأيرلنديون من قبل وضعوا الديناميت في محطات السكك الحديدية من جملة جهات، وهذا الاضطراب الداخلي الشديد ثالثة الأثافي للمسألة المصرية ودخول مرو في حوزة الروس، وهذه الثلاثة، إن لم يكن لها رابعة، فهي كافية للمتبصر في تقدير الارتباك الذي ألم بالحكومة الإنجليزية في هذه الأيام. •••
إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ورد تلغراف من القاهرة أن جريدة ألستاندرد نشرت ما يفيد أن السجون ضاقت بالمسجونين حتى اضطرت الحكومة (المصرية أو الإنجليزية) إلى إطلاق ألف ومائتين منهم من أرباب الجنايات الخفيفة، وسبب هذه البلبلة عدم قدرة المجالس على محاكمة جميع المتهمين! لهذا تذوب المقل بكاء وتتفتت الأكباد حزنا.
ورد من سواكن إلى ألستاندرد
أن المنشور الذي نشره هفت الأميرال الثاني بتعيين جعالة لمن يأتي برأس عثمان دجمة وصل إلى مشايخ عرب ثمانية، فأحرقوه؛ علامة على رفضه وعدم قبوله.
برلين في 18 مارس
أن جريدة البوست، وهي جريدة لها علاقات مع السفارات في برلين، من فكرها أن استعفاء توفيق باشا وهو قريب الوقوع يفتح للدول الأوروبية بابا لإعادة المراقبة المشتركة في مصر؛ لأن إنجلترا لم تنجح كل النجاح في مأموريتها لإقرار الراحة في تلك البلاد.
باريس في 27 مارس
اشتدت خطوب المسائل المصرية، واشتبهت مناهجها، وعظمت أخطارها، والتبست وجوهها على ذوي الشئون وأرباب المصالح فيها، حتى على السياسيين من رجال حكومة إنجلترا. كل يتصور غاية ويطلب حظا يناله منها وقد شد رحاله للوصول إليه، ولكن ضل أعلام الجادة وتاه في مجاهيل، وليل المشكلات مظلم وديجورها مدلهم، وتعاكست مذاهب السالكين، هذا يشرق والآخر يغرب، وكل في وحشة يطلب المعين ويخاف العادي، وكلما فرح لنبأ رمى بسهمه من الجزع لا يدري أصاب خصما أو قتل منجدا.
إن دولة عظيمة كان لها من القوة ما اعترف به دول العالم أجمع، ولها من الحقوق في مصر ما لا ينازعها فيه أحد، ترى رجالها اليوم يهتزون لدهدهة الرعود الإنجليزية ، وإن كان سحابها جهاما، ويفزعون من هزيم تلك الأصوات فيحارون ماذا يفعلون ، وريما يأتون ما لا يريدون.
ادعت دولة واسعة المطامع أنها نائبة عنهم في إصلاح الأقطار المصرية وإنقاذها من الاختلال، فتبوأتها بقواها العسكرية وأخذت بزمام الأحكام فيها، تعزل وتولي، وتعطي وتمنع، وتعاهد وتنقض، وتنقص من أطرافها ما أرادت، وتحل بعساكرها من بقاعها ما شاءت، وأصحاب الملك الشرعي شاخصة أبصارهم، مشرئبة رقابهم، يبصرون ما لا يسر لهم خاطرا، ولا يشرح لها صدرا، مع خفقان في القلب واضطراب في الفؤاد، والتهاب في الأحشاء؛ فزعا من سوء العاقبة.
يحسون بما تقتضيه مواقع الأقطار، والنسب بين بلد وما يجاوره من البلدان، وما يلزم لحمايتها من وسائل الدفاع، فيحكمون بأنه إن دامت الحال على ما يرون، أصبحت الأقطار السورية والحجازية واليمنية، على خطر عظيم في زمن قريب أو بعيد، وأن تاريخ مصر من عهد الفراعنة إلى الآن ينادي عليهم نداء الناصح، بل ينفث فيهم نفثات الحق، بل يزعجهم إزعاج الحاكم القاهر بأن المحافظة على مصر، من أهم واجباتهم، إن لم يكن لذاتها فلما يتسلط عليه موقعها من الأقطار.
أما ولاة الأمر من المصريين وأولو الرأي فيهم فقد غشيهم من هذه الدهاة ما أذهلهم عن علم حاضرهم، والفكر في مستقبلهم، طلبوا لهم عونا قويا، وركنوا إليه في دفع ما ظنوه غائلة، وتوهموه نازلة، فاستبد بالأمر عليهم، وسلبهم ما طلبوا المحافظة عليه، وهم بين نوم تطيب لهم أوائله، بما يلين لجنوبهم من الوعود الإنجليزية، وبين أحلام مدهشة وخيالات مزعجة، تمثل لهم ما سيصب عليهم من حميم العذاب، وما يؤخذون به من عذاب الهوان، وإن قليلا مما يشهدونه حاضر العنوان، على كثير مما يراه بعضهم بعيدا ونراه، والعاقلون منهم، قريبا.
أما الإنجليز، فليسوا في حل مما كسبوا ولم يهنأ لهم ما طمعوا، بل دافعتهم الحوادث وطاردتهم إلى مشكلات لم تكن في حسبانهم، وهم الآن بين أمور ثلاثة لا يتيسر واحدها إلا بما ينفي الآخر وهم يريدونها مجتمعة، ولن يقدروا عليه إلا بقدر يأتيهم بما يخرق العادة ويفوق الإمكان: إنهاء مسألة محمد أحمد، والوفاء بعهودهم لأوروبا، وما يضمرونه لأنفسهم في مصر.
ثم هم يتشبثون لكل منها بوسيلة تضارب ما يتمسكون به في الأخرى، تارة يظهرون عزمهم على مبارحة مصر جنوحا إلى الوفاء بالعهد، لكن يتبعون ما يقولون في ذلك بأن أجل الجلاء غير محدود، وتارة تنادي بأن ذمة إنجلترا توجب عليها أن تدخل مصر تحت حمايتها وتتولى إدارتها بصفة سيد حاكم لا مستشار ناصح، ويشير بل يصرح وزير حربيتهم بأن الضرورة تلجئهم إلى مثل هذا العمل ويعبر عنه أحيانا باسم الحماية وأخرى بما لا اسم له سواها.
وطورا يلقبون محمد أحمد أمير كوردفان ويطلبون من الخديو، كما روته جريدة «ميموريال ديبلوماتيك»، أن يكتب لهم صكا بأنه يفوض الأمر لهم في شأن المدعي، يتفقون معه كما يريدون، وأنه يسمح لهم بإحلال عساكرهم في سواحل البحر الأحمر، وأنه لا يتولى ولاية الخرطوم بعد جوردون إلا شيخ يضمن لهم حسن الاتفاق مع محمد أحمد، فلا الوفاء يروق لهم لمناقضته للغرض، ولا الحماية تسهل عليهم؛ لأن دول أوروبا بالمرصاد، وبين هذا يأخذ محمد أحمد ما يهيئه له الإمكان من القوة ويثبت دعوته إلى سائر الأقطار ويجيش الجيوش ويزحف إلى الخرطوم، وهو اليوم يحاصرها وعلى شرف افتتاحها.
ومع حرص الحكومة الإنجليزية على كتم الأخبار وتلطيف الإشاعات من جهة الخرطوم؛ اضطر وزير حربيتها أن يعترف في مجلس النواب أن المخابرات منقطعة بين الخرطوم ومصر السفلى (إلى الإسكندرية)، وأن الحكومة الإنجليزية في مخابراتها مع الجنرال جوردون إنما تعتمد على الصدفة في وجود من يقطع البراري إلى عاصمة نوبيا وكورسكو حتى يوصل الخبر إليه، وأنه لا علم للحكومة بشيء من أحوال النيل إلا على من خامس عشر الشهر، ولا تدري ماذا حل بجوردون.
وأثبتت جريدة التايمس أن الجنرال في خطر عظيم، وزاد الهول عليهم أن عثمان دجمة لم يتزعزع عزمه بما أصابه في الهزيمتين، بل لم يزل خصما قويا للحكومة الإنجليزية، ويدل على ذلك أن الجنرال جراهام يتأهب لمنازلته، كما ذكرته جريدة التان، وفي أهم الجرائد الفرنسية أن وقوع الخرطوم في قبضة محمد أحمد يكون له رجة هائلة وأثر عظيم في تغيير الأحوال الحاضرة في البلاد الشرقية.
نعم، إذا حل محمد أحمد في الخرطوم سهل عليه جمع كلمة القبائل النازلة ما بين الخرطوم وأسوان، وتتصل أطراف جيشه ببلاد مصر العليا ولا يعدمون من العرب في جهات الصعيد، بل وفي الدلتا من يلتحق بهم وتكون الطامة الكبرى، يغلب على ظننا أن هذه النار ليست مما يطفئه رذاذ السياسة الإنجليزية، ولا مما تخمده حركات عساكرها البطيئة، خصوصا وقد وقع الخلاف بين حكومة بريطانيا وبين قواد جيشها في سواحل البحر الأحمر، فمن رأي الحكومة أن تداوم الحرب وتسرع في إنهائها، ومن رأي الأميرال هفت توقيف الحرب إلى شهر أكتوبر (بعد ستة أشهر) لئلا تهلك العساكر من الحر، وأن في ستة أشهر لسعة لما لا يهجس الآن في خاطر أحد، فلو وكل الأمر في تسكين الثورة وحسم الفتن إلى القوة الإنجليزية وبروقها الخلب لم نكد نفكر فيما يكون منها حتى تلتهب النيران في أنحاء أخرى ويصعب على أرباب الشأن فيما بعد ذلك تداركها، وليس لكشف هذه الخطوب إلا عزائم المسلمين، يلقى إليهم زمام العمل فيها خالصا من المداخلات الأجنبية التي توغر الصدور وتثير الأحقاد.
وأحست الجرائد الفرنسية بما في نية إنجلترا أن تفعله من التصرف في الأراضي المصرية ومنها جريدة «الريببليك فرانسيز» وجريدة «الديبا» وغيرهما، فطلبت من الحكومة الفرنسية أن تحل بعساكرها في جزيرة ديسي المتسلطة على سواحل البحر الأحمر مما يلي مصوع، محتجة على ذلك بقولها: إن صح ما ادعاه وزير حربية إنجلترا من كون شطوط البحر الأحمر تعد من طريق الهند، فلنا أن نقول: إنها أيضا طريق تونكين وكوشنشين ومدغشقر، بل إن الحلول في تلك الجزيرة من أهم الضروريات لمراقبة منع التجارة في العبيد كما تقضي به المعاهدة بيننا وبين إنجلترا.
هذا بعض ما أنتجته سياسة جلادستون في مصر، وربما يسكن روع أمته ويخفف انزعاجها من هذه المباراة الجديدة بينها وبين فرنسا على سواحل البحر الأحمر بتذكار ما أعقبته المباراة بين الأمتين في الهند من أزمان ماضية، ولكن شتان بين الزمانين، فتلك أوقات كانت سياسة إنجلترا خافية على أهالي الهند وكانوا ينخدعون لها، أما اليوم فلم يبق فيها خفاء على أحد من سكان الممالك الشرقية، ولعل الغيب يوافينا عن قريب بما يكون لفرنسا مع إنجلترا في هذه المسائل - وإلى الله المصير.
الفصل السادس عشر
الشيخ الميرغني
وردت برقية من سواكن في 21 مارس مفادها أن الشيخ الميرغني ومعه شيخ آخر يقال: إنه من مكة المكرمة ذهبا في ذلك اليوم إلى المعسكر الإنجليزي ليحضر خضوع كثير من مشايخ القبائل الذين جنحوا إلى السلم مع الإنجليز، وفي حين آخر أن هذا الميرغني صاحب فرقة إنجليزية تسير إلى بيرهندوك ليكون على يديه طاعة بعض القبائل في تلك النواحي، ويقال: إن إحداها لم تزل مترددة في قبول الطاعة وعدمه.
هذا مما يعجب منه؛ أن شيخا يظهر بين المسلمين بمظهر العلم والإرشاد، ثم يقود جيشا إنجليزيا لإذلال أبناء ملته وإخوان دينه وجنسه، وهو يعلم أن شرفه شرفهم، وسيادته بسيادتهم، ولولاهم ما نال الإكرام والإجلال، وما أغدقت عليه النعمة، وتوفرت لديه دواعي الترف والنعيم، وتمتع بكامل لذاته وشهواته! كيف يسوغ له أن يقدم جيوش الإنجليز، قبل الوقوف على مقاصدهم، وماذا يريدون من تذليل جيش العرب وإخضاعهم، هل يصح له أن يأتي مثل هذا وهو يعلم ما يحذره الشرع وما يبيحه اغترارا ببعض الأوهام التي لا أساس لها؟!
وكتب إلينا من مصر والحجاز أن جماعة من العلماء في القطرين حكموا بمروقه وقالوا: إن هذا من أعظم الزلات التي لم يرتكب نظيرها في الإسلام، على أنه ليس من العلماء ولا من العارفين بطرق الإرشاد، وإنما نال الاعتقاد عند بعض السودانيين وراثة عن أبيه، وأنه لم يتميز عن العامة الأميين في شيء، وإن كان هذا لا يدفع العجب من فعله.
1
الفصل السابع عشر
الخرطوم
في الجرائد الفرنسية نقلا عن الإنجليزية أن أشياع محمد أحمد كانوا في مساء الثالث عشر من شهر مارس ثلاثة آلاف على القرب من الخرطوم ، وفي صباح الرابع عشر وصلوا إلى ستة آلاف، وهو يدل عن أن الجنرال جوردون عنده شيء من قوة الدفاع حيث لم تقدم تلك القوة على مهاجمة المدينة، لكن ماذا يجبي من طوعه أن يفعل مع هذه الآلاف المؤلفة التي تتضاعف يوما بعد يوم وهم يحدقون بمحل إقامته من جميع الجوانب؟
ومما يدل على أنه في أصعب المضايق، بل على شفير الخطر، اتفاق الجرائد الإنجليزية على دعوة حكومتها لإنقاذه بغاية السرعة، وفي أخبار الخامس عشر من الشهر أن فرقا من الثائرين متحصنون على شواطئ النيل بمقربة من حلفا، على مسافة بضعة أميال من شمال الخرطوم، وأنهم أطلقوا النيران على مركب كانت تسير في النيل حاملة ثلاثمائة رجل استقدمهم الجنرال جوردون وقتلوا منهم نحو مائة، إلا أنه تيسر للجنرال استخلاص باقيهم، واستبشرت التايمس بهذا الظفر الذي تسنى للجنرال بتخليص بقية القادمين إليه وإن أظهرت غاية الكدر من كونه في خطر عظيم وثائرة السودان تحيط بجميع أطرافه، وتستحث حكومتها على إنقاذه ما استطاعت (والله يعلم كم بين ذاك الاستبشار وهذا الإنذار وهما في فصل واحد). •••
وفي برقية إلى الديلي نيوز أن طرق الخرطوم منقطعة، وأن القبائل المذعنة لمحمد أحمد محدقة بجميع جهاتها، وأن ثلاثا من تلك القبائل وافرة العدد، وعلى مقدمتها جم غفير من المشايخ والدراويش؛ يزحفون قصد الاستيلاء عليها، ويظن عموم الناس أن لا سبيل لمدافعتهم عنها أو تخليصها منهم إلا بإنجاد عساكر إنجليزية، وقال مراسل التايمس في 21 من الشهر: إن من الواجب على الحكومة الإنجليزية إغاثة الجنرال جوردون، فإنها قد ألقته في فم الأسد، وسيكون فريسة المنية إن لم ترسل العساكر إليه بغاية السرعة.
وجاءت الأخبار مؤكدة أن حصن كسلا تحت محاصرة الثائرين، وأن القبائل في جنوب بربر جميعها في هيجان وثورة شديدة.
وهذا كله يؤيد ما قلناه مرارا، من أن المدعي يخشى من قوة بأسه وسريان دعوته إلى جهات بعيدة، فإنه إذا استقر قدمه في الخرطوم لم نلبث أن نسمع بظهور دعواه في أسوان.
الفصل الثامن عشر
تحكم اللورد دوفرين
نهجت دولة الإنجليز في معاملتها للدولة العثمانية منهجا جديدا بعد حرب الروس ، تأخذها بالتهديد والتهويل في كل ما تروم قضاءه من أغراضها في الممالك العثمانية، ولا تراعي فيما تفعل قانونا دوليا، ولا عهدا سياسيا، وتتحكم بجبروتها في تحديد المواعيد وتعيين الأوقات، وأعظم ما يكون من مرهباتها الوعيد بتغير قلبها عن وداد تلك الدولة أو اشمئزاز نفسها منها، ولا تفرق في نهجها هذا بين صغار المسائل وكبارها.
ومن ذلك ما روته جميع الجرائد من اشتداد اللورد دوفرين سفير إنجلترا في الأستانة على سعيد باشا الصدر الأعظم، وإغلاظه له في القول عند التكلم في شأن شركة عثمانية تحت رعاية دولة لوبهرام أغا، منحها الباب العالي امتيازا بتسيير سفن النقل على شطوط البحر الأبيض، وكان هذا العمل في يد شركة إنجليزية (لم تأخذ به امتيازا)، فامتعض اللورد دوفرين وطلب من الباب العالي استرداد منحته فلم يجب طلبه، فذهب يوم الخميس الماضي إلى الصدر الأعظم وخشن له المقال، ونسب إلى الباب العالي تعمد المراوغة.
ولما تنصل له الصدر بأن هذا ليس من خصائصه بل يتعلق بوزير الخارجية، قال: إنه لا يخابر فيه وزارة الخارجية (وإن كان من خصائصها) وإنه يلقي التبعة على الصدر الأعظم إذا تأخر الجواب بقبول حجته، وأن لا بد من تعويض لمن أصابته خسارة بسبب هذا الامتياز من الإنجليز، مع تحرير اعتذار رسمي وعزل والي أزمير، فإذا بلغ أمرنا إلى الخضوع بكل تهديد والانقياد بأي إرهاب، وصارت مسائلنا الداخلية تحت اختيار من يستطيع أن يلقي التبعة، ويبالغ في الخشونة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الفصل التاسع عشر
مقاصد إنجليزية في مصر
في كل يوم تلح جريدة التايمس على حكومة إنجلترا بوجوب طرد العساكر المصرية الوطنية، زاعمة أنه يحل من الأهالي محل القبول، ويسرون عنه غاية السرور، وتشير على الحكومة أيضا أن تجهر بحمايتها لمصر وتظهر للدول أنها تتحمل كل تبعة تحصل من مداخلتها في تلك البلاد، وأن ذلك من مقتضى الحزم، فإن الإدارة المصرية وفروعها في حاجة إلى إصلاح حقيقي ولن يقوم به إلا رجال الإنجليز.
وهذا من تلك الجريدة وغيرها سوق للحكومة إلى إظهار ما تكنه من السلطة على البلاد المصرية، وضمها إلى ممالكها الشرقية، وما كان ذلك خافيا على أحد، وإن كان بعض المصريين غالطوا فيه أنفسهم عن علم أو جهل - والله أعلم.
ما تطلبه الجرائد من طرد العساكر الوطنية إنما هو مقدمة التملك ورسوخ القدم، ثم هي تموه في تحسين ذلك بدعواها أن أهالي مصر يفرحون منه، مع أن أول ثورة عسكرية سر بها المصريون على عهد وزارة ولسون إنما كان منشؤها العزم على تقليل عدد العساكر وإقفال المدارس العسكرية، فالمصريون وهم المسلمون لا تعقل مسرتهم من طرد حاميتهم الوطنية، بل ينزعجون منه غاية الانزعاج.
الفصل العشرون
حجة نوبار باشا
في برقية من القاهرة بتاريخ 22 مارس أن نوبار باشا أقام الحجة على المستر كليفورد لويد (وكيل الداخلية المصرية) ورفع حجته إلى الماجور بارنج. •••
هذا الذي بقي لأولي الأمر من الشرقيين، يقيمون الحجج والبراهين ويقنعون بأن برهانهم سالم المقدمات صحيح النتيجة عند التعقل، إلا أن بعضهم يقيم حجته على بعض الدول عند بعض آخر منها، وبعضهم يقيمها عند أوليائه من الأجانب وهو منهم وفيهم، إن هذا لشيء عجاب!
الفصل الحادي والعشرون
عثمان دجمة
1
في البرقيات الأخيرة أن فرقة إنجليزية ستفارق هندوك وتتوجه إلى نواحي ثمانية (محل المعركة الماضية) لتعسكر في تلك الجهات، أيظنون أن إقامتهم بها تكفي لخضوع القبائل، غير أن عثمان وعد قومه بأنه سيأتيه أمر إلهي بعد ستة أيام ليبيد بقوته عساكر الإنجليز، وأشيع أن محمد أحمد سيبعث إليه بمدد.
الفصل الثاني والعشرون
معاملة محمد أحمد للرسل المسيحيين
جاء إلى الخرطوم ضابط مصري كان في عبيد، وأخبر أن رسل الكاثوليك في تلك المدينة تحت كنف محمد أحمد على حرية تامة تجري عليهم الأرزاق من طرفه للواحد منهم في كل شهر خمس تليرات (ريالات) ونصف، وأن كنيستهم مفتحة الأبواب وإن كانت المدارس معطلة للضرورة.
هذا العمل منه يرشد إلى أن له دهاء وذكاء وخبرة بما يجب الأخذ به في معاملة أرباب المذاهب والأديان المخالفة لدينه ومذهبه، وهذا يزيدنا خوفا من استفحال أمره وانتشار دعوته.
الفصل الثالث والعشرون
أخبار أخيرة
كتب مراسل الديلي نيوز المرافق للجيش الإنجليزي في سواحل البحر الأحمر أن الجيوش الإنجليزية تقاسي مصاعب ومشاق شديدة في قطع الطريق إلى حيث تلتقي مع جيوش عثمان دجمة لتلتحم معها في القتال مرة ثالثة، فإن الحر شديد والمسالك وعرة والمياه مضرة بالصحة، مع قلتها، ولم يجوزا إلى أول مرحلة إلا وقد أجهدهم التعب، واستولى عليهم الوهن، فأعجزوا أربعمائة منهم عن المسير.
قالت جريدة التان: إن هذا الهجوم لم تتبين غايته، ولما سئل عنه مستشار خارجية إنجلترا في البرلمان لبس في الجواب وراوغ في بيان الحقيقة، كأنه يريد التملص مما عساه أن يرد عليه من بعد وإخفاء المقصد، حتى إذا لم ينجوا فيه ستروا ما يلحقهم من خجل الإخفاق في السعي، وموهوا على ما يمسهم من الشين، ويغلب على الظن أن القصد منه فتح الطريق بين بربر وسواكن لتتمكن حكومة الإنجليز من مخابرة الجنرال جوردون من جهة سواكن (حيث تعثرت عليها من طريق الخرطوم بعد محاصرتها بجيوش محمد أحمد من أطرافها المتصلة بالنيل).
ويقول مراسل الديلي نيوز: إن الشدة لو دامت بالعساكر الإنجليزية على حالتها الحاضرة؛ فلا بد أن تصير غنيمة باردة لعثمان دجمة وفريسة ناجزة لأشياعه.
وفي جريدة التايمس أن القلق في لندن شديد، والاضطراب بالغ فيها حده، وعموم الناس يتطلعون إلى الأخبار المصرية دقيقة بعد دقيقة، وأتبعت ذلك تلك الجريدة بقولها: لم يتيسر لحكومة إنجلترا فتح طريق بربر بهذا الزحف الجديد، ضعف الأمل من فتح هذا الطريق في وقت آخر، وعز على إنجلترا إجراء فرضته على نفسها في الأقطار المصرية، وقل الرجاء في تسوية المسألة السودانية بطريقة محمودة.
عزمت حكومة روسيا بعد حلولها في مرو على أن تجعل وراء بحر الخزر من البلاد الداخلة تحت سلطتها حكومة خاصة بها، لها مركز معين وقاعدة ترد إليها أحكام تلك النواحي، حتى تسهل المواصلة بينها وبين مرو، وهذه حركة جديدة لدولة روسيا في أطراف آسيا ، وهي وإن كانت لا تسر المحبين لإنجلترا ولكنها لا تحزن أعداءها.
الفصل الرابع والعشرون
نصيحة
أشد ما كانت هيبة الإنجليز وملكتها على الشرقيين قبل تكتيب الكتائب وعقد الألوية وسوق العساكر لمقاتلة عثمان دجمة على أميال من سواحل البحر الأحمر، وكان يخيل للسودانيين - بل يلابس اعتقادهم - أن القوة الإنجليزية مما فوق الطبيعة وعن مثلها تصدر خوارق العادات، وكان من ظنون الشرقيين في أقطار أخر أن غرائب القدرة البريطانية بلغت مقالع السحر، تدهش الألباب وتحير العقول، وإذا خلج في صدور أمة من الأمم صغيرة أو كبيرة لبعدها عن مركزها أن تغالبها على حق أو تناوئها في مرغوب؛ انشقت الأرض وانفطرت السماء، عن كماة من الإنجليز يصبون عليها أصوات العذاب، ويذيقونها أليم الوبال، ويخلبون الأرواح من الأجساد، فيغلبون ولا يغلبون، خصوصا إن كان مغالبوهم لا يحملون من السلاح إلا نوعا من الصنع القديم، مما كان يستعمله أبناء نوح بعضهم في مدافعة بعض.
إلا أن هذه الدولة العظيمة ألجأتها حوادث السودان أن تسوق جيشا للإيقاع ببعض العرب في نواحي سواكن، فتحركت الجيوش المنظمة لملاقاة عثمان ورجاله، وبنى القواد في الزحف قلاعا (مربعات) من العساكر الباسلة، مدرعة بلوامع من حراب البنادق (السنج) مسيجة بالآلات الجديدة، ومن صنع «رمنتون وهنري مارتين»، على أجود طراز يكون منه، وحصنوها بأبراج من المدافع لا تدانيها من سكان تلك القفار قوة، ولا تسمو إليها منهم قدرة، ولكن قوة اليقين أو تحكم الجهل دفع على الصفوف الإنجليزية جماعة من عراة العرب وحفاتهم، فهدموا قلاعها ونقضوا بنيانها، وقوضوا أبراجها، وبعد تدافع وتضام وتقدم وتأخر، في موقعتين عظيمتين، كر الإنجليز إلى سواكن (ساحل البحر) وأخلوا ساحات القتال، وتقهقر العرب إلى الجبال، وعج الإنجليز: غلبنا وانتقمنا.
ماذا أثرت هذه الغلبة العجيبة في نفوس السودانيين؟ ثبتت أقدامهم وقوت جأشهم، وجمعت كلمتهم، وذهبت بما كان يخامر قلوبهم من الهيبة والرعب، فجمعوا قواهم واستعدوا للقتال مرة ثالثة، فحرموا لسوء البخت أو حسن الحظ من ملاقاة خصومهم؛ لأن شدة الحر كانت من أعدائهم أو نصرائهم، حيث ألجأت العساكر الإنجليزية للجلاء عن تلك الديار، فأسرعت إلى البحر لا يستقر لها قدم إلا في مصر أو إنجلترا.
وما أثارته هذه الغلبة في قلوب السودانيين من ثائرة التهور دعاهم لتضييق الحصر على الخرطوم، لما علموا أن ليس في قدرتهم أن يقتفوا أثر الإنجليز في البحر، ولا يستطيعون الإيغال في طلبهم وهم على غوارب الموج، ولما اشتد الضيق بمن في الخرطوم نهض الجنرال جوردون بشجاعة الأبطال لرفع الحصار، فلم تكن إلا كرة تبددت فيها جيوشه وأعقبتها فرة إلى داخل المدينة لينتظر ما يأتي به القضاء.
ولكن ليستر وجه الهزيمة رمى ضابطين عظيمين من ضباط المصريين بالخيانة، وأمر أن يضربا بالرصاص فضربا وماتا، وهما: حسن باشا وسعيد باشا (في أخبار البرقيات)، أما هذا الغلب في السواحل على هذه الصورة البديعة، وما حل بجوردون فقد أسقط من شأن إنجلترا وقوتها في أقطار السودان عموما، وجعل كلمتها هي السفلى وبعث السودانيين على الاعتقاد بأنه إحدى كرامات محمد أحمد - لا حول ولا قوة إلا بالله.
خطب يعقب خطبا، وكرب يحدث كربا، هذه الصدمات المتتالية كشفت بعض الستار، وشف بها الحجاب، وأحدثت هزة في قلوب الهنديين، فكشر النوابون والرجاوات عن أنيابهم، ومدوا سواعدهم ينظرون إلى ما تطول، ويراجع كل واحد نفسه ويمنيها بقرب الخلاص من ضيق الاستعباد، ويلمح الفرص من خلال هذه الحوادث، انتشرت أخبار المصائب التي حلت بالجيوش الإنجليزية من مصيبة هكس إلى ما بعدها في جميع أرجاء الهند، وترى الناس زرافات وفرادى يتناجون في هذه المسألة ويرجعون على أنفسهم باللائمة فيما فرطوا من قبل وهم على ربوة الأمل، يستطلعون سوانح الفرص خصوصا المسلمين فيهم، كما أنبأتنا به الرسائل الواردة إلينا من أقطار مختلفة من البلاد الهندية، ونظن أن الدولة الإنجليزية وعماد قوتها الإيهام والتغرير يصعب عليها بعد الآن أن تعيد منزلتها الأولى في نفوس الشرقيين، خصوصا إذا أفضت حوادث الخرطوم إلى قتل جوردون أو أسره وافتتاح تلك المدينة وهي عاصمة السودان.
يزيد الطين بلة أن يشتد العثمانيون ويأخذوا بالحزم وقوة العزم في صيانة حقوقهم بأي وسيلة كانت، وربما نراه واقعا؛ فإن العقلاء منهم لا يغفلون عن حاجة الإنجليز لمسالمتهم؛ لأن الإنجليز يحكمون على خمسين مليونا من المسلمين جميعهم يعترفون بحقوق السلطان ويجيبون داعيه إذا دعا، وهم له أطوع من الترك أنفسهم، والحذاق من العثمانيين وإن كانوا يرون أن إنجلترا لا تعامل الدولة إلا بالتهديد والإرهاب، وجعلت هذا طريقا لنيل أغراضها منها، إلا أنهم يعلمون أن من المحال على إنجلترا أن تشهر على الدولة حربا، فإن سياسيي بريطانيا وهم أشد الناس خبرة بدقائق الأمور فضلا عن جلائلها؛ لا يخفى عليهم ما تكنه قلوب الهنديين من محبة صاحب السلطة الإسلامية، بل هم على يقين بأنهم لو جهروا بالحرب للعثمانيين لتقوضت سلطتهم في الهند لأول وهلة، لا على المسلمين خاصة ولكن يتبعهم الوثنيون، وهذا ظاهر عند كل إنجليزي وإن خفي على بعض العثمانيين ورام ستره عن باقيهم.
الاعتقاد بمحمد أحمد أخذ سبيلا في قلوب الهنديين حتى كتب إلينا أحد أصدقائنا في لاهور أن محمد أحمد لو كان دجالا لأوجبت علينا الضرورة أن نعتقده مهديا وأن لا نفرط في شيء مما يؤيده.
بعد هذا كيف يمكن للإنجليز دفع غائلة محمد أحمد، حر السودان منع وسيمنع من جولان العساكر فيه، وطلب العساكر من كوركووسيك بعد شيوع هذه الدعوة في الهند مما لا تجوزه الحكمة، ولا نظن أن إنجلترا تثير حربا صليبية بحكومة الحبش على مسلمي السودان؛ لأنه يفسد عليها أمر الهند ويخالف أحكام المدنية الحاضرة.
فما هي آخر الحيل؟ أيكتفي بحفظ القنال مع ترك الفتنة يسري لهيبها إلى مصر العليا بل السفلى؟ إني أخشى كما يخشى العقلاء من شيوع هذه الدعوى، وكثرة المعتقدين بها أن يلم منها ضرر بدولة إنجلترا وبكل من له حق في مصر، فعلى الإنجليز - كما نصحنا مرارا - أن يصونوا بلادهم، ويحفظوا طريق الهند بتفويض الأمر للعثمانيين، وأولي العزم من المصريين قبل فوات الوقت، وإلى الله ترجع الأمور.
الفصل الخامس والعشرون
الدولة العثمانية
قالت جريدة «الميموريال دبلوماتيك» إنه لم يؤخذ عن الباب العالي خبر إلى الآن عن المنشور الذي عزم على إرساله للمصريين، إلا أنه محرر تام وفيه أن الدول ستدعى إلى المداولة التي قطعها إطلاق المدافع على الإسكندرية (المؤتمر)، ولن يعدل الباب العالي عن نشره إلا إذا قبلت إنجلترا أن تكون مخابرتها معه في تسوية المسائل السودانية المصرية بطريقة جدية (لا هزلية)، ولم نزدد يقينا بما ذكرته هذه الجريدة في أن الدولة العثمانية لا تتساهل في حقوقها على مصر وأنها تبذل ما في وسعها للمدافعة عنها، وكانت لنا ثقة تامة بعزائم العثمانيين وأنهم لا بد أن يقدموا لصون بلادهم المصرية من استبداد غيرهم فيها.
ولهذا نجزم بأنه لا يروق للدولة العثمانية ما ذكرته جريدة «الديلي تلغراف» من أن المستر جلادستون سيهجر عن قريب بحماية حكومته للأقطار المصرية، وأنه سيخابر الدول في تحديد أمد الحماية ولا يكون أقل من خمس سنوات، وفي أمله أن الدول لا تمانعه فيما يريد الاتفاق معها عليه في هذا الشأن، بل تعتبره حقا قانونيا أوجبه بذل الأموال الإنجليزية وإراقة الدماء البريطانية.
وفصلت هذا الخبر بعض الجرائد الفرنسية وبوبته وأشارت إلى ما أجابت به بعض الدول.
فليس مما يخطر ببالنا أن الدولة العثمانية توافق على ما تطلب إنجلترا لو فرضنا أن الدول سمحت للإنجليز بحمايتهم لمصر مدة محدودة أو غير محدودة، فإن الحوادث لا تؤمن وتقلبات الأيام لا ثقة بها، فيمكن في خمس سنوات بل في أقل منها أن تتبدل القواعد السياسية، بل ينقلب وجه السياسة انقلابا لا يعرف، والسياسيون لهم في كل حادث علة لمحو المعاهدات وتأويل الوثاق.
الفصل السادس والعشرون
إنجلترا في سواحل البحر الأحمر
وقع ما أنبأت به الجرائد الإنجليزية من بضعة أيام، فإن الجيوش البريطانية زحفت لملاقاة عثمان دجمة بعد أن قاست أليم العذاب من وهج الحر ولهيب الشمس، وأصيب منها عدد وافر بالوهن والضعف، حتى عجزوا عن مداومة السير، وصابر بقية العسكر في زحفه وانتظموا على أشكال مربعات تشاكل ما انتظموا عليه في الموقعة الماضية، إلا أنهم لم يتلاقوا مع خصمهم، وأفاد التقرير الإنجليزي أن السبب في عدم الالتحام أنه وصلت العساكر إلى قرية ثمانية ولم تجد عنها مدافعا فأحرقتها ورجعت إلى سواكن.
ولا يخفى أن جميع أخبارهم قبل هذا الزحف كانت متفقة على أن عثمان يبعد عن ثمانية بتسعة أميال، وأن مسيرهم هذا كان لملاقاته حيث يعتصم فلم يكن هناك داع لحرق قرية ثمانية ولا الإخبار بأنه لم يوجد مدافع عنها، إلا ما تعود عليه الإنجليز في حروبهم إذا لم يصادفوا ظفرا يحرقون ويخربون وإن لم يكن من يصيبونه بأعمالهم محاربا لهم، حتى يقولوا: ظفرنا وأحرقنا وأتلفنا.
وورد إلى الجرائد الفرنسية أن تقهقر عثمان إنما كان ليحشرهم بين شعاب الجبال ثم يغير عليهم ويفتك بهم كما فعل رئيسه «محمد أحمد» بعساكر الجنرال هكس، ويظهر أنهم لما أحسوا بهذه المكيدة ووجدوا من أنفسهم ضعفا عن مقاومة العرب في جبالهم كروا راجعين إلى سواكن ومحتجين بشدة الحر سترا للعجز وتقديما لبارد العذر، والجرائد الإنجليزية في قلق واضطراب شديد ولهج أغلبها يحث حكومتها على استدعاء العساكر من سواحل البحر الأحمر، متعللة بأنها وإن كانت من حامية الهند ولها جلد على احتمال الحرارة، إلا أن أثر الحر السوداني ظهر فيها بسرعة شديدة ويخشى عليها من التلف الكلي، وأحرى أن يخاف على سواها ممن لم يفارقوا إنجلترا إلا لحرب السودان.
ويغلب على الظن أنهم شعروا بقوة محمد أحمد وثبات عثمان والتهاب الحمية في قلوب المسلمين بتلك الأطراف، فاستفزهم ذلك إلى إخلاء وجوههم، وخوفا من أن يحل بجيوش السودان الشرقي ما حل بعساكر الجنرال هكس وتستروا بالشكوى من شدة الحر واحتدام نار القيظ، مع أن وهج الحرارة في جنوب الهند، حيث كانت تحل هذه العساكر كما ذكرته جرائدهم أشد منه في سواحل البحر الأحمر.
وما قاله الجنرال جراهام والأميرال هفت أن الحركات العسكرية قد انتهت على شطوط البحر الأحمر؛ يثبت اعتراف هذين القائدين بعجزهما عن فتح الطريق ما بين البحر الأحمر وبربر، ومساعدة جوردون من هذا الطريق، وبناء على ما أبدياه من البأس صدرت الأوامر إلى الجنرال جراهام بإخلاء المواقع الحربية وإجلاء العساكر عنها والخروج من سواكن بما يمكنه من السرعة، وأعقب الأمر اجتماع العساكر بأسرها في تلك المدينة، ويقال: إن فرقة منها تسافر في التاسع والعشرين من مارس إلى مصر وإنجلترا، وهذا الأمر لا ريب يعده أشياع محمد أحمد والمذعنون لدعوته فتحا إلهيا وتأييدا ربانيا، فيقوي اعتقاد المخلصين له ويقطع شكوك المترددين في قبول دعواه، ولربما يذهب الوهم بالسذج منهم إلى أن الله أيدهم بالملائكة المسومين فكشفوا عنهم عدوهم، وبعد هذا تجتمع كلمة القبائل وتثبت أقدامهم في مواقف القتال ويزداد حرصهم على تعميم دعوى محمد أحمد، ومغالبة من لم يذعن لها، ويكون هذا الظفر الغريب أقوى برهان لهم على صدق دعواهم.
هذا ما أدت إليه سياسة الدولة الإنجليزية التي وطئت بأقدامها أرض مصر لإخماد الفتن، لم تجلب مداخلها إلا تعالي اللهب وقوة الضرام، وبعدما أسقط في يديها وخابت في سياستها تجافت عن تسليم الأمر لأربابه القادرين على تلافيه من المسلمين، حتى يحصل الأمن للأجانب والوطنيين، وتحقن الدماء وتحفظ الأموال، وعمدت إلى الاستنجاد بحكومة الحبش لحرب السودان، ولم يأخذها خجل في ذلك وهي تدعي أنها حاملة لواء التمدن والقائمة بنصرة الإنسانية وتتلو آيات الإنجيل آناء الليل وأطراف النهار، ثم تستدعي حكومة خشنة غير مهذبة كحكومة الحبش لمقاتلة قوم آخرين - وإن كانوا ليس بأقل منهم خشونة - لتشتبك حرب بربرية تحرق فيها المدن والقرى، وتسفك الدماء الغزيرة ويفتك فيها بالأولاد والنساء والشيوخ ومن لا جريمة لهم حتى يفني بعضهم بعضا، ولم تبال في التماس هذه المساعدة أن تصرح للحكومة الحبشية أن الغرض منها كبح المسلمين في السودان وإضعاف قوتهم لتثير بذلك حربا دينية تذكر العالم بالحروب الصليبية.
فقد جاءت الأخبار إلى الجرائد الفرنسية: إن دولة إنجلترا تلتمس من يوحنا ملك الحبشة أن يمدها بجيوش للدفاع عن سواحل البحر الأحمر لعجزها عن حمايتها بنفسها وإطفاء ثورة المسلمين وإخضاعهم، وبعثت إليه قائد أسطولها ليتفق معه على شروط هذه المساعدة وما يغنمه بعد القيام بها، وفي جريدة «الميموريال دبلوماتيك» أن من جملة ما تطلبه إنجلترا من الحبش فضلا عن الإنجاد الحربي أن يتخلى لها عن جزيرتين في البحر الأحمر لتحل فيها بعضا من عساكرها، وله من العوض ما يكافئ الأمرين جميعا.
يريد محبنا الصادق أن يقدم للحبش جزءا من أراضينا مكافأة له على ما يريد منه، ولم يغفل عن مراعاة المرابحة التجارية حسب عادته ترغب إلى الحبش أن يتنازل له عن أملاك في البحر الأحمر، فليعتبر المعتبرون.
الفصل السابع والعشرون
عودة إلى الخرطوم
نوهنا مرارا للمسلمين عموما، والمصريين خصوصا، من الانقباض عن حرب إخوانهم وإراقة دماء أبناء ملتهم بمجرد أوامر تصدر إليهم من مخالفهم في الجنس والاعتقاد، لا يعلمون لها عاقبة، ولا يدرون من يجتني ثمرتها، بل يوقنون أنهم إنما يقتلون إخوانهم ليورثوا أرضهم لقوم آخرين، ربما كانوا أعداءهم أو يكونون أعداءهم، ولهذا لم يأخذنا عجب من خذلانهم لهكس في السودان الغربي ولا لباكر في السودان الشرقي، ولا مما بلغنا في هذه الأيام من خذلان جوردون في الخرطوم، ولم يختلج في صدرنا ولا في خطرات أنفسنا أن انهزامهم في هذه المواقع منشؤه الجبن والخور، أو الاختلال والنقص في الآداب العسكرية، ولكن نعلم أنهم يفضلون الموت بيد إخوانهم على الظفر بهم لتكون أموالهم وديارهم غنيمة لصاحب أمرهم من الأجانب، أما الجرائد الإنجليزية وقواد الإنجليز فهم يبالغون في جبن العساكر المصرية واختلالها؛ ليتطرقوا بذلك إلى ما في عزم حكومتهم من طرد الجيش المصري الوطني وإقامة جيش إنجليزي مقامه، حتى يتمكنوا بجيشهم أن ينالوا ما تطمح إليه أنظارهم في المستقبل.
ومن هنا لا يستغرب عارف بحقيقة الأمر ما ذكره مراسل التايمس في الخرطوم، من أن جوردون باشا عندما اشتد عليه الحصر من أشياع محمد أحمد، خرج بألفي جندي من الجنود المصرية وبعض العساكر غير المنظمة «الباشبوزق» ليفرق المحاصرين ويبعدهم عن أبواب المدينة، فلم تثبت الجنود لأول الملاقاة وانحاز منهم خمسة ضباط إلى قبائل العرب وعمد اثنان من أمرائهم «بشاوات» إلى قتل من كان على المدافع منهم ليطلقها على إخوانهم التابعين لمحمد أحمد.
ويقال: إن جوردون قبض على الأميرين ووضعهما تحت المحاكمة العسكرية، وآخر الأمر اضطر جوردون إلى الدخول وراء الحصون بعد أن تبدد جيشه وقتل منه مائتان على ما رووا، ولم يقتل من الثائرين إلا أربعة وغنم العرب من ذخائر جيش جوردون مقدارا وافرا، مع أن المهاجمين منهم كانوا فئة قليلة لا سلاح لهم إلا الرماح والحراب، وجيش جوردون كان ألفي رجل شاكي السلاح من الطرز الأوروبي الجديد.
هذا يكون من المصريين؛ لأنهم تحت قيادة أجنبي يأمرهم بأوامر دولة أجنبية، ولو كانوا في إمرة أمير مسلم مصري ولهم ثقة بعاقبة ظفرهم أن تكون لبلادهم وملتهم، لرأينا منهم ما رأى العالم وشهد به الكون لهم من الشجاعة والإقدام أيام محمد علي وإبراهيم باشا.
وبالجملة: فقد أرجع جوردون بعد تغلب الثائرين حاميته إلى مأمنه في الخرطوم يوم السادس عشر من شهر مارس (الماضي)، ويقول مراسل التايمس: إنه يمكنه التمنع في الحصون بعض أيام إلا أنه لم يجرؤ على الخروج مرة ثانية. •••
الجرائد الإنجليزية تحكي ما هال أهل بريطانيا من مصيبة جوردون، وتنذر بخطر عظيم يحل به، وفي جريدة «الديلي تلغراف»: أن هلاك جوردون أو وقوعه في أسر محمد أحمد يذهب بالأعمال الحربية التي قامت بها تلك العساكر الإنجليزية في السودان، ويجعلها هباء كأن لم تكن، ويزيل أثر تلك المواقع الدموية فتكون نسيا منسيا، وقالت جريدة «ألستاندرد»: ليس من الممكن لنا أن نتأخر دقيقة واحدة إلا إذا أردنا أن نلقي بجوردون إلى هاوية الهلاك، وبالسودان إلى الفوضى (نعم، لا بد أن يخافوا على السودان من الفوضى كما خافوا على مصر منها)، وفي التايمس: لا بد لإنجلترا أن تظهر عزيمتها في الأحوال الحاضرة، وتأخذ في عملها بالشدة حتى يعلم ذلك منها عند الكافة من الإنجليز، ومن آمالها أن الأمة الإنجليزية تؤيد الحكومة فيما تعزم عليه وأنه لاسبيل لإنقاذ جوردون إلا تصميم الحكومة الإنجليزية على ما تريد، (ولم تفصح التايمس عن تلك العزيمة ما هي ولا ما تصمم عليه الحكومة ما هو لعل كل ذلك هو هذا، لا بد أن نفعل ولا بد أن نترك ولا بد أن نكون ولا بد أن لا نكون).
قالت جريدة التان الفرنسية: إن هذا الخطب الجديد أحدث من القلق في إنجلترا ما لا مزيد عليه، وعموم الناس فيها يعتقدون أنه إن لم ترسل الحكومة جنودا لإنجاد جوردون فهو هالك لا محالة، وجميعهم يعلمون مقدار التبعة التي تحملها الوزارة (الإنجليزية) إذا مات أو أسر جوردون، فإنها هي التي ألقت به في هذه التهلكة، والجرائد عموما - على اختلاف مشاربها - متفقة على القول بأن موت جوردون باشا يكون وصمة في شرف إنجلترا لا تمحوها الأيام.
إن وزير الحربية الإنجليزية يحاور سائليه من الحزب المضاد في مجلس النواب ويراوغهم في الجواب، ويتعلل بأن الحكومة لم تعد المجلس وعدا صريحا بأن تبين مقاصدها في السياسة المصرية، ويزعم أنه لا يمكن أن يفيده بتفاصيل عن أحوال الخرطوم لانقطاع الأخبار، لكنه يعترف بهزيمة الجنرال جوردون وبما هو فيه من الشدة والضيق، إلا أن اللورد نورثبورك لم يزل مصرا على طلبه من الحكومة بيان سياستها في المسائل المصرية والسودانية بالتفصيل، وقال للورد جرانفيل في مجلس اللوردات: إنه لا يرى من السهل في هذه الأوقات أن تفتح الطريق بين سواكن وبربر، وخطأ القائلين بسهولته، وأفاد المجلس بالفشل الذي حل بالجنرال جوردون.
الفصل الثامن والعشرون
أماني إنجلترا في حركات محمد أحمد
صرح اللورد جرانفيل في مجلس اللوردات بأن المقاومة الشديدة التي لاقوها من قبائل العرب ورئيسهم عثمان في سواحل البحر الأحمر لم يكن القصد منها إلا الرغبة في تمكين سلطة محمد أحمد في البلاد السودانية، يريد من هذا أنه لم يحملهم على الثبات والترامي على الموت عدوانهم للإنجليز ولا طمعهم في توسيع الفتح، وإنما كان الحامل هو الدفاع عن شوكة محمد أحمد في السودان خاصة، وهذا من اللورد إما غفلة أو تغفل عن لواحق دعوى المهدوية، بل لوازمها التي لا تنفك عنها؛ فإن القائم بهذه الدعوى لا يقف في سيره عند غاية، ولا يقنع بملك، وإنما يريد بسط دعوته في أقطار العالم وإحياء الأوامر الإلهية التي جاء بها صاحب شريعته الذي يدعي النيابة عنه في تبليغها وصيانتها في نفوس الناس كافة.
وسواء كان صادقا في دعواه أو كاذبا، فلن يتم له أمر ولن تتمكن له سلطة في بقعة من بقاع الأرض - السودان كانت أو مصر أو غيرها من البلدان - إلا بتقدمه إلى ما وراءها حتى يعلي كلمة دينه، ويرد إلى الحق من انحرف عنه، ويكون له التصرف التام في قلوب المسلمين، ويأخذ منها مكانا عليا يشرف منه على مطامح دعواه في غيرهم من الأمم، وسواء يسر الله له النجاح في ذلك أو باء بضده، هذا لا كلام لنا فيه الآن، ولكنا نتكلم في الخصائص الطبيعية لهذه الدعوى العظيمة.
وبعد الوقوف على ما بينا يسقط من النظر قول اللورد جرانفيل في مجلس اللوردات إن حكومته لم يرد لها خبر يحملها على الظن باستعداد محمد أحمد لقبول إمارة كوردفان والاكتفاء بها، ولا يعلم هل قبول محمد أحمد لتلك الولاية يكون حجابا بينه وبين التقدم إلى سواه؟ فقد علمت أن محمد أحمد لم يقم بدعوى الملك، ولا طلب حقا له في الإمارة كان يرثه عن آبائه، وإنما قام بدعوى لا نهاية لأطرافها إلا عند حدود السطوة الإسلامية، فليس يكافئ قوة دعوة إسلامية إلا عزم إسلامي، ولن يكافح هذا المدعي ويرده إلى قدره إلا رجال مسلمون، يدافعون عن الدعوى بما يقوى على إضعافها أو محوها، فإن لم يرد لحكومة اللورد خبر إلى الآن عما ذكره فليطمئن قلبه لعدم وروده في المستقبل، ولا نظن خبرا يأتيه إلا بنقيض ما توهمه - نسأل الله حسن العاقبة.
بعد تحرير هذه الأحرف جاءت الأخبار مصدقة لما قلنا؛ ففي برقية من مكاتب التايمس في الخرطوم أن ثلاثة دراويش جاءوا مرسلين من قبل محمد أحمد إلى الجنرال جوردون، وأرجعوا إليه علامات الشرف التي كان بعث بها إلى مرسلهم، وبلغوه أن محمد أحمد يرفض لقب أمير كوردفان، وينصح الجنرال أن يدخل في دين الإسلام؛ فهو خير له.
الفصل التاسع والعشرون
الحزم والعزم
إن أبناء الأمم الغربية إذا عمدوا إلى قصد لا يفترون في طلبه، وعلو الهمم فيهم تجعل لديهم كل صعب سهلا، وكل بعيد قريبا، يقتحمون المخاطر لاكتساب الشرف، ويتجشمون المصاعب للوصول إليه، وبلغوا من محبة المجد حدا لا يرونه غذاء لأرواحهم فقط، بل عدوه مادة النماء لأبدانهم؛ فهم يفرقون خوفا إذا عرض وهم لفواته، خشية من هلاكهم وذهاب حياتهم؛ لهذا ترى الرجل منهم يجوب فيافي إفريقيا، ويتسنم جبال سيبريا، ويخالط قبائل وشعوبا لا يعرف لهم لغة، ولا يألف لهم عادة ولا أخلاقا، ويتكبد مشاق الحر والبرد والجوع والعطش، وينازل الموت مع من يخالطه من تلك القبائل البعيدة عنه في جميع أوصافهم، وهو في كل وقت يقع بين أنياب المنية منهم، ثم يخلص بما يقتدر عليه من الوسائل، كل هذا ما يحتمله طلبا لشرف يكسبه لذاته، أو ابتغاء مجد يحصله لأمته.
ومن هؤلاء الرجال، بل من أحزمهم وأجلهم، صديقنا الهمام البطل الشهير المستر أوكلي أحد نواب البرلمان الأيرلنديين، جاء إلينا من أشهر على عزيمة السفر إلى عبيد، وسألنا أن نقدم له ما يسهل له الوصول من الأمن على حياته، فأجبناه بتحرير رقائم إلى من لهم اليد الطولى في مساعدته، ووردت منه المكاتيب تبشرنا بنوال مبتغاه. وفي هذه الأيام جاءتنا برقيات بوصوله، ومنهم رجال من عظماء الفرنسيين الأحرار ذهبوا إلى مثل مقصده وتوسلوا بمثل وسائله، وهم اليوم يتوسطون الطريق - ونرجو لهم سلامة الوصول.
ورجاؤنا أن يكون في هؤلاء أسوة للشرقيين، لا تقعدهم الأوهام الباطلة، ولا تنيمهم الأحلام الكاذبة، ولقد كان لهم في أسلافهم أسوة حسنة، ولكن من الأسف نحتاج في تذكيرهم بما لهم من سابق المجد إلى ذكر أحوال الحاضرين من غيرهم - ولله الأمر من قبل ومن بعد.
الفصل الثلاثون
أسطورة
ذكروا في أساطير الأولين أن هيكلا عظيما كان خارج مدينة إصطخر، وربما أوى إليه بعض سراة الليل إذا اشتدت بهم وحشة الظلام، وما أوى إليه أحد إلا غالته المنية، فيأتي طلاب أثره لفحص خبره فيدخلون الهيكل في ضوء النهار فيجدونه به ميتا، ثم لا يهتدون لسبب موته لسلامة بدنه من كل ما يعهد سببا للموت، واشتهر أمر الهيكل بين السابلة والقطان وأخذ كل قاصد حذره من المبيت به، حتى ضاقت الدنيا برجل، فاختار الموت على الحياة، وصعب عليه انتحار نفسه بيده فذهب إلى الهيكل لعله يصادف منيته، فإذا بالقرب منه رجال نصحوه وحذروه عاقبة الهلاك فلم يصغ إليهم، وقال: إنما أتيت لتلك العاقبة، وانفلت من نصحائه إلى حيث يظن مهلكه.
فلما توسط الهيكل فاجأته أصوات مزعجة هائلة كأن جمعا عظيما يخاطبه: ها نحن قد أتينا لإتلافك، ها نحن قد أتينا لإزهاق روحك، ها نحن وصلنا لتمزيق بدنك وسحق عظامك، فصاح البائس ألا فأقدموا فقد سئمت الحياة، ولم يتم كلامه إلا وقد حدثت فرقعة شديدة وانحل الطلسم وانشق الجدار وتناثرت منه الدراهم والدنانير وتفتحت أبواب الكنوز، فاطمأن الخائف ونام حتى أصبح، ولما أضحى النهار، وجاء الواقفون على خبره ليحلموا جنازته، وجدوه فرحا مستبشرا يسألهم بعض الأوعية لحمل ما وجده من الذهب والفضة، فاستخبروه قصته ... فبعد البيان علموا أن هلاك من هلك إنما كان بالفزع من تلك المزعجات التي لا حقيقة لها.
بريطانيا العظمى هيكل عظيم يأوي إليه المغرورون إذا أوحشت مظلمات السياسة، فتدركهم المنية بمزعجات الأوهام، وكم هلك بين جدرانه من لا مريرة لهم، ولا ثبات لجأشهم، وأخشى أن يسوق اليأس إليه قوي المريرة، ضاقت الحياة، فما يكون إلا هنيهة يصعد فيها صوت اليأس، فينقض الجدار، وينحل الطلسم الأعظم.
الفصل الحادي والثلاثون
القوة للحق
أخذت دولة بريطانيا في معاملة الشرقيين لهذه الأيام طريقا غير طريقها المعروف، وهي تعلم أن نجاحها في أعمالها لديهم، وبسطة ملكها فيهم، واقتطاف ثمرات جنانهم؛ إنما كان بذاك الطريق المعهود، كأني أراها اليوم اكتنهت حقائقهم، وسبرت خلائقهم، ووصلت إلى مكنونات صدورهم، تجاوزت من ظواهرهم إلى ضمائرهم، وأدلت بخراطيمها إلى قلوبهم، فأحست سكوتا، فحسبته يبسا من شدة الجبن، وسرت بدقتها في أوعية دمائهم، فشعرت منها بفتور ظنته وقوفا من شدة الضعف، فكان من حسبانها أنهم في نهاية العجز عن أعمالهم، والقيام بشئونهم.
أو أنست منهم الركون إلى المراتب التي نقلت عن معانيها الأصلية، وجردت عن مدلولاتها: كناظر، ووزير، ووال، وأمير، وهي أشبه بقباب عالية، إلا أنها خاوية خالية، فكان من زعمها أن أمراء الشرق شغلتهم بهرجة هذه الصور الظاهرية حتى أنستهم منافعهم الحقيقية، وضرورات حياتهم الجنسية أو الملية، وقنعوا بما يشيده الوهم ويزينه الخيال، هكذا ظنت كما تدل عليه أعمالها، ولم يكن ذلك معهودا منها.
دخلت دولة الإنجليز بلاد الهنديين، ومدت عينها إلى ما متعهم الله به من أراضيهم، وطمحت إلى اختطافها من أيدي المسلمين، إلا أنها ذهبت مذهب اللين واللطف، وخفض جناح الذل، والظهور في ألبسة الخضوع والخشية، وصابرت على هذا السير أزمانا تقطع مسافات كثيرة في مدة طويلة.
نعم، كانت تتدرج في نقض أساس السلطنة التيمورية حجرا حجرا، وتتملك أراضيها قطعة بعد قطعة، لكن بدون تعرض للسلطنة الظاهرية ولا مس لنفوذها، كانت تغري الولاة من النوابيين والرجوات بالخروج على السلطان التيموري، ثم تنوب عنه بالعساكر الإنجليزية والصينية للتغلب على الخارجين تحت اسم الملك، ولا تمس رسومه الملوكية بل تقلب نفسها خادمة مأمورة، هكذا كان سيرها، وهو المألوف من عوائدها.
أما في مصر فقد أظهرت مقاصدها لأول خطوة، باكورة أعمالها بعد دخول تلك البلاد غل أيدي الحكومة، ومعارضتها في جميع أعمالها، وصدها عن تعاطي شئونها، وربما كان يخيل للناظر في حركات تلك الدولة أيام كانت تهيئ أسباب الفتنة السابقة ومساعيها لتقوية ثورة السودان، أنها تسلك سبيلها في الهند، ولكن يرى منعها السلطان العثماني عن المداخلة في إصلاح بلاده المصرية والسودانية، مع ما له فيها من الحقوق الشرعية والقانونية منعا صريحا، وفي معارضة ولاة مصر وحكامها في كليات الأمور وجزئياتها أنها انحرفت عن مشربها وأخذت مذهبا غير مذهبها.
كليفور لويد مستشار الداخلية في مصر، وهو بحكم وظيفته من الطبقة الوسطى في مأموري الحكومة، يتحكم على جميع الوزراء المصريين، ويعارضهم في تصرفهم، ويضع للبلاد شرائع وقوانين من تلقاء نفسه، ويخالف توفيق باشا في أوامره (إلا أنه لا يحسب عاصيا حتى ألجئوا نوبار باشا رئيس النظار
1
إلى تقديم استعفائه بعد العجز عن مقاومته)، وضاق صدر توفيق باشا من صلابته في آرائه، ولم تر الحكومة الإنجليزية عزله وإبداله بغيره، وزعمت أنها لو عزلته لأهانت تاج بريطانيا العظمى، ثم عالجت هذا الارتباك بتوجيه أوامرها إلى كليفور لويد بأن يقف عند حدود وظيفته ولا يتجاوز دائرة أعماله، التي تسمح له بها طبيعة الوظيفة وخصائصها المحدودة.
وكان للظنون مجال لحسن الظن بدولة بريطانيا، غير أن جريدة التايمس كشفت القناع، ولم تبال بما يخدش خواطر الأمراء الشرقيين ازدراء وامتهانا، ومزقت الستار الذي أقامته حكومتها حجابا لمقصدها في إلزام كليفور لويد بما ألزمته، فقالت: إن وزارة نوبار باشا مؤلفة من دمى (صور وتماثيل) نظمت في أسلاك، أطرافها بيد الحكومة الإنجليزية تحركها كيفما شاءت، فعلى كليفور لويد أن يدير الشئون المصرية بواسطة هذه الألاعيب، تريد أن الحل والعقد في جميع الأحوال إنما هو للوزارة الإنجليزية لكن من وراء الحجاب ... ثم اعترضت هذه الجريدة على إقامة هذا الحجاب فقالت: إنه وإن كان مفيدا إلا أنه يضر بمصالح إنجلترا ومصر معا (وكان على الحكومة الإنجليزية أن تجهر بولاية الأحكام في مصر كما صرحت بذلك مرارا).
أسرعت دولة إنجلترا في سيرها إلى ما تروم في الأقطار المصرية، بل تهورت على خلاف عادتها، وقد يكون مع المستعجل الزلل، لا نظن من الحكمة ما أتته من الأعمال في مصر وربما وجب عليها تدارك ما فرط منها، إن محمد أحمد شمخ أمره وعظم خطره وهو من ورائها لا عائق له في سيره، والقوى تجتمع إليه يوما بعد يوم، وبعدما تراه في غير هذا المحل من أخباره جاءت أواخر الأخبار بأن المواصلات انقطعت بين القاهرة وبين بربر بالمرة، وأن جماهير الثائرين يزيد عددهم حول مدينة بربر وقتا بعد وقت لقصد محاصرتها، ويغلب على ظن الكافة أنهم لا بد أن يغيروا على المدينة بعد قليل ويلتحموا مع حاميتها بموقعة يكون فيها الفصل، وأن مدير بربر أعياه الإلحاح على الحكومة لتنجده بعساكر إنجليزية ليفرجوا عن المدينة وينقذوا حاميتها، وإلا هلكوا.
فما ركبته إنجلترا من طريق التصرف في الإدارات المصرية يخلف ظن المصريين فيها ويقطع أملهم من وفاء وعودها، ويوجد عليها نفوس الأمراء منهم ويوغر صدورهم، ويحقق لدى العلماء أن من قصدها التصرف في ولاية بلادهم كما يتصرف الملاك، فيلتجئون بحكم الضرورة إلى تلبية محمد أحمد في دعوته أو مساعدته على بعض أعماله، أو تخاذلهم بين يديه وفتح الأبواب له.
ولا نظن أن إنجلترا يخفى عليها أن علماء مصر هم أساتذة لعلماء المسلمين شرقا وغربا، وأن الجامع الأزهر معهد العلوم الشرعية تسير إليه الركاب من جميع الأقطار، ويقصده المسلمون من كل ناحية لدراسة الدين وروايته، فلو حزبهم الأمر وأعوزهم الصبر ورأوا ولاية الدين في قبضة من ليس منهم، فبمجرد إشارة خفيفة وإيماء إلى موافقة محمد أحمد، سرا كان أو جهرا؛ كاف لإيقاد نار الفتنة في جميع أرجاء البلاد الإسلامية، وتسابق القلوب إلى الاعتقاد بالمدعي والتفاني تحت رايته، وليس في استطاعة دولة إنجلترا أن تتصرف في أهواء القلوب ولا حركات الأفكار، وإن أسلحتها الجديدة لا تبدد جحافل الخواطر، وشتان بين هذه الفتنة وبين التي يسمونها فتنة عرابية - نسأل الله العافية وحسن العاقبة.
الفصل الثاني والثلاثون
الجرائد الإنجليزية والعروة الوثقى
لو نادينا الغافلين: أن انتبهوا، والنائمين: أن استيقظوا، واللاهين بحظوظهم أو أمانيهم أو أوهامهم: أن التفتوا، ولو أنذرنا أهل مصر بأن الإنجليز لو ثبتت أقدامهم في ديارهم لحاسبوا الناس على هواجس أنفسهم، وخطرات قلوبهم، بل على استعداد عقولهم، ولما عساه يخطر ببالهم؛ لقال الناس إننا نبالغ في الإنذار، ونغرق في التحذير.
ولو بينا لهم أن الإنجليز يؤاخذون الأبناء بذنوب الآباء، والأحفاد بجرائم الأجداد، ويطالبون الذراري بدفائن أسلافهم، وإن لم يكن للخلف علم بما ترك السلف؛ لعدوا هذا البيان منا شطا في المقال، وميلا عن الاعتدال.
ولو روينا لهم أن في قلوب الإنجليز حقدا وضغينة على كل إيراني سواء كان من الأفراد أو الوجوه، ويسيئون معاملتهم حيثما وجدوا من بلاد الهند، ويمقتونهم مقتا شديدا؛ لأن نادر شاه - من ملوك العجم - جاء إلى الهند فاتحا على عهد السلطنة التيمورية، واستولى على خزائن الأموال في دلهي، وأخذها إلى بلاده قبل استيلاء الإنجليز على تلك المملكة بما ينيف عن قرن، ويعضون الأنامل من الغيظ، ويحرقون الأرم من الأسف على ما أخذه نادر من أموال دلهي، وحرمانهم من تلك الأموال، ويحملون هذا الوزر على عاتق كل إيراني؛ لحسبوا ذلك منا تعاليا.
ولو قصصنا عليهم ما يعامل به الإنجليز رعاياهم في الهند عموما والمسلمين خصوصا، وأنه يكفي لنفي عالم من علماء المسلمين إلى جزائر أندومان أن يعترف بأنه معتقد ببعض آيات من القرآن؛ لأنكروا علينا ما نقول، لبعدهم عن تلك الأقطار وعدم وقوفهم على أحوالها.
ولسنا الآن بصدد إقناع المصريين بما نعلم من أحوال الإنجليز ولا نريد إقامة الدليل على ما نعرفه من أحكام سلطتهم، فلا نذكر ولا نبين ولا نحكي ولا نقص، ولكن نعرض عليهم نموذجا من المعاملة لعله يكون للمتبصرين مرآة تحكي ما غيب عنهم من لوازم السلطة الإنجليزية.
عزمنا على إنشاء جريدتنا هذه فعلم بعض محرري الجرائد الفرنسية، فكتبوا عنها قبل صدورها غير مبينين لمشربها، ولا كاشفين عن حقيقة سيرها، فلما وقف على الخبر محررو الجرائد الإنجليزية المهمة أخذتهم الحدة، واحتدمت فيهم نار الحمية، وأنذروا حكومتهم بما تؤثر هذه الجريدة في سياسة الإنجليز ونفوذها في البلاد الشرقية، ولجوا في إغرائها بها، وألحوا عليها أن تعد كل وسيلة لمنع الجريدة عن الدخول في البلاد الهندية والبلاد المصرية، بل تطرفوا فنصحوها أن تلزم الدولة العثمانية بالحجر عليها.
كل هذا كان منهم قبل صدور أول عدد من جريدتنا، وقبل أن يقف ولا واحد منهم على مذهبها السياسي، مع أن هذه الجريدة لم تنشأ لإثارة الخواطر ولا لإيقاد الفتن، وإنما أنشئت للمدافعة عن حقوق الشرقيين عموما، والمسلمين خصوصا، وتنبيه أفكار بعض الغافلين منهم لما فيه خير لهم، ولقد صدرت سالكة جادة الاعتدال، ذاهبة مذهب الاستقامة والعدل، كما يظهر لكل من اطلع عليها، فليعتبر المعتبرون بهذا الإجحاف والاعتداء والقصاص قبل الجناية، ومن كان سمندري الطبع فليهنأ له العيش في ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني عن اللهب . ولكن فلتعلم الحكومة الإنجليزية أننا لا يعجزنا بث أفكارنا في البلاد الشرقية، سواء كان بهذه الجريدة أو بوسيلة أخرى، إذا دعا الحال؛ فإن أنصار الحق كثيرون.
الفصل الثالث والثلاثون
عجز ومراوغة
طنطنت الجرائد الإنجليزية ورجال السياسة في بريطانيا بنجاح الجنرال جوردون في مأموريته بعدما وصل الخرطوم بأيام، ثم انعكس الأمر عليها وأظهرت الجزع مما حل به من الخيبة في أعماله، والإشفاق والارتجاف مما يتوقع نزوله من الخطر، وأجمعت على أن ما يصيب جوردون من قتل أو أسر يكون وصمة في شرف إنجلترا إلى الأبد وعارا عليها لا يمحى، ولا مداركة لهذا الخطب العظيم إلا بإرسال العساكر الإنجليزية إلى الخرطوم.
إلا أنه في هذه الأيام بعد العجز عن إرسال العساكر لم يعد لوزراء إنجلترا أو رجال حكومتها عذر للتملص من هذا العار الذي يلحق بهم، فقال المسيو جلادستون وزير الحربية الإنجليزية إن الجنرال جوردون لم يؤمر بالإقامة في الخرطوم إلى أجل غير محدود حتى يحتاج نجدة عسكرية تخلصه مما عساه يقع فيه، بل كان فيما أمر به أن يخرج من المدينة عندما يرى لزوما لذلك، على أن الجنرال لم يطلب إعانة عسكرية، فالوزارة الإنجليزية لا تتحمل تبعة ما نزل بجوردون إلا بعد أن تقف على أفكاره ومطامح أنظاره، ولا وقوف لها إلى الآن على شيء منها، والأوامر التي أصدرتها إليه في الأيام الأخيرة لم يرد لها خبر عن وصولها.
ومن كلام وزير الحربية أن الحكومة الإنجليزية تدبرت من أيام في إرسال فرقة عسكرية إلى بربر، وبعد إمعان النظر في لزوم ذلك رأت عدم الإرسال أولى، وأنهى كلامه بقوله: إن حكومته لم تأخذ على نفسها إعادة السلطة المصرية في السودان، ولا تقرير أي حكومة فيها، وإنها تلقي اليوم على نفسها كل تبعة توجه إليها في شئون السودان، وأما سواكن فسيقام بها حامية قليلة العدد إلى أن يبرم اتفاق (بينهم وبين مصر).
وكلام هؤلاء الوزراء قد لا يخلو من غرابة؛ فإن منشورات جوردون التي نشرها بعد دخوله الخرطوم على قبائل العربان ورسالته إلى المهدي لم تنكرها الحكومة الإنجليزية، بل دافعت عنها ودفعت الاعتراضات التي وجهت إليها، وكان فيها أنه وال على السودان (بل سلطان) من قبل دولته والحكومة المصرية، وأنه بما له من حق الولاية يمنح محمد أحمد لقب أمير كوردفان، ويبيح بيع الرقيق، ويدعو العرب إلى الطاعة، فتلك المنشورات صريحة في أن بعثته كانت لإقرار حكومة في السودان، والمدافعة عن بعض الولايات فيه، وأنه فيما يعمل مؤتمر لحكومته، وإلا كان كاذبا والحكومة دافعت عن كذبه رجاء أن ينجح فيه، فلما أخفق لم تجد بدا من البراءة منه.
وقالت جريدة التان الفرنسية: إن وزير الحربية الإنجليزية يدعي في مجلس العموم أن الجنرال جوردون لم يطلب نجدة عسكرية إلى الخرطوم، مع أن الأخبار التي وردت إلى جريدة التايمس من مصدر يكاد يكون رسميا ونشرناها من قبل؛ تكذب ما قاله الوزير، وتؤكد أن والي الخرطوم (الجنرال) كانت منتظرا ورود العساكر الإنجليزية إليه وقتا بعد وقت، وتحققت حاجته لذلك عند الكافة من أهالي لندن، حتى كان تدبر الحكومة في إرسال فرقة إلى بربر مبنيا على هذا؛ لتفتح طريق مصر العليا، لكن أقعدها تصور ما تكابده الجنود من المشاق والمتاعب، بل ما يحل بها من التلف.
وقد عرضت جريدة «البال مال جازيت» بالطعن على حكومة إنجلترا، ولوحت بلومها على ما أظهرته من العجز والمراوغة، حيث قالت: فليعلم الجنرال جوردون أن الحكومة الإنجليزية بعد إضرابها عن إرسال العساكر إلى بربر يستحيل عليها أن ترسل عساكر إلى الخرطوم، وقالت: إن المسيو بوير قنصل الإنجليز في الخرطوم كان ينتظر المدد العسكري يوما بعد يوم وفي ظنه أن حكومته تسعفه بذلك، لكنه يجب عليه الآن أن يعلم أنها تركته وأصحابه ووكلتهم إلى أنفسهم.
فعليه أن يتدبر في أمره بنفسه، موقنا أن الحكومة الإنجليزية تفضل إخلاء السودان وتعريض حامية المدن ومن فيها من رجالها لمدى أشايع محمد أحمد تفتك بهم على إعداد أي وسيلة لإنقاذهم، وأتبعت قولها هذا بتهكم على الوزراء فقالت: من زعم أن إرسال جوردون إلى السودان لم يأت بفائدة فقد أخطأ خطأ عظيما؛ فإن أعظم فائدة ترتبت عليه بقاء الوزارة الإنجليزية وصيانتها من السقوط، فإن حياتها كانت موقوفة على سفره من لندن، ولولاه ما خلصت من الخطر الذي كان محدقا بها، ولما بقيت في قيد الحياة إلى الآن، وأنعم بها من فائدة جليلة لمصر وإنجلترا، فكفى الأمتين سعادة أن تهدر شقاشق الوزارة فوق المنابر.
هكذا تعتع المستر جلادستون وزملاؤه في الكلام على المسألة السودانية، وسلكوا طريق المواربة وتبرءوا من تبعتها بعدما ساقوا إليها الجيوش والقواد؛ بقصد إخماد الثورة وتقرير الراحة، وهو قرار سياسي تبع الانهزام العسكري، يكشف لنا عن قوة محمد أحمد ومنعته ويأس الدولة البريطانية عن ملافاة أمره، وأن نيتها الاقتصار على التحصن فيما دون حدود مصر الطبيعية، بل على الحلول في مصر السفلى حتى تحفظ القنال، وتتصرف في أراضيها الخصبة، وتقف على أبواب التجارة، ترقب حركات المارة، وتشيع الذاهبين والآيبين ما بين الشرق والغرب، وتقنع بالتحكم في بعض الضعفاء من المصريين.
وإنا لا نعلم ماذا تكون العاقبة إذا أصبح السودان بأسره في حوزة محمد أحمد، واعتصم في قاعدة تلك الأقطار الشاسعة، ولا عاصم له إلا بالإيغال في سيره وبث دعوته بين جميع القبائل العربية، بما يستطيع من الحيل أو القوة، أفلا ينتهي بعد هذا إلى سوق جيوشه الكثيفة إلى حدود مصر العليا؟! ربما، بل يغلب على الظن أنه يفعل ذلك، فإن لم يفعل فهي شعلة الثورة تسري بطبعها وتضطره إلى اقتفاء أثرها.
جاءت الأخبار من أيام قطع الثائرين لخطوط التلغراف بين أسوان وكورسكو، وأين كورسكو من أسوان؟! هي على مقربة منها والمسافة بينهما كما بين قنا وأسوان، وفي أخبار أخرى أن للهيجان والتحرش للخروج أثرا ظاهرا في أطراف مصر العليا، فإذا قدر الله وصارت حدود مصر العليا معارا للحركات الحربية، وهو مما لا تعده الحوادث، فهل يبقى المصريون وقبائل العربان في الفيوم والبحيرة والشرقية وجميع أنحاء القطر المصري على سكونهم بعدما رأوا من ضعف الإنجليز وعجزهم ما رأوا، وبعدما يشهدون سيلا قويا ماؤه من مائهم ينصب إليهم ، وبعدما حرجت صدروهم وضاقوا ذرعا من تصرف الإنجليز في حكومتهم؟
يغلب على الظن أن ما لهم من سرعة الاعتقاد بالظافر خصوصا إن كان قائما بدعوة دينية، وما ضاقت به صدورهم من الاستبداد الإنجليزي، وما ذاقوه من آلام الفقر والفاقة والذل والهوان من نحو سنتين، وما يتوقعونه من رزايا دينهم ودنياهم في المستقبل إذا رسخت قدم الإنجليز في مصر؛ كل هذا يبعثهم على تقبل دعوة الداعي بقبول حسن وانحيازهم إليه.
إذا جاء هذا الوقت - وهو ليس ببعيد - فربما تجد إنجلترا في مصر أفغانا أخرى، وتخشى من ظهور عجزها فتوارى خلف بعض من الحيل والتعللات، وتستدعي من المسلمين من يكون قوي الشكيمة شديد البأس؛ لتقرير السلم وتمكين الراحة، وتعود إلى جزائرها راضية من السلامة بالإياب، ولعل ذلك غير بعيد عن العقل، وإلى الله المآب.
الفصل الرابع والثلاثون
إنجلترا والجيش
وردت الأخبار أن الأميرال هفت وصل إلى مصوع حاملا هدايا ثمينة إلى ملك الحبشة، وكنا في العدد السابق بينا ماذا يريد الأميرال من مواصلة الملك يوحنا، وأن الدولة الإنجليزية بعدما فشلت عساكرها في سواحل البحر الأحمر، وعجزت عن تجهيز جنود جديدة تسوقها إلى أواسط السودان؛ التجأت للاستنجاد بملك الحبشة واستمداد مساعدته على مسلمي السودان، وكان حسن ظننا بدولة متمدنة كدولة بريطانيا يمنعنا من التصديق بعزمها على إثارة حرب خشنة، لكن من الأسف أن الإفادات التي وردت هذا الأسبوع تؤكد أن إنجلترا عازمة على النكاية بالمسلمين في السودان، من حيث هم مسلمون لا لإطفاء ثورة، ولا لترويج مدنية.
وفي الظن أن هذا هو الذي بسط يدها بالهدايا الثمينة تتحف بها ملك الحبش، وإلا فخلائقها من حيث هي دولة تجارية لا تسمح لها بهذا السخاء، وتنهاها عن البذل إلا أن ينقد لها الربح أضعافا مضاعفة، أي ربح لها أعظم من توددها إلى دولة خشنة ترمي بها طائفة من المسلمين بغية الفتك والنكاية حتى تخيف بذلك بعض من تخشى بأسهم من أبناء ملتهم.
على أنا لا نزال في ريب من نجاح مسعاها، ولو أنها نجحت في إقناع ملك الحبشة بالتهور في حرب مع السودانيين فما عساها تسمي هذه الحرب؟ لا نرتاب في أنها ليست لكسر شوكة التوحش ووضع قواعد المدنية؛ فإن أحد المتحاربين لا يمتاز عن الآخر في أخلاقه وعوائده وأفكاره، بل ربما كان السودانيون بما استفادوه من الحكومة المصرية مدة سنين؛ أقرب إلى المدنية من الحبشيين، ولا يمكن أن تكون حربا للفتح وتوسيع الملك؛ فإن الحبشة لا مطمع لها في توسيع ممالكها إلى الجهات الغربية من السودان ولم يعهد لها ذلك في التاريخ، وغاية ما كانت تبتغيه أن تكون حدودها الطبيعية محفوظة من تعدي جيرانها عليها.
فلا اسم لهذه إلا الحرب الدينية، تذكر الملل بما كاد يمحى أثره من المحاربات الصليبية، وتوقد في الأفئدة نار التعصب الديني، فلو فتحت دولة إنجلترا باب هذه الفتنة أفلا تحترق قلوب المصريين بهذه النار؟ وهل ترجو هذه الدولة من بعد ذلك أن يستقر لها قدم بينهم، وهل تأمن أن يثور سكان جزيرة العرب تحت هذا العلم الذي يظل ملايين كثيرة تعلم عددها وتحس بحاجتها إلى مسالمتها، نظن أن حكومة بريطانيا تسعى بتخبطها هذا إلى ما لا محيد لها عنه، وتجتهد في تقريب البعيد وما كان أغناها عن هذا كله.
الفصل الخامس والثلاثون
رأي المستر بلونت في المسألة المصرية (إنجليزي حر ينصف المصريين)
إن مستر بلونت الذي اشتهر بمحبة المسلمين والمدافعة عن المصريين، لما رأى ما وصلت إليه المسألة المصرية من الارتباك واشتداد الخطب فيها على حكومة إنجلترا وصعوبة تدارك الخلل الذي عرض لها؛ تدبر في حل للمسألة ونشره في التايمس فأحببنا نشره في جريدتنا مجملا وهو:
على الحكومة الإنجليزية أن تتفق مع سائر الدول على جعل البلاد المصرية مستقلة في إدارتها (يريد بذلك أن يكون حكامها منها لا من دولة أجنبية) ويكون الكافل لهذا الاستقلال جميع الدول بدون امتياز قوانين التصفية، واختصاصات الأجانب يجب تعديلها، كل مسألة يقع فيها اختلاف فلا يكون إنهاؤها إلا باتفاق الدول الأوروبية ، تحكم فيها بما تشاء، لا ينبغي أن يكون في الجندية ضباط من الأجانب، وقنال السويس يلزم أن يعتبر طريقا عاما يشترك فيه جميع الأمم ويكون تحت رعاية الدول جميعا، يجب أن تكون إدارة البلاد بيد حكومة يقيمها الأهالي بانتخابهم.
الفصل السادس والثلاثون
بريطانيا تمسح ظهر توفيق باشا
قالوا: إن زنجيا أسود، هائل المنظر، غليظ الشفتين مقلوب المشفرين، جاحظ العينين أحمر الحدقتين، بشع الوجه، أفطس الأنف، منكر الصورة، وكان يحمل ولدا في ليلة مظلمة يسير به في زقاق من أزقة بغداد، والولد كلما نظر إليه يفزع ويبكي وينتحب ويصيح ويعول، وكلما اشتد به الفزع مسح الزنجي ظهره وقال له: لا تخف يا ولدي فإني معك وأنيسك وحافظك من كل شر، وبعد تكرير هذه الملاطفات من الزنجي للصبي قال الصبي: يا سيدي إنما خوفي وفزعي منك لا من وحشة الظلام!
هذا شأن حكومة إنجلترا مع المصريين، كلما اشتدت الخطوب وعظمت المصائب وزاد الخلل في البلاد المصرية، مسحت حكومة بريطانيا على ظهر توفيق باشا ووزرائه بيدها الناعمة (وإنما هي نعومة الثعبان)، وأقبلت على الأهالي تمنيهم بوعودها المرونقة، وتقول لهم: لا تحزنوا؛ فإني معكم، وجميع المصريين من توفيق باشا إلى وزرائه إلى عامة الأهالي يجئرون وينادون: إنما خوفنا وجزعنا منك، وراحتنا واطمئناننا بتنحيك عنا وتركنا وشأننا.
الفصل السابع والثلاثون
أضحوكة
قال مستشار خارجية إنجلترا لبعض سائليه في مجلس البرلمان: إن الجنرال جوردون عندما أجاب محمد أحمد على بلاغه الأخير لم يخاطبه بلقب سلطان كوردفان، بل عنون الجواب بلفظ شيخ، وبناء على هذا فقد صار لقب سلطان كوردفان الذي منحه له الجنرال جوردون لاغيا، يعني أن محمد أحمد خلع من سلطنة كوردفان عندما طمح نظره إلى الخرطوم وطلب من الجنرال أن يدخل في دين الإسلام، لكن محمد أحمد لم يتمتع بتلك السلطنة اللفظية؛ لأنه لم يقبلها عند عرضها عليه، فلا يحزن من هذا الخلع الجديد، أليس بعجيب أن يسمع من أفواه رجال سياسة بريطانيا مثل هذه المهملات، بعدما قيل فيهم إنهم من أدهى رجال العالم ؟! ولعل الأضاحيك من أساليب السياسة عندهم.
الفصل الثامن والثلاثون
المسألة المصرية والإنجليزية
إن للحكومة الإنجليزية شأنا في المسألة المصرية، يخال للناظر فيه أنها في تردد بين إحجام وإقدام، وأن مقارعة الآراء واختلاف الأهواء يزداد بين سكان بريطانيا كلما ازدادت الخطوب شدة في مصر، نعم، إن أرباب الرأي في الأمة الإنجليزية فريقان: فريق منهم يدفع حكومته إلى الإعلان بسيادتها على الديار المصرية واستلام إدارتها، وبعبارة أخرى إلى ضمها لأملاكها، ويحملها بذلك على غمط حقوق الدولة العثمانية وأهالي القطر المصري والاستهانة بحقوق الدول جميعا، وهذا فريق الجمعيات والشركات المالية، ويذهب مذهبهم بعض الوزراء، وينصر آراءهم عدة من الجرائد أشهرها جريدة التايمس.
واشتدادهم في صخبهم ونعيرهم نبه الأفكار وأقلق الخواطر في الأمة الفرنسية، فانطلق لسان جرائدها بالوعيد والتهديد، وصرحت الجرائد الوزارية منها وجرائد الأحزاب الجمهورية، وهي ذات السلطة في البلاد الفرنسية، بأن حكومة فرنسا وإن كانت غضت طرفها عن أعمال إنجلترا في القطر المصري من يوم حملتها عليه إلى الآن، ولكنها لا تهمل شيئا من مصالحها وحقوقها وجميع الدول الأوروبية تعززها.
وليس لإنجلترا في مصر ما تمتاز به عن بقية الدول، ومن الجهل أن يظن سياسي في المسألة المصرية أنها مصرية أو إنجليزية أو فرنسية، فإنما هي مسألة أوروبية، وقد اقتربت الساعة التي تجهر فيها الدول في المدافعة عن حقوقها في الأقطار المصرية، إن للدول حقا في التداخل لحل هذه المشكلات بعدما عجزت إنجلترا عن القيام بما تعهدت به من إقرار الراحة في مصر، فإن الفوضى في هذه الأيام أشد منها في زمن الحركة المعروفة بالعسكرية، وفتنة السودان تلاطمت أمواجها على حدود مصر، والهواء الأصفر (الكوليرا) أن تكون له رجعة إلى تلك البلاد السيئة الحظ.
وما هذا كله إلا من آثار الحلول الإنجليزية في وادي النيل، أما إن أرادت دولة إنجلترا أن ترسم بسيادتها أو ترفع أعلام حمايتها على القطر المصري، فما للدول من حق التداخل يصير فرضا لازما وضربة لازب لا محيص عنها، إلا أن كل هذه التهويلات لم تعدل بذلك الفريق الإنجليزي عن مقصده ولم تتحول به عن مشربه، فلا تزال جرائدهم تنعق بطلب الحماية على مصر، وهم في عمى عن العوائق والموانع التي تصد حكومتهم عن الانصياع إليهم.
أما الفريق الآخر من الأمة الإنجليزية، ومنهم وزير داخلية إنجلترا ومستر جلادستون - فيما يقال، فيظهرون التعفف والنزاهة، بل يصرحون في خطبهم بأن حكومة بريطانيا لا تستطيع احتمال إدارة البلاد المصرية، وليس في إمكانها ضمها إلى أملاكها، ولو همت بذلك لرأت من الدول أشد الممانعة، وربما رجعت بالخيبة، على أنها تكون قد سنت سنة سيئة في نقض العهود، وإخلاف الوعود، وفتحت للدول هذا الباب، باب الشر والعدوان، هذا ما ينطقون به على منابرهم ويزعمونه نبأ عما في خواطرهم.
ولكن هؤلاء المتعففين لهم في كل وقت عمل لتمكين أقدامهم في مصر، ولا يخالفون الفريق الأول إلا في شقاشق الألسن. هؤلاء هم الذين حولوا الإدارات المصرية ودوائر حكومتها العليا إلى السيرية، واستلموا زمام العسكرية والمالية وإدارة الداخلية والمحاكم القضائية وتصرفوا في أعمالهم تصرف الملاك، فاستبدوا على المتوظفين من المصريين، وغلوا أيديهم عن تعاطي أشغال وظائفهم، حتى آل بهم الأمر إلى ما صرحت به الجرائد الإنجليزية من أنهم أشباح ورسوم تلوح بين جدران الدواوين غدوة وعشيا.
هؤلاء هم الذين يحاول نوابهم ومأموروهم في القطر المصري أن يلزموا أهاليه بتحرير محضر يلتمسون فيه حماية إنجلترا وسيادتها عليهم وإن لم تنجح الحيلة، هؤلاء هم الذين هموا الآن بتغيير نظام المالية المصرية ورغبوا إلى الدول في عقد مؤتمر بلندن لتغيير قانون التصفية، ويريدون أن يجعلوا ذلك ذريعة للاتفاق مع الدول، على أن تكون الديون المصرية بأسرها تحت ضمانتهم، لتقوم لهم الحجة في الاستيلاء على مصر بعد زمن قصير أو طويل، أو ليمهدوا به طريقا لمن يخلفهم في الوزارات الإنجليزية ينتهي بالسير فيه إلى تلك الغاية بعينها، وما طلبوا الماجور بارين وكيلهم السياسي في القطر المصري إلا ليحضر هذا المؤتمر.
هذا ما يهيئه الإنجليز لأنفسهم ولكن ماذا تعد الحوادث لهم، وكتبوا على أنفسهم تخفيف مصائب الحكومة المصرية في السودان، وعقدوا لقوادهم الألوية، وأعدوا لهم العدد، وكتبوا الكتائب؛ فسفكت دماؤهم بعدما ضل سعيهم ، ظنوا أن بعض رزاياهم في سواحل البحر الأحمر فرصة للاستيلاء على السودان الشرقية، فبعد الجهد ومعاناة الكفاح من عراة العرب تمكنوا من الرجوع بالخيبة، قنعوا بالاعتصام في حصون القاهرة وما يليها فأزعجهم دوي السيل المندفع عليهم من الجهة الجنوبية، وإغارة ثائرة السودان على شندي وافتتاحها، واشتداد الحملة منهم على بربر والخرطوم.
وزادهم خوفا ورهبة انتقاص كثير من القبائل على مقربة من وادي حلفا وأبي حمد، وأوشكت طائشة الفتنة أن تأخذ بقلوب الأهالي فيما تحت أسوان، وأفزعهم ما أحسوه من أهالي القاهرة ومصر السفلى من تحول القلوب وضيق الأنفس، حتى اضطروا لزيادة الحرس فيها، مع أن زيادة المعهود في المصريين أنهم أهل السلم والراحة.
قصدوا بكل هذه حماية طريق الهند خوفا على الهند، فبعدما ورد إلينا من أصدقائنا في لاهور أن لدعوة محمد أحمد في قلوب الهنديين منزلة، وأنه لو لم يكن مهديا فالضرورة قاضية عليهم باعتقاده كذلك عسى أن يكون في هذا الاعتقاد جمع لكلمتهم على التخلص من رق الإنجليز، جاءت البرقيات شاهدة على صدق ما كتب إلينا.
ففي الأخبار البرقية أن رجال الشرطة في سملا وجدوا إعلانات ملصقة على جدران المدينة مما كتب فيها إغراء المسلمين بإجابة دعوة محمد أحمد والقيام بنصرته، وسملا هي في آخر الممالك الهندية الإنجليزية من جهة الشمال الشرقي على القرب من لاهور، وهذا ما كنا نخشاه ونبهنا عنه مرارا، وربما تكون هذه الصدمات الشديدة التي صدعت إنجلترا بعد استفحال أمر محمد أحمد كافية في إذعانها بأن عاقبة الثورة السودانية أشد خطرا عليها من عاقبة الحركة التي سموها عرابية.
رام الإنجليز بكل هذه الاحتياطات المقيدة أن يقرروا الراحة في مصر فإذا الأموال تنهب، والحقوق تضيع، والإدارات في فساد والتجارة في كساد، والزراعة في بوار، والظلم في اشتداد، والأمن مسلوب حتى الأرواح والأعراض، كل هذا باعتراف جرائدهم ووزرائهم وشهادة الجرائد المصرية الوطنية وإجماع السياسيين في أوروبا على أن الشقاء الذي ألم بأهل مصر بعد تداخل الإنجليز - ناشئا عن هذا التداخل - لم يرزءوا به في زمن من الأزمان من عهد محمد على إلى الآن، فأنعم بهذه الوسائل التي أعدها الإنجليز لتقرير الراحة في مصر! وأجمل بالوسائط التي استعملوها لحماية الهند!
هذه بدايات القلاقل وبوادر المخاطر التي نشأت من شدة احتراس الإنجليز وحرصهم على وقاية أملاكهم أو توسيعها، يظهر من جعجعتهم إذا صاح بهم داعي الحرب وحيرتهم من أين يجندون الجنود هل من الهند أم من إنجلترا؟! ومن موازينهم العسكرية أن ليس لهم قوة برية لحفظ الممالك الواسعة، فكيف يستطيعون التصرف في مصر لو سادوا عليها، وهي كما قال وزير داخليتهم: تحسب مملكة أوروبية لا تسود فيها الأوهام ولا تدوم فيها سلطة الحيل، إن لم يكن من المصريين فمن الأوروبيين، وأي قوة تصون لهم الهند من فتنة إذا امتد زمن الاضطراب في مصر؟! وقد جاءنا من أخبار الهند أن عموم المسلمين في هياج شديد ويخشى أن تثور فيهم ثائرة عندما يتقدم محمد أحمد خطوة أخرى.
هذه العواقب السيئة وما يتوقع من مثلها أو أسوأ منها لدولة إنجلترا إنما هي حلقات في سلسلة أغلاطها من استيلائها على قبرص، فإنها اختلست تلك الجزيرة لمراقبة طريق الهند، فنافستها فرنسا، واستولت على تونس، فتخوفت على قنال السويس أن يساق إليه جيش بري من إفريقيا الغربية، فسعت في الإيقاع بين الجند والحاكم في مصر وتذرعت بذلك للغارة عليها، فنزل بها في تلك ما نزل.
وبعث ذلك دولة فرنسا على ما بلغنا من مصدر يوثق به إلى السعي في طريق يوصلها إلى مناكبة الإنجليز في مصر على الحدود الغربية، وربما جرت هذه المنافسات إلى فتح المسألة الشرقية، وليس بقليل ما يصيب إنجلترا من مضار هذه المسألة، فأي ثمرة جنتها إنجلترا مما غرسته في هذه السنين الأخيرة، لا هي صانت باب الهند من الخطر كما تروم، ولا هي سكنت قولب الهنديين، وإنما طرقت أبوابا كانت مغلقة ويوشك أن تفتح، ولئن فتحت فإنها تحدث زلزالا في أركان العالم بأسره، هذا شأن الإنجليز وما يفعلون .
ويوجد أناس لهم مداخل في تقلب الأحوال المصرية، ولهم مذاهب مختلفة في ترويج مقاصدهم لدى المصريين، يمنونهم بالخلاص من أيدي الإنجليز إذا آل إليهم السلطان في مصر، بل يؤكدون لهم أنه لو ثبتت أقدامهم في الديار المصرية لأحبطوا مساعي إنجلترا في عموم البلاد الشرقية، وسعوا في تقليص ظلها من المشرق بأسره، أخذا بثأرهم منها، فهؤلاء سنأتي على أحوالهم، ونبين طرق سيرهم في أعمالهم، حتى يكون ذوو الآمال فيهم على بصيرة من أمرهم.
الفصل التاسع والثلاثون
هول الأمر على جوردون
أخبر مراسل التايمس في الخرطوم أن تلك المدينة أصبحت معسكرا لأعوان الثورة، ومضاربهم محيطة بها من جميع الجوانب، والمقذوفات من نيران أسلحتهم تنقض على دار الحكومة بلا انقطاع، والمئونة في نقصان، والخطر يشتد يوما بعد يوم، وبعد إفراغ الوسع في اختراق صفوف الثائرين بالمراكب تسير إلى بربر لفتح طريق المخابرة مع حاميتها، حبط العمل وخاب السعي؛ فإن قوة العربان على شواطئ النيل تصول على المراكب بأسلحتها القاتلة وتفتك بمن فيها.
وأتبع هذا الكلام بقوله: إن الجنرال جوردون عقد العزيمة على أن ينجو بنفسه من طريق إفريقيا الوسطى حيث تحقق أن حكومته غير مهتمة بإنقاذه، ويرى أنه لا سبيل إلى الاتفاق مع القبائل التي أخذت عليه طريق بربر إلا بمساعدة زبير باشا (اليوم يضطر لمساعدة زبير باشا) وهو من أعدائه، ولا نرى الزبير إلا مسلما لو سمحت ذمته بإنقاذ حياة جوردون فلا تسمح أن يكون السودان ولاية إنجليزية، وفي جريدة «الأكسترابلات» أن الحكومة الإنجليزية ورد إليها كتاب من جوردون مفاده: «ليس في طاقة أحد من البشر أن ينجينا من الخطر؛ لأننا محاطون من جميع الأطراف بالقبائل الثائرة، فلم يبق لنا سوى التضرع إلى الله بتبديد شملهم، فإن لم تسعفنا العناية الإلهية بإجابة دعوتنا فلا ريب أن تلك القبائل تنهب وتفتك بجميع سكان الخرطوم قبل وصول نجدة إنجليزية إلينا.» (وليته سأل الله تعالى حل المسألة السودانية وفوض إليه الأمر فيها وأراح نفسه من السفر إلى الخرطوم).
وجاءت الأخبار الأخيرة بأن مدينة شندي، وهي على النيل في منتصف الطريق بين بربر والخرطوم، وقعت في أيدي رجال محمد أحمد، هذا بعد أن طلب الجنرال جوردون من حكومته أن ترسل فريقا من الجيوش لتخليص حامية تلك المدينة وموظفي إدارتها، ورأت الحكومة من الصواب أن لا ترسل، فلما ضاق الأمر على الحامية ويئسوا من القدرة على الدفاع؛ ركن فريق منهم يبلغ ثلاثمائة شخص إلى الفرار واندفعوا على صفوف محاصريهم لعلهم يجدون من بينها سبيلا، فلم يستطيعوا ونزل بهم من أمر الله ما لا محيد عنه، بعث الجنرال جوردون ببرقية إلى القاهرة يشكو فيها عدم وصول الأخبار إليه من السير بارين (وكيل إنجلترا السياسي في مصر).
قالت التايمس: «ولعل البرقيات التي بعث بها بارين إليه تناولها الثائرون»، ومن كلام هذه الجريدة أن الحكومة الإنجليزية أرسلت الجنرال إلى السودان وفوضت إليه الأمر فيما يفعله ليصيب بتدبيره غاية حسنة، ونرى أن هذه الحكومة غلت يديها بترك الجنرال وشأنه مما يلحق بها عارا عظيما.
اشتدت حملة القبائل على بربر وخارت عزائم حاميتها وسكانها وأخذ اليأس بقلوبهم، ووردت برقية من مدير بربر إلى الوزارة المصرية يشكو بها تلك الحالة، ويقول: إنه لا يمضي بضعة أيام حتى يفتحها الثائرون ويحل بها من أيديهم ما حل بمدينة شندي، وبعد هذا جاءت برقية من القاهرة مفادها أن نوبار باشا يخشى أن يمتد لسان الفتنة إلى أسوان في وقت قريب، وإنا نشاركه في هذا الخوف ونزيد عليه الإشفاق من التهاب النيران في القاهرة وأطراف القطر المصري - ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الفصل الأربعون
محاولة في مصر
كل يوم يظهر من إنجلترا شأن جديد في معاملة الشرقيين والطرق التي تأخذهم بها لقضاء أوطارها من بلادهم، وتلاعبهم وتداعبهم وتجاملهم وتلاطفهم، وتعدهم وتمنيهم وتخيفهم وتؤمنهم، حتى تشتبه عليهم مسالك الفكر، وتلتبس مسارح النظر، ثم تحملهم بعد الدهشة على قبول سلطتها والرضا بولايتها، بل على طلب ذلك منها، والتماسه من كرمها، وهي في كل أعمالها تهزأ بهم وتحسبهم في عداد الصبيان القاصرين، أو من قبيل البهائم التي لا تعقل ، سلكت مسلكها هذا على بعض من أوروبا وانفردت في الأقطار الهندية النائية ، وليس لدولة من الدول إحاطة بما تجريه في حكومتها لتلك البلاد.
ثم تطرفت في هذا المشرب فعمدت إلى استعماله في مصر تحت أنظار أوروبا، وقصدت أن تدعو المصريين للإقرار بحمايتها، ورفع التماسهم إليها لعل كرمها يسمح بمنحهم شرف سيادتها عليهم، لكن الحيلة لم تذهب على المصريين ولم تختلس عقولهم تلك الشعوذات؛ فقد جاء في خبر مؤكد أن مأموري الحكومة الإنجليزية في مصر حاولوا تكليف الأهالي بتحرير محضر يلتمسون فيه حماية دولة إنجلترا ليكون التماس الأهالي حجة لديها عند الدول تقيم بها عذرا في إخلاف وعودها، حتى إذا حاسبوها على تصرفها في أرض مصر وضمها إلى أملاكها تدعي أنها مضطرة فيما تصنع والأهالي هم الذين رغبوا إليها ذلك، وهي لا تأبى قبول رغبتهم رحمة بهم ورأفة، هكذا تحاول أن تفعل في مصر وهي متاخمة لأوروبا وفيها من الأوروبيين المختلفي الأجناس ما يزيد على مائة ألف، ولا تخشى لائمة ولا تخاف عاقبة، وإن ظننا بالمصريين على اختلاف طبقاتهم أنهم لن يفعلوا ذلك ما دامت أرواحهم في أبدانهم.
الفصل الحادي والأربعون
رأي الجرائد الفرنسية في الإنجليز
ارتفع الستار وانتهك الحجاب عن ضعف الحكومة الإنجليزية ووهن عزيمتها في المسألة المصرية، ولم تبق فيه ريبة لمرتاب بين الدول الأوروبية، وانطلقت عليها الألسن وسلت سيوف الملام، من ذلك ما هزأت به جريدة «الريبوبليك فرانسيز» وسخرت فيه بدولة إنجلترا عند كلامها على فصل نشر في جريدة «البال مال جازيت».
قالت: إن ما تهددنا به الجرائد الإنجليزية لا تأخذنا منه رهبة ولا ترعدنا منه خيفة، بعد أن رأى الفرنسيون عجز حكومة بريطانيا عن حماية جوردون، وعلموا أن عددا من عرب السودان اخترق صفوف الجيوش الإنجليزية المنظمة، وما كان لهم سلاح إلا العصي والخناجر، وأن فرنسا لا تزال تطلب من إنجلترا أن تعيد إليها ما فقدته من حظ السلطة في شواطئ النيل، وما ظهر من عجز إنجلترا وضعفها القاضي بالحيرة والعجب لا يخفف سوء تأثيره إلا بمساعدة فرنسا.
قعد كليفورلويد من المصريين مصاعد الأنفاس، وخنقهم بخناق من الجور، وصار فيهم خلفا لعرابي (كذا) ونعم الخلف، إلى القوة الفرنسية فك هذا الخناق الضيق الذي كاد يقطع أنفاس المصريين، أما أوروبا فتستريح خواطرها ويسكن اضطرابها بعدما أقلقها ضعف الإنجليز الذي لا دواء له ومطامعهم التي لا حد لها ... ا.ه.
فهل انكشف للشرقيين ما وضح لدى الأوروبيين أو لا يزالون عنه غافلين؟
الفصل الثاني والأربعون
خديعة جديدة
أقبل الإنجليز أيام الحركة السابقة على بعض المصريين، وزخرفوا لهم الأماني وزينوا لهم المواعيد، حتى استعملوها لتذليل المصاعب بين أيديهم، لدخول مصر والاستقرار فيها بعساكرهم، وتم لهم ما أرادوا، ثم قلبوا لهم ظهر المجن تحت أستار الحجج والتعللات، وقبضوا على زمام الحكومة المصرية يصرفونها كيف يشاءون، ولما أرادت الدولة العثمانية بما لها من الحق القانوني على تلك البلاد أن تتولى حل المسألة التي كان يعبر عنها بالعسكرية، وأن ترسل بعض جيوشها لإقرار الراحة في بلادها طبقا لرغبة رعاياها؛ مانعها الإنجليز وكفوا يدها عن العمل وسبقوها إليه بدون حق شرعي ولا أصل سياسي ولا رغبة عامة من أهالي القطر المصري، واليوم عند اشتداد الخطب على الجنرال جوردون الإنجليزي وعجر حكومته عن إنقاذه وتوقيف حركة محمد أحمد، ألجأتهم الضرورة إلى الرجوع لما نبهنا عليه مرارا من أن هذه الفتن لا يطفئ شعلتها رذاذ السياسة الإنجليزية.
تمنوا لو تتداخل الدولة العثمانية ببعض عساكرها في السودان لتنقذ الجنرال جوردون وتأخذ بناصية محمد أحمد وتبدد شمل أحزابه، هكذا رأى الجنرال في هذه الأيام أن أنجع الوسائل لحل المشكلات تحسين جيش عثماني وسوقه إلى تلك الأقطار، فكتب إلى صديقه صامويل بيكر يرغب إليه أن يتقدم لأرباب الثروة في إنجلترا وأمريكا ويحملهم على بذل مائتي ألف جنيه ليعرضوها على السطان العثماني حتى ينفقها على ألفين أو ثلاثة آلاف من العساكر التركية، ويسيرها إلى نواحي بربر وشندي، ويكون بهذا إنهاء المسألة السودانية وهدم سلطة محمد أحمد، وقال: إنه مما يعود نفعه على السلطان أيضا.
يريد الجنرال أن يخدع العثمانيين بتمثيل منافعهم، كما خدع أمثاله بعض المصريين وحاشاهم أن ينخدعوا لمثل هذه التخيلات الوهمية، ومن العار عليهم أن يقبلوا ما يتكففه الجنرال جوردون من صدقات أهل الثروة في بلاده للنفقة على عساكرهم، وأشد العار أن يذهبوا بجيوشهم لتدويخ بلادهم وإخضاعها لسلطة الإنجليز والعساكر الإنجليزية حالة
1
بحصون مصر، نعم لو أذعن الإنجليز بما للدولة العثمانية من الحق، وتركوا لها بلادها وفوضوا إليها إعادة الراحة فيها وإهماد فتنة السودان؛ فلا تخال الدولة تتأخر عن القيام بما يفوض إليها بل هو ما تتمناه وتسعى إليه، ولعل الحوادث تلجئ دولة بريطانيا إلى مثل ما لجأ إليه جوردون فتسلم الأمر لمالكه،
2
ما ذلك على الله بعزيز.
الفصل الثالث والأربعون
دسيسة أخرى
هيأ الإنجليز فتنة فكانت، وأغاروا على مصر بحجة إهمادها، وأوثقوا الدول على أن تكون إقامتهم في الديار المصرية إلى أن تستقر الراحة فيها ثم يخرجون، لكنهم بعدما حلوها لا يزالون يسعون من يوم وطئوها إلى اليوم في إيقاظ الفتن ويجهدون لإطلاق الخواطر، ليقدموا ما يكون من هذا عذرا لدى الدول في تطويل مدة إقامتهم بالقطر المصري، لعلهم يجدون من تقلبات السياسة الأوروبية فرصة للحلول الأبدي، ومن ذلك ما سولوا للأروام أن يحتفلوا بعيد استقلالهم على نمط لم يسبق له نظير في الأقطار المصرية من قبل، وزينوا لهم ما فعلوا بما يقدرون عليه من الطرق الخفية، حتى انخدع الأروام لوساوسهم مع أنهم أحق الناس برعاية الأدب، وما كان مثل ذلك من مأموري الإنجليز في مصر إلا ليقلبوا أفكار المصريين ويحركوا الضغائن في نفوسهم ويذكروهم بما كان بينهم وبين اليونانيين أيام إبراهيم باشا، فيوقظوا بذلك الفتنة بين سكان القاهرة وبعض المدن المصرية وبين من يساكنهم من الملل الأجنبية، ويعيدوا تاريخ بعض الحوادث المشئومة التي كادت تمحى دواعيها بعد ما حدث من نحو سنتين، ثم يجعلوا ما يحدث من اختلال علة لدوام الاحتلال أو التسويف في الجلاء.
الفصل الرابع والأربعون
الورطة الجديدة
التوى سير السياسة الإنجليزية في المسألة المصرية، وقزلت
1
الوزارة الجلادستونية في المضي إلى نهايتها فسقطت مرارا ونهضت مرارا، وآل بها الأمر بعد هذا إلى عجز عن أداء ما تعهدت به للدول وللدولة العثمانية من إصلاح الأحوال المصرية، وفزع شديد من عقبى هذه الفتن التي تداعت لها أركان النظام المصري، فلجأت إلى الدول الأوروبية تستعين بها على تخفيف الوزر، والتمست منها عقد مؤتمر في لندن وتعللت في دعوتها إلى الاشتراك معها في الأمر بفراغ الخزينة المصرية لكثرة النفقات والنقص في الإيراد، فلا يمكن بقانون التصفية الذي وضع باتفاق من الدول العظام، إلا أنها شرطت على الدول أن تكون المداولة في المؤتمر منحصرة في المسائل المالية ولا يجوز لهم أن يتعدوها إلى ذكر شيء آخر في الأحوال المصرية الحاضرة أو الماضية.
أما الدول فقد قبلت الدخول في المؤتمر على شرط مبهم وهو أن نوابهم يبحثون فيما يبحث فيه المؤتمر، إلا دولة ألمانيا فإنها لم تجب إلى الآن جوابا رسميا، ويغلب على الظن في الدوائر السياسية أنها تتبع في جوابها دولة فرنسا واتفقت على ذلك أغلب الجرائد الألمانية، وزادت دولة فرنسا في جوابها أن طبيعة المسائل التي يجري فيها البحث ربما لا تقف بالباحثين عند حد النظر في المالية، بل تنجر بهم إلى ذكر كثير من المشكلات المصرية الحاضرة.
أما هذا فلم يكن خافيا على إنجلترا، فإن النظر في المالية مع الاضطراب الواقع في الديار المصرية وتزعزع أركان السلم فيها لا تخلو نتيجته من أحد أمرين:
إما تقدير الإيراد والمنصرف بمبالغ محدودة وتخصيص شيء معين من الإيراد لوفاء فائدة الدين، مع تخفيض الفائدة مثلا، ثم يوضع قانون تمضي عليه الدول كما فعل قانون التصفية، وهذا مما لا يتصوره العقل؛ فإن عساكر الحلول الإنجليزية لم تزل في أرض مصر ومصاريفها على الخزينة المصرية، ولم يعلم أجل إقامتها ولا مبلغ عددها، والفتن قائمة في الجهات السودانية والحكومة المصرية مكلفة بتوقيفها عند حد لا يخل براحة البلاد، ولهذا العمل مصاريف ونفقات لا يمكن تحديدها ولا تقديرها، فكيف يمكن للوصول إلى تعيين النفقات وإحصائها على وجه منضبط والاضطراب الداخلي والاختلال المتفشي في الإدارات ودوائر الحكومة العليا والدنيا الذي حدث بتخلل الإنجليز فيها وقف حركة الأعمال النافعة من زراعة وتجارة وصناعة، فكيف يمكن ضبط الإيراد على نمط يعرف ويؤلف، فلم يكن غرض إنجلترا من الدعوة إلى المؤتمر أن يصل إلى مثل هذه الغاية التي لا أهمية لها مع بعدها.
الأمر الثاني أن ينساق البحث في المسائل المالية والنظر في الإيراد والمنصرف إلى ما يلزم لاستقرار الراحة في مصر من العساكر وتطلبه من النفقات، وما يستدعيه إطفاء فتنة السودان، وما تحتاج إليه المحاكم الجديدة، وغير ذلك مما تعرضه إنجلترا وتبين للدول أن مالية مصر ليس في طاقتها أن تفي بجميع هذه النفقات الواسعة، ولو كلفت بأداء بعضها فضلا عن كلها، لحق الضرر بأرباب الديون، فأحسن وسيلة للتحفيف عن المالية المصرية مع حفظ الحقوق لأربابها أن تكون الديون المصرية تحت ضمانة إنجلترا وهي تؤدي فوائدها في أزمانها، تطلب من الدول بعد هذا أن تفوض إليها التصرف في الأقطار المصرية، وتأخذ التبعة على نفسها في بذل الأموال وقتل الأرواح، وهذا الذي يمكن أن تفعله إنجلترا بعد عجزها وربما مست حقوق الدولة العثمانية في مطالبها هذه.
إلا أن التلغرافات نقلت إلينا ما يتحدث به في الدوائر السياسية بالأستانة، وهو أن الدولة العثمانية ستشترط لقبول انتظامها في المؤتمر شروطا صعبة يعز على إنجلترا قبولها لينكشف الستار عن مقاصدها في مصر، ومن جملة تلك الشروط أن تستبدل العساكر الإنجليزية المحتلة في مصر بعساكر عثمانية؛ لأن نفقات الجيوش العثمانية أقل من نفقات الجيوش الإنجليزية، وهذا هو ما يؤمل في الدولة العثمانية في هذه الأوقات وإنها فرصة لو فاتت فقل أن يأتي مثلها، وللدولة العثمانية بسلطتها على قلوب المسلمين شرقا وغربا قوة ترتعد منها فرائص الإنجليز، فأمل أوليائها اليوم أن تستعمل تلك القوة الفائقة وتجعل لها أثرا في استرداد حقوقها، وعندنا أن رجال الدولة العثمانية لا يغفلون عن هذا.
أما الحكومة الفرنسية فقد عقدت عزيمتها على مطالبة إنجلترا بإعادة نفوذ الفرنسيين في مصر كما كان قبل المراقبة، والجرائد الفرنسية على اتفاق في تبيين خلل السياسة الإنجليزية وبيان سوء مقاصد الإنجليز، والإلحاح على حكومتهم ألا تعترف بأدنى امتياز بسبب ما فعلته في واقعة التل الكبير، وهذا ما ترتجف منه الجرائد الإنجليزية عموما وتخشى عاقبته، ونظنها أسوأ عاقبة عليهم.
هذا ما يتعلق بورطتهم الجديدة التي يظنون فيها خلاصهم، وبقي عليهم ما لا نظن ولا يظنون لهم منه نجاة، دخل الثائرون مدينة بربر كما أنبأت به أواخر الأخبار، ولعبت عواصف الفتنة بأطراف مصر العليا، وأكدت أخبار البرقيات أنها لم تقف عند حدها، بل حركت السواكن في مصر السفلى، ووراء ذلك من الويل ما وراءه، فأين الخلاص لدولة إنجلترا؟ نعم لمعت بارقة حق في عقول بعض ذوي الرأي من رجالها فطلبوا أن تكون العساكر التي تبعث إلى مصر مؤلفة من عثمانية وإنجليزية، وهو نوع تقرب لما قلناه مرارا من أن هذه الفتن لا يدفع غائلتها إلا المسلمون، ولكن عليهم أن يخلصوا آراءهم من الشائبة الإنجليزية وإلا فلا نجاح، والله يفعل ما يشاء.
الفصل الخامس والأربعون
العروة الوثقى توزع مجانا!
تأتي في فصولها على أهم ما له أثر في أحوال الشرقيين عموما والمسلمين خصوصا، فلا تلام إذا أطنبت في مسألة شرقية عامة ولا إذا أغفلت ذكر بعض أخبار من أمريكا وجابونيا.
نبهنا في أول عدد صدر منها على أن القائم بها رجال من أهل الغيرة في الشرق هموا بأعمال تفيد أوطانهم وملتهم، مع رعاية جانب العدل والسير على وفق الحكمة، ومن ظن أن توزيعها مجانا يقتضي أن تكون منسوبة لدولة من الدول أو شخص من ذوي المطامع في إمارة أو ملك فإنما نشأ ظنه هذا من اليأس المستحكم في نفسه والقنوط من نهوض همم بعض المسلمين بعمل صغير كهذا، ولا يقنط من روح الله إلا القوم الكافرون.
هذه جريدة لا سعة فيها للتنابذ والتقاذف، ولا يذكر فيها اسم شخص أو لقبه إلا إذا كان له قول أو عمل يفيد البحث فيه فائدة عامة.
الفصل السادس والأربعون
رياض باشا والسياسة الإنجليزية
نقل إلينا وذكرت الجرائد خبر مجلس انعقد في سراي توفيق باشا بالقاهرة، حضره وزراء الحكومة المصرية، ودعي إليه شريف باشا ورياض وسلطان باشا وعمر باشا ولطفي باشا وخيري باشا وثابت باشا. وأغلب الجرائد الفرنسية المهمة أتبعت رواية الخبر بالثناء على رياض باشا وأتت من وصفه على أفضل ما يوصف به رجل في أمته، ومما ذكرت من صفاته أنه أقوم أمير في الديار المصرية وأشدهم حرصا على الاستقامة، وأنه أبصر أهل بلاده بعواقب الحوادث التي ألمت بمصر وما تئول إليه، وكان يرى من بداية تلك الحوادث أنه سيكون مصيرها إلى ما لا خير فيه للبلاد، وسكتت تلك الجرائد عما يتعلق ببقية أعضاء المجلس، وإننا نذكر الخبر أولا ثم نعقبه بما تدعو خدمة الحق لذكره.
بعد انعقاد المجلس قام نوبار باشا وافتتح الكلام بخطاب وجهه إلى الحاضرين فقال: ماذا ترون من التدبير إذا فرضنا أن مدينة الخرطوم وبربر ودنقلا دخلت في حوزة محمد أحمد وأشياعه؟ وأي طريقة يمكن الأخذ بها لحفظ الأمنية وتقرير الراحة في مصر العليا (الصعيد)؟ فأعجب الحاضرون بالسؤال وظهرت على وجههم علائم الاستغراب لمفاجأته لهم بما لم يكونوا يتوقعونه، ثم أجابوه بصوت واحد: أن لا سبيل إلى تأمين البلاد من خطر الفتنة إلا باستعمال القوة، فقال نوبار باشا: إنا نروم منكم التصريح بنوع القوة التي يجب استخدامها (أي قوة إنجليزية أو مصرية)؟
فأجابه رياض باشا: إن تعيين القوة من خصائصكم وليس من شأننا أن نتكلم فيه، فأبدع في الجواب بعض الحاضرين (لا نعرفه وربما يكون من محبي أوطانهم) وأحسن في التشبيه حيث قال: الذي نعرفه أن العجة لا تكون بدون بيض (العجة طعام يصنع من البيض مع بعض النبات يعرف اسمه عند المصريين وأغلب العرب، فمادة هذا الطعام إنما هي البيض)، فأراد العضو المحترم أنه لو أريد استخدام قوة فلا بد أن يكون جوهرها عساكر إنجليزية ولا بأس بإضافة بعض من الجنود المصرية لتكون ترسا يدفع به في وجوه المحاربين وتنصب إليه قوته، فإن حصل العجز ودعت الضرورة للفرار أمكن للجيوش الإنجليزية أن تعود سالمة، أو إذا أضيف مصريون فلا بد أن يكونوا حمالين وخدما أو حرسا وحفظة لمن يكون معهم من ساداتهم (هذا ما أراد جناب العضو من تشبيهه البليغ).
بعد هذا قال رياض باشا: إنكم تسألوننا تعيين القوة ولكني أسألكم: ما هي القوة الموجودة عندكم وبأي حق يؤدى لكم 48 ألف جنيه في كل شهر، أأنتم حكومة أم لا؟! أما شريف باشا فقال: إنه بذل جهده مدة طويلة في إرضاء الحكومة الإنجليزية بأن ترسل جيشا إنجليزيا إلى السودان (وهذا مما يقضي بالعجب) ولكنه علم أن نوبار باشا أراد أن ينهي المسألة بإخلاء الأقطار السودانية، فقال نوبار باشا: إن المباحثة خرجت عن موضوعها وتحولت عن وجهها، ولكني أذكر بالأعضاء المجتمعين بأنهم ما طالبوا إلا لإبداء آرائهم فيما يجب العمل به.
فأجابه رياض باشا: إن لكم مجلس شورى فكان أحق أن تذاكروه، وإن للآن لا نعرف سببا لاستدعائنا مع وجود ذلك المجلس، فحاول نوبار باشا دفع ذلك بقوله: إن مجلس الشورى ليس من خصائصه النظر في مثل هذه المسائل، فقال رياض باشا: إنه لا يرجى إصلاح ما دام العمل جاريا على ما وضعه اللورد دوفرين مما سماه نظاما، وإنه لا ثقة له بأصل من أصول ذلك النظام وليس في الإمكان إجراء ولا واحد منها، وإن الأغلاط التي كانت منشأ للضعف والاختلال لم يرتكبها إلا دولة الإنجليز، وإن ما نراه من الفوضوية وارتكاب المنكرات وكثرة التعدي والسرقات لم تكن له علة إلا السياسة الإنجليزية، فعلى إنجلترا أن تعالج هذا الداء وليس ذلك علينا، ولقد قلت هذا مرارا وبلغته للورد دوفرين وشريف باشا، وكنت أود أن أرى اللورد دوفرين مرة أخرى لأذكره بما جرى من الحديث بيننا وأعرض عليه مصره المنتظمة، إلا أن شريف باشا أتى بما لم يكن يرجى منه، حيث دافع عن نظام دوفرين بقوله: إن الإصلاح يحصل تدريجيا، كأنه يريد بما يقول أن ما حوته شريعة اللورد دوفرين يصلح أن يكون شريعة يعود من العمل بها على أهالي القطر المصري شيء من الفائدة، وما كنا نظن أن مثل شريف باشا يرى مثل هذا الرأي بعد وصول الأمر إلى ما وصل إليه.
بعد هذا قال رياض باشا: إني لا أفهم لفظ بروتكتور
1 (حماية) ولا أعلم ماذا يراد منه، ولكني لا أرى وسطا بين أمرين، إما ضم البلاد إلى الحكومة الإنجليزية فتستلم إدارة أمورها وتتولى شئونها كلية كانت أو جزئية، وهذا هو الذي أفهمه من تلك العبارات، وإما ترك البلاد لأهلها ليأخذ بزمام السلطة فيها رجال من أهليها وإليهم الحل والعقد في إدارتها، فانتحلوا مذهبا من المذهبين فإن القول بحل وسط بينهما ضرب من الجنون. ا.ه.
وليس بعجيب أن يصدر مثل هذا الكلام من رياض باشا، فعهدنا به رجل ذو حياة وطنية وإحساس بما يلزم لحفظ حياته هذه، وهي أشرف أنواع الحياة، فإن تكلم فإنما ينثر الكلام منه إرادة ناشئة عن فكر تثيره قوة حيوية، وكان أملنا أن يوجد من طرازه كثير في الأقطار المصرية يصدعون بما يصدع به خصوصا بعدما نزلتهم هذه الحوادث المريعة ومثلت لهم مستقبل بلادهم في حاضرها، ولقد أدى الرجل حقا واجبا عليه والقائم بأداء الفريضة قد يشكر إذا أهملها المكلفون بها حتى صارت عندهم من نوافل الأعمال أو في منابذ المكاره، ولكن يأخذنا العجب من بقية أعضاء هذا المجلس الموقر كيف مجمجوا أو تلكئوا أو سكنوا، وكيف وسعتهم القدرة على إمساك ألسنتهم عن التعبير بما في ضمائرهم.
إنا لا نعلم أحدا منهم تجنس بالجنسية الإنجليزية وحاشا جميعهم من ذلك، ولا يختلج في صدورنا أن مصريا أو تركيا أو شرقيا - أيا كان - يميل ميلا صادقا إلى تسلط الأمم الأجنبية على بلاده، أو يخلص في خدمة الإنجليز ومجاراة رغائبهم إخلاصا صحيحا، خصوصا أولئك الأمراء المصرح بأسمائهم، بل لو كشف الحجاب عن قلب كل واحد منهم لرأيناه ذائبا من الأسف في ما حل ببلاده وفانيا من الحزن على ما نزل بوطنه من تردد جيوش الأجانب بين أطرافه، ومضمحلا من الكدر على ما عقبه حلول القوة الأجنبية من انقباض الأنفس وانقطاع الآمال وعموم الاختلال وشمول الفقر والفاقة وبطلان حركة الأعمال.
بل لو شاء القلم أن يعبر عن حالة الأمير منهم عندما يطرق آذانه أخبار التصرف الإنجليزي في إدارات حكومته وكف أيدي الموظفين من أبناء ملته من أداء ما يجب عليهم لبلادهم، وبسطة أيدي أولئك الأجانب في الإنفاق من ماله ومال عياله وأقاربه وأحبائه وجميع مواطنيه بدون حق شرعي ولا مصلحة وطنية، أو عندما يرى غنيا أعدم وعزيزا ذل وكاسيا عري وحبا أشرف على الهلاك من ضغط المظالم، ولو نهضت قوة البيان لشرح ما يظهر على وجهه من ألوان الكمودة، وفي أعضائه من أنواع الرعدة، وما ينبض به قلبه وما يحدثه فكره من هواجس الهموم وخواطر الغموم؛ لما استطاع القلم تعبيرا، ولوقفت قوة البيان دون الإتيان على قليل من كثير.
هذا هو الذي لا يبرأ منه أحد منهم ولو أقام على البراءة ألف برهان، كيف لا وهم يعلمون أن عزتهم وسيادتهم وما بلغوا من مراتب الشرف والرفعة؛ إنما كان بوصف قيامهم على أعمال البلاد، وأهليتهم لاستلام مهامها واستعدادهم لإدارة شئون الرعية؟ وهم على يقين بأنه لو ساد في ديارهم أجنبي فلا داعي يبعثه إلى حفظ ما لهم من الشرف والسيادة، بل له من البواعث القوية ما يحمله على تذليلهم وإهباطهم إلى أحط المنازل ليخلفهم على مثل ما كانوا عليه.
فما الذي أمسك بألسنتهم عن الكلام؟! هل الخوف؟ فمن أي شيء يخافون؟ وما الذي يخشونه على أرواحهم أو على بلادهم إذا قالوا حقا وثبتوا عليه؟ ماذا يصنع بهم الإنجليز إذا علموا صدقهم في محبة أوطانهم واتفاق كلمتهم على الرغبة في إنقاذها؟ هل علموا من عدل الإنجليز أنهم يؤاخذون الناس على إبداء آرائهم إذا دعوا إلى المشورة؟ إن كان هذا فما يبتغون من الحياة؟ هل ظنوا أن الإنجليز إذا أحسوا باتفاق في الآراء على مصلحة من مصالح البلاد وإن كانت في خروجهم من مصر يستطيعون تحت أعين أوروبا أن يوصلوا ضررا إلى المتفقين وهم أمراء البلاد وأعيانها؟
إن رياض باشا وحده لم يخش من إظهار فكره، فماذا كان يضر الأمراء الوطنيين لو عززوه أو كاتفوه على مثل رأيه؟ قد علم العقلاء من كل أمة أن أشباه هذه الحوادث تكون سببا في اجتماع الكلمة واتحاد الرأي على مصادمتها وما نراه اليوم من سعادة الأمم العظيمة، إنما كان منشؤه ملمات الشقاء التي أنستهم الضغائن والأحقاد وحملتهم على ترك المنافرات الخصوصية، وأخذ كل بيد أخيه لدفع ما يخشى منه على بناء الأمة أن ينصدع وأساس الملة أن ينقلع، وما سمعنا من أمة اتفقت فخابت ولا ملة افترقت فنجحت.
ألا يعلم أمراؤنا أن أوروبا واقفة بالمرصاد لإنجلترا، تترقب لها الزلل وتتمنى لها الغلط، وأن جميع الأسماع في الممالك الأوروبية مصغية لكلمة يتفق عليها وجهاء المصريين وهي: إنا قادرون على إصلاح شئوننا ولا نريد قوة أجنبية تحل في ديارنا.
امتدت أعناق السياسيين في أوروبا وانحنت إلى المصريين ليسمعوا منهم كلمة حتى كلت رقابهم والتوت أعصابهم والمصريون يشحون بها عليهم، ماذا ينتظر الأمراء المصريين في قول الحق؟ إن الأمم لا تطلب منهم إشهار السلاح ولا بذل الأرواح، ولكن تطلب منهم قولا صريحا لا يجلب إليهم ضررا ولا يقرب منهم خطرا، لا حول ولا قوة إلا بالله.
الفصل السابع والأربعون
السودان
قدمنا في العدد الماضي أن مدينة بربر في حالة يخشى عليها من السقوط في أيدي الثائرين، وجاءت أخبار هذا الأسبوع أن حاكم المدينة، بعد إلحاح طويل على الحكومة المصرية في إرسال نجدة عسكرية إليه، لم يحز طلبه قبولا، فإن الوزارة الإنجليزية لم تر ذلك صوابا، وبناء على ما رأته الحكومة الإنجليزية صدرت الأوامر إلى الحاكم «حسن باشا خليفة» أن يخلي المدينة بما يمكنه من السرعة، فشرع في إخلائها متقهقرا بالحامية جهة الشمال إلى كوروسكو وبعث بفرقة من عساكره عددها مائة وخمسون جنديا لتسبقه إلى حيث ينتهي في رجعته، وبعد أيام يرسل ما بقي منها طبق الأوامر التي وردت إليه، وفي الظن أن إخلاء المدينة لا يتم بدون كفاح وقتال وسفك دماء، ومع هذا كله فمن أمل الحاكم أن يتم له إنقاذ الحامية جميعها وإرسالها إلى كوروسكو قبل وصول رسل محمد أحمد، تحقق أن أربع فرق من العساكر الاحتياطية «باشبزوق» مع خمسمائة عسكري مصري (كلهم من حامية بربر) انحازوا إلى أشياع محمد أحمد، ويخشى أن الثائرين بعد استيلائهم على بربر يحاصرون جملة مدن في وقت قريب.
قالت جريدة التايمس الإنجليزية: ثارت جميع القبائل وأهالي البلاد فيما وراء بربر، ولا يمكن أن يوجد رسل يجرءون على المسير إلى الخرطوم لتوصيل المراسلات، وإن عرض عليهم من النقود أعلى ما يمكن من المبالغ، وقالت تلك الجريدة: إن الأخبار الأخيرة الواردة من مصر تؤكد لنا أن قلوب الأهالي (المصريين) طافحة من الغيظ والحنق على الإنجليز، وإنه لا يوجد في مصر من يحب أن يرى إنجليزيا يخطو في بلاده (هذا الذي قلناه مرارا، فالحمد لله أقره الخصم وارتفع النزاع)، ثم أتبعت كلامها هذا بأنه لا يوجد في مصر الآن شيء يصح أن يخبر عنه سوى (اختلال واضطراب)، فما عليه مصر اليوم يمكن أن تعبر عنه بهاتين اللفظتين، وإن المخابرات مع الخرطوم أصبحت من قبيل المستحيلات، ثم قالت: نعم، إن الحكومة الإنجليزية صرحت بأنه لا يمكنها إرسال عساكر إلى السودان قبل مضي أربعة أشهر، ولكن عليها أن تنظر في واسطة أخرى لإزالة ما جلبته على مصر من الفوضى.
أنجح الوسائط ترك البلاد لأهلها وتفويض الأمر فيها لصاحب الحق القانوني على تلك البلاد ومن له المنزلة العليا في قلوب جميع الأهالي، فتسكن له القلوب وتخمد نيران الفتن، ولعل التايمس بعد أيام قلائل ترجع إلى موافقتنا على تأكيد بغض المصريين للإنجليز، وقد تنكره علينا من خمسة وعشرين يوما وتبالغ في ميل الأهالي لسيادة الإنجليز عليهم.
ذكرت الجرائد أن جاسوسا وقف على عزيمة عثمان دجمة في جهة سواكن، فجاء وأخبر بأنه مستعد أن يزحف بألفي مقاتل إلى هندوب لقطع الطريق، وأنه بعد ذلك لا يقف دون الهجوم على حدود سواكن بشدة عنيفة.
جاء في جريدة التان أن دخول الثائرين في مدينة بربر وإن لم يتحقق الآن بطريقة رسمية، إلا أن ما أخبر به وكيل إنجلترا السياسي في تلك المدينة يقطع كل ريب ويزيل كل شك في أن الخطر نازل بها لا محالة، فإن قسما من حاميتها فر لطلب النجاة، والباقين انضموا إلى صفوف الثائرين جهرة، وإنا نرى حلول أشياع محمد أحمد بمدينة بربر يهيئ لهم أن يطئوا قلب مصر العليا، وليتهم يكتفون بهذا، ولكن ستطمح أنظارهم إلى مصر السفلى، وإن ضباط الحامية المصرية في أسوان وردت إليهم مكاتيب من أحد زعماء الثورة بناء على أمر محمد أحمد، ينذرهم فيها بسوء العاقبة، ويتوعدهم بالقتل والذبح إن لم يتركوا المدينة قبل عشرة أيام، ثم قالت تلك الجريدة: إذا اجتمعت قوة محمد أحمد عند الشلال الأول فلا بد حينئذ أن ينظر في كيفية الدفاع عن القاهرة!
هذا الذي كنا نتوقعه ونخشاه من قبل وأشرنا إليه مرارا، جلته الحوادث ونطقت به الجرائد الفرنسية والإنجليزية، ولم يبق إلا التفات تلك الجرائد إلى دواء هذه العلة وعلاج هذا الداء الذي كاد يكون عضالا، وتنبه حكوماتها للنظر في ذلك بعين الدقة والتبصر، وترشيدها إلى أن العلاج الذي ليس وراءه علاج إنما هو تسليم الأمر لذوي الحق فيه والعارفين بطرق تصريفه من المسلمين، وستراها بعد أيام تتبع هذا السبيل المستقيم.
الفصل الثامن والأربعون
فرصة سانحة
دخل الإنجليز مصر فزعموا أن ما كان موجودا من الجند الأهلي نفخت فيه روح العصيان فلا يصلح للأعمال العسكرية فطردوه، ثم اختاروا من الأهالي جندا جديدا في عدد قليل واستلم الرئاسة عليه ضباطهم البارعون، وبعد أشهر أثنوا عليه بحسن النظام وسرعة النجاح وطنطنت بالإطراء عليه جرائدهم، ولم نلبث بعد هذا أن رأيناهم يسارعون إلى طرد الجند الجديد، فهموا بذلك مرارا مع العزم على عدم استبداله بآخر من أبناء الوطن، وكلما صدتهم بعض الموانع السياسية عن هممهم، كتموا أمرهم زمنا ثم عادوا للإشارة إليه تعللا بما ينسبونه إلى بعض العساكر وهو من دسائسهم، وآخر الأمر خفتت أصواتهم وأحسوا بعجزهم عن الاستبداد بطرد الحامية الوطنية وعلموا أن لا بد فيه من مشورة الدول.
في هذه الأيام رغبوا إلى الدول في عقد مؤتمر للنظر في قانون التصفية وتحويره ووضع نظام للمالية المصرية يخفف عنها بعض أثقالها، فصرحوا في لائحتهم المرسلة إلى حكومات أوروبا بضرورة طرد الجند الوطني رعاية للاقتصاد وبلزوم تخفيض فائدة الديون المصرية.
إن الإنجليز من ست سنوات جعلوا بعض الضيق في المالية المصرية ذريعة للانقلاب العظيم الذي حصل في مصر، وألزموا الدولة العثمانية بمجاراتهم في ذاك الانقلاب، ودافعوا عن الدائنين، وزعموا من المحال تنقيص شيء من الفوائد، وطلبوا من الحكومة المصرية إذ ذاك تقليل عدد حاميتها ليتوفر من النقود ما يصرف لحقوق الدائنين، واليوم عطفوا على المصريين (عطفة الأب الرحيم) وبسطوا أيديهم إلى الدول يلتمسون مساعدتها لتخفيف الفائدة مع محو حاميتهم الوطنية، أليست البلاد المصرية كسائر بلاد العالم تحتاج إلى حامية تحفظ حدودها من الخارج وتصون داخلها من الغوائل التي لا يأمن طروقها حكومة من الحكومات، إن في تلك القسوة الأولى والمرحمة الثانية لسرا عظيما.
للإنجليز في مصر مطامع من زمن قديم يعدون سلطتهم عليها من ضروريات شوكتهم في الهند، وفي خلدهم أن المصريين لو كانت لهم ثروة مالية وقوة عسكرية عظيمة فإنهم يمانعون فيما يريدون ببلادهم، فضيقوا على المالية في تلك الأوقات وألجئوا الحكومة لتمزيق قوتها العسكرية ليحصل الضعف في القوتين المالية والجندية، فتمد لهم طريق ما طمحوا إليه.
وكان هذا التدبير سببا في الانقلاب الذي تبعته هذه الحوادث الهائلة، وبعدما فتح لهم بضعف الحكومة سبيل المداخلة في مصر طفقوا يسعون بما جبلوا عليه من الهوينى في المضي إلى مقاصدهم لإيجاد عنوان غير التملك يعنون به إقامة عساكرهم ومأموريهم في تلك البلاد زمنا طويلا، ويكون وضع ذلك العنوان برأي الدول تملصا من الوعد الذي وعدوها به، مع ترقب حوادث السياسة في أوروبا لعل حادثة منها تساعدهم على إبدال العنوان بما هو المطلوب لهم، ورأوا من أحسن الوسائل لدعوة الدول إليهم عرض المسألة المالية.
ولما كان من المحتوم في آرائهم بقاء عساكرهم في الديار المصرية، فلا بد من طلب وسيلة لطرد الجند المصري حتى تكون الحاجة إلى عساكرهم قائمة ، هذه طريقة ربما خفيت على المصرين وغفل عنها كثير من الأوروبيين إلا أنها من الطرق المتعارفة عند الإنجليز، وهي التي سلكوها في البلاد الهندية ونالوا بسلوكها السلطة المطلقة على تلك الأقطار الواسعة بدون سفك دماء غزيرة ولا مقاومة فتن شديدة.
دمر الإنجليز (دخلوا بلا استئذان) على الهنديين في أراضيهم وانبثوا بينهم، فتمكنوا من تفريق كلمة الأمراء وإغراء كل نواب أوراجا بالاستقلال والانفصال عن السلطنة التيمورية، فتمزقت المملكة إلى ممالك صغيرة، ثم أغروا كل أمير بآخر يطلب قهره والتغلب على ملكه فصارت الأراضي الهندية الواسعة ميادين للقتال، واضطر كل نواب أوراجا إلى المال والجنود ليدافع بها عن حقه أو يتغلب بها على عدوه.
فعند ذلك تقدم الإنجليز بسعة الصدر وانبساط النفس ومدوا أيديهم لمساعدة كل من المتنازعين وبسطوا لهم إحدى الراحتين ببدر الذهب وقبضوا بالأخرى على سيف الغلب، بدأوا قبل كل عمل بتنفير أولئك الملوك الصغار من عساكرهم الأهلية ورموها بالضعف والجبن والخيانة والاحتلال، ثم أخذوا في تعظيم شأن جيوشهم الإنجليزية وقوادها وما هم عليه من القوة والبسالة والنظام، حتى اقتنع كل نواب أوراجا بأن لا ناصر له على مغالبه إلا بالجنود الإنجليزية، فأقبل الإنجليز على أولئك السذج يضمنون لكل صيانة ملكه وفوزه بالتغلب على عيره بجنود منتظمة تحت قيادة قواد من الإنجليز، ويكون بعض الجنود من الهنديين وبعضها من البريطانيين، وما على الحاكم إلا أن يؤدي نفقتها، ثم خلبوا عقول أولئك الأمراء بدهائهم وبهرجة وعودهم ولين مقالهم، حتى أرضوهم بأن يكون على القرب من عاصمة كل حاكم فرقة من العساكر؛ لتدفع شر بعضهم عن بعض، وصار الإنجليز بذلك أولياء المتباغضين، وسموا كل فرقة من تلك الجنود باسم يلائم مشرب الحكومة التي أعدوها للحماية عنها: ففرقة سموها «عمرية»، وأخرى سموها «جعفرية»، وغيرها سموها «كشتية»، إرضاء لأهل السنة والشيعة والوثنيين.
ولما فرغت خزائن الحكام وقصرت بهم الثروة عن أداء النفقات العسكرية؛ فتح الإنجليز خزائنهم وتساهلوا مع أولئك الحكام في القرض وأظهروا غاية السماحة، فبعضهم يقرضون بفائدة قليلة وبعضهم بدون فائدة وينتظرون به الميسرة، حتى ظن كل أمير أن الله قد أمده بأعوان من السماء ، وبعد مضي زمان كانوا يومئون إلى طلب ديونهم بغاية الرفق ويشيرون إلى المطالبة بنفقات العساكر مع نهاية اللطف، فإذا عجز الأمير عن الأداء قالوا: إنا نعلم أن وفاء الديون والقيام بنفقات الجنود يصعب عليكم، ونحن ننصحكم أن تفوضوا إلينا العمل في قطعة كذا من الأرض نستغلها ونستوفي منها ديوننا وننفق من غلاتها على الجيوش التي أقمناها لكم، ثم الأرض أرضكم نردها إليكم عند الاستيفاء والاستغناء، وإنما نحن خادمون لكم، فيضعون أيديهم على غضروات
1
الأراضي وفيحائها.
وفي أثناء استغلالها يؤسسون بها قلاعا حصينة وحصونا منيعة كما يفعلون ذلك في ثكن (أماكن إقامة العساكر) عساكرهم على أبواب العواصم الهندية، وفي خلال هذا يفتحون للأمراء أبوابا من الإسراف والتبذير ويقرضونهم ويقتضون قرضهم بالقيام على أراض أخرى يضمونها إلى الأولى، ثم يحضون نار العداوة بين الحكام لتنشب بينهم حروب فيتداخلون في أمر الصلح فيجبرون أحد المتحاربين على التنازل للآخر عن جزء من أملاكه ليتنازل لهم الثاني عن قطعة من أراضيه، وهم في جميع أعمالهم موسومون بالخادم الصادق والناصح الأمين لكل من المتغالبين.
وبعد هذا فلهم شئون لا يهملونها في إيقاع الشقاق بين سائر الأهالي؛ لتضعف قوة الوحدة الداخلية ويخرب بعضهم بيوت بعض، حتى إذا بلغ السير نهايته واضمحلت جميع القوى من الحاكم والمحكوم وغلبت الأيدي فلا يستطيع أحد حراكا؛ ساقوا الحاكم إلى المجزرة بسيوف تلك العساكر التي كانت حامية له واقية لبلاده، وكانت تشحذ لجز عنقه من سنين طويلة وينفق على صقالها من ماله ثم خلفوه على ملكه.
وكانوا يميلون بقوتهم إلى أحد أعضاء العائلة المالكة ليطلب الملك فيخلعون المالك ويولون الطالب على شريطة أن يقطعهم أرضا أو يمنحهم امتيازا، فيحولون الملك من الأب للابن ومن الأخ لأخيه ومن العم لابن أخيه، وفي الكل هم الرابحون. هذا سيرهم في الهند وهو على بعد من مراقبة أوروبا، ما فاجئوا أحدا بحرب وما اختطفوا ملكا بقوة مغالبة، بل ما أعلنوا سيادتهم على مملكة صغيرة ولا كبيرة إلا بعدما أيقنوا أن لا قوة لحاكمها ولا أهليها ولا بما تطرف به أجفانهم.
أولئك الإنجليز باقعة
2
العالم وأحبال الحيل، يريدون اليوم طرد العساكر المصرية وأرض مصر لا تحرسها الملائكة فلا تستغني عن حامية، فإن تم ما أرادوا زينوا لبعض ذوي السلطة في مصر أن يطلب منهم جندا إنجليزيا يكون خادما له وحافظا لملكه، فإن لم يقبل داروا بحيلتهم تحت أستار التمويه على كل من له حق في الولاية على تلك البلاد يعرضونها عليه، حتى يعثروا بمن يقبل نصحهم أو غشهم ذهولا عن حقيقة القصد، فيقيمونه حاكما خلفا لمن لم تسمح ذمته بالقبول، وتكون رغبة المغرور حجة لهم عند أوروبا، هذا سر انقلاب الإنجليز على الجند الوطني وقدحهم في سيرتهم بعد الثناء على حسن استعداده، وسعيهم إلى طرده بالأدلة الواهية والعلل الواهنة.
أما المؤتمر فالداعي إليه أن العدوان في هذه الأزمان لا يأتيه المعتدون كما كان في الأحقاب الخالية مشوه الوجه منكر الصورة يعرفه الذكي والغبي، بل من أراد عدوانا فلا بد أن يحفه بمواكب من الأدلة وحفال (جمع) من البراهين، وهو ما يعبرون عنه بالحقوق والمصالح. وما أصعب الوقوف على كنه العدوان وهو في هذه الحيلة وتلك الهيئة الجميلة.
يريد الإنجليز عقد المؤتمر ويرغبون قصر المداولة فيه على المسألة المالية ليضمنوا ديون القطر المصري ويكفلوا للدائنين أداء حقوقهم ويأخذوا على أنفسهم عهدة الإنفاق على الإدارات المصرية مدة من الزمان، لترخص لهم الدول الإقامة في وادي النيل إلى أمد، فيكون تفويض الدول حجة لهم في التصرف وإدارة شئون الحكومة المصرية ما دام السلم مظلا بلاد أوروبا، فإذا حدث حادث حرب في الدول الأوروبية - وما هو ببعيد الوقوع - تربعوا في تلك البلاد وأناخوا بكلاكلهم وضربوا بجرانهم على أراضيها وألقوا عصاهم، هذا سر شفقة الإنجليز على المصريين وهو سر رغبتهم في وقوف المؤتمر عند شئون المالية.
هذه المصيبة العظمى والداهية الدهماء التي تتحفز لتنقض على المصريين، هل تمس بحفيفها جانب ألمانيا؟ كلا؛ فإن منافع ألمانيا الحقيقية لا تعلق لها بالمسائل المصرية وهي في الشغل بما هو أهم منها، وليست دولة أستراليا بأقرب المصائب المصرية من ألمانيا، على أن كلا من الدولتين ليس في استطاعتهما تأييد فكرها بالعمل، لو مست الحوادث المصرية شيئا من مصالحها؛ فإن مواقع الدولتين لا تساعدهما على الإضرار بدولة الإنجليز، أما إيطاليا فهي ساكنة الجأش بما تؤمل نواله في إفريقيا بمساعدة إنجلترا، نعم، لهذا السيل الجارف تدفق على بيت محمد علي باشا، فيخشى على أركان ذلك البيت لو لم يتدارك أمره!
أما الدولة العثمانية، فلو حولنا النظر عن حقوقها الثابتة في الأراضي المصرية من وجوه كثيرة، فليس يخفى علينا أن الولاية على تلك الأراضي هي الركن الأعظم للسلطة العثمانية في سوريا، وقسم عظيم مما يتصل بها من آسيا الصغرى وفي الحجاز واليمن، فمن المفروض على العثمانيين أن يبذلوا وسعهم لصيانة مصر؛ دفاعا عن حقوقهم المقررة وحفظا لشوكتهم في معظم ممالكهم، ولا يسوغ لهم شرائع الملك أن يفرطوا في المسألة المصرية لا في جزئي منها ولا كلي، فإن مصر عقدة تتصل بها أطراف السلطنة العثمانية، فإذا انحلت، فقد انحلت - والعياذ بالله - سائر العقد.
ليس لعثماني أن يتوسد وسادة السيادة البسماركية الناعمة؛ فإن الحاجات الطبيعية والدواعي الجوهرية هي الحاكمة على الأمم، ولا اعتبار في السياسة بالأطوار العارضة، ربما يهم بسمارك أن يشتري بمصلحة العثمانيين وداد الإنجليز لتأييد سياسته وترك فرنسا منفردة بلا حليف، وله أن يلقي بمصلحة العثمانيين في أيدي الروس إذا مست الحاجة ليدفع عن نفسه شرا يتوقعه، وليس لبسمارك أدنى غاية في الاتصال بالعثمانيين إلا بهذا المقدار يفدي بهم منفعة من منافعه، ومن نظر إلى أحوال الأمم بما تقتضيه طبائعها؛ حكم بذلك حكما قاطعا.
نعم، من الدول دولة فرنسا كانت لها مزايا في أرض مصر أشرفت على الزوال وليس بالسهل علينا ضياعها، ولها أملاك واسعة فيما وراء البحر الأحمر ولا تصان سلطتها على تلك الأملاك إذا نشبت أظافر الإنجليز في أحشاء مصر بأي اسم كان وتحت أي عنوان؛ فأصول السياسة الفرنسية لا تسمح للفرنسيين بالتساهل في المسائل المصرية.
ودولة الروس تسابق دولة إنجلترا في النصر والغيب بشرقي آسيا، وتنافس الألمان في القوة بأوروبا، ولها مع ألمانيا مزاحمات خفية ثابتة في عناصر الأمتين لا يزيلها هذا التآلف الظاهري؛ فقد يكون من أحكام سياستها الانضمام إلى دولة فرنسا لمضايقة إنجلترا في البلاد المصرية، بل النظر في طبيعة حال الأمتين يقضي بلزوم اتحادهما في المشكلات الأوروبية أيضا، وربما تكون هذه المسألة بداية الارتباط بين هاتين الدولتين.
ولعل هذه الفرصة لا تفوت العثمانيين ولا تحجبهم الحوادث الماضية عن إدراك هذه النكتة، وهي أن الروسيين هم أشد الناس حاجة إلى الاتحاد مع الدولة العثمانية في هذه الأوقات؛ لما فتح لهم من أبواب للغنم في آسيا، ويرون الإلف مع العثمانيين أعظم عضدا لهم في نيل مطامحهم بتلك الأقطار، بما للسلطان من المنزلة العليا في قلوب مسلميها، ولا تأخذ العثمانيين رجفة من إرعاد الإنجليز وإبراقهم؛ فليس لهم سلاح يشهرونه على الدولة العثمانية سوى الترهيب، ومن المحال أن يفاتحوها بحرب وإلا تقلصت سلطتهم عن البلاد الشرقية بأسرها، فإذا ثبتت الدولة في مطالبها واشتدت في إرجاع حقوقها لجأ الإنجليز للخضوع والاستكانة إليها، وهذا من البديهيات الجلية عند كل من وقف على أحوال الإنجليز في الهند وعلى مكانة السلطان العثماني في قلوب الهنديين عموما، والحكم لله يفعل ما يشاء.
الفصل التاسع الأربعون
العروة الوثقى
لا يظن أحد من الناس أن جريدتنا هذه بتخصيصها المسلمين بالذكر أحيانا ومدافعتها عن حقوقهم تقصد الشقاق بينهم وبين ما يجاورهم في أوطانهم ويتفق معهم في مصالح بلادهم ويشاركهم في المنافع من أجيال طويلة؛ فليس هذا من شأننا ولا مما نميل إليه ولا يبيحه ديننا ولا تسمح به شريعتنا، ولكن الغرض تحذير الشرقيين عموما والمسلمين خصوصا من تطاول الأجانب عليهم والإفساد في بلادهم، وقد نخص المسلمين بالذات؛ لأنهم العنصر الغالب في الأقطار التي غدر بها الأجانب وأذلوا أهلها أجمعين، واستأثروا بجمع خيراتها، وسنكتب مقالة مفردة في هذا الباب إن شاء الله.
الفصل الخمسون
إسماعيل باشا
لهج كثير من الجرائد الأوروبية في هذه الأيام بذكر إسماعيل باشا خديو مصر السابق، ومنها جريدة «البال مال جازيت» قالت : إما أن تستولي إنجلترا على مصر أو تسلم الإدارة فيها لإسماعيل باشا، ونقل أحد محرري هذه الجريدة عن مدام نوفيكوف، وهي صديقة شهيرة لمستر جلادستون، أنها قالت له: «إن أحسن وسيلة لتقرير الراحلة في مصر وجعل مصر للمصريين هو إعادة إسماعيل باشا إليها»، وذكرت إحدى جرائد ألمانيا أن كلامها يكاد يكون رسميا.
أما نحن فسنبين رأينا في هذه المسألة ونبدي فكرنا فيما يتعلق منها بالسلطان العثماني والطريقة التي ينبغي أن يسلك فيها، وما يرتبط منها بمصلحة المصريين، وما يجب على إنجلترا أن تأخذ به لو كانت - كما تزعم - تريد التخلص من ورطة المسألة المصرية، ولا نظنها صادقة.
الفصل الحادي والخمسون
نجد
كتب إلينا أحد أهالي نجد رسالة طويلة، يحكي بها ما فعله قنصل الإنجليز مستر «كورنل بيلي» الذي كان قنصلا لدولته في خليج فارس ومقره ببندرا بوشهر، وما توسل به للمداخلة في بلاد نجد في سنة 1280 أيام كان أمير نجد الأمير فيصل، وقصد برواية هذه الحادثة تنبيه إخوانه المصريين لشدة المشابهة بين تلك الوسائل التي تشبث بها القنصل للتداخل في سواحل البلاد النجدية، وبين ما اتخذه الإنجليز وسيلة للهجوم على أرض مصر، إلا أننا لا نذكرها الآن لقدم عهدها، وسنفرد لها وأمثالها كتابا مخصوصا؛ نفصل فيه ما فعل الإنجليز في البلاد التي حاولوا الاستيلاء عليها ولم يستطيعوا مع استمرارهم في طلب ما يمكنهم من مقاصدهم، ونطبع هذا الكتاب ونوزعه مجانا!
الفصل الثاني والخمسون
الصحف الهندية
جاءت إلينا الجرائد الهندية فسرنا اعتدال سيرها في خدمة أوطانها، وزادنا سرورا عنايتها بترجمة مقالاتنا المتعلقة بأحوال الشرقيين عموما والمسلمين خصوصا، ونقلها من اللسان العربي إلى اللسان الهندي، فلله شكرها على ما صنعت، ونخص من بينها جريدة «أخبار دار السلطنة» التي تطبع في كلكته، وجريدة «مشير قيصر» التي تطبع في لكهنو، وهذا كان أملنا في أرباب تلك الجرائد، وليس بغريب على غيرتهم الدينية والوطنية.
هذا ما كان من مسلمي الهند وهم في قبضة الإنجليز من مدة تزيد على قرن، وإننا نأسف غاية الأسف مما بلغنا عن بعض المصريين من أنهم يمتنعون عن استلام ما يرسل بأسمائهم من أعداد هذه الجريدة خوفا ورهبة، مع أنهم أحق الناس بالإقدام على أمور عظام في هذه الأوقات، فإن الآمال في خلاصهم قوية والوسائل إليه قريبة، فكيف يصل ببعضهم الخوف إلى الامتناع عن استلام جريدة هم أولى بها من غيرهم؛ إذ أهم ما فيها الدفاع عنهم.
الفصل الثالث والخمسون
صفقة خاسرة
كتب إلينا صديق فاضل من أخلص المؤمنين بالقطر المصري، قال:
إن مأموري الإنجليز الآخذين بزمام بعض الوظائف المصرية لا يزالون يسعون في تغرير الأهالي والتحيل عليهم ودس الدسائس بينهم بطرق مختلفة من الترغيب والترهيب، كل ذلك ليرضوهم بطلب الحماية الإنجليزية، إلا أن أولئك الأبالسة لا يلاقون في سعيهم إلا خيبة؛ لأن العلماء وأعيان البلاد قد أحاطوا بغايات الإنجليز ومقاصدهم، وعلموا أنهم لا يقصدون بالبلاد إلا الشر، كما لم ينلها من حلولهم إلا الضر، خصوصا وأن روح الحمية والغيرة الدينية والوطنية صار لها السلطان الأعظم على نفوس أهالي القطر المصري، فاشتدت أنفتهم من تسلط الإنجليز في ديارهم، وقاوموا مطالبهم بعزائم ثابتة وقلوب غير واجفة.
وهذا هو ظننا - بل يقيننا - في أبناء القطر المصري، علمائهم وأمرائهم وحكامهم وأعيانهم وأوساطهم بل وسائر طبقاتهم؛ أن لا تسمح نفس واحد منهم بمجاراة الإنجليز رغبتهم، وأن لا يطمئن قلبه بالدخول تحت سيادتهم، بل ببقاء شخص منهم في بلاده وعلى مرمى نظره، فإن وجد بينهم شخص يتخذ إلهه هواه ويميل مع الباطل فهو ممن يعرف المصريون سيرته في إفناء ليله وأطراف نهاره فلا يثقون به، ومما أخبر به الصادق أن كليفور لويد يجتهد لتسليم رئاسات البلاد إلى أناس من طبقة يتوهم فيها سقوط الهمة وسخافة الرأي؛ ليتمكن بهم من إجراء بعض مقاصده، لكن لم يتسن له نجاح، ولئن نجح في تحويل الرئاسات من نصابها فلا يلاقي ممن يسلمونها إلا مثل ما لاقى من غيرهم، فإن الجميع مصريون يفضلون ظلم أبناء وطنهم على عدل الأجنبي ، فكيف لو كان الأجنبي لا يقاس بظلمه ظلم.
ثم قال صديقنا الفاضل : «زاد الويل أضعافا على الأهالي بالمجالس المحلية؛ فإن الإنجليز لم يراعوا في تشكيلها مصلحة الرعية، وإنما وضعوا في جوهرها ما يضيق عليها سبل المعاملة إخمادا لنفوسها لينالوا حظهم من السيادة عليها ولم يعلموا أن بخس الحقوق من أشد موجبات العقوق، وفي الأمثال العربية: «زر كلبك للطاق يأكلك» أي ضيق عليه، أما الفلاحون فأحوالهم سيئة، ضيق وضنك وفقر وإعدام مما يفتت الأكباد ويذيب القلوب ويفطر الجماد.»
الحكومة مضطرة لطلب الأموال وملجأة إلى تكليف الفلاحين بدفع ما عليهم، والأجانب قائمون على اقتضاء ديونهم منهم، والكساد ورخص أسعار الحبوب وثمرات الزراعة لم يجعل في المحصولات وفاء بضرورات المعيشة فضلا عن أداء المطلوبات، فكيلة القمح بستة قروش والذرة بأربعة، وعلى هذا يقاس، ومن ثم تسمع كل يوم تنعاب أغربة الدلالين في فناء ديوان الحقانية على خراب بيوت الفلاحين، هذا ينادي على بيع أراضيه بأسرها وهذا ينعق عليه بمبيع بعضها، والآخر بالحجر على أملاكه، والحكومة لا تني في طلب ضرائبها قبل أوان المحصولات.
أما أحوال المدن فليس بأسعد من أحوال الأرياف، خصوصا من تعديات الأجانب على سكانها، فالمنازعات والمخاصمات بين الأجانب والوطنيين يقضى فيها على الوطني بالتغريم والجزاء ولا يؤخذ على الأجنبي في شيء، وإن كان هو المعتدي! وإن سأل الوطني: أين خصمي؟ فيقال له: إنه يحاكم في محل آخر مع أنه لم يذهب إلى مقام المحاكمة رأسا واكتفي في فصل الدعوى بأحد الخصمين، وهو طرز من الحكم جديد. هذا بعض آثار العدالة الإنجليزية.
وجاء في خبر صديقنا هذا رواية كثير من المظالم التي أصيب بها أهل القرى من جراء التداخل الإنجليزي في إدارات الحكومة، ضربنا عن ذكرها؛ رعاية لجانب الاختصار بعد وضوحها عند أولي الأمر من المصريين، أما الأمن فلم يبق له أثر، وأما النظام قد انقض بناؤه واقتلع أساسه واختزن الإنجليز أنقاضه في خزائن الآثار القديمة، فقويت عصابات اللصوص وجاهروا بالنهب والسلب، وهذا خبر تؤكده روايات الجرائد الوطنية المصرية عربية وإفرنجية ؛ فإن جميعها يشتكي الملل والسآمة من رواية أخبار السوء كل يوم.
إلا أن من غريب الوقائع هجوم لفيف من السارقين على قرية نشرت ونواحيها من مديرية الغربية وقتلهم واحدا وأربعين رجلا؛ فإن خبر هذه الواقعة - إن صح - كان دليلا على بلوغ الاختلال إلى درجة فوق ما كنا نتصور - نسأل الله السلامة، كما نسأله إبدال عسر المصريين باليسر، وهو على كل شيء قدير.
الفصل الرابع والخمسون
أخبار سياسية
قبلت الحكومة الفرنسية أن تدخل في المؤتمر لكن على شرط أن لا تذهب إليه مغلولة اليدين غضيضة الطرفين، وأن لا بد قبل ذهابها إليه من مخابرة بينها وبين إنجلترا فيما يلزم أن يكون موضوع البحث في ذلك المؤتمر، وقد أجمع السياسيون في فرنسا على ضرورة امتداد البحث إلى ما وراء المالية من إدارة البلاد المصرية وإقرار الراحة فيها.
الجرائد الإنجليزية تظهر خوفها من تشديد فرنسا وتستنجد أوروبا وترى أن تدخل الدول جميعها في مصر وإقامة مراقبة دولية لحكومتها لا تمتاز فيها دولة من دولة؛ خير من مداخلة فرنسا وحدها مع إنجلترا، وإن عارضت ذلك جريدة التايمس وحدها، وفي بعض الجرائد الروسية أن إنجلترا لا يمكنها أن تضع حمايتها على مصر لظهور عجزها عن إدارة البلاد بعد احتلالها سنتين وهي مطلقة التصرف لا مزاحم لها، وبعد العجز لجأت إلى دول أوروبا، أما دولة فرنسا فلا يهمها إعادة المراقبة المشتركة بين الدولتين، ولكن يهمها أن لا تخص إنجلترا بالامتياز في مصر.
ذكرت كثير من الجرائد الألمانية نقلا عن مصدر يوثق به أن الباب العالي لم يقبل الاشتراك في المؤتمر إلا على شرط أن تكون المداولة فيه غير واقفة عند حد المالية، بل من اللازم أن يكون موضوع نظره لائحة جرانفيل المرسلة إلى الدول في يناير سنة 1883 (عندما كان دوفرين في القاهرة).
وعلى هذا فالدولة العثمانية تطلب النظر في المسألة المصرية بجميع فروعها لاتصال بعض أجزائها ببعض، وفي جريدة التان أن الباب العالي بعد مخابرة الدول والاتفاق معها، خصوصا دولة فرنسا، أرسل تلغرافا إلى موزوروس باشا السفير العثماني في لندن بأنه مستعد لقبول المؤتمر على شرط أن يكون بحثه في الشئون المالية والسياسية والإدارية.
في جريدة «جازيت ناسيونال» الألمانية أن سير فرنسا في المسألة المصرية موافق لسير جميع الدول لا سيما ألمانيا، وقالت: إن إنجلترا أصبحت منفردة وهذا مما لا يسر ألمانيا.
استفيد من خطاب المستر جلادستون في مجلس البرلمان أن لنواب الدول عند اجتماعهم أن يبحثوا فيما سوى المسألة المالية إن أرادت الدول ذلك، وإن كان هذا يناقض ما صرح به جرانفيل في جلسة أخرى، ولما سئل جرانفيل عن هذا التناقض أعرض عن الجواب وقال: إن الحكومة مستعدة لإنقاذ جوردون (هذا مما يضحك)!
أخبار السودان تشعر بالشدة؛ فقد أخبر الحاكم في دنقلا أن رسلا بعثوا إلى الخرطوم فعادوا ولم يتمكنوا من الوصول، وقالوا: إن الثائرين محدقون بجوردون من جميع الجهات، في برقية من القاهرة إن الثائرين مجتمعون في عيون أبي سعيد على قرب من أسوان وإن زعماء جيش محمد أحمد طلبوا من حامية دنقلا أن تسلم بعد ثلاثة أيام وإلا فتكوا بهم.
جرت مشاجرة بين بعض العساكر الإنجليزية وبين العربان النازلين على شواطئ بحيرة مريوط، وقتل فيها عدة أشخاص.
الأخبار متواترة بأن عثمان دجمة يحاول الهجوم على سواكن، وينازل بعض القبائل التي لم تذعن لدعوة محمد أحمد على القرب من طمانيب.
المستر جلادستون وعد بأن يرسل جيشا إلى السودان، لكن لا بد من مراعاة الفصول والأهوية، ثم أظهر تجافيه عن حرب السودانيين الذين يدافعون عن حريتهم وبلادهم.
الفصل الخامس والخمسون
المسألة المصرية دولية
إنا أنذرنا الإنجليز خطرا قريبا على الهند، ونبهنا في أول عدد صدر من جريدتنا على أن تفيؤ التركمان في مرو لظل الحكومة الروسية باختيارهم ربما يحمل تركمان سرخس على الاقتداء بهم، وأشرنا إلى ما يتبع ذلك مما عاقبته نكال على الإنجليز، واليوم وقع ما توقعناه، فاستولت روسيا على سرخس وتاخمت بحدودها حكومة الأفغان، وارتعدت فرائص الإنجليز وغشيهم الفزع والقلق، وأعولت جرائدهم نحيبا ورددت نشيجا وأحست بقرب الأجل، ولم يسكن روعهم ما ذكرته جريدة بترسبرج الشبيهة بالرسمية من أن سرخس اسم يشترك بين مدينتين، قديمة وحديثة، وإنما دخل في حوزة الروس أولاهما؛ فإن الإنجليز يعلمون أن المدينتين متصلتان لا يفصلهما إلا ترعة صغيرة «نهر تجند» عرضها عشرة أذرع بالتقريب.
على أن سرخس التي حكم مهندسو حرب الإنجليز أنها باب الهند من طرف الشمال، وأنها ممر فاتحيه من زمان قديم ومن طريقها طرق الهند إسكندر الأكبر ونادر شاه الإيراني، وأن وصول الروس إليها مما يخرق سياج الهند؛ إنما هي سرخس القديمة.
ومما زاد الإنجليز فزعا واضطرابا أن التركمان النازلين بتلك المدينة وما يليها هم الذين عرضوا أنفسهم على حكومة الروس طوعا واختيارا، وبعثوا وفدا منهم؛ لينوب عنهم في عرض خضوعهم على البرنس دوندكوف حاكم ما وراء بحر الخزر من الولايات الروسية، ووصل الوفد إلى عشقاباد وأقام بها ينتظر قدوم البرنس إليها.
وقع الإنجليز الآن بين شرين عظيمين: خطر عاجل وحتف آجل، أما الثاني، فهو أن روسيا إما أن تتحد مع الأفغانيين وتحالفهم على مطاردة الإنجليز، وهو الأقرب المتوقع، فتصير معهم يدا واحدة على هدم أركان الحكومة الهندية الإنجليزية، وليس بخاف ما يضمره كل أفغاني لكل إنجليزي من الحقد والضغينة، والأفغانيون قوم حرب يناطحون الموت بنواصيهم، فكيف إن وجدوا مساعدا قويا؟
وإما أن تميل حكومة الأفغان إلى الإنجليز، وهو من فرض المحال، فما أسرع أن تنتشب مقاتلات بين القبائل المختلفة ممن تحت حكومة الأفغان، مثل جمشيدي وفيروز كوهي وبين قبائل التركمان المتاخمين لهم، ويعقبها حرب بين الروس والإنجليز؛ لأن كلا من الدولتين مضطر للمدافعة عن حليفه، بل للروس حق المناضلة عن رعاياها التركمان، فإذا زحف الروس إلى الأراضي الأفغانية تقطعت حبال الإنجليز وامتنعت عليهم وسائل الدفاع، وهذا آخر حياتهم في الهند.
وأما الخطر العاجل فهو أن سماع الهنديين بخبر استيلاء الروس على سرخس يوقد فيهم نار ثورة عامة، يلتمسون في أضوائها طريقا للخلاص من الضيق والضنك الذي شملهم، وسبيلا للنجاة من الويل الذي جلبته عليهم مظالم الإنجليز.
هذا يكون كما اشتعل لهيب الفتنة سنة 1860 عندما وصل إلى الهنديين خبر استيلاء ناصر الدين شاه الإيراني على هراة، بل انتقاض الهند على الإنجليز في هذه الأيام أقرب؛ فإن خواطر المسلمين من سكانه في هياج شديد بما شاع بينهم من دعوة محمد أحمد السوداني، بل بما يمكن في أهوائهم من الميل إلى تصديقه، وإن لهذه الدعوة حملة على الهند لا يقاومها تدابير دولة بريطانيا.
تريد دولة إنجلترا أن تصد المسلمين عن حج بيت الله الحرام في هذا العام وربما فيما بعده؛ حتى لا تصل أخبار محمد أحمد وتورط الإنجليز في مقاومته إلى مسامع الهنديين، ولكن سيحمل هذه الأخبار إلى تلك الأقطار حجاج الأفغانيين والبلوجيين الذين يسلكون إلى الحج طريق البصرة والكويت، بل يبلغونها على وجه أبلغ مما لو سمعوها بآذانهم.
هذا تأييد إلهي للدولة العثمانية، فعليها أن تنهض بعزيمة صادقة وجأش ثابت وهمة تليق بمكانتها في المغلوب، وعلى السلطان العثماني أن يتذكر أنه خلف لأولئك الأسلاف العظام الذين ما أضاعوا حقا ولا أهملوا فرضا، ويقتضي من الإنجليز حقه ويسترد مصر من أيديهم ويطهرها من جراثيم الفساد، ولا يقنع بما دون الحق ولا يدع لهم فيها شأنا إلا بما يساوون فيه غيرهم من الدول، ولا تفوتن العثمانيين فرصة هذا الارتباك الذي سقط فيه الإنجليز كما فات الإيرانيين الانتفاع بثورة الهند في الأيام الماضية لتأخر خبر الثورة عنهم، وإلا لكانوا أوقعوا بالإنجليز ونالوا الغاية من ضرهم.
على العثمانيين أن يتلافوا الأمر قبل أن يشب الإنجليز حربا صليبية بين الحبش والمسلمين على نفقة الحكومة المصرية، ليس للدولة العثمانية أن تتهاون في مطالبها أو تتحاشى الدفاع عن حقوقها الثابتة، ولا أن تخشى في ذلك تهويل الإنجليز وجلبتهم؛ فإن كثيرا من الدول - على اختلاف مقاصدها السياسية - يوافقونها على تخليص مصر من مخالب الإنجليز كما دلت عليه منشورات الجرائد ورواياتها عن مقاصد السياسيين من كل دولة.
بل الذي يفهم من جملة مقالاتهم أنه لا توجد دولة من الدول ترضى بأن يكون المؤتمر وسيلة لاستيلاء الإنجليز على مصر أو وضعها تحت حمايتهم، خصوصا دولة فرنسا ودولة الروس، وإليك طرفا من آراء الجرائد وما تنقله عن السياسيين، قال مراسل التايمس في باريس: «إن فرنسا لم تقبل ولن تقبل أن يكون بحث المؤتمر منحصرا في المسائل المالية»، ولقد أصابت فرنسا في عدولها عن طلب المراقبة المشتركة بينها وبين إنجلترا ورغبتها في مراقبة يشترك فيها جميع الدول؛ فإن في ذلك فوائد عظيمة لها ولغيرها ولا أظن أن حكومة إنجلترا وافقت على ما ترغب فرنسا، كما لا أظن أن فرنسا تتساهل فيما تريد، وعلى هذا، فإما أن ينعقد المؤتمر ولا تكون مداولاته مقصورة على مشكلات المالية وإما لا يلتئم أصلا.
ولا أمل لإنجلترا إلا في التستر تحت حيلتها، وهي أن ترغب إلى الدول عقد مؤتمرين متعاقبين، أولهما للمالية وبعده ينعقد الثاني؛ للنظر فيما لم ينظر فيه الأول، وقال مراسل الديلي تلغراف في ويانا: «إن خطاب المستر جلادستون الذي ألقاه في مجلس النواب حرك دول ألمانيا والنمسا وإيطاليا للاتفاق في المسألة المصرية، فصرحت جميعها بأن مصالحها في مصر تقضي عليها العمل في حل هذه المسألة، وليس من سياسة واحدة منها أن تنتظر زمنا طويلا بعد ما مضى من الحوادث مع ما يتوقع نزوله بمصر من النكبات، واستقر رأي الدول الثلاث على المداخلة في وقتها المناسب، وقد انحلت ثقتها في مسلك الوزارة الإنجليزية.»
وورد من فيينا إلى جريدة التان الفرنسية الشبيهة بالرسمية من مكاتبها برقية قال فيها: «إنه اجتمع مع رجال عظام في تلك المدينة واستطلع أفكارهم في المسألة المصرية، فإذا هم متباينون في الرأي، فمن ظن بعضهم أن الواجب على دولة النمسا أن تأخذ جانبا عن هذه المسألة وتوسع المجال لدولة إيطاليا؛ فإنها إن فعلت ذلك أرضت إيطاليا بدون أن يلحق ضرر بمصلحتها ووافقت رغائب ألمانيا، ومن رأي بعضهم أن حكومتهم لا يسوغ لها التخلي عن رعاية مصالحها في مصر مرضاة لإيطاليا، بل لا يمكنها هذا. وقد أخطأ من يظن أن ليس للنمسا منافع في البلاد المصرية.»
ثم قال الكاتب: «تلاقيت مع رجل سياسي له شهرة بحرية الفكر وإصابة الرأي ، فمن كلامه: إن دولة ألمانيا ربما تجعل المسألة المصرية وسيلة لمراضاة الإيطاليين ؛ بأن تعد لهم فيها مقاما رفيعا؛ لأن ألمانيا ليس لها قوة بحرية ولا يهمها ما يجري في البحر الأبيض إلا بطريق العرض، أما النمسا فإن لها في ذلك البحر مركزا مهما فحالها من هذه الجهة يخالف حال ألمانيا، على أن حركات السياسة البرية لا بد أن تقذف بها إلى ذاك البحر وهو مما يزيدها حرصا على تعزيز جانبها فيه، وليست المسألة المصرية إلا مسألة البحر الأبيض فمن له فيه شأن يراعيه فله الشأن في المسألة المصرية، وعلى حسب درجة الأول تكون درجة الثاني.»
ثم أطال الكلام في بيان المنافسة السياسية بين دولة النمسا وإيطاليا، وما يطمح إليه نظر كل منهما، غير أن هذا ليس مما يمنع الدولتين عن الاتفاق في معارضة الإنجليز وخفض منزلتهم في مصر والبحر الأبيض.
أما جرائد فرنسا ورجال سياستها فعلى رأي واحد في وجوب تحويل المسألة المصرية عن وجه كونها إنجليزية إلى وجه كونها دولية أوروبية، وارتاحت لهذا نفوس الدول ومالت إليه أفكارهم، نسأل الله حسن العاقبة، وإليه المصير.
الفصل السادس والخمسون
العروة الوثقى (مصادرتها في مصر والهند وفرض غرامة على قرائها!)
انعقد مجلس الوزراء المصري في القاهرة، واهتم بالبحث في شأن «العروة الوثقى»، ثم أصدر قراره إلى وزارة الداخلية المصرية قاضيا عليها بأن تشتد في منع هذه الجريدة من دخول الأقطار المصرية وتراقب جولاتها في تلك الديار، فصدر أمر الداخلية إلى إدارة عموم البريد يلزمها بالدقة في ذلك، وبلغنا أن الجريدة الرسمية - بعد نشرها صورة الأوامر - أعلنت أن كل من توجد عنده العروة الوثقى يغرم مبلغا من خمسة جنيهات مصرية إلى خمسة وعشرين جنيها (وهي غرامة جسيمة ربما دعا إليها عسر المالية المصرية ببركة تصرف الإنجليز في مصر)!
أما نحن فلا نظن أحدا من الوزراء المصريين له رأي اختياري في هذا القرار، بل لا نتوهم في المستوي على كرسي الخديوية ميلا إلى مثل هذا الحكم، ولا يختلج في صدورنا أن مصريا من أي مشرب كان سواء المسلم أو غير المسلم منهم، بل ولا شرقيا ممن يسكن تلك البلاد يرى فيه جانبا من العدل.
هذه جريدة قامت بالدفاع عن المصريين والاستنجاد لهم، ولها سعي - بل كل السعي - لخيبة آمال أعدائهم، ولا ترى من مشربها مدح زيد ولا القدح في عمرو؛ فإن المقصد أعلى وأرفع من هذا، وإنما عملها سكب مياه النصح على لهب الضغائن لتتلاقى قلوب الشرقيين عموما على الصفاء والوداد، تلتمس من أبناء الأمم الشرقية أن يلقوا سلاح التنازع بينهم ويأخذوا حذرهم وأسلحتهم لدفع الضواري التي فغرت أفواها لالتهامهم، ومن رأيها أن الأشغال بداخل البيت إنما يكون بعد الأمن من طروق التأهب، هذا منهاج العروة الوثقى علمه كل مطلع على ما نشر فيها من يوم نشأتها إلى الآن، فكيف يخطر ببال عاقل أن شرقيا مسلما أو غير مسلم يميل لحجبها عن دياره؟! ولكنا نعلم أن حركات الآمرين في القطر المصري هذه الأيام قهرية لا يخالطها شيء من الاختيار، والمدير لرحى القهر عليهم هم عمال الإنجليز.
ولا نريد أن نقول للإنجليز: إنهم ظلموا في الحكم؛ فإن الجريدة لم يوجد فيها إلى الآن ما يزيد على ما تنشره الجرائد الوطنية والأجنبية من كشف مساتيرهم وبيان الرزايا التي أصيبت بها الديار المصرية من حلولهم؛ لأنهم - الإنجليز - الذين أحسوا بشهرة عالم من علماء المسلمين في الهند وإقبال الناس عليه بالاعتبار، أسرعوا بجلبه إلى ديوان الشرطة (الضبطية)، فعند وصوله إليها يفتح له الضابط مصحف قرآن أو كتاب حديث من الكتب المشهورة ثم يشير إلى آية من آيات الجهاد أو حديث مما يدعو إليه ويسأله: «هل أنت معتقد بهذه الآية أو الحديث؟» فإذا قال: نعم قال له: «فبناء على ذلك يكون من رأيك وجوب الجهاد فينا»، فإذا أجابه: «إنني درويش ملازم العزلة عن الناس وليس اعتقادي بهذا إلا لأنه كتاب ديني»، ضرب له الضابط أجل أربعة أيام أو أقل يبين فيها رأيه في الآية أو الحديث، فإن مضى الأجل ولم يحرف العالم دينه ولم يبدل عقيدته ولم يبادر بإرسال تحريفه وتبدليه وخروجه عن دينه إلى مطبعة من المطابع ليطبع وينشر، بعثت به الحكومة إلى جزيرة أندومان نفيا مؤبدا، ولو رأيت تلك الجزيرة لرأيتها غاصة بأمثال هؤلاء المظلومين.
فدولة الإنجليز التي تحاسب رعاياها المسلمين على خطرات قلوبهم وما يمكن أن يهجس في حديث نفوسهم؛ لا ريب أنها تعد وجود لفظ الإسلام في جريدة كافيا لمنعها عن الدخول إلى بلاد لها فيها قدم ثابتة أو تسعى في تثبيتها، بل تحسب أن من ألد أعدائها شخصا علق هذا الاسم من أي جنس كان، فلا غرابة في صدور مثل هذا الجور منها غير أننا نعلن لها أن همم الرجال لا تقعدها أمثال هذه المظالم، وليس يعجزنا إدخال هذه الجريدة في كل بقعة تحوطها السلطة الإنجليزية الظالمة، ذلك بعزائم أولي العزم الذي قاموا بإنشاء العروة الوثقى.
بلغنا أن بعضا من الناس يسل سيفه ويشحذ سنانه لمناضلة الولي الحميم، ويقابل ثناءه بالذم ومدحه بالقدح وإحسانه بالإساءة، ويواجه نصيحته بالظن، ولا نظن أن هذا منه عن عمد ولا إغراء عدوه، وإنما هو لشبهة حجبت نظره عن درك الحقيقة، فإذا كشفت له الأيام عن الواقع رجع إلى الندم على ما صدر منه وكانت له مثابة إلى الحق وركون إلى الصواب.
لا يحزنن أهل الحق القائمون بأمر هذه الجريدة على ما صدر عن الحكومة المصرية من منع العروة الوثقى من دخول القطر المصري، وليعلموا أن الحكومة المصرية لا دخل لها في هذا المنع؛ فإن حكومة شرقية لا تسمح لها غيرتها بمنع جريدة لا شيء فيها سوى الدفاع عن الشرقيين، وإنما منشؤه حكومة إنجلترا وشأنها معلوم عند كل عارف بأحوالها.
الفصل السابع والخمسون
تصرف الإنجليز في الهند
لا أريد بما أكتب في هذا المقال القصير تنفير قلوب المصريين من سلطة الإنجليز، فإن لي يقينا بأن المصريين الذين أنبتتهم أرض مصر لا يذعنون لولاية الإنجليز عليهم، بل يعارضونها بأرواحهم وأموالهم، ولهم من الغيرة الدينية والوطنية ما يحملهم على ذلك، وإن رأوا من عدلها ما لا يصل إليه إنصاف أنوشروان، ويفضلون ولاية مواطنيهم وإن مسهم منها أنكى ما يكون من الحيف، اللهم إلا قليل ممن فسدت أخلاقهم وانتكست طباعهم، وقليل ما هم، وإنما القصد كشف ما تدعيه هذه الدولة العظيمة من العدالة وما تختص به نفسها من الوصاية على نوع الإنسان.
إذا أشرف السائر على أي بقعة من البقاع الهندية الواسعة شخص بصره ودهش لبه بما يراه من آثار عناية الله بتلك البقاع وما منحتها من الخصب الطبيعي، حتى إن الأحجار الصلدة لتنشق عن الأشجار الضخمة العالية الأغصان المورقة الأفنان، تظل الواحدة منها امتدادا واسعا من الأرض وكأن أديم الأرض بما استوى عليه من أنواع النباتات قد بسط عليه بساط من السندس الأخضر، فيخيل للناظر أن سكنة هذه الأراضي في خفض من العيش وسعة من الرزق بل يظنهم أسعد من عمر الغبراء.
ولكنه إذا تجاوز السهول والأودية إلى المدن والقرى ضاق صدره وتفطر قلبه من مناظر سكانها، يرى آلافا مؤلفة يعبرون في الشوارع والأزقة جيئة وذهابا حفاة عراة بادية سوآتهم، كاسفة أحوالهم، لا يجدون رمقة من العيش. يلتمس الواحد منهم عملا من الأعمال الشاقة يقضي فيه نهاره وبعض ليله ليصيب من الأجر عليه ثلاثة فرنكات في الشهر بل فرنكين ونصفا ولا يتيسر له.
ويرى هذه الحال عامة حتى في المدن التي بسواحل البحر على كثرة الأشغال التجارية فيها، ويشتد به العجب عند المقابلة بين خصب التربة وجودة المنابت وسوء حالة القائمين عليها، ويحكم حكما لا ريبة فيه بأن إدارة الحكومة الإنجليزية (حامية النوع الإنساني) هي التي حرمت أولئك المساكين من التمتع بما آتاهم الله من فضله، إذا سأل سائل عن حال كثير من أولئك المعدمين الذين لا يملكون نقيرا ولا قطميرا، فربما يقف على أنهم كانوا من أرباب الثروة الواسعة والمقدرة السامية وكانوا يسكنون القصور العالية ثم أصبحوا يأوون إلى خصاص بل أقفاص.
إذا انتقل الفكر للبحث عن السبب أوصله النظر إلى أسباب كثيرة يرجع جميعها لتصرف الحكومة الإنجليزية، وأشدها ظهورا وفرة الإتاوات (خراج الأراضي) وثقل الضرائب على كواهل الأهالي، فإن الحكومة قد فرضت علي العاملين في زراعاتهم ولم تجعل الأداء على حسب ما تجود به الأرض كل عام بقدره ولكنها خرصت (حزرت) ما تأتي به كل أرض على درجتها من الخصب وقدرت مبلغا معينا تجيبه من العامل في الأرض سواء سلم زرعه من الآفات أو اجتاحته الجوائح، وقد يستغرق مطلوب الحكومة جميع المحصول بل يزيد عنه، وأداؤه حتم لا تردد فيه على أي حال، هذا فضلا عن الرسوم المختلفة التي لا حد لها ولا نهاية وتعرف عندهم (بالتكس) أي الرسوم غير الثابتة أو غير المحدودة، وربما أتينا على بيانها مع بيان سائر الأعمال بالتفصيل فيما بعد.
في هذا المقام تذكرت شيئا قد يخطر بالبال، رب غني في مصر يملك مزارع واسعة وإقطاعات كثيرة (أبعاديات وجفالك) فيركن إلى ما تفيض عليه من الرزق ويطمئن قلبه من جهة معيشته ومعيشة أبنائه من بعده، فيستوي عنده أجناس الحاكمين ولا يبالي بولاية الإنجليز على بلاده حيث سلم له قوته، وهنا أشير إلى طرف مما يعامل به الإنجليز أمثاله في الهند لتكون له عبرة.
أراد الإنجليز أن لا يكون لغيرهم يد على ملك واسع فيما تحت سلطتهم، فضربوا على أرباب الإقطاعات رسوما زائدة يؤدونها عن أراضيهم في أوقات محدودة، ثم وضعوا في قانون الزراعة أنه لا يجوز للمالك أن يقيم الدعوى على مزارعيه إذا تأخروا عن تأدية ما شرط عليهم إلا بعد مضي ثلاث سنوات من وقوع موضوع الدعوى، وإذا خان المزارعون أو أهملوا في أعمالهم أو استأثروا بمحصولات الزراعة؛ فلا يمكن لصاحب الملك أن يخاصمهم في مجالس القضاء إلا بعد مضي تلك المدة، إلا أنه يؤدي ما عليه للحكومة في أوقاته رغم أنفه، وإن لم يؤد إليه العاملون له شيئا.
وفي قانون المرافعات عندهم أنه إذا مضى على موضوع الدعوى ثلاث سنوات لم تحصل في أثنائها إقامة الدعوى فلا تسمع، فهذا يحمل العاملين في الزراعة على الإضرار بأرباب الأملاك ولا سبيل لهؤلاء إلى استخلاص حقوقهم من أولئك، والحكومة لا تترك من فريضتها شيئا ولا تتساهل في طلب أدائها بوجه فيضطر الملاك للتنازل عن أراضيهم للحكومة الإنجليزية (العادلة)، هذه أعمال من تأخذه ريبة في خبرها، فليسأل الهنديين عنها.
وإن الجرائد الإنجليزية في الهند تنادي على حكومتها الهندية دائما بوجوب التخفيف في الوطأة والرفق في السطوة، وتنذرها بأن الأعمال الإدارية والمالية لو دامت على نمطها هذا لا يمضي قليل من السنين حتى يشتد الضيق والضنك في عموم الأقطار الهندية، ويضطر الأهالي لإصلاء فتنة عمومية لا طاقة لدولة بريطانيا بإطفائها، ولكن لا يسمع الصم الدعاء.
الفصل الثامن والخمسون
نصيحة في الأدب
إذا صادفت ظالما أو قابلت فاجرا فلا تقل له أنت ظالم أو فاجر!
وردت إلينا من حضرة الفاضل مولوي عبد الغفور شهباز بمدينة كلكتا وهذا نصها: «ليس الأدب كما يظن بعض الناس مجموعة قصص تتلى للفكاهة أو أساطير تنقل في المسامرات، أو منظوم من القريض يمتاز بحسن الاستعارة ورقة التشبيه، مع مراعاة المحسنات اللفظية والمعنوية؛ من التورية والجناسات ونحوها من فنون البديع، أو منشآت ورسائل تتضمن إطراء في المدح أو مغالاة في القدح، فإن جميع هذا بمجرده لا يتصل بمعنى من معاني الأدب، وإنما الأدب في كل أمة هو الفن الذي يقصد به تهذيب عاداتها وتلطيف إحساسها وتنبيهها إلى خيرها لتجتلبه وإلى ما يخشى من الشر فتجتنبه.
فالأدباء في الحقيقة هم ساسة أخلاق الأمم، بل هم أجنحتها، تطير بهم إلى ذروة فلاحها، فإنهم بما يعلمون من طرق التفهيم يمكنهم أن يقربوا إلى العقول ما يبعد عن إدراكها، ويسهلوا على الأذهان ما يعسر عليها النظر فيه، ويعبروا عن المعنى الواحد بالطرق المختلفة فتستفيد منه العامة ولا تنكره الخاصة، فيأخذون على الظالم ظلمه ويعظونه بسوء عواقب الظلم، وينكرون على الفاجر فجوره ويحذرونه مغبة الفجور، حتى يردوا كلا عن غيه بما يرضون من طبعه بدون أن يقولوا له: إنك ظالم أو فاجر.
وإذا رأوا في أمتهم عوائد يأباها سليم الذوق أو وجدوا منها أخلاقا وأعمالا لا تنطبق على شريعة الفضل وقوانين الشرع؛ عمدوا إلى تغيير العوائد وتطهير الأعراق، وأخذوا في ذلك سبلا متنوعة في إنشائهم: تارة بالقصص والحكايات التي تمثل شناعة الرذيلة وبهاء الفضيلة وما آل إليه أمر المتدنسين بالأولى وما ارتقى إليه حال المتحلين بالثانية، وتارة بقريض الشعر يخيلون فيه ما يحرك الهمم ويبعث الأفكار وينبه خواطر الكمال وإحساسات الشرف الصحيح، لا ما يوقظ الشهوة ويقوي الغرور ويخرج الأنفس عن أطوارها، والأخذ به من وجهه والدخول إليه من بابه هو الذي صعدت به الهند الأولى إلى أوج المجد، وبلغ به العرب أقصى غايات الرفعة، وهو الذي وصل بالأمم الأوروبية إلى ما وصلوا إليه مما لا يخفى على كل ذي بصيرة.
وإنا نتأسف على ما نراه من أدباء المسلمين وشعرائهم، فإنهم يقصرون منشآتهم وأشعارهم على ما يكون عدا للصفات، إما مذمومة وإما محمودة ونسبتها إلى شخص يريد ذمه أو مدحه، ويحصرون رواياتهم في حكايات مضحكة وقصص هزلية وبعض تواريخ ماضية بدون أن يلاحظوا تأثير ما يكتبون وما ينقلون في أفكار الأمة وأطوارها.
ورجاؤنا فيهم أن يسلكوا مسالك أدباء الأمم المتقدمة أو المعاصرة لهم؛ حتى يكون للأمة الإسلامية نصيب من فوائد ذكائهم وفطنتهم وسعة بيانهم وطلاقة ألسنتهم، وأن يأخذوا في منشآتهم وأشعارهم طريقا ينهضون فيه الهمم الخامدة ويحركون القلوب الجامدة، ويحيون مكارم الشيم، ويوردون الأمة مورد سابقيها من الأمم، وإنا نرى بداية هذا المنهج الجديد في بلادنا، ونسأل الله حسن ختامه.»
الفصل التاسع والخمسون
أخبار سياسية
صرح اللورد جرانفيل في مجلس اللوردات بأنه ورد للحكومة الإنجليزية أخبار عن الجنرال جوردون، إلا أنه كتمها عن المجلس ولم يطلعه عليها، ومع هذا فإنها مهملة من التاريخ، ولم يعهد أن مأمورا سياسيا لدولة عظيمة يخابر وزراء دولته بلا تاريخ، ولعل ما ألفه الوزراء البريطانيون من التمويه على الشرقيين أصبح فيهم عادة تجري بينهم حتى على أبناء جنسهم وفي مجالسهم العالية.
وردت أخبار إلى «الديلي نيوز» مفادها أن جميع القرى في شمال بربر إلى مراوى جاهرت بالثورة وانقطع الطريق إلى بربر، وفي خبر آخر أن من الظنون ميل مدير دنقلا إلى منابذة الحكومة، فقد كان يطلب من أيام مددا يستعين به على إخلاء المدينة وإنقاذ حاميتها ، واليوم يأبى الخروج منها بل يطلب أن تبعث إليه نجدة يفتح بها البلاد السودانية فتحا جديدا.
ثم استبد بما لم يكن من حدود وظيفته، فأرسل بعض ضباط الباشبزوق
1
إلى وادي حلفا؛ ليأتيه ببعض الذخائر والآلات الحربية، ونال رسله ألف بندقية وأربعمائة ألف فشك، ونهبوا مخازن الحكومة، وأحضروا معهم عددا من المدافع إلى دنقلا.
وربما يعاب على المدير إتيان مثل هذا العمل ويعد من باب الخيانة لحكومته المصرية، ولكن ماذا يصنع بعدما علم أن الحكومة المصرية خرجت عن كونها حكومة وطنية بتصرف الإنجليز فيها، وأن حكامها أصبحوا لا يملكون من الأمر شيئا، فإن صدق هذا المأمور في خدمته فلا تكون فائدة الصدق إلا تثبيت قدم الإنجليز في بلاده وتأييد ملكتهم عليها، فيكون في الحقيقة خيانة لوطنه وبخسا لحقوقه، فله العذر إذا انحاز إلى الفئة الثائرة ما دام الإنجليز حكاما في مصر.
يقال: إن محمد أحمد سار من الأبيض لفتح دكاشيا أو الخرطوم، ويغلب على الظن أن مسيره لفتح الخرطوم، فإن حل بها ما حل ببربر وشندي مع هيجان القبائل في الجهات الشمالية ترقبنا عاقبة هائلة أنذرنا بها وحذرنا منها مرارا عديدة.
من رأي أحد المراسلين لجريدة «الديلي تلغراف» أن الجنرال جوردون سيقيم في الخرطوم إلى فيضان النيل، فإن لم تأته نجدة يقوى بها على الفوز بنجاح مأموريته، لزمه أن يصعد على النيل الأبيض إلى خط الاستواء، وأنه يمكنه بعد ذلك أن يعمل أعمالا عظيمة في الأمم الإفريقية القاطنة فيما وراء خط الاستواء، ثم عقب كلامه بأمان وأوهام لا تنقص عن أماني جوردون عندما سار من القاهرة إلى الخرطوم.
في برقية من أسوان إلى «الديلي نيوز» أن ابن أخي حسن باشا خليفة ومعه شخص آخر فرا من بربر وكانا منطلقين إلى جهة الشمال فاعتقلهما عرب روباتاب بالقرب من أبي حمد.
يقال: إن الحكومة المصرية (أو الإنجليزية) تجتهد بوسعها للمحالفة مع قبائل العرب في جنوب مصر؛ ليكونوا لها عونا على مدافعة سيل الفتنة إذا ارتفعت غواربها على حدود مصر الطبيعية، ولا نظن أن سعيها ينجح لدى العرب؛ فإن ذمتهم ودينهم لا تسمح لهم بمساعدة الإنجليز في تملك بلاد المسلمين.
أبى اللورد جرانفيل أن يرخص لنوبار باشا بالسفر إلى أوروبا مدة غيبة السير بارين، فإن أصر نوبار باشا على طلب الرخصة فإن اللورد جرانفيل سيطلب من الخديو أن يستبدله برياض باشا أو شريف باشا.
هذا كله والإنجليز لا يريدون أن تكون مصر تحت سيادتهم ولا يحبون أن يرفع عليها علم حمايتهم، وليس يدرى ما الغرض من السيادة والحماية سوى التصرف في الإدارات والتحكم في أولياء الأمور، هذا وزير مصر الأكبر لا ينال رخصة سفر إلا بإذن من جرانفيل، ولا يأذن له، ويرى أن له أمرا على الخديو باستيزار فلان! فإن لم تكن هذه سيادة فما هي السيادة؟!
في خبر أن الأميرال هفت وصل إلى أدوفا (من البلاد الحبشية)، وأسلفنا أنه كان في نيته إغراء ملك الحبشة بإيقاد حرب صليبية يهلك بها أمم العالم فداء لشهوات الإنجليز، إلا أنه جاءت الأخبار بعد هذا أن الأميرال لم يصادف سعة من صدور الحبشيين وأن الملك يوحنا وقف على خديعة دولة إنجلترا، ولم يظهر عناية بما أتى إليه الأميرال ولم يبعث لملاقاته أحدا، بل أظهر الحبشيون غاية الخشونة في معاملة الوفد الإنجليزي حتى إنهم امتنعوا عن بيع المأكولات لهم، وقد ذكرت بعض الجرائد صورة المعاهدة التي يراد عقدها مع ملك الحبشة - ولا يهمنا الآن ذكرها.
هجم جماعة من الثائرين على سواكن في التاسع عشر من هذا الشهر، وزحفوا إلى المدينة حتى صاروا على خمسين مترا من أسوارها، ثم أطلقوا عليها النيران مدة ساعتين حتى أثر الرصاص في كثير من البيوت، ولم يتحرك جيش الحامية أدنى حركة لمدافعة هذا الهجوم العنيف، ويظهر من هذا أن انتصار الجنرال جراهام في سواحل البحر الأحمر لم يكن له أثر وإنما هو قول يذكر ورواية تؤثر وأن غزواته لم تزد الثائرين إلا إقداما.
كتب مراسل التان في القاهرة أن لا صحة لما أشاعته الجرائد من القبض على مسيو أوكلي، النائب الأيرلندي الذي حملته همته على السفر إلى الأبيض.
الفصل الستون
في التواني الهلكة!
هذا ما ساقت إليه الحوادث المصرية، وهي مفتاح الكوارث الشرقية وفيها مغلاقها، العظام من الدول في يقظة لا سنة معها، وحركة لا فتور فيها، مفاوضات متواصلة بينها قبل انعقاد المؤتمر، ومجادلات متلاحقة يدأب فيها السياسيون من كل أمة، بعضها بالمراسلة، وشيء منها بالمشافهة، كثرت خلوات السفراء من كل دولة مع وزراء الخارجية من سواها، يتهامسون ويتغامزون، ويسرون خلاف ما يعلنون، ويذهبون إلى ما لا يقصدون، وقد حملق كل بصره للآخر؛ لعله يلمح من كان وجهه ما ينبئ عن مضمرات سره.
ويصوب كل فكره إلى ما يريد الآخر من قوله، عسى أن لا يفوته شيء ربما يعتل به، وجل ما انصرفت إليه قواهم تمثيل الرغائب، وتخييل المطامع، في صور أبعدها عن الحقيقة أقربها إلى الخيال، يعظمون الحقير، ويحقرون العظيم، ويجسمون الموهوم، ويضلون عن المعلوم، ويقربون البعيد، ويبعدون القريب، يذهب كل بصاحبه إلى رياض من الأماني باهرة الأنوار بزهور الآمال، وما نبهت بهارها إلا على حبائل من المكر، وفخاخ من الخديعة، حتى إذا راقه المنظر وخطا خطوة سقط من حيث لا يشعر، هذا يسهل صعبا، والآخر يوعر سهلا، وكل يتبع لحاظ رصيفه إذا أحس منه لمحا لمقصده أبرز له ألوانا من الفوائد الموهومة ليستلفته عن مرامه، وإذا شعر منه بفكر يوصله إلى ما يمسه، فتح عليه أبوابا من الفزع ليزعجه عما يطلبه، ويشوش عليه سيره ويقطع سبيل فكره.
منهم من يكسب الأصدقاء بمال غيره، ومنهم من يستفيد الرفقاء بكف شره، ومن الناس أقوام آخرون على غوارب أمواج الحوادث نائمون، تقذفهم كريبة وتتلقفهم أخرى، وهم عنها غافلون، زلزلت بهم الأرض زلزالها، ودهمتهم الخطوب بأرزائها، وتوالت عليهم المزعجات، وتناولتهم عواصف المفزعات، وهم في سكنة تخيل لناظرها أنهم على بساط الراحة مطمئنون، والمقبل على الفوز من هؤلاء وأولئك إنما هو أحزمهم رأيا وأثبتهم عزيمة وأشدهم بشئونه بصيرة.
يقول الإنجليز: إنا عدونا على الهند من زمان طويل فاغتصبناه وحقت لنا الملكية عليه بما هو مقرر في شرائع القوة وقوانين التغلب، وأين ديارنا من هذا الملك العظيم في شرقي آسيا.
المسافات طويلة والشقة بعيدة فلا بد أن يكون لنا في كل مكان موطئ لأقدامنا لنحتفظ بأملاكنا، فلنا حق في اغتصاب جل العالم لأجل الهند، خصوصا القطر المصري، فإن به السبيل التي لا يماثلها سبيل، وليس لنا عنها غنى، وكنا في تطلع إليها من زمن قديم وكثيرا ما تمسكنا بحبال من الوسائل إليها فرثت في أيادينا بقوة حكام تلك البلاد، حتى هيأت لنا حوادث السنين الأخيرة ما أحلنا دارهم وأقرنا في قرارهم.
إنا ذهبنا لتقرير توفيق باشا وتثبيته على كرسي الخديوية المصرية، إلا أنه بقتال ونزال، فلا تختلف صورته عن صورة الفتح، فلنا حق التملك في تلك الأقطار، وقد فهم الناس أن مسيرنا إلى مصر كان لغاية إقرار الراحة وإزالة الاختلال، وكأننا صرحنا بذلك عند عزمنا عليه، ولكن الغرض الحقيقي إنما هو تأمين طريق الهند. فتسنى لنا ما قصدنا بحلول عساكرنا في وادي النيل، فثبتنا فيما أصبنا وليس لنا أن نتركه بعد الوصول.
وحيث إننا عقدنا العزم على البقاء في مصر وأضربنا عن إخلائها، لزمنا ضمانة الديون المصرية وحملها ثقيل على كواهلنا، فعلى جميع الدول أن تمدنا بالمساعدة وتكون لنا عونا على تنقيص الفوائد، ولا نحب أن تكون مذاكراتها معنا إلا في المالية خاصة؛ فإنا لا نرجو من مفاوضاتها فائدة، أما سائر الشئون فعلينا تدبيرها وإلينا مصيرها.
هذه أقوال تصدر عن آمال يمدون أسبابها إلى برلين، ويرجون أن تكون مواصلها ومعاقدها في تلك المدينة عاصمة الألمان.
أما البرنس بسمارك وهو مدير السياسة في أوروبا وبيده زمامها، فيرى أن هذه فرصة ينتهزها؛ ليستفيد صديقا وينكي عدوا، وليست له علائق سياسية تحمله على المدافعة عن مصر، ولا منافسة له مع الإنجليز تبعثه على معاكستهم، بل له إليهم حاجة في ضمهم إليه وإبعادهم عن فرنسا لتكون منفردة بين الدول لا حليف لها، وقد تكون له من صلة الإنجليز مآرب أخرى سوى قطع فرنسا من الحلفاء ينالها يوم الحاجة إليها وما هو عنه ببعيد.
فماذا يضره إذا ادخر عونا وأساء عدوا والنفقة على خزينة غيره؟ نعم، ربما يظن أن بسمارك يمنعه عن مثل هذه المعاملة رعاية بجانب حلفائه من النمسا وإيطاليا لما لهم من المصالح في البحر الأبيض، ويصعب عليه أن يصيب بسياسته الجمع بين مراضاة إنجلترا لنيل مصافاتها وبين التمسك بعهوده مع ذوي حلفه، إلا أنه قد يسهل عليه التخلص من هذا المضيق بالإشارة إلى طرابلس الغرب وبلاد الأرناءوط والإيماء إلى الأراضي البلقانية وسالونيك ويجلوها لأنظار معاهديه، فيسكن جأشهم ويطمئن خاطرهم فيستثبت بذلك موالاة الدولتين، ويقلم أظافر روسيا من أوروبا الشرقية، ويضيع مصالح فرنسا في بلاد المشرق عموما ومصر خصوصا، وفي كل ذلك الربح له، والخسارة على غيره، وليست هذه أول فعلة فعلها بسمارك أو يفعلها فهي شرعته التي يرد إليها ويصدر عنها من يوم معاهدة برلين إلى هذا الوقت.
وفرنسا واقعة بين مراوغات الإنجليز ومكائد بسمارك، لها حقوق سابقة في البلاد المصرية كاد يمحى أثرها بمداخلة الإنجليز، وبها حاجة شديدة لعلو الكلمة في طريق منشآتها ببلاد الصين والبحر الهندي ومدغشقر؛ لهذا تبذل الجهد لإجلاء العساكر الإنجليزية عن مصر وتخفيض سلطة الإنجليز فيها، ويوجد لها عون من دولة روسيا، ولها من المنعة ما لو أيدته أفكار المصريين وآراء ذوي العزيمة من رجالهم وميل أفئدتهم؛ لمكنها من تخليص مصر وانتزاعها من أيدي الإنجليز، سعيا في حفظ مصالحها ووقاية حقوقها، وهذا مما يؤيد سياسة الدولة العثمانية ويشد عضدها في مدافعة الإنجليز ومطاردتهم من بلادها.
للدولة العثمانية أن تظهر عزمها في هذه الأوقات لتستنفد ممالكها من طمع الطامعين وتعيد ولايتها على الأقطار المصرية خالصة لها من سلطة المعتدين، وإن جميع المسلمين ينتظرون منها الحذق في هذه المسألة، ولهم فيها الأمل القوي والثقة الكاملة، ورجاؤهم أن لا تفوتهم هذه الفرصة بدون أن ينالوا بها حظهم من الغنيمة.
وليس على الدولة من بأس إذا طالبت الإنجليز برد حقوقها كافة؛ فإنهم بالنسبة إليها أضعف من أن يجاهروها بالعدوان، وإنا نكرر ما قلناه سابقا من أن الإنجليز يستحيل عليهم أن يعلنوا على الدولة العثمانية حربا، خصوصا في هذه الأوقات التي أصبحت فيها دولة روسيا متاخمة لمملكة الأفغان، فإن أول إشاعة لهذه الحرب توقد لهيب الثورة في عموم الممالك الهندية، وهذا جلي عند كل إنجليزي، أن التغافل والوهن ربما يوسعان مجال الطمع فيفتح باب المسألة الشرقية أو يكون لها استعداد قريب.
وليس للمصريين في طورهم هذا أن يركنوا إلى من ليس من أبناء جلدتهم؛ فإن الثغرة التي تحمل على الحمية تكاد أن تكون منحصرة بحكم الطبيعة في أبناء الوطن فلا ترجى من غيرهم، فعلى العقلاء من أهالي مصر أن يسارعوا إلى معاضدة الدولة العثمانية والاتحاد معها على تخليص بلادهم، مستعينين بأفكار الدولة التي تقضي عليها مصالحها بالسعي في إنقاذها وإعادة شأنها الأول، وتحقيق ما يقال من أن مصر للمصريين.
وبالجملة فالأطماع فغرت أفواهها، والأفكار في اضطراب شديد، وظنون الناس شتى، فمن قائل: إن المؤتمر لا ينعقد لتعسر الاتفاق بين فرنسا وإنجلترا على القواعد الأساسية للمداولة فيه، ومن قائل: إنه ينعقد على أن يضع مصر تحت حماية عموم الدول ويقرر إنشاء مراقبة دولية مع بقاء العساكر الإنجليزية مدة سنتين.
وعلى أي حال فالرزية إنما تصيب الغافل، والسوء إنما يحيق بالمتساهل، والجبان محروم من حقوقه، والعامل بيد غيره خاسر، فعلى المصريين والدولة العثمانية أن يظهروا الشهامة والإقدام، ويرفعوا علم الهمة؛ إبقاء لحياتهم، وصونا لشرفهم، والأمر لله يفعل ما يشاء.
الفصل الحادي والستون
منشور إنجليزي قديم
نشرت حكومة إنجلترا في الهند منشورا منذ مائة وثمانين سنة وهذه ترجمته: «إذا وجدت في دوائر الحكومة وظيفة لا يقوم بها إنجليزي (أي لا تليق أن تكون بيد أحد من الجنس الشريف)، وجب أن يعين فيها أحد الفارسيين الباقين على دين زرادشت (المجوس)، فإن لم يكن منهم مقتدر على القيام بها، أقيم فيها وثني (عابد صنم)، فإن لم يكن من هؤلاء ولا هؤلاء من يؤدي عملها كلف بها مسلم؛ فليس للمسلمين في الهند حظ من وظائف الحكومة إلا ما يعافه المجوسي والوثني.
وهذا هو عنوان محبة الإنجليز، وهو برهان دعواهم أنهم أولياء المسلمين وأنصارهم، لا أكثر الله من أمثال هؤلاء الأولياء والأنصار!»
الفصل الثاني والستون
إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار
كيف يمكن لقوة أجنبية تصول على أمة من الأمم أن تسود عليها وتستعبدها وتذللها للعمل في منافعها مع التخالف في الطباع والعوائد والأفكار، ووجود المقاومة الطبيعية، فضلا عن الإرادية؟ إن الوحشة المتمكنة في نفس كل واحد من الأمة، وظن كل فرد أنه في خطر على روحه وماله إذا غلبه الغالبون؛ تحمله على المدافعة كما يدافع عن بيته وحريمه، فلا يتسنى للقوة المغيرة أن تذل الأمة إلا بإفنائها عن آخرها، أو إفناء الأغلب حتى لا يبقى إلا العجزة والزمنى.
1
هذا أمر طبيعي وحكم بديهي متى كانت الغارة على الأمة، نعم يسهل للقوة الأجنبية أن تتغلب على أمة عظيمة بدون تناحر إن كان لهذه الأمة حاكم أو رئيس روحي تجتمع عليه قلوبها، وتدين له رقابها، لمنزلة له في أفئدة أبنائها، ولمكان آبائه من الكرامة في نفوسهم، فلا تحتاج القوة الغالبة إلا لإيقاع الرعب في قلبه، فيجبن ويقبل ما تحكم به، أو نصب حبالة الحيل له فتخدعه بالأماني والآمال، فيذعن لما تقضى به، فإذا خضع للقوة الغريبة خضعت الأمة تبعا له.
ولهذا ترى طلاب الفتح وبغاة الغلب ينصبون قبل سوق الجيوش وقواد الجنود على قلوب الأمراء وأرباب السيادة في الأمة التي يريدون التغلب عليها فيخلعونها بالتهديد والتخويف، أو يملكونها بالخدعة وتزيين الأماني، فينالون بغيتهم ويأخذون أراضي الأمم.
وهذا الطريق هو الذي سلكه الإنجليز مع السلطان التيموري في الهند، ولولا ما كان للهنديين من عقدة الارتباط بسلطانهم التيموري، وقبض الإنجليز أول الأمر على تلك العقدة؛ لما تيسر للبريطانيين أن يخضعوا الأمم الهندية في أحقاب طويلة.
هذه قبائل الأفغان عندما انحلت ثقتها بأميرها، وصار الأمر إلى الأمة، قامت كل عشيرة، بل كل فرد للدفاع عن نفسه، بعدما تمكنت عساكر الإنجليز في قلاعهم وحصونهم، واستولت على قاعدة ملكهم، وفتكوا بالعساكر الإنجليزية وهزموا قواتها وأجلوها عن بلادهم، وهي ستون ألفا من الجيوش المنتظمة، المسلحة بأحدث الأسلحة، واضطر الإنجليز أن يتركوا تلك البلاد لأهلها.
لا ريب أنه يسهل على الإنسان أن يأخذ شخصا واحدا وأشخاصا محصورين بالترغيب والتهديد، ويتيسر له أن يقف على طباعهم، ويدخل عليهم من مواقع أهوائهم، ويأتيهم من أبواب رغائبهم، لكن يتعسر بل يتعذر عليه أن يأخذ أمة بتمامها، وعقولها مختلفة عليه ونفوسها في وحشة منه، إلا بالإبادة والتدمير.
من هذا نجد الملوك العظام لا يرهبون الاشتباك في حرب مع أمثالهم بل ومن هو أشد منهم قوة، ولكنهم يفرقون، بل تذهب أفئدتهم هواء، إذا أحسوا بميل الأمة عنهم، وما هذا إلا لأن قوة المغالبين داخلة تحت الضبط، وأما آحاد الأمم وقواها فلا تضبط ولا يمكن مقاومتها إذا تغاضت وشحت بنفسها عن الذل لسواها.
إن الأمراء كما يكونون في دور من أدوار الأمة قوى فعالة لنموها وعلوها وعظمتها واشتداد عضدها، كذلك يكونون في بعض أطوارها علة فاعلة في سقوطها وهبوطها وانحلالها، وإنا نخاف - ولا حول ولا قوة إلا بالله - أن يكون أمراؤنا والأعلون منا آلة لاضمحلالنا وفنائنا؛ لما غلب عليهم من الترف والانهماك في اللذائذ، والانكباب على الشهوات، مع سقوط الهمة، وتغلب الجبن، والحرص والطمع على طباعهم - إنا لله وإنا إليه راجعون.
الفصل الثالث والستون
هجوم على السودان عبر النيل!
جاء من لندن لإحدى وكالات الأنباء ما ملخصه: لا يظن أحد من الناس هنا (في لندن) أن الجيوش التي عزمت حكومة إنجلترا على سوقها إلى السودان يقصد منها إنقاذ جوردون؛ فإن جوردون معزز برجال من الوطنيين (المصريين أو السودانيين) أولي عزم وقوة، ولهم سطوة تدفع بأس الذين يبغون به الشر، وإذا مست الحاجة إلى تخليه عن عمله وتركه لمركزه فلا يعدمون وسيلة لخلاصه.
أما القصد الحقيقي من بعث الجنود إلى السودان فإنما هو افتتاحه تحت العلم الإنجليزي، وهو وإن كان يحتاج إلى زمن طويل إلا أنه قليل الخطر، ولا توجد في سبيله عقبات سياسية؛ حيث تنازلت الحكومة المصرية عن سياستها في تلك الأقطار.
يسهل على العساكر الإنجليزية أن تسير إلى الخرطوم على طريق النيل وإن سلكت سبيلا من الأرض اليابسة فلا تبعد عن شواطئ النهر؛ لتكون تحت حماية المراكب وترافقها في السير مراكب تعد لقطع النيل والصعود إلى الشلالات، فإذا وصلت العساكر والأساطيل النيلية إلى الخرطوم واستولت عليها اعتصمت فيها حكومة عسكرية تمد نفوذها إلى قلب السودان، ويكون في هذا عوض للإنجليز عما يخسرونه في مصر لو ألزمهم المؤتمر بالتنازل عن شيء مما يطمحون إليه فيها.
وقالت جريدة «الريبوبليك فرانسيز»: إنا نذكر هذه الرسالة على أنها شبه حجة على مقاصد الإنجليز، وإلا فإنا نعد ما تحتويه من قبيل الأوهام والخيالات. ا.ه.
أما نحن فنقول: من أمعن النظر في أعمال الإنجليز وتتبع سيرهم في افتتاح الممالك الشرقية، علم صحة ما روته وكالة الأنباء؛ فإنه منطبق على قواعد السياسة الإنجليزية وآت على أساسها الذي بنوا عليه فتوحهم من أزمان طويلة، وهو أصل تعارفه الإنجليز حتى صار كخاصية لازمة لطباعهم، ترد إليه جميع أعمالهم من حيث يشعرون ولا يشعرون، وعليه كان بناء ملكهم في الهند.
إن الإنجليز أول ما خطوا خطوة في الهند وجدوا مملكة «أود» من الممالك الواسعة وأغلب أهاليها على مذهب الشيعة ولها نواب (حاكم) عظيم من أهل ذلك المذهب، فرأوا أن يحملوه على الاستقلال وزينوا له الطمع في لقب شاه لينفصل عن الملك التيموري.
وفي التنازع لنيل هذا المطمع يصيب كلا من الطامع وصاحب الملك سهم من الضعف والوهن، فيتهيأ كل منهما للوقوع في مخالب الإنجليز، وقد حصل.
وأول ما حلوا مصر ولمحوا شرارة في السودان، أدنوا منها وقودها لتكون نارا مهلكة، فبعدما طردوا الجيوش المصرية إيذانا بالغضب عليهم، جمعوهم ليسوقوهم إلى السودان تحت قيادة أعداء لهم من الإنجليز، فذهبوا وهو موقنون أنهم يساقون إلى الموت ليذوقوا وبال الانتقام، فقلوبهم منكسرة وعزائمهم واهنة وعقائدهم لا تسمح لهم بالانقياد لرؤسائهم الأجانب.
وأحس السودانيون وهم مسلمون أن قواد الغارة عليهم ليسوا على شاكلتهم، فزادهم حمية وإقداما، فكان هذا وذاك سببا في استفحال أمر السودان بعدما هلكت رجال وأنفقت أموال وساءت أحوال من السودانيين والمصريين، كل هذا ليتوسل به الإنجليز لفصل السودان عن مصر بعد خراب الدارين، وكأنهم عندما أرسلوا جوردون باشا وأدنوه أن يمنح محمد أحمد لقب أمير كوردفان قصدوا أن يتمموا عملهم، ولكن لم ينجحوا.
وعندما كانت الحرب قائمة بين دوست محمد خان أمير أفغانستان وبين «رانجيب سنك» البنجابي تخوف الإنجليز من تسلط الأفغانيين على بنجاب، فتداخلوا في الصلح وسحروا قلوب الأفغانيين بلين القول ولطف الوعد حتى أرضوهم بترك مدينة بيشاور وما يليها لرانجيب سنك، وانعقد الصلح على هذا وأجلي الأفغانيون من مملكة بنجاب ورجعوا إلى بلادهم، وبعد عشر سنين من تاريخ الصلح زحف الإنجليز إلى بنجاب وافتتحوها لأنفسهم واستولوا على مدينة بيشاور، فقال بعض أمراء الأفغان: إن ذاك الصلح كان مقدمة لهذا الفتح، وإن الإنجليز في تعيينهم للحدود إنما كانوا يحددون بلادهم، ولكن كنا عنه غافلين.
ومن نحو سنة ونصف أومأ اللورد دوفرين في تقرير كتبه بالقاهرة، إلى أنه لا حاجة بالحكومة المصرية إلى السودان بل لا فائدة لها فيه، وفهم الغرض في ذلك الوقت من أصابه، وغفل عنه قوم آخرون اغترارا بظواهر العبارات، ثم لم يلبث الإيماء أن صار تصريحا رسميا وإلزاما للحكومة المصرية أن تتخلى عن السودان، فلم يكن التلميح والتصريح، ثم الإلحاح والإلزام إلا ليهيئوا البلاد السودانية للدخول تحت سلطتهم في وقت من الأوقات لسبب من الأسباب التي لا يعجزون في اختراعها متى شاءوا! هذا سير يعرفه من قرأ صفحة من تاريخ الإنجليز في الممالك الشرقية.
تريد حكومة إنجلترا إذا عارضتها الدول في السيادة على مصر أن تنشئ لها سلطة في الخرطوم يمتد حكمها إلى جميع أراضي السودان، وعساكرها الآن حالة في سواكن، وما أسرع أن تصل بين المدينتين بالسكة الحديد فتكون القوة الإنجليزية بعد هذا محيطة بمصر من جميع الجوانب.
وقفت على بابها من طرف الشمال في قبرص، وطوقت حدودها من الغرب إلى الشرق في السودان، وتحكمت في منابع النيل وتصرفت في أعلاه، وأخذت كل طريق يمكن منه الاستيلاء على الديار المصرية. وهنالك يرصد الإنجليز حركات الدول في أوروبا، فكلما أضاءت لهم بارقة فرصة مشوا فيها، وإذا أظلمت عليهم قاموا فيتقدمون إلى مصر خطوة بعد خطوة ولا يبالون، طال الزمان أو قصر، فإنهم يعرفونها لهم على أي حال، ولكنهم يتقون معارضة الدول في هذه الأوقات.
هذه غايات سير الإنجليز في الحوادث المصرية، وهي كما قالت «الريبوبليك فرانسيز» خيالات وأوهام إذا اشتدت الدولة العثمانية ورجال مصر في المطالبة بحقوقهم الشرعية والمحافظة على شئونهم، وأخذوا بالحزم وعقدوا العزم على مقاومة سعي الإنجليز في أوطانهم وديارهم، بعدما ظهر لهم ماذا يقصدون بهم، فإن تهاونت الدولة العثمانية أو تغافل المصريون حسبها الإنجليز طريقا مطروقة وسبيلا مسلوكة، وعدوا مطامحهم حقائق ثابتة ومطالب مقررة - لا نجح سعيهم، ولا صدق ظنهم.
الفصل الرابع والستون
السودان ومصر
نشرت جريدة البوسفور إجيبسيان، التي تطبع في القاهرة، خبرا، مصدره توفيق باشا نفسه، وهو أن الجنرال جوردون أنذر حكومته الإنجليزية بأنها إن لم تمده بجيش ينقذه من الضيق الملم به فإنه يرفض الدين المسيحي ويدخل في دين الإسلام! وضمنت جريدة البسفور صحة هذا الخبر العجيب (كذا وصفته الجريدة بالعجب).
وغرابة الخبر إن كانت من جهة أنه تهديد بما لا يهم الحكومة، فنحن نعلم أن الإنجليز يفزعهم خروج أحد منهم عن دينهم، وإن كانوا يرشدون الناس إلى ترك الدين ويعيبون على المستمسكين به، لكنهم أشد الناس تعصبا فيه فلا محل للغرابة.
وإن كانت من جهة أن جوردون، وهو من أشد قومه تمسكا بدينه، كيف يجنح للإسلام، فهو إنجليزي الطبيعة كما هو إنجليزي الجنس يتلون ظاهره بأي لون ويبرز في أي ثوب لإصابة غرضه مع المحافظة على ما طبع الله على قلبه، فلا عجب إن قال وفعل!
في خبر أن محمد أحمد طلب إلى أعوانه المحاصرين للخرطوم أن يأتوا إليه بجوردون حيا، ولا يمسوه بسوء إذا وقع في أيديهم.
وفي برقية من أسيوط إلى جريدة التايمس أن مركبا من مراكب البريد وصلت إليه تحمل ثلاثة أشخاص مرسلين من طرف زبير باشا لاستكشاف حالة جوردون، وتوجهت في الحال بمن فيها إلى أسوان.
هكذا الدهر أبو العجب؛ من سنين قليلة فتك جوردون بأولاد الزبير وذوي قرابته وأفسد عليه شئونه وأخرجه عن جميع أمواله، واليوم رأينا كدر الضغينة في صفاء المحبة يبعث الزبير على الرأفة بجوردون وتوجيه الرسل للسؤال عن صحته والاستخبار عن سلامة حاله.
جاء الخبر أن أهالي جرجا (مدينة من مدن الصعيد مركز مديرية في جنوب أسيوط) في هياج شديد يشبه أن يكون ثورة، وورد إلى تلك المدينة رجل من أشياع محمد أحمد قادما من القاهرة ودعا الأهالي للأخذ بطريقته، فإذا بينهم جم غفير يجيب داعيه ويذهب مذهبه، وهو مما يدل على أن القائم السوداني مهتم بنشر دعوته محتاط لنفسه حاذق في عمله، وله دعاة في أرجاء الديار المصرية حتى في عاصمتها «القاهرة».
فإن ثبت في هذا السير حل بالحكومة المصرية منه ما كنا نخشى أن يقع بها ويشتد الخطب، ولربما صار له بقوة ميل الأهالي إليه منعة يصعب على حكومة غير إسلامية أن تقارعها.
أما ما ذيل به خبر الهياج في جرجا من وجود عداوة بين المسلمين من أهاليها والمسيحيين فهو ما لا نصدقه ولا ينطبق على الواقع؛ لأن الأيام السابقة شاهدة على حفظ كل من الفريقين زمام الآخر في جميع الأحوال التي عرضت على بلاد مصر، المسلمون والمسيحيون فيها على وفاق تام في جميع نواحيها، والمقاتل التي وقعت أيام الحرب الماضية إنما كان منشؤها إفساد المفسدين، على أنه لم يمس فيها قبطي بسوء، والأخبار الصحيحة تؤيد ما نقول.
1
وأرسلت الحكومة المصرية الآلاي السابع من المشاة إلى أسوان مع جملة من المدافع الجبلية وعدد وافر من الجمال.
وفي برقية من سواكن إلى جريدة الديلي تلغراف أن مناوشات وقعت من أتباع محمد أحمد بالقرب من سواكن، وفي جريدة التايمس أن الثائرين أطلقوا مدافعهم على تلك المدينة في الساعة الثانية صباحا من الثامن والعشرين من شهر مايو، إلا أنه لم يصب أحد من الحرس وتقهقر المهاجمون بسرعة.
عثمان دجمة - مع ألف من رجاله - نازلون على القرب من طمانيب ومعظم قوته حالة بتلك البلدة، ويقال: إن بنفوس عساكره كدرا من قلة الأزواد
2
وهو من أخبار العدو يسمع وقد لا يصدق.
وإن الأميرال هفت المبعوث من طرف إنجلترا لخديعة الملك يوحنا ملك الحبشة لم يحظ عند الملك بقبول.
أراد رجال الإنجليز أن يخففوا على القلوب المنخلعة من أبناء أمتهم أهوال السودان وما يتوقعونه من مصائبه، فأشاعوا ظهور شخص يدعي المهدوية في دارفور، ويقول: إن محمد أحمد ليس إلا تلميذا له من قدماء تلامذته، وكان الإنجليز يستبشرون بتفريق كلمة السودانيين كما يسرهم تخالف المسلمين أجمعين.
الفصل الخامس والستون
فرية دنيئة على الإسلام
في برقية وردت لجريدة الديلي تلغراف من القاهرة في 27 مايو 1884 أن زبير باشا طلب إلى سراي توفيق باشا، بناء على إشارة الحكومة الإنجليزية، والتمس منه المستر أجرتون أن يجد وسلية لإرسال مندوب إلى جوردون باشا يأمره بالعودة حالا، واتباعا لأمر توفيق باشا بعث الزبير بأحد خدمه لأداء هذا العمل وكان فرصة انتهزتها حكومة فرنسا لاستدعاء قنصلها في الخرطوم، وقد ضمن الزبير وصول المندوب وعودته بالجواب في خمسين يوما. ا.ه.
إن صح هذا دلنا على أن جوردون ليس معززا برجال أولي بأس وشدة كما جاء في البرقيات، وأن الإنجليز عجزوا عن إنقاذه بقوة حربية، وإن كانوا ربما يقصدون الحرب لغاية أخرى.
ونقلت الجرائد الأوروبية ما يعجب من نسبته لزبير باشا، ذلك أنه أشخص ثلاثة من أولاده إلى رؤساء الثائرين ومع كل واحد منهم كتاب إليهم وهذا مفاده نذكره ترجمة من تلك الجرائد بلا تصرف في عباراته:
شكرا للخديو ولدولة بريطانيا العظمى وللجنرال جوردون. كل أملاكنا التي انتزعت منا سترد إلينا، يا أحبابي ويا أهل وطني إني أبعث إليكم أولادي الثلاثة مصحوبين برقيم إلى الجنرال جوردون، فدعوهم يصلون إليه وسهلوا سبلهم، وأقسم عليكم باسم النبي وأسماء أجدادي الذي أكرموا الأسراء أن ترافقوا جوردون إلى كورسكو وأن تعاونوه حتى يعلو متن النيل. كل معاملة تسيء الجنرال فهي تكسر خاطري إلى الأبد، وأنا وعيالي هنا رهن إلى أن يعود الجنرال جوردون، فإن عاد صحيحا سالما فمحمد يحفظكم أبد الآبدين. ا.ه!
وأنا أتبرأ ما في هذا الرقيم
1
ونسبته لزبير باشا، فإنا نعرف الرجل مسلما فقيها في دينه عالما بفروضه، وهو من سلالة العباس عم النبي
صلى الله عليه وسلم ، وفي نفسه حزازات مما نكاه به الجنرال جوردون عندما كان حكمدار السودان، وليس من أحد يحفظ تاريخ جوردون ويحصي سيئاته كزبير باشا، علمنا ذلك منه وهو يتنفس الصعداء من ذكرى مصائبه أيام كنا في مصر.
فكيف يمتدح الإنجليز ويشكرهم وكيف يقوم بعمل يعود بالمنفعة عليهم اغترارا بما وعده من رد أملاكه إليه وهو يعلم أن كل ما يفيدهم لا يزيد قدمهم إلا رسوخا في أوطانه، ومن لاحظ أسلوب الرقيم تبين له أنه ليس بأسلوب عربي، خصوصا ما جاء في خاتمته من الدعاء، فإنه لم يعرف في عبارات المسلمين ما يشابهه، فمحمد لا يحفظ أحدا بل الله على كل شيء حفيظ، فلا يبعد أن عدو الزبير أراد أن يشوه سيرته فرماه بهذه النسبة أو أن يكون الرقيم من مخترعات بعض الجرائد الأوروبية للتلميح!
الفصل السادس والستون
صراع بشأن تثبيت الاحتلال!
وجاء في برقية من برلين إلى جريدة «جازيت دوكولوني»: ثبت أن من عزم دولتي فرنسا وإنجلترا أن تتفقا قبل انعقاد المؤتمر على موضوع البحث فيه، كما اتفقت دولتا روسيا وإنجلترا على مدار النظر في مؤتمر برلين قبل انعقاده بواسطة اللورد سالسبوري والكونت شوفالوف، كل من الدولتين المتفاوضتين تمد نظرها إلى ما عسى أن تئول إليه مداولات المؤتمر وتحدده وتقدره (ثم تدخل فيه على أن تكون الغاية ما قدرت).
ربما حلت الدعوة إلى المؤتمر محل القبول عند بعض الدولة إلا أن رضاء الباب العالي شرط في قبول حكمه والتسليم لقضائه، ولو أن دولتي النمسا وألمانيا أو الدول جميعها قضت بأن يكون من قواعده الأساسية إجابة جميع الدول التي دعيت إليه مؤقتا لم يكن قاضيا بوجوب الإذعان لما يبرمه، وهذا هو شأن المؤتمر بالنسبة إلى الباب العالي على أية حال.
وقالت جريدة التايمس: تيسر لوزارة إنجلترا أن تتغلب على مجلس النواب، لكن ليس لها أن تعتمد على هذا الظفر الهين وعليها أن تستفيد في مدة البطالة لعيد العنصرة فتنجو بما تستفيده من الخطر العظيم الذي ربما يحيق بها من المفاوضات الجارية بينها وبين وزارة فرنسا، وتساهلت الوزارة في عقد عهدة تخالف مصالحنا مع شركة قناة السويس ثم نجحت في التملص من قيودها ومزقت المعاهدة وتركت مسيو ديلسبس على أرض قفراء.
وليس بالسهل عليها أن تسلك اليوم ما سلكت في تلك الأوقات، فلو رفض البرلمان ما انتهت إليه المفاوضات في المسألة المصرية لما أمكن للوزارة أن تبقى في مساندتها، وإذا تعذر الوصول من هذه المفاوضات إلى غاية صالحة أمكن الوزارة أن تتنحى عن العمل.
أما فرنسا وسائر الدول فليس لها أن تطالب مجلس العموم في إنجلترا بمنحة شحت بها نفوس أهالي بريطانيا كافة ورفض السماح بها عموم الآراء في بلاد الإنجليز (يريد بالمنحة ما تفضل به وزراء إنجلترا على الدول من دعوتها للمباحثات في أحوال مصر).
الفصل السابع والستون
الثبات الثبات
حملت قوة الثائرين على مدينة بربر فافتتحتها بعدما فتكت بجميع حاميتها ولم يبق موضع للريب في استيلاء أعوان محمد أحمد على تلك المدينة، وبعد تمكنهم فيها زحف منهم ثلاثون ألفا لمهاجمة دنقلا، وفي برقية من كورسكو إلى التايمس بتاريخ 13 يونيو أن محمد أحمد يزحف بنفسه مع خمسة وثلاثين ألفا لفتح دنقلا وله أمل في الفوز قبل أن يهل رمضان، وقد بعث برقيم إلى مديرها وسماه أميرا عليها سنة السلطنة فيها مع ما يليها.
وانقطع الطريق بين دنقلا ووادي حلفا وامتنع سلوكها، وأيست الحكومة المصرية من صيانة تلك المدينة فأصدرت أوامرها بتمهيد سبيل لرجوع حاميتها إلى مصر، وشعرت حكومة إنجلترا بتعاصي الفتنة فعملت على إرسال نجدة لإمداد حامية الخرطوم، كما أكدته جريدة «المورننج بوست» الإنجليزية قنوطا من نجاحها، وعثمان دجمة يشتد عضده يوما بعد يوم وله في كل ليلة هجمات على مدينة سواكن بل وعلى بعض المراكب في البحر.
أخبار ما نزل ببربر وما يتوقع نزوله بدنقلا وغارة الثائرين على معسكرات الحكومة في وادي حلفا؛ كل ذلك أحدث اضطرابا شديدا في أسوان، وهيجانا في خواطر الكافة من أهل الصعيد، وربما يخشى من وقوع ما لا تحمد عاقبته على الناكثين.
هذه مرابك الإنجليز في مصر، وهم في أوحالها لا يفترون عن السعي إلى ما يثبت قدمهم فيها، وجاء في برقية إلى وكالة هافاس أن الجند المصري دخل بأسره تحت إمرة الجنرال إستفانوس (قائد جيش الاحتلال الإنجليزي) فصار الجنرال كأنه وزير الحربية وتحول الجند الوطني إلى إنجليزي وجيش الاحتلال إلى حامية مصرية.
ثم هم يسعون لإلزام توفيق باشا بنصب ثلاثة مفتشين من الإنجليز، أحدهم في القاهرة والثاني في مصر السفلى (مفتش وجه بحري) والثالث في مصر العليا (مفتش وجه قبلي)، على أنهم لا يعزلون إلا بأمر من إنجلترا، فتنقلب الإدارة إنجليزية محضة لا يبقى فيها لحكام مصر إلا نهاية حال الذليل الامتثال والطاعة.
تصرفوا في الأراضي المصرية العثمانية تصرف المالك فمنحوا منها بقاعا وفرضا على البحر لملك الحبشة، وحالفوه على أن يسوق جيشا ينازل المسلمين في أراضيهم، رجاء تذليلهم وإخماد أنفسهم، وفي أثناء هرولتهم إلى مطامعهم يثيرون في أعين الدول غبارا، ويرفعون جلبة، ويصيحون بأن لا غرض لنا إلا إقرار الراحة وإعادة النظام، ويقيمون الحجة على إخلاصهم برغبتهم إلى الدول في مساعدتهم على حل بعض المشكلات المالية، مع أنهم لا يرغبون عقد المؤتمر إلا لينالوا منه ما يزيد قدمهم رسوخا في مصر.
وعلموا أن لفرنسا مصلحة في مناوأتهم فطفقوا يهددونها بالتحالف مع ألمانيا أو التقرب إليها إن لم تتساهل معهم؛ ليحملوها بالتهديد على الرضاء بإبقاء عساكرهم في مصر إلى سنة 1888 تحت اسم إقرار الراحة، على شرط أن لا يكون بعد مدة إلا بإجماع جميع الدول التي يكون لها نواب في المؤتمر، بحيث لو وافقهم إحداهن على إطالة المدة فيما بعد لكفى في تمديد الأجل أو إطلاقه.
وليس بخاف ما يقصدون من هذا الشرط؛ فإنهم يعلمون في اختلاف مصالح الدول وتضارب السياسات ما لا يعدمون معه وسيلة لإرضاء دولة واحدة في زمن من الأزمان بالموافقة على مد الأمد، ولا نخال دولة فرنسا يقف نظرها دون هذا الحجاب الرقيق وهو يشف عن ملم عظيم لا تسلم منه مملكة من ممالكها في المشرق، ولا نظنها تذعن لقبول هذا الشرط، وإن قبلته دولة لا مصلحة لها في مصر ولا يهمها إلا معاكسة فرنسا.
فكأنما سلك تصرف الإنجليز من خمس سنوات في سلسلة من الألاعيب نهايتها للتسلط على مصر في هذا المؤتمر بدعوى ثروة المالية المصرية، وإن عجزها من الخيانة فيها، وتوسلوا بذلك لانقلاب في هيئة الحكومة، ثم ألجئوا عرابي للدخول في العصيان ليعتلوا به في الزحف لتأييد الحاكم، ثم وسعوا دائرة الخلل؛ ليكون وسيلة إلى سلطة لا تحد يؤملون نيلها في هذا المؤتمر.
زينوا للدولة العثمانية أن تصول على السودان مع وجود عساكرهم في مصر، ثم تخرج وقد مهدت لهم مصر والسودان معا، فلما لم تنخدع لهم وحق لها أن لا ترضى، شدوا عليها بالتهديد قائلين: إنهم لا يسمحون لعسكري تركي أن يذهب إلى السودان من بعد، ولو لم تقبل الدولة العثمانية حضور نائب لها في المؤتمر على أنه منحصر في المالية فإنه سينعقد بدون رضاها.
ولئن كان الإنجليز صادقين في طلبهم إقرار الراحة في مصر لوكلوه إلى عساكر العثمانيين وفوضوا الأمر لحازم حاذق من أمراء المصريين؛ فإن في ذلك إطفاء للفتن وتثبيتا للسلم، ولا خوف من الدولة على الاستقلال المصري فليس من شأنها أن تنقض عهد دولة واحدة في هذا الوقت فضلا عن عهود الدول.
ولكن لا يهولن الدولة هذا التهديد، فدعوة محمد أحمد بلغت في الهنديين وتغلغلت، وخبر قرب الروس منهم ملأ آذانهم، والإنجليز يتوقعون الفتنة فيهم ساعة بعد ساعة، والقوة الإنجليزية قاصرة عن مدافعة محمد أحمد، فلو ثبتت الدولة العثمانية لخضع الإنجليز لقوة الحوادث رغما عنهم، فإنهم يفرقون من أن يشاع عنهم أنهم مضادون للدولة العثمانية، فالثبات الثبات والله المستعان.
الفصل الثامن والستون
برهمن لاهور
قد انكشفت لفندت اللاهوري (صاحب جريدة أخبار عام) أن ما أنذرنا به عند دخول روسيا في مرو من وشك دخولها في سرخس ليس من قبيل كان ويكون وسيكون، فقد دخلت روسيا مدينة سرخس برضاء من التركمان - كما قدمنا في العدد الماضي - فليس له أن يستبطئ سير الهول الشمالي ليدكدك أسوار الحكومة التي يظهر المدافعة عنها (وهي الحكومة الإنجليزية)، فعما قريب تظله هبوة الزحف في أرض بنجاب تحت جدران، وله بعد أن رأى ما رأى من صدق ما نقول أن يطمئن إلى ما ننبئ به فيما بعد؛ فإننا نحكي عن طبائع الأمم وحقائق السياسة ومقتضياتها وليس يغني ظنه من الحق شيئا.
الفصل التاسع والستون
هذا
سررنا بملاقاة أفاضل من أرباب الجرائد في مصر أتوا إلى أوروبا ليحضروا مؤتمرا في لندن، ويقفوا على دقائق المفاوضات التي تجري فيه متعلقة بالمسألة المصرية، وينشروها مع ما تجود به قرائحهم من الرأي الصحيح في جرائدهم تنويرا للأفهام، وتنبيها للأفكار، فحمدنا سعيهم، وشكرنا صنيعهم، وأعظمنا همتهم في خدمة البلاد المصرية، قياما بما فرضته عليهم الجامعة المشرقية، وما أوجبته ذمة الجوار، وإن لم يكونوا ممن نبت في تراب مصر، ولا جبل من طينتها.
ولكننا أسفنا غاية الأسف على احتمالهم لهذا العمل العظيم أفذاذا بلا معززين لهم من أبناء الديار المصرية، لا من المسلمين ولا من المسيحيين، أولئك الذين حفت بهم المكاره وداهمتهم مغيرات الرزايا من كل جانب، ولهم في البلاد نسب صريح، وورثوا ما أقاموا فيه عن آبائهم وأجدادهم من أجيال طويلة، وفيهم عارفون باللغات الأجنبية على اختلافها، ومنهم من نال شرف المعرفة على نفقة بلاده، وإنما كانت تعده البلاد لمثل هذه المهمات.
ألا يوجد بينهم شاب يغلي دمه وتجيش أحشاؤه لما نزل بدياره وبني وطنه مما يتألم له العالم أجمع؟! أو إن لم يكن هذا ففتى يعظم همه، ويسمو عزمه، فيطلب ذكرا رفيعا، وثناء باقيا، فتنهض همته للشكاية من مصابه ومصاب إخوانه، أو لإرشادهم إلى ما به من النجاة، وما يتوسلون به إلى الخلاص؟!
ألا يوجد شيخ قضى وطره من الدنيا وفاضت عليه البلاد بخيرها؛ يتذكر نعم الأوطان عليه، فينبعث لأداء شكرها بما يستطيع من خدمتها؟! ألا يوجد من هؤلاء وهؤلاء أغنياء لا يخافون إعداما فيتسامحون في بذل شيء من فضل ما لهم ينفقونه على أنفسهم في طلب الإنصاف لدى الدول التي يهمها النظر في شئونهم؟!
ألا يوجد فيهم من ورث عن آبائه ثروة واسعة وهو يبددها فيما لا يعود عليه بمجد ثابت ولا شرف دائم، فيجعل الإنفاق على نفسه في السفر لهذه الغاية المحمودة داخلا في دائرة إسرافه.
يا عجبا، ما هذا الخمول؟! ولم هذا الانزواء للذهول عما رزئت به أوطانهم؟! كيف وأسنة الحوادث مصوبة إلى أفئدتهم؟! وألسنتها تلغ في دماء قلوبهم العوز والحاجة؟! كيف وإنا نعرف فيهم الأغنياء الموسرين، ومن لا تنفد ثروتهم إلا بأيدي أعدائهم المتغلبين، إذا استمروا في تماديهم هذا الشح والحرص؟!
كيف وفيهم الأسخياء ومن أشرفوا في البذل على الإسراف والتبذير فيما لا ينالون منه إلا مدحة في الوجه، ورفعة لا وجود لها إلا في الوهم؟! الخوف والجبن.
كيف وقد بدا لهم أن الخطر في سكوتهم أشد من الخطر في عويلهم وصياحهم، الراحة مفقودة، والنظام مختل، والحقوق ضائعة، والفتن محدقة بهم، والأجانب ضربوا خناجرهم على حناجرهم، فلو لم يتداركوا أنفسهم بالسعي في كشف هذه البلايا لأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم، بل الخطر كل الخطر إنما هو في إهمال مصلحة الوطن وليس على ساع في خير وطنه وملته في خطر إذا أتي البيوت من أبوابها، وطلب الغاية بأسبابها، فمن أي شيء يخافون، وأي سلطة يرهبون؟!
إن لم يكن لجراح الوطن أثر في أفئدتهم فأين الإحساس الطبيعي المودع في نفوس البشر، الباعث على المباراة والمنافسة؟! إنا لله وإنا إليه راجعون.
الفصل السبعون
العدالة الإنجليزية!
الركون إلى العدالة والسكون إلى الأمن والراحة؛ من الأمور الطبيعية في الإنسان، وهذه حقيقة أدركها الجنس الإنجليزي الشريف، لهذا تراه يجوب الأقطار ويتقلب في الأمصار حاملا على أحد عاتقيه علم العدالة وعلى العاتق الآخر لواء الأمن والراحة، رجاء أن يملك أهواء العالم أجمعين، وينال الكرامة في جميع أنحاء المسكونة.
إلا أنا نعجب غاية العجب لجفلة الناس من ألوان هذه الأعلام، وفزعهم من الاستظلال بظلها، ومن تفيأه يوما فزع للانتباذ عنه في آخر ولو لفحه لهيب جهنم، هؤلاء الأيرلنديون من جنس الإنجليز وعلى دينهم، وينطقون بلغتهم ولا يوجد بينهم وبين سكان بريطانيا العظمى فرق إلا فيما لا يعد الاختلاف فيه خلافا حقيقيا من عقائد المذهب الكاثوليكي والبروتستنتي، ويصح أن يقال: إنه خلاف في فروع الدين لا في أصوله.
وجزيرة أيرلندا تعد جزءا أصليا من مملكة بريطانيا، وسكانها يعدون عنصرا داخلا في قوام الأمة، وعليهم بسط جناح المرحمة الإنجليزية من أجيال طويلة حتى حسب الجميع أمة واحدة، ومع ذلك ترى آلافا مؤلفة من الأيرلنديين يهجرون أوطانهم ويهاجرون إلى أمريكا ويتخذونها سكنا لهم؛ فرارا من عدالة الإنجليز.
وكل يوم ترى المحترقين بنيران الحمية منهم يخاطرون بأنفسهم في أعمال يقصدون بها هدم السلطة الإنجليزية وإهلاك القائمين بها، وفي كل يوم يخدون الأخاديد ويدفنون المواد الملتهبة (الديناميت) في أماكن مختلفة من مراكز الحكومة وطرق مسير الكافة من الإنجليز، تارة تحت قصر الملكة، وأخرى في مقاعد الوزراء، وطورا تحت دار الندوة، وآخر في جسور السكة الحديدية؛ ليدمروا كل مكان بمن يقله.
وزاد ذلك حتى أفزع الحكومة في هذه الأيام، وما من مدة تمضي إلا وتسمع بمواقع بين عساكر المحافظة الإنجليزية في أيرلندا وبين الأهالي، ومنها ما حدث في ثامن هذا الشهر (يونيو) من معركة بين العساكر والعامة جرح فيها كثير.
هل جلاء الأيرلنديين وتهافتهم على الموت وسآمتهم من الحياة في معاندة السلطة الإنجليزية ناشئ عن نفرتهم من العدل وكراهتهم للراحة والميل إليهما طبيعي في فطرة البشر؟! أظن لو كان عدلا حقيقيا يعرفه بنو الإنسان لما نبت عنه الطباع، ولا آثرت الأنفس الموت على التمتع به، ولا طلب الخلاص منه أقوام يتحدون مع أرباب السلطة في الجنس واللغة والدين، ولا فضلوا عليه مهاجرة الأوطان واحتمال آلام الغربة، ومشاق التطوح في أراض لا يجدون فيها من العيش إلا لماجا (أدنى ما يؤكل).
ولكنه عدل تفرد به الإنجليز من بين الحيوانات الناطقة، من أحكامه أن توضع الجزية على كنائس الكاثوليك تؤديها إلى كنائس البروتستانت عن يد وهي صاغرة، واستمر ذلك إلى عهد قريب، ومن مقتضياته أن يكون الأيرلندي خادما بل عبدا رقا لأمراء البريطانيين لا يتركون له من لوازم الحياة إلا ما يشتغل به لتنمية ثروتهم وتوفير لذتهم.
إن كان هذا العدل لا يوافق أذواق المتفقين معهم في الصفات السابق ذكرها، فكيف ترجى ملاءمته لأذواق الذين لا نسبة بينهم وبينهم، ولا صلة تجمعهم، لا في لغة ولا جنس ولا دين؟ هذا النوع البهيج من العدل ظهرت له آثار في البلاد الهندية: دخلها الإنجليز وهي أغنى أرض في العالم، وأخصب تربة في المسكونة، وسكانها أنعم الناس عيشا، وأوسعهم ثروة، فإذا هي اليوم بسر العدالة كأنها صفاصف وأمرات (أرض لا نبات بها).
أهاليها حفاة عراة أذلاء، رضوا من المعيشة بالشظف، ومن القوت بالعلف، وما يجدون ما به يقنعون، تراهم بعد ما سلبوا أملاكهم، وابتزوا ثروتهم، واستأثر الإنجليز بجميع ما كان لهم، يطلبون التعيش في المهن الدنيئة ولا يصلون إلى ما يطلبون، يكون منهم الكاتب المنشئ البليغ الحاسب يقطع الأرض سعيا من بلد إلى بلد ومن ولاية إلى ولاية ليحصل خدمة ينال من أجرها ثلاثين فرنكا في الشهر، ولا يسعده الحظ بنوالها!
ومن سنتين دخلوا مصر وهي أرض الراحة والسلام، وأهلوها في رغد من العيش، وأمن من الغوائل، فإذا هي اليوم - ببركة العدل الإنجليزي، وحسن الإدارة البريطانية - أرض الفتن، ومجالات الحروب، ومضارب الخلل والفساد، قضت العدالة بحرمان آلاف من الوطنيين وطردهم من وظائفهم في الحكومة، وهم ذوو أهل وعيال لا عيش لهم إلا من رواتب الخدم الوطنية، وحل محلهم في الوظائف أخلاط من الإنجليز.
وكسدت أسواق التجارة، وغلت أيدي الزارعين عن العمل في الفلاحة بفقد الأمن وعموم الاضطراب، وامتنعت الأرض عن الإنبات بإهمال الأعمال العامة، واستولى الفقر على الفلاحين حتى عجزوا عن وفاء ديونهم وقصرت أيديهم عن أداء ما عليهم من الضرائب لحكومتهم.
ومع كل هذا ترى الإنجليز لا تأخذهم ريبة في أنهم عادلون قوامون بالقسط، وأن حلولهم في أي قطر وسلطتهم على أي شعب مقرونة بالسعادة والرفاهة والأمن والراحة، ويعجبون كل العجب من انحراف المصريين عنهم ونفرة قلوبهم منهم، ويقولون: يا سبحان الله! كيف يوجد بين جمعيات سرية أو جهرية تتخالف على بعضهم وتجتمع الألفة من العبودية لهم؟! وكيف يختلج في خاطر مصري أن ينقم على الإنجليز؟!
ولما أحسوا بحركة الخواطر واشتعال الحمية في نفوس بعض المصريين وتوجسوا الخيفة من إقدامهم على كلمة الحق، وهي بلادنا لنا، ونحن أعلم بمصلحتنا من غيرنا، ولا نريد أن نكون طعمة للإنجليز؛ أرادوا أن يقيموا برهانا على عدلهم ويوطنوا النفوس على الرضا بحكمهم ويمحوا كل ضغينة من قلوب المصريين، بالقوة العسكرية، كأنهم بإطلاق النيران وسل السيوف يودعون في القلوب محبة، وفي النفوس رضاية، وهي طريقة جديدة في إزالة التنافر وإيجاد التآلف، وربما كانت سنة قديمة عند الإنجليز.
وجاء في برقية من مراسل التايمس في القاهرة أن العساكر الإنجليزية انتشرت في شوارع القاهرة شاكية السلاح لتعزيز قوة حفظ الأمن، والحامل على ذلك ما تأكد عند حفاظ الأمن من الإنجليز أن في تلك المدينة جمعيات جهرية أو سرية، أو أن فيها أشخاصا مصريين يحبون بلادهم ولا يودون أن يكون السلطان في حكومتها لأجنبي عنهم، خصوصا إن كان ظالما فيهم.
أو أن في تلك المدينة من يخطر بباله أن يقول كما يقول أدنى رجل من الإنجليز: إن مصلحة وطننا مقدمة على كل مصلحة، أو أن فيها من يحدث نفسه بأن الإنجليز لا خير في ولايتهم، ويرى شقاء بلاده في سوء إدارتهم.
فهاج غيظ مأموري الإنجليز وبعثهم على الشدة في طلب الوقوف على مكامن أولئك الذين لا يميلون إليهم ليؤاخذوا كل ذي سريرة بما اختلج في صدره من الانتقاد على أعمالهم، ومن عزمهم أن يستعملوا من أجهزة الإضاءة ما يشرق به النور ليلا في كل شوارع المدينة وأزقتها، من القلعة إلى أضيق حارة فيها، ليحققوا ما ظنوه ويكشفوا ما توقعوه (وهم في عملهم هذا يراعون مصلحة المصريين ويأسفون على حالهم، حيث كفروا نعمة النظام ولم يعترفوا للإنجليز بهذا الإحسان الذي تفضلوا به عليهم من مدة سنين ويأسفون)، ويرون من العدل أن تشرب قلوب المصريين مودتهم بقوة السلاح حتى تكون سيئاتهم حسنات، وربما لا يتم لهم من ذلك ما يقصدون.
الفصل الحادي والسبعون
إنجلترا وفرنسا
أصغت آذان الراغبين في الوقوف على نهاية الحوادث المصرية لاستماع ما يتحدث به بين الحكومات الأوروبية من يوم دعت إنجلترا جميع الدول العظام للاجتماع في مؤتمر ينظر في بعض المسائل المصرية، إلا أنها منعت دون حجاب الكتمان، وإنما كانت تصل إليها دندنة أو جلبة أو غمغمة أو جمجمة، وكل حس يصلها يثير رواكد الأوهام فتهيج فيها غرائب الصور والأشكال.
والمذاعون من أرباب الجرائد في أوروبا - وهم أشبه بالداعين إلى الألاعيب والكموديات - كانوا يذهبون من الكلام وجوها مختلفة ويتنافسون في التمثيل والتصوير للتغرير والتهويل، حتى أبرزوا الأرض في صورة السماء والسماء في صورة الأرض، خصوصا فيما يتعلق بالمفاوضات التي كانت جارية بين وزارتي فرنسا وإنجلترا، فكان يخيل لمتصفح جرائدهم أن البحار غاصة بالمراكب، والمدرعات يصادم بعضها بعضا، وأن فضاء البر أعضل بالجيوش المتلاحمة لا يجد السالك من بينها سبيلا.
وتجسم الخيال لأرباب الأذهان الحادة، فكان منهم مهندسو حرب يعينون مواقع العساكر وطرق المصاولة وجموع المتلاحمين تجول في أذهانهم يمينا وشمالا ويموج بعضها في بعض، وكأنما كانت مخيلاتهم معرضا لجيوش العالمين، وكأن في كل فوج داعيا وفي كل قبيل مناديا يقول: حقي هذا، فهيعات تتعالى وزفرات تتصاعد وأرغاء وأزباد، وتقطب في الوجوه وشزر في المناظر، وفي كل ذلك هول يأخذ بالألباب.
والعارفون بقوة فرنسا البرية والبحرية والذين يقدرون حقوقها حق قدرها؛ كانوا يعتقدون أن تمثال العظمة البريطانية أصبح منكس الرأس منحني الظهر قد هوى بهامته إلى ركبته يتوارى من الناس خجلا بما ظهر من ضعفه وعجزه، وأن حكومة إنجلترا ستعود بالخيبة (وإن أعدت فيالق من التهديد وجحافل من الأوغاد).
وتقوت هذه الأوهام بما يطنطن أرباب الجرائد، وولعت النفوس بالوقوف على الحقيقة، وانبعثت رسل الأفكار تجوس خلال الشئون والأطوار، لتصل إلى شيء من هذه الأسرار ، واجتمعت الأرواح في الآذان؛ لعلها تسترق سمعا عن تلك المداونات، وكمنت كل نفس في مشكاة باصرتها؛ لعلها تستشف من وراء الحجاب ما ينبئ عن الحقيقة أو يقربها من الفهم، والجميع واقفون وراء حجاب هذا الملعب الشائق، وبعد طول الانتظار كشف الستار.
فإذا عائدة الإنجليز جالسة في هيكل آمون، وبيدها تاج يحكي رأس الثور (تاج الفراعنة) متهيئة أن تضعه على رأسها، والملوك العظام وقوف بين يديها مستعدون لتهنئتها، كأنما كانت هذه المفاوضات والمخابرات إعدادا وتجهيزا لإجلاسها على كرسي مينا الأول ورمسيس الأول - لا حول ولا قوة إلا بالله.
قام رئيس الوزراء الفرنسي في مجلس النواب خطيبا؛ لبيان الاتفاق الذي عقده مع حكومة إنجلترا ليرى النواب رأيهم، وقبل ذكره أنفق ما لديه من البلاغة والفصاحة وحسن البيان لإقناعهم بقبول ما أجرا.
تلطف في الكلام وأبدع وصوب وصعد وأتى على ترغيب يشوبه ترهيب، ويأس يحوطه أمل، وأدرج في طي خطابه أن فرنسا قبل هذا العهد الجديد لم تكن على شيء، وبه نالت أشياء، وأومأ إلى أن وزارته لو طلبت أزيد مما حصلت لأدى الأمر إلى ممانعة الحكومة الإنجليزية وأفضى الخلاف إلى انقلابها، وربما يخلفها وزارة تطمح إلى الاستيلاء على مصر.
وجاء في نطقة بما حرك الطباع ومال بالأسماع حيث قال: يلزم لسياسي قبل إبرام حكم أن يلاحظ جميع أطرافه ولواحقه، فهذه الكلمة الرفيعة جددت في السامعين آمالا وظنوا أن المراقبة الثنائية قد أعيدت، أو تقرر اشتراك فرنسا مع إنجلترا في الاحتلال العسكري، أو إبرام الحكم بخروج الإنجليز من مصر، وبالجملة أنهم فازوا فوزا عظيما.
وبعد مقدمات طويلات
1
بين الاتفاق فإذا هو - بعد إمعان النظر - على هذا النحو: إن الإنجليز سادات مصر يفعلون فيها ما يشاءون، وليس لنا أن نعارضهم، فلا المراقبة الثنائية عادت، ولا الاشتراك في التداخل العسكري أو النظر الإداري حصل، ولا قررت حرية القتال على أصل ثابت، ولا تحقق جلاء الإنجليز على صورة قطعية، ولا تأصلت مراقبة دولية كما كان يتوهم بعض السياسيين، بل كما كان يلجأ إليه الإنجليز عند نهاية العجز على ما أشار إليه كثير من سياسييهم، فانقبضت صدور النواب.
فلما رأى
2
شدة تأثرهم دفعة واحدة وأحس منهم القنوط، حاول إحياء آمالهم بقوله: إنا سلكنا في اتفاقنا هذا مسلك سائر الدول، ومن السنن المتعبة فيها تنازل كل من طلاب الاتفاق عن شيء مما عليه الاختلاف حتى يتقاربوا ويتعادلوا فيسهل اتفاقهم، يوهم بهذا أنه وإن ترك كل حق لفرنسا في مصر إلا أن الإنجليز أيضا تساهلوا معه في أمور.
هذه المسامحة التي لم تكن منتظرة من حكومة فرنسا ذهبت بالظنون إلى ما وراء الظاهر المعروف، ومنه ما بعث مراسل جريدة «التاج بلات الألماني» في فيينا على قوله: يظن ههنا (في فيينا) أن الدول ستعارض هذه الاتفاق رغما عن كل وهم. ا.ه.
وليس ببعيد أن يكون نعير الإنجليز وهديدهم وإرهابهم للوزارة الفرنسية بالميل للألمان هو الذي دعاها لهذا التساهل الغريب، بل حملها على ترك الحق بالكلية، أو ربما ظن رئيس الوزراء أن اشتداده في اقتضاء حقه أو حق من له بهم علاقة صحيحة يوجب تغييرا في وزارة جلادستون، فيقوم خلفها على الاغتصاب بالقوة وانتهاك كل حق، فتضيع الحقوق الفرنسية بلا منة من فرنسا في ضياعها، فسارع إلى موافقتها على ما تشاء، وطرح مصلحة فرنسا في مصر بين يديها لتكون المنة في استيلاء الإنجليز على مصر للفرنسيين.
ولكنا نظن أن هذا النوع من المعاملة لا يفيد فرنسا أكبر مما يجلب عليها من الضرر؛ فإن التساهل وسوء السياسة الذي كان من الحكومة الفرنسية مع بريطانيا في الهند عندما كان للأمتين منافسة فيه آلت إلى تغلب الإنجليز على جميع الممالك الهندية، ورجع الفرنسيون بخفي حنين، ولم يمح أثر ذلك الخسران من خواطر الأمة الفرنسية إلى الآن، والمستقبل أشبه بالماضي من الماء بالماء.
وقد يقال: إن الحكومة الفرنسية حولت نظرها عن مصر إلى جهة أخرى، وبقي رجاؤنا في نواب الأمة الفرنسية؛ فإنهم وإن أظهروا ثقتهم بالوزارة بعد مجادلات طويلة إلا أنهم شرطوا عليها أن لا تبرم حكما في المؤتمر إلا بمشورتهم - اللهم حقق الرجاء - وإنا في عجب من حرص مجلس البرلمان الإنجليزي حيث يعارض جلادستون في هذا الاتفاق مع أن أقرب نتائجه الاستيلاء، وقد طلب البرلمان من جلادستون مثل ما طلب نواب فرنسا من وزيرها.
أما حقوق العثمانيين والمصريين فلم نر لها بين المتفقين ذكرا، اللهم إلا أن يقوم أربابها على المطالبة بها، وعند ذلك نرى لها فصلا بين هذه الأبواب.
الفصل الثاني والسبعون
الاتفاق
عهد بين وزارتي فرنسا وإنجلترا، تواطأنا عليه؛ ليكون موضوع البحث في المؤتمر، وأشرنا إلى أن غايته تنازل فرنسا عن جميع حقوقها في مصر ونفض يديها من كل مصلحة لها فيها، والاعتراف لإنجلترا بالسيادة عليها وإن لم تذكر حروف السيادة، وهذا ما يحتوي عليه من المواد:
الأولى:
أن يستمر حلول الجيش الإنجليزي في الأراضي المصرية إلى أول يناير سنة 1888 (ثلاث سنوات ونصف)، ثم لا يخليها إلا بعد انعقاد مؤتمر جديد من نواب الدول العظام يتفقون فيه على أن الإخلاء لا يضر بالنظام الداخلي لمصر ولا بالعلاقات السياسية بين الدول، فإن حصل اختلاف ولو من دولة واحدة ترى ضرورة إطالة المدة كان الخيار لدولة إنجلترا في الجلاء أو البقاء.
دولة إنجلترا هي الدولة التي أطلقت مدافعها على مدينة الإسكندرية والمؤتمر منعقد
1
في الأستانة من رجال الممالك العظيمة وفيهم نائب فرنسا، ولم توقر المؤتمر ولم تراع حرمة الدولة ولم تتفق مع واحدة منها على العمل الذي باشرته، فهل يعجزها في خلال هذه المدة الطويلة أن تستميل دولة من الدول إليها، حتى إذا انعقد المؤتمر بعد ثلاث سنوات ونصف ذهبت إلى أن إخلاء القطر المصري من العساكر الإنجليزية يخشى منه على نظام البلاد أو سلم أوروبا، فيكون حجة لإنجلترا في إطالة المدة وإن خالفها بقية الدول ومنطوق الشرط يؤيد حجتها.
وكيف يمكن لبقية الدول إذا خالفت إحداها أن تلزم دولة بريطانيا بالخروج من ديار مصر بعدما غلت أياديها بتقرير هذا الشرط وكتبت على نفسها أن الجلاء لا يكون حتما إلا إذا اتفقت عليه جميع الدول!
السياسات في أوروبا سريعة الانقلاب، والمنافسات لا تقف عند حد يحيط به النظر، ومطامع كل من الدول لا تنتهي عند غاية، فليس ببعيد - بل هو أقرب من كل قريب - أن توجد دولة في دول أوروبا تشد عضد إنجلترا على دعوى أن إخلاءها لمصر يحدث هزة في سلام أوروبا، وربما تكون تلك الدولة هي الدولة القوية التي يصعب على سائر الدول مخالفتها، ولا تجد فرنسا عند ذلك موئلا تلجأ إليه سوى الرضاء والتسليم.
إذا فرضنا عجز إنجلترا عن استهواء دولة أوروبية توافقها على المكابرة في أحوال مصر، وأن سياسة أوروبا وقفت على حالتها في وقتنا الحاضر، وأن جميع الدول تحالفت على قول الحق، فهل تعجز دولة بريطانيا وهي هي عن أن تثير شغبا في بعض الأرجاء المصرية بأن تغري مالطيا بقبطي أو روميا بفلاح أو حمار، فتسيل قطرات من الدماء تخيل كل قطرة منها بحرا وتنادي أن للفتن مثارات وللعصيان أمارات والنظام في خطر ولها حق المحافظة عليه، إلى أن تنقلب أرض مصر جنة يكون فيها أمم العالم إخوانا على سرر متقابلين؟!
ولو اعتبر المسيو جول فري بالمعاهدات التي عقدتها إنجلترا مع السلطنة التيمورية وغيرها من ممالك الهند، وكيف أقدمت تلك الدولة على نقضها ولم تبال فيه بعهد ولا ذمة؛ لظهر له أن نقض روسيا لعهدها مع بولونيا ليس شيئا يذكر بالنسبة إلى حفظ إنجلترا لذممها مع تلك الممالك العظيمة.
لو تأمل هذا الوزير في الأعمال الإنجليزية؛ للام نفسه في الاحتجاج بشرف إنجلترا على خلو غرضها وإخلاصها فيما واثقته عليه.
إن لم يكن في خاتمة الشرط سر فلم اهتمت بها الوزارة الإنجليزية وألحت على تثبيتها؟! إن لم يكن لها غرض في استعمالها وقتها فلم أصدرت أوامرها بمد سكة الحديد من سواكن إلى بربر على نفقة الحكومة البريطانية؟!
إن كان لمسيو جول فري ثقة بمسيو جلادستون واعتماد على عفته وطهارة ذيله، فمن يضمن له بقاءه في رئاسة الوزارة إلى نهاية المدة حتى يوفي بعهده؟! فإذا استعفت وزارة جلادستون لعلة داخلية أو أزمة خارجية وخلفتها وزارة تحت رئاسة اللورد تشرشل أو اللورد سالسبوري، وهما من الطالبين الاستيلاء على مصر أو إعلان السيادة الإنجليزية عليها، فأي مانع يمنعهما من الاستفادة من هذه الخاتمة السيئة في مقصدهما المعروف؟!
المادة الثانية:
ألغيت المراقبة الثنائية وسيعوض عنها بتوسيع السلطة لقومسيون الدين العمومي، فيمنح حق الاطلاع على مصاريف الحكومة والاعتراض على ما يزيد منها عن المقرر في الميزانية، ويكون له ذلك ابتداء من سنة 1885، وميزانية تلك السنة تحصرها حكومة إنجلترا وتعرضها على المؤتمر الدولي ليقرر ما تحويه، على أن يكون قانونا للنفقات لا يخالف إلا لضرورة تخرق النظام.
وفيما بعد سنة 1885 يخول لصندوق الدين حق مساعدة الحكومة المصرية على تحضير ميزانيتها السنوية، بمعنى أنه تعرض عليه قبل تقريرها ليبدي فيها رأيه، إلا أن ما يكون له من الرأي في جميع الأحوال ليس إلا استشاريا محضا لا ينقض ولا يبرم، فإذا انجلت العساكر عن مصر يكون له حق المراقبة على تحصيل الإيرادات جميعا وضبطه على قواعد صحيحة وطرق منتظمة، وبهذا يحوز حقوق المراقبة الثنائية ما عدا الحضور في مجلس الوزراء، ورئيس القومسيون في جميع الأحوال يكون إنجليزيا.
إن كانت مراقبة قومسيون الدين على تحصيل الإيرادات لا تكون إلا بعد انجلاء الجيش الإنجليزي، أفلا يكون هذا أملا من الآمال ربما ينال وهو يكون فيه عوض حقيقي عن المراقبة، وهو من رسوم الخيال وبينه وبين الثبوت أمد غير قصير؟ إن رضيت الأمة الفرنسية بتنقيص فائدة الدين لهذا الأمل الموهوم فقد خسرت كما قالت جريدة «لا جوستيس» خسارة محققة لوعد لا كافل لها بوفائه.
المادة الثالثة:
إحماء مصر والمكافلة لها (ما يعبر عنه بالحياد) بأن تجعل حكومة في إفريقيا على أصول حكومة بلجيكا في أوروبا، وتحرير القناة، أي إباحته ممرا لجميع مراكب الدول من أي نوع كانت، فإن كانت الدولتان متحاربتين ضرب لبقائها فيه مدة لا يسوغ فيها إنزال عساكر أو ذخائر على حافتيه ولا تباح المناوشة فيه ولا على القرب منه ولا فوق شيء من المياه المصرية ، وإن كانت الدولة العثمانية إحدى المتحاربتين.
إلا أن شيئا من هذه القيود لا يحذر أخذ الاحتياط للدفاع عن مصر نفسها إذا دعت إليه أحوال وإذا ألحقت مراكب دولة من الدولة ضررا بالقناة ألزمت بتعويضه، وعلى حكومة مصر أن تهيئ ما يمكنها من تنفيذ الشروط على المراكب الحربية مدة الحرب، ولا يجوز أن يبنى على حافات القناة ولا على مقربة منه معاقل وحصون.
وهذه الشروط جميعها تقرر ويجري حكمها بعد جلاء العساكر الإنجليزية عن وادي النيل، وفاتحة هذا الفصل تنطق بأن الإنجليز إن قصر بهم السعي عن التملك في الأراضي المصرية فقد هيئوا كلاليب لاختطافها من أيدي المسلمين والانقلاب بها إلى قوم آخرين، كما أشرنا إليه في موضع آخر.
هذا الذي صرح به من تشكيل الحكومة في مصر على مثال حكومة بلجيكا هو الأمر العظيم الذي نوهه مسيو جول فري، وقال: إنه من أجل أحكام السياسة وأسماها، وصحيح العقل يرتاب في كونه حكما سياسيا فضلا عن كونه ساميا؛ لما يلاحظ فيه من عواقب المكالبة والشحناء بين الأمم الأوروبية إلى أجيال بعد ما تقرر لديهم أن الشرقي لا يليق به أن يستقل بحكم نفسه!
فإن خدعه الظاهر فربما يرى فيه خيرا لفرنسا أو لأوروبا، بمعنى أنه أفضل لها من التملك الإنجليزي، أما المسلم فيراه نكاية لملته والشرقي يجده خرابا لبلاده، هذا الأود الذي ظهر في سياسة مسيو جول فري لا يقومه إلا حمية الدولة العثمانية واشتدادها في حفظ مكانتها السياسية، وحرص مجلس النواب الفرنسي على حماية المصالح الفرنسية التي يسهل صونها بشيء من العزيمة وبصيص من البصيرة - ولله الأمر يفعل ما يشاء.
2
الفصل الثالث والسبعون
الباب العالي
روت جريدة الديلي نيوز خبرا يسر كل مسلم يهمه نجاح الدولة العثمانية ويرى عزته في عزتها، وذلك أن الباب العالي يأبى أن يرى جيشا إنجليزيا يحتل مصر، ويرغب إذا اشتد العصيان أن يفوض الأمر إلى الخديو الذي يتبع نصائح الدولة العلية صاحبة السلطة الشرعية عليه.
وكل شرط يرمي إلى جعل مصر تحت حماية أجنبية فليس عند الباب العالي في موضع القبول؛ لأنه يكون تمهيدا لإضعاف سلطة السلطان على تلك البلاد، ويمكن أن يقبل الاتفاق الفرنسي الإنجليزي في غير هذين الأمرين (الاحتلال الإنجليزي والحماية الأجنبية).
وورد في رسالة من مراسل جريدة نوفل بريس ليبر الفرنسية مناقشة جرت بينه وبين أحد السياسيين الروس نقلتها جريدة التان، جاء فيها أن دولة الروس ستقاوم دولة بريطانيا في مطامعها وتؤيد الدولة العثمانية في مطالبها؛ رعاية لمصالحها المرتبطة بمصالح العثمانيين في المسألة المصرية وفي الاتفاق المنعقد بين دولتي فرنسا وإنجلترا.
الفصل الرابع والسبعون
الإنجليز والإسلام
الحكومة الإنجليزية عدوة المسلمين عداء شديدا لالتهامها الممالك الإسلامية، تغذ المسير إلى آرابها منها سالكة جادتها المعهودة من اللين والمواربة والخديعة والمخاتلة، فإن بلغ بها السعي حدا من الغرض فذلك، وإن عجزت أخذت طريقا آخر لانتزاع قطعة من أيدي المسلمين بأية وسيلة وتسليمها لقوم من سواهم أيا كانوا، كأن لها لذة في نكاية أهل الدين وكأنها تبتغي السعادة في تذليلهم ومحو ما يكون من ملكهم، وكمال بهجتها في أن تراهم أذلاء عبيدا لا يملكون من أمرهم شيئا!
وفي تصانيف جلادستون وخطبه الضافية أيام الحرب العثمانية مع الروس ومقالات أشباهه نبأ، بل أصدق الأنباء عما تكنه صدور الإنجليز من العداوة للمسلمين.
لهذه الحكومة طمع التمكن في أرض مصر، ولها من كل جبل قبضة وفي كل سبيل خطوة لتنال مطمعها، وهمتها اليوم في إرضاء بعض الدول على استبدادها بالأمر في مصر بما تسول لسياسييها من أوهام المنافع وخيالات الفوائد، وفي تثبيط بعضها بالمراوغات والتهديدات، فإن بلغت همتها مبلغ القصد فهو خير ما تطلب، وإلا عقدت عزمها على نقل الولاية في مصر من أيدي المصريين والعثمانيين إلى أيدي أقوام آخرين.
هذا ما تشير إليه جريدة الديلي نيوز الوزارية (الإنجليزية) عند كلامها عن قناة السويس، حيث تقول: يمكن القطع بحياد القناة على الأساس الموضوع في برقية اللورد جرانفيل المرسلة إلى الدول في 3 يناير سنة 1883، وليست تلك الحيدة إلا حكما من أحكام النظام الذي وضعته الوزارة الإنجليزية ليكون قاعدة تقوم عليها هيئة الحكومة المصرية بعد جلاء العساكر عنها.
ولكن لا يرى الإنجليز في حيدة القناة وحدها ضمانا صحيحا لوقاية مصر من غارة دولة أجنبية عليها، ولا كفالة كافية لاستقلالها، بل يمكن أن يذهب الرأي إلى ضرورة حيدة مصر نفسها بأن تحول حكومتها إلى حكومة سويسرية أو بلجيكية في إفريقيا وتوضع تحت حماية الدول عموما، فتؤمن الإغارة عليها من إحداها إذا آل الأمر إلى هذه الحال - والعياذ بالله - فهل يسمح أرباب الحماية أو السيادة بتفويض أعمال الإدارة والقضاء والمالية للمصريين العارفين بشئون بلادهم؟ كيف نظن هذا وقد سجل عليهم الإنجليز أنهم أضعف من أن يقوموا بعمل جزئي أو كلي في خدمة أوطانهم، وأن من الضروري لحياتهم أن يكونوا آلة صماء في أيدي غيرهم من الأوروبيين؟
قد يعقب ذلك - لو حصل - تشكيل مئات من المجالس في القطر المصري، كلها تشبه المحاكم المختلطة، أما مجالس الفصل والقضاء - ابتدائية واستئنافية - فالأمر فيها بين، وأما إدارة الداخلية والمالية وفروعها فلا تستقل بها دولة من الدول؛ فإن طبيعة الأمر تأباه، فلا يتولى أعمالها إلا مجالس مؤلفة من أقوام مختلفة الأشكال واللغات متبائني الحكومات، ولو تفضل السائدون على المصريين عند بداية العمل لسمحوا بأن يكون في كل مجلس واحد منهم إلى زمان محدود.
أولئك الأعضاء الأجانب وهم نواب دولهم لا يكون سيرهم إلا كما سار إخوانهم من قبل، كل منهم يستدعي من أبناء جلدته من يستخدمه في وجه من وجوه الأعمال التي يولي النظر فيها، وتقع بينهم المنافسات، ثم تكون المحاباة، كل يتغاضى عما يأتيه الآخر ليتغاضى الآخر عنه، فلا تكون مدة حتى تضيق أرض مصر بالأجانب، ولا يعود فيها مقر لوطني، هذا إلى ما يتبعه من إقامة عسكر مختلط للمحافظة في المدن والأقاليم، فلا يبقى للمصريين إلا خسائس الأعمال يفلحون الأرض ويعانون الأعمال الشاقة ولكنهم أجراء عسفاء لغيرهم يؤدون ثمرات ما يكسبون إلى من لا يعرفون، يخرجون عن جميع ما كانوا نالوه في الأزمان الأخيرة من عهد محمد علي إلى الآن، ولا يمر زمن طويل إلا يصبحون كسكان الأمريكتين ينحسرون إلى بعض الأطراف القاصية عن العمران أو يندمجون مع الأجانب، فلا يوقف لهم على أثر صحيح، وتصير الأراضي المصرية مأهولة بأخلاط مختلفة، كما في أراضي أمريكا الجنوبية والشمالية، ويقوم لفيف أولئك الأغراب مقام أبناء الأرض الصادقين، وهذا مما لا يسر عاقلا وإن راق في نظر بعض المباركين.
وأملنا في الدولة العثمانية أن تقوم على قدم ثبت عليها الأسلاف الأولون، وتقدم بعزيمة ثابتة على المطالبة بحقوقها في مصر وإعادتها إلى حالتها الأولى قبل التدخل الإنجليزي، ثم تلقي بزمام الحكومة فيها إلى ذوي عزم من المصريين؛ صيانة لحوزة الإسلام.
وفي الظن أن دولة روسيا لا تفوتها هذه الفرصة لمساعدة العثمانيين؛ لتستميل إليها قلوبهم، ولا تختلف عنها دولة فرنسا، فإن مصالح الدولتين في فتوحاتها بالبلاد الشرقية تقضي على السياسيين فيهما - إن كانوا كما يقال سياسيين - بالاتحاد مع العثمانيين.
1
الفصل الخامس والسبعون
الباب العالي والإنجليز
يهتم المسلمون في كل أرض بأمر ما يجري في مصر، بل تذهب نفوسهم حسرات كلما رأوا أو سمعوا أن جنديا أجنبيا يجول في نواحيها مقاتلا أو حاميا، وليس شأن مصر عندهم كغيرها من البلاد، فإنها بهرة الإسلام وباب الحرمين الشريفين، فكل نازلة بها ترزأ الدين وتصدع من أركانه.
والمسلمون - في قلقهم هذا - ينظرون إلى الدولة العثمانية ويقلبون وجوههم في سماء سلطتها الحسية والمعنوية؛ يرجون منها عزمة ثابتة تنقذ بها الأراضي المصرية من تبوؤ الأعداء، ويحفظ بها شرف المسلمين ومكانتهم بين الأمم، وتصان بها ولاية الإسلام من السقوط في حبائل هذه الدولة الداهية - دولة الإنجليز - التي أخذت على نفسها أن تبيد ولاية هذا الدين وتحول حابله على نابله، هذا فضلا عما يراه كل مسلم من أن عزة الدولة العثمانية وشوكتها ليست إلا بسلامة ملكتها على مصر، فإن قضي فيها الأمر لغيرها - والعياذ بالله - أصبحت حقوق العثمانيين في جميع ممالكهم معرضة للخطر.
فهذه دولة الإنجليز كمرض الآكلة يظهر أثره ضعيفا لا يحس به عند بدئه ثم يذهب في البدن فيفسده ويبليه بدون أن يشعر المصاب بالألم، هكذا شأن الإنجليز في لينهم وتلطفهم وحلاوة وعودهم وتملقهم وخضوعهم، يسلبون المالك ملكه بل الحي حياته وهو مأخوذ بما يشعوذون له. ولا ريب في أن الإهانة التي تمس الدولة العثمانية تنال جميع المسلمين في الشرق والغرب، فإن كل مسلم - وله الحق - يعد هذه الدولة دولته ولو تباعدت الأقطار.
إن الهنديين إلى اليوم وما بعد اليوم يباهون بها ويحسبون أنفسهم في عداد الأمم التي لم تذهب سلطنتها ويعتقدون أن لهم سلطانا قويا في الدولة العثمانية، بل يرون أن خلاصهم من قيد الرق الإنجليزي لا بد أن يكون يوما ما بسعيها، وقد أظهرت أيام الحرب الأخير آثار لحمتهم معها باللحمة الملية بما لم يبق ريبة لمرتاب في شدة صلتهم بها.
لهذا كنا نعجب لسكوت الدولة العثمانية في هذه الأزمان الأخيرة عندما اشتدت مقارعات السياسيين من كل دولة وتصارعوا في المفاوضات والمجادلات محاماة عمالهم من المصالح في مصر، مع أن الدولة كانت أحق وأولى من جميع الدول بالاهتمام وبذل الجهد للمناضلة عن حقوقها الثابتة إرضاء لخواطر المسلمين عموما، واستبقاء لحسن عقيدتهم فيها، وحماية عن ممالكها وأهم مملكة منها، إلى أن اطلعنا على إعلان بعث به الباب العالي إلى الدول بطريق التلغراف فيما يتعلق بالاتفاق المنعقد بين فرنسا وإنجلترا في المسألة المصرية، أتى فيها على بيان العواقب السيئة التي تنشأ من طول مدة الاحتلال الإنجليزي في مصر.
وأظهر أن مجرد تحديد المدة لا يكف الإنجليز عن حرصهم وغاية ما فيه أنه يستتبع مداعاة الدول والدولة العثمانية مع الإنجليز، وبرهن على أن بقاء العساكر الإنجليزية في مصر ليس بضروري في حل المسألة، فإن كانت الدول لا ترى في العساكر الأهلية كفاية لصيانة البلاد من الخلل، فالباب العالي مستعد لإرسال العساكر إليها على ما تقتضيه حقوقه فيها كما عرضه على الدولة البريطانية وجرى البحث فيه، ولكن حال دون الإجراء موانع سياسية.
فإن لم تقبل الدول أن يستقل الجيش العثماني بحل هذا المشكل، فإنه يعرض عليها أن يحتل مصر جيش مختلط يؤلف من عثمانيين وفرنسيين وإنجليز وإيطاليين وإسبانيين وإلى الدول تعيين الأجل في الوجهين.
وزاد الباب العالي في إعلانه هذا خدشا لخواطر الإنجليز حيث قال: إن الإنجليز قد أنهوا أعمالهم في محو العصيان وتثبيت سلطة الخديو، إلا أنهم لم يأتوا في تحسين حال مصر وتقويم نظامها إلا بما فيه إجراء بعض مقاصدهم السابقة.
وإنا نقول - كما يهتف به كل مسلم: إن من فروض الدولة العثمانية أن لا تدع وسيلة للذود عن مصر وكف يد الإنجليز عنها، وأن تكون همتها في ذلك كهمتها في الذود عن نفس الأستانة، وليس لها أن ترهب هذه الرعود وتلك البروق التي لا تعقب مطرا.
ومن الحق أن نقول: إن في مكنة العثمانيين أن يقوضوا هذا البيت البلوري (بيت العظمة الإنجليزية) بحجر واحد فإذا اشتدت الأزمة تيسر لهم السعي في الوئام بين الإيرانيين والأفغانيين والبلوجيين ولا يكلفهم هذا إلا كلمتين يستندان إلى أصل ديني قويم، وعندها يعرف الإنجليز مقام أنفسهم في الأقطار الهندية والممالك الشرقية.
هل تسلط الإنجليز في الأراضي الهندية الواسعة إلا بسبب المخاصمات المذهبية التي كانت بين الأفغانيين والإيرانيين؟! ولو نظرنا إليها نظر التحقيق لما رأيناها مما يوجب شق العصا وتفريق الكلمة، ولا ريبة عندنا أن رفع الشقاق وتجديد الوفاق بين تلك الأمم أيسر شيء على الدولة العثمانية؛ لما لها من المكانة العليا في نفوس المسلمين قاطبة، ولا يظن أن اعتصام الإنجليز في جزائر بريطانيا والهند يقصر بالعثمانيين عن النكاية بهم لانقطاع السبل بين هؤلاء وأولئك وانسداد المسالك بين الممالك العثمانية والإنجليزية؛ فإن الظن يختلف عند وجود الاتفاق بين الأفغان والإيرانيين واتحاد كلمة الفرس مع العثمانيين.
هذه طريق محمرة وبندر عباس إلى بلوجستان مفتوحة للسالك مطروقة للسابل، وهي الطريق التي سلكها أول جيش إسلامي بعث به الحجاج بن يوسف لفتح السند، إن هذه لجولة لو كانت لأثارت في وجوه الإنجليز غبرة يضلون فيها عن رشادهم.
ومعلوم أن الحي لا يسلم نفسه للموت بلا مدافعة ما دام قادرا عليها، يكفي لقيام مليون من المقاتلين الأفغانيين والبلوجيين، تحرك خمسة آلاف عثماني إلى أحيائهم، لست أبالي أن أقول الحق إذا حصل التساهل في أمر مصر وانفتح باب المطامع لكل دولة صغيرة أو كبيرة وعزت بعد هذا وسائل التلاقي، فلتأت الدولة العثمانية على ما في الوسع. ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.
أسف
غالت نائبة الدهر طراز العرب، وزهرة الأدب، صفينا أديب أفندي إسحق، قضى نحبه في شرح الشبوبية، وعنفوان الفتوة، وترك لنا قلوبا آسفة، وشئونا فائضة - إنا لله وإنا إليه راجعون.
الفصل السادس والسبعون
حرية الصحافة والاستعمار!
أسف يصهر الجسم ويذيب الفؤاد، وحسرة تفلذ الأكباد على قبيل من أمة أو شخص منها ذي همة يستعين الله في عمل ينقذ أمته من ضعة أو يرجع إليها بمنفعة، ثم يوجد له في وجهة عمله من تلك الأمة من ينجم كقرن المعز ليفقأ عين العامل الفاضلة، فيقطع عليه أسباب العمل ويعرقله عن القصد ليكسب مدحة باطلة أو منفعة عاجلة.
وإنما مثل من يكون على هذه الصفة في الأمة كمرض السكتة في البدن، أو الصدع في الرأس، أو الخبل في العقل، أو الشجى في الحلق، أو القذى في العين؛ هؤلاء هم الذين يقعدون بكل صراط يوعدون ويصدون عن سبيل الله والحق، ويبغونها عوجا.
لو كان في هؤلاء العصال الطباع (الأعصل: المعوج في صلابة) بقية من الإنسانية أو أثر من العقل يدركون به ما ينشأ من أعمالهم الجزئية من المضار الكلية، ويشعرون بهذا الجرم العظيم الذي يدك الرواسي ويهد الشامخات؛ لذابوا خجلا واستتروا عن الناس بحجاب العدم، وتمنعوا لو محيت أسماؤهم من لوح الوجود، ولكن يظهر من جرأتهم على خطيئتهم أنهم ذهلوا عن أنفسهم فلا يعلمون ماذا يعملون.
هذا العمل الصغير الذي يجلب على الأمة شرا كبيرا أو يحرمها من خير عام؛ ليس في وسع حكيم من البشر أن يحدد درجته من الخسة والسفالة، ولا في طوعه أن يحيط بكنه الفساد الذي ضرب في طمع شخص يقدم على مثله، ولا توجد كلمة ولا جملة ولا كتاب يفي ببيان حاله، سوى أن يقال: خائن ملته ووطنه.
أولئك أشخاص كثيرا ما يوجدون في الأمم المعتلة، يشبه أن يكون منهم صاحب جريدة «أوده أخبار » التي تطبع في «لكنهو» من بلاد الهند، أنفض رأسه ورفع عقيرته على جريدة «أمير تابازار برتركا» التي تنشر في بلاد «بنجالة»، كتبت هذه الجريدة «البنجالية» فصلا بينت فيه سوء معاملة الحكومة الإنجليزية الهندية وخشونتها على الهنديين وإهانتها لهم، وإجحافها بحقوقهم، وحرمانها لهم من خدمة أوطانهم، وإثقالها عليهم بالضرائب الباهظة، واستئثارها بجميع ما يكسبون من كدهم وتعبهم، مع احتكارها جميع ينابيع الثروة، مما أوجب شدة الضيق والضنك في عامة الأقطار الهندية وكان سببا في انحراف قلوب الهنديين عن الحكومة ونفرتهم منها.
ثم انبعث هذا بقولها: «فليس لحكومة الهند بعد ذلك كله أن ترجو مساعدة رعاياها لها عند وقع حرب بينها وبين الروس، ولا أن تؤمل في العساكر الهندية بذل أرواحهم في الدفاع عنها؛ فإن الجند يشركون الأهالي فيما ألم بهم ويألمون كما يألمون، وليس من الحق لحكومة بريطانيا - مع سلوكها هذا - أن تلوم الهنديين إذا آثروا عليها دولة الروس واختاروها حاكمة لهم.» هذا مجمل ما قالت.
وأقل ما كان يترتب على هذا الكلام وأمثاله من الفوائد هو تنبه الحكومة الإنجليزية لما خرجت به قلوب الأهالي وأحرجت صدورهم، فتعدل مشربها وتقوم منهجها مع الهنديين وترفع عن كواهلهم بعض الضرائب الثقيلة، وتمنح الوطنيين بعض الوظائف في الدوائر الملكية أو العسكرية، وتكف عن إهانتهم وتذليلهم؛ ليكون لها عدة إذا دهمتها أم صبور (الداهية أو الحرب الشديدة) من جهة الشمال.
وكان على الهنديين - خصوصا أرباب المعارف منهم - أن يؤيدوا القائل في قوله أو يحمدوا له سعيه أو يتركوه وشأنه، لعل خيرا كثيرا أو قليلا يستتبع ذلك لأوطانهم وأبناء أمتهم، ولكن واأسفا! بدل هذا يلتوي صاحب جريدة «أوده أخبار» ويجور عن جادة الصواب في تقريع الجريدة البنجالية وتعنيفها، ثم يطلب من الحكومة الإنجليزية أن تمحو حرية الجرائد من بلاد بنجالة.
وهذه الجريدة وإن وصفها مقوم الجرائد في الهند (مدير المطبوعات) بأنها متملقة معمعة للحكومة، إلا أنه ما كان يخطر ببالنا أن تنحط وتسفل إلى هذا الدرك، ولا أن ترتكب في تملقها هذه الجريمة العظمى، وهي: طلب محو الحرية في البنجالة، وصد أبناء وطنها عن التنبيه على بعض حقوقهم وشكاية شيء من أرزائهم - لا حول ولا قوة إلا بالله.
الفصل السابع والسبعون
تركيا
ليس في التعلات أعجب مما يتعلل به الإنجليز، ولا في المحاورات أغرب مما يستدلون به، لا مقدمات بينة ولا حجج قيمة، وأقوى ما يكون من أدلتهم أولى به أن يكون في معرض الهزل من أن يكون في جانب الجد، ولكن أغرب من جرأتهم على الجهر بمداعبة الأمم بما هو أشبه بالترهات: إصغاء الآذان لما يقولون وانصراف الأذهان عن بيان الهجو فيما يوردون، وإظهار الوهن فيما به يتعللون؛ ليتهتك الستار عن أغراضهم، وتظهر خفيات مقاصدهم، وترتفع الريبة عمن يخدعون بملاعباتهم.
إن الإنجليز ساقوا جيشا إلى مصر وبوءوه أرضها مدة لا تزيد على سنتين، فكان حلول جيشهم سببا في انحلال النظام، واختلال الأحكام، وعموم الفساد في أرجاء البلاد، حتى صار الناهبون وقطاع الطرق على نحو الجيوش المنظمة سرايا وكتائب تزحف للغارة على القرى والبلدان ضاحية بلا استتار، وسرى الاختلال في عموم الأعمال الإدارية والقضائية، ففقدت الأمنية على الحقوق كافة، وسقطت البلاد بسبب ذلك إلى درك من الضيق والعسر لم يكن يخطر على بال، وما كان شيء من تلك الفظائع ولا واحد من هذه المفاسد ولا قليل من هاته الشدائد موجودا أيام الحركة التي سموها فتنة عسكرية، واخترعوا منها دليلا على الفوضى، وزعموا فيها وسيلة للتداخل بعساكرهم.
حالة مصر شاهدة على أنه لم يكن للاختلال فيها اسم ولا للفوضوية أثر إلا بعد ما وطئ الإنجليز أرضها، ومع ذلك يزعمون أنهم ما أتوها إلا لتقرير الراحة وإصلاح النظام وإزالة الفوضى، ويريدون أن تمتد إقامتهم فيها إلى أجل بعيد؛ ليتمموا القصد الذي أتوا إليه، وشرطوا جلاءهم عنها برسوخ الأمن وانقطاع شأفة الاعتداء، واجتماع خواطر الأهالي على الرضا بما يرسم عليهم من السائدين في ديارهم والتسليم لما يقضي به فيهم!
ألا يعجب من هذه التعلة؟! هل يوجد أبله في أي أمة يظن في المصريين الركون إلى السكينة ما دام الجيش الأجنبي متبوئا ديارهم؟! أليس وجود عسكر أجنبي تحت أنظارهم كافيا في نفرة قلوبهم وازدياد شغبهم؟! الطبيعة تحكم باستحالة ما يطلب الإنجليز منهم، والتجربة من مدة سنين طبقت بين الحكم العقلي وبين الواقع الحقيقي، هل يمكن سلامة خواطر المصريين من القلق بعدما علموا أن الإنجليز لم يفتتحوا بلدا من بلاد الشرق إلا تحت راية هذه الحجج وعلى هذه الطريقة التي يسلكونها في مصر؟! وهل كان لهم سلطان في جهة من جهات الشرق إلا بدعوى أنهم يريدون فيها الإصلاح ثم ينجلون عنها أتقياء الراحات أعضاء الذيول؟!
ماذا يريد الإنجليز من تقرير الراحة بعساكرهم في مصر؟ هل يريدون مكافحة اللصوص حتى يقهروهم على طرح السلاح ويقوا الأهالي شرهم؟! إن كان هذا قصدهم فيا خيبة الأمل! فإن شيئا من هذه الفظائع لم يكن إلا وجيوشهم نازلة بالبلاد، فكأنما كانت تلك الجيوش مثارا لهذا الفساد، مضى عليها سنتان وهي في معاقل مصر وهبت أعصار السوء بقدومها، وكلما طال الزمان زاد الخطر وقويت عصابات الشر، فماذا قد يكون منها في ثلاث سنين ونصف إلا مثل ما كان من أثرها في سنتين أو أشد فتنة؟
فكيف يعقل أن يكون بقاؤها في مصر مفيدا لرد الأمن إليها، وهل تكون علل المفاسد مجلبة للمصالح؟! نعم يكون هذا إذا قيل: إن حصو الرمضاء يطفئها أو إن وقود النار يخمدها! هل يقصدون من تقرير الراحة إخماد فتنة السودان؟! إن صح هذا القصد منهم فمتى سعوا إليه، وأي جيش ساقوه، وأي قوة وجهوا بها لتكسر سورة الثورة وتمحو أثرها؟
تهافتوا بجيش عظيم على منازلة رجل من رجال محمد أحمد «عثمان دجمة» في سواحل البحر الأحمر، فما كانت إلا مهارشة هرت فيها العساكر وبلغ صوت وقوف القواد إلى أقاصي المسكونة، وارتد بهم الذعر إلى البحر، وقفلوا إلى ديارهم يتلفتون إلى ما وراءهم خوفا ورهبة.
كان الواجب أن يتبعوا عثمان دجمة إلى بربر والخرطوم حتى يبددوا جنده ويلحقوا به صاحب الدعوة، فإن عجزوا عن الكل فلا أقل من أن يأتوا على بعض، فما الذي صدهم عن سبيل القصد، لو كانوا فيه من الصادقين؟ رجعوا وتركوا جوردون باشا في فم التنين ثم التجئوا إلى ملك الحبشة؛ ليثيروا به حربا صليبية تسود بها وجوه الكاذبين الذي يزعمون أنهم دعاة الإنسانية ورعاة التمدن.
فماذ يكون من عساكرهم لو أقامت في مصر أضعاف ما أقامت؟ أظن لا يختلف المستقبل عن الماضي إلا بعظم خطوبه واشتداد نوبه.
هل يبتغون المحافظة على حدود مصر الأولى وحمايتها من هجمات السودانيين، ويقفون عند حد المدافعة ولا يذهبون إلى ما وراء ذلك؟! إن كانت بغيتهم، فهي بغية البقاء في مصر ما دامت مصر أو السودان سودانا؛ لأن صيال الثائرين يتوقع في جميع الأطراف من حدود مصر.
وأداموا قائمين بنشر هذه الدعوة، بل كلما طال الزمن اشتد خطرهم وقويت أعضادهم، وكل كرة لهم أو فرة تقوم بها للإنجليز حجة في ملازمة الحدود المصرية للدفاع عنها فلا يكون لحلول الجيش الإنجليزي بأرض مصر أمد ينتهي ولا أجل ينقضي، فما لهم ينسبون على الدول والدولة العثمانية والمصريين بتحديد مدة الحلول إلى ثلاث سنوات ونصف مع سرد الألفاظ المبهمة كتقرير الراحة وحفظ النظام وإعادة الطمأنينة ... إلخ، مما يسمع ولا يفهم؟!
وليس من المبالغة أن نقول: إن حلول الجيش الإنجليزي كان - وسيكون - من أعظم الأسباب لقوة محمد أحمد، ولولا وجود العساكر الإنجليزية في مصر ما تمكن الرجل من الجهر بهذه الدعوة العظيمة، ولقد كان يتبرأ من نسبتها إليه أيام كانت الحكومة المصرية خالصة للمصريين، بل ما كان يجد أحدا يلبي دعوته أو يدخل تحت رايته.
هذه تواريخ الأمم وهذا سير طبيعة الكائنات، ترشد المستبصرين إلى أن مثل هذه الدعوة لا يقوم قائمها في أمة إلا عند اشتداد الخطوب عليها وزحف الأغراب إليها، أي حجة لمحمد أحمد في دعوة الناس إليه وأي نفثة تجمع القلوب عليه أقوى من أن يقول: إن الإنجليز من نيتهم الاستيلاء على أرض مصر، وهي في عداد الأراضي المقدسة وباب الحرمين الشريفين ومهد العلوم الدينية ودعامة القوة الإسلامية، فمن كان يؤمن بالله ورسوله فليجب داعي الله في مدافعتهم، وإنقاذ البلاد من رجسهم، وهذا الكلام مما يزعج قلب كل مسلم ويبعثه على الاتفاق مع صاحب النداء.
هل يتوهم بعد سقوط الخرطوم وجيش الإنجليز حال بأرض مصر أن تقف دعوة محمد أحمد عند تخوم محدودة وهو الزاعم أنه منقذ المسلمين؟ هل يبعد عند العقل أن يمتد لياق شعلته إلى أقطار إسلامية يخشى الإنجليز منها غائلة الفتنة كما يخشونها في الهند؟ قد نرى الحالة أقرب إلى المخافة منها إلى الأمن، وسيعلم الإنجليز أنهم كانوا أحوج الناس إلى السلم وأفقرهم إلى القناعة.
أي قوة تقف هذه الدعوة وتحجبها عن الانتشار، بل تردها على قائلها وتذهب بها كأن لم ينطق بها لسان أو يذعن لها جنان؟ ليس لقوة أن تأتي بهذا الأثر على أحسن وجوهه إلا قوة العثمانيين وأولي العزم من المصريين.
هل تظن دولة بريطانيا أن عقد مؤتمر لتصفية الدين المصري يبطئ سير محمد أحمد، أو يخفف من وطأته، أو يرده على عقبه، فتنال مقصودها وتصبح آمنة مطمئنة في ديار مصر؟ إنها إلى الآن في عجز عن إرضاء الدول بقبول الأصول الابتدائية التي تحب أن تكون موضوعا لبحث المؤتمر.
إن تصفية الدين المصري يهم إنجلترا وحدها ولا نظنه يهم الدول ولا يهم محمد أحمد، وإنا نرى الدول - خصوصا دولة روسيا والنمسا والأمة الفرنسية - مهتمة كل الاهتمام بكشف مقاصد الإنجليز والنبش عن غاياتهم فيما كانوا شرطوه من تخصيص البحث بالمسائل المالية، حتى إن شدة المعارضات، وكثرة المفاوضات، والاشتداد من الدول في طلب تعميم البحث في المؤتمر ليحيط بجميع فروع المسألة المصرية؛ أحدث شكا عند صاحب جريدة التايمس في انعقاد المؤتمر، ودفع بالمسيو جلادستون إلى ربكة شديدة، فهو من أمره في حيرة لا يهتدي إلى ما يسكن به خواطر الدول، بل ولا ما يقنع به أوداءه المخلصين، بل ولا ما يوفق به بين زملائه في الوزارة؛ لتفرق كلمتهم وتباين آرائهم.
أما قائم السودان فهو في إعراض عن كل هذه المجادلات وإغضاء عما يكون في عرضها من المحاولات، سواء عنده انعقد المؤتمر على رغبة الإنجليز أو على وفق الآراء العمومية، وهو مغذ في سيره، ذاهب وراء فكره، ولا يمر يوم من أيامه إلا ونسمع فيه بخبر فتح أو حديث زحف، حتى جاءت الأخبار الأخيرة بدخوله عاصمة السودان «الخرطوم».
وورد في برقية من القاهرة إلى «الديلي تلغراف» بتاريخ 3 يوليه أنه وصلت رسائل من بعض عساكر السودانيين وهم في مدينة الخرطوم إلى أناس يوثق بهم في القاهرة، ذكر فيها أن حامية المدينة ضعفت عن دوام المدافعة، وأعلن محمد أحمد بتأمين جميع السكان على أرواحهم وأموالهم وأخذ على نفسه وقايتهم من كل ضرر يتوقعونه، فبضعف الحامية وثقة الأهالي بوعد الفاتح فتحت المدينة بغاية السهولة في نهاية شهر مايو بدون سفك دم، وأن كثيرا من الإفرنج أسلموا، وأن جوردون مع كونه مستمسكا بدينه ولم يبدل دخل في أمان الفاتحين وسيق إلى محمد أحمد محفوظا لم يمسه سوء.
وفي خبر آخر بالتاريخ عينه أن القسيس «سوقارو» وكهنة الرسالة الكاثوليكية في السودان وردت منهم أخبار من أهالي الخرطوم تفيد أن المدينة فتحت ووقع جوردون أسيرا، وما زال إلى الآن على قيد الحياة، ونقلت جريدة «الديلي تلغراف» أن تاجرا في القاهرة أتاه كتاب من جنوب بربر يخبره أن الخرطوم مفتوحة الأبواب لمن يقصدها بالتجارة وإن كانت في قبضة جيوش السودان. وفي رسالة من مكاتب التان بسواكن أن جماعة من الوجهاء في مدينة الخرطوم دفعتهم الحمية للانتقام من جوردون أخذا بثأر الضابطين اللذين قتلهما بتهمة الخيانة (حسين باشا وسعيد باشا)، فهجموا عليه وقتلوه، ثم اتفقوا مع المحاصرين على تسليم المدينة فدخلوها آمنين، ويزعم المراسل أن للحكومة البريطانية علما بهذه الحادثة من زمان طويل إلا أنها كتمته خيفة هيجان الأفكار عليها. ونحن لا يهمنا موت جوردون ولا حياته ولا راحته ولا عناؤه، وإنما يظهر من كل هذه الأخبار أن الخرطوم أصبحت سودانية لا إنجليزية ولا مصرية، فإن تمكنت وزارة مسيو جلادستون من تفنيد المستفيض من هذه الروايات فربما يصعب عليها المكابرة فيما يعقبها. إن شوكة الداعي تقوى بعد فتح الخرطوم، وتمهد له سبلا عديدة للوصول إلى مصر العليا أو السفلى، وإن تأثير دعائه يقطع مسافات بعيدة في هنيهات قصيرة.
ماجت خواطر المصريين واهتزت قلوبهم؛ لسماع هذه الأخبار، وربما نسمع بعد اليوم أن ريح الجنوب حملت قسطلا تثيره سنابك خيل الفتنة وجاوزت به حدود مصر، فإن كان هذا شأن الحركات في بلاد السودان فتعليق الإنجليز جلاءهم على انقطاعها يشهد برغبتهم في الاحتلال الدائم ما بقي محمد أحمد وما بقيت له خلفاء.
على أننا نرتاب في قدرة عساكرهم على صيانة التخوم المصرية، فقد ظهرت نهاية قوتها على سواحل البحر الأحمر. نعم ربما يختلج بخواطر الوزراء البريطانيين أن يخدعوا الدولة العثمانية ويحملوها على الحكم بعصيان محمد أحمد وتضليله ليحولوا القلوب عنه ثم يجنوا الثمرة كما جنوها من الحكم بعصيان أحمد عرابي، ولكن قد تبين الرشد من الغي، وظهر للدولة العثمانية سوء طوية الإنجليز وعدوانهم على حقوقها، فليس من المحتمل أن تنخدع لهم مرة ثانية ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.
كما أنه يشبه المحال أن عثمانيا يجوز سوق الجيوش العثمانية إلى السودان لتذليله وعساكر الإنجليز في القاهرة، ينتظر العثمانيون بعد انقضاء الفتنة نهاية المراوغات الإنجليزية حتى تئول مسألة مصر إلى مثل ما آلت مسألة بوسنة وهرسك مع دولة النمسا، فعلى العثمانيين وأصحاب العزيمة من المصريين أن يجمعوا أمرهم على كشف هذه النازلة؛ صونا لأوطانهم، ولاتقاء شر ربما يحدث في جهات أخرى، فإن قضى حرص دولة الإنجليز بصد أرباب الحقوق الشرعية عن أداء المفروض عليهم جهلا منها بمصلحة نفسها وبمصالح تلك البلاد؛ فعلى العثمانيين أن يقيموا الحجة بسيوفهم وجيوشهم لا بالرقائم والأوراق؛ فإن هذا فساد لو أهمل لعم وعمت زواياه، ولا نظن أن دولة بريطانيا تثبت على نفختها هذه، فإنها ستشتغل بداخل البيت عن خارجه بعد قليل.
لسنا نقول ما نقول جزافا، ولكن دعوة القائم السوداني أشربت قلوب الأكثرين في الهند وبلوجستان وأفغانستان، وقد علق شرر الثورة بأهداب الخواطر فلا تلبث أن تلتهب ، فللدولة العثمانية أن تمد نظرها إلى أعماق المسألة وتقدر قوة الإنجليز وأهبتهم العسكرية، مع ملاحظة ارتباكاتهم في ممالكهم وظهور عجزهم وضعفهم في الحوادث الأخيرة، ومراعاة آراء الغالب من الدول العظيمة.
وبعد الإحاطة بهذا كله - وهي أسهل من كل سهل - تظهر عزما ثابتا وبأسا قويا يليق بدولة عظيمة كدولة آل عثمان طالما ظهرت على يديها خوارق العادات - ولله الأمر من قبل ومن بعد.
الفصل الثامن والسبعون
الباب العالي
ذكرت جريدة إستندار أن معارضة الباب العالي لمطامح إنجلترا ليست قاصرة على الممانعة في جعل مصر حكومة بلجيكية في أفريقيا تحت حماية الدول، كما في عزم جلادستون أن يعرضه على المؤتمر، بل صرحت الدولة العثمانية لسفيرها في لندن مرزوس باشا بأنه متى وضعت لائحة جلادستون موضع البحث في المؤتمر، بعثت إليه بتعليمات للمعارضة الشديدة في هذه المادة وكل ما يكون من قبيلها (ما يمس حقوق الدولة والمصريين).
ولا نرتاب في أن الدولة العثمانية - بعزمها هذا - قد قامت بفريضة شرعية، ومثلها من يقوم بها في مصر وفي سائر الممالك العثمانية؛ فإن كل ذي بصيرة يدرك أن صيانة جزء من ممالكها موقوف على صيانة الآخر، والتفريط في شيء منها يحدث الخلل في الباقي. وكفانا عبرة أن مجرد طلب جلادستون لحرية قناة السويس حمل دولة الروس على طلب بوغاز البوسفور، كما ذكرته الجرائد الروسية، ودعا بعض سياسيي الروس أن يقول: إن المسألة المصرية قد صارت الآن مسعرا للمسألة الشرقية، ولا نظن شيئا من هذا يخفى على عقلاء العثمانيين.
الفصل التاسع والسبعون
يقظة من سنة
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا (الكهف: 10)، ربنا اشرح صدورنا لما فيه خيرنا وخير أهل ملتنا أجمعين، اللهم إنك تعلم خيرنا وفلاحنا في اجتماعنا وائتلافنا، وارتباطنا بعلائق ديننا، واعتصامنا بحبلك المتين، اللهم كفر عنا سيئات التفريط فيما أوجبت علينا من ذلك بالهداية إلى الإنابة والإعانة على تلافي ما فرط والقيام بالمستطاع مما فرضت.
مضى زمان فرط فيه الهنديون عند تداخل الإنجليز في شئونهم فتدابروا، وحول كل وجهه عن الآخر، ولم يصغوا لدعوة الله في طلب الاعتصام بحبله، فذاقوا وبال أمرهم ، وسقطوا جميعا تحت سلطة الدولة الإنجليزية، وسادت عليهم واتخذت السادات منهم خدما لرجالها وخولا بعد أن كانت تدعي أنها خادمة لهم أمينة في الخدمة، ولم يهن لها أن تكون سيدة عادلة، بل تجاوزت فيهم حد العدل، واستبدت عليهم ظالمة جائرة.
فلما لفحتهم نيران القسوة، أقبل بعضهم على بعض ونهضوا جميعا؛ للتملص من أغلال ظالميهم، من نحو أربع وعشرين سنة. إلا أن إخوانهم الأفغانيين والبلوجيين والإيرانيين كانوا في غفوة عما نهضوا إليه ولم يمدوا لهم يد المساعدة، بل كان الإيرانيون في حرب مع الإنجليز ولكن لم يواصلهم الهنديون ولم يرتبطوا بهم في التعاون على شأنهم، كما أنهم لم يرتبطوا في ذلك مع العثمانيين، فإهمال جيرانهم ورسوخ أقدام العدو بينهم؛ كان سببا في تغلب الظلمة الأغراب عليهم، ولو عقل المهملون لعلموا أن العدو إذا تمكن في الهند قويت شوكته ثم كر عليهم، وأوقع بهم ما أوقع بإخوانهم.
بعد هذا زحف العدو الغريب على بلوجستان واشتغل معها بالمنازلة، وفرط الأفغانيون والإيرانيون في تعضيدهم، فتم له بذلك أن يسود في جزء عظيم من أراضيهم، ثم انقلب على الأفغانيين وكانت بينه وبينهم حرب هائلة، امتد زمنها نحو سنتين وما نبض في الهنديين عرق، ولا امتد من الإيرانيين ساعد، ولا كانت بينهم وبين العثمانيين وصلة، ولو كان لجميعهم بصر بالعاقبة لأدركوا أن حياة كل منهم معقودة بحياة الآخرين.
بالغ الخصم في تطاوله حتى اعتدى على الممالك العثمانية بسوق جيوشه إلى الأقطار المصرية التي هي أعظم إيالة من إيالات العثمانيين، بل أهم أقطار المسلمين، وهو الآن في محاولة الاستيلاء على تلك البلاد، والاستبداد بالحكم فيها غير مبال بحقوق الدولة العثمانية، ولا محترم ولايتها الشرعية، وكان المسلمون لبداية الأمر على مثل تفريطهم السابق، غير ملتفتين إلى ما حل بهذا القطر الإسلامي العثماني، ظنا منهم أن العدو يصدق مرة في وعده أو يخشى عاقبة السوء من طمعه، فلما رأوه غريقا في غيه، متغلغلا في سيره، مغرورا بقوته ، ناصبا لحبالته؛ اهتزت رواسيهم وتحركت ثوابتهم، وتنبهوا من سباتهم وندموا على ما سلف من سابق التفريط، وأحسوا أن ما أصاب اليوم بعضهم فلا بد أن يمس يوما جميعهم، فصارت المسألة المصرية سببا في إحياء الأخوة الدينية، كما بشرتنا به الرسائل الواردة إلينا من فارس والهند وأفغانستان.
فلو تمادى الإنجليز في حرصهم، وحملهم الشره على غمط حقوق العثمانيين، وثبتت الدولة العثمانية في المدافعة والمطالبة، لوجد لها من المسلمين القادرين على نكاية الإنجليز من يقوم بنصرها؛ أداء لما أوجب الله عليه.
وإنا بعد أداء الشكر لأولئك المؤمنين الصادقين، على ما أظهروا من حميتهم الدينية التي أشارت إليها رسائلهم؛ نرغب إليهم أن يحافظوا على وحدة العقيدة العامة وجامعة الشريعة الحقة، وأن يصغوا إلى أصوات الغيلان التي تناديهم في الليالي المظلمة، بما يحاكي أصوات الإنس وإنما هي أصوات مردة الشياطين؛ يبتغون تفريق الكلمة، وتشتيت الشمل وإخماد الغيرة، ونسأل الله تعالى ثباتا للمسلمين على أصول الاتحاد وقواعد الألفة، وأن لا يميل بهم الهوى إلى جعل الاختلاف في المسائل الثانوية سببا في حل الجامعة الإسلامية، التي قوامها الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن لا يجعلوا هذا الخلاف ذريعة العدو إلى محق ملتهم وإفساد ولايتهم - والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل.
الفصل الثمانون
حيلة إنجليزية
ذكر كثير من الجرائد الهندية، وفيها جريدة «أخبار عام» أن عددا وافرا من الإنجليز يدخلون في دين الإسلام، في هذه الأيام، وكثرت الظنون في هذا العارض الجديد، الإجماع على أن ليس الباعث عليه حسن العقيدة في هذا الدين، والإذعان لأحكامه القدسية، وإنما القصد منه أن يخدعوا المسلمين بمشكلاتهم، ليركنوا إليهم، ويحسنوا الظن بهم، فيبيحوا لهم بما تكنه صدورهم من خواطر الميل إلى دعوة محمد أحمد السوداني. وهذا يدل على أن هذه الدعوة أخذت من قلوب الهنديين، وعظمت منزلتها فيهم، وتوقع الإنجليز شرا من فشوها، وامتداد شهرتها بين مسلمي الهند، وطلبوا للاحتياط هذه الوسائل.
وقالت بعض الجرائد: إن الخشية من الإذعان لدعوة السوداني قد انضم إليها الرهبة من قرب الروس لتخوم الهند، فكان من مجموعهما فزع شديد، حمل الإنجليز على التودد للمسلمين ، والظهور في مظاهر العدول المنصفين، بل الأصفياء المخلصين، حتى إن الإخلاص والعدالة تحمل الكثير منهم على التدين بالدين الإسلامي ليملكوا بذلك قلوب السذج، ويمحصوا بعض الصدور من الحقد عليهم، ويثقوا به شرا عاجلا أو آجلا. ولكن الصيف ضيعت اللبن.
كان يمكن لهم ذلك بالاعتدال في السلطة، والأخذ بشيء من الصفقة قبل اقتراب النكبة، أما الآن وقد أوغرت الصدور غلا، ووقرت القلوب أحقادا، وتحقق عند الكافة من المسلمين، بل وغيرهم من الهنديين، أن الإنجليز لهم في كل مصلحة مفسدة، وفي كل حسنة سيئات، وفي كل صفاء دخل؛ فهم الخادعون الخائنون، بل هم الكاذبون المنافقون. هذه صفاتهم لم يبق فيها ريبة عند مسلم، فلا تفيدهم الحيلة أدنى فائدة، ولا تعود عليهم إلا بأسوأ عائدة، ولا ينالون منها إلا وقوف المسلمين على غاية سيرهم عند عجزهم، وازديادهم بصيرة في أمرهم، ويقينا بضعفهم، حيث لم يبق لديهم من الوسائل إلا خلع دينهم، والدخول في دين المسلمين إرضاء لخواطرهم.
ولسنا في حاجة لتحذير المسلمين منهم؛ فإن لنا يقينا بأنه لا يوجد مسلم في أقطار الهند جميعا إلا وهو على علم تام بما يريد به حاكموه من الإنجليز، فما هو بمؤمن لهم حتى ولو كانوا صادقين.
الفصل الحادي والثمانون
وداد الإنجليز للمسلمين
يظهر من الرسائل والبرقيات الواردة من القاهرة أن الإنجليز وفقوا لإلهاب حرب صليبية بين الحبشة ومسلمي السودان، والله يعلم ماذا تكون العاقبة إذا طار شررها، ربما لا يوجد مسلم يعتقد بدين محمد
صلى الله عليه وسلم
إلا ويسعى ببذل روحه وماله لإحباط أعمال الإنجليز ورد كيدهم، خصوصا مسلمي الهند المغرورين بخديعة حكامهم، ودعواهم أن دولتهم نصيرة الإسلام، وحليفة الدولة العثمانية.
فمما نقلته الأخبار بتاريخ 19 يونيو سنة 1884، أن من أحكام الاتفاق الذي عقده الأميرال هفت مع ملك الحبشة: أن تكون مصوع مباحة لإرساء المراكب الحبشية ابتداء من شهر سبتمبر، فإما أن يكون هذا بنزعها من أيدي المصريين، بل العثمانيين، بل المسلمين، وجعلها بلدا إنجليزية يبيحها الإنجليز لمن شاءوا ويمنعونها من أرادوا، وإما أن يكون بتقديمها أقطاعا لملك الحبشة.
ومن أحكامه: أن يأذن الملك للحامية المصرية أن تقيم حصونا على حدود مملكته حتى إذا هجم السودانيون عليها - باعتبار أنها حصون مصرية - تذرع الملك لمواثبتهم بدعوى أنها في حدود بلاده، فتشب الحرب ويحمى وطيسها بين مسيحي الحبشة ومسلمي السودان.
ولما كان غرض الحكومة البريطانية أن تضم مصر وملحقاتها إليها - كما يدل عليه اهتمامها بمد سكة الحديد بين سواكن وبربر - أخذت على الملك عهدا بقبول ما تحكم به ملكة إنجلترا عند عروض مشكلات بينه وبين الحكومة المصرية وإن جرى الحكم على العرف ولم تلاحظ فيه الأصول السياسية.
هذه هي الدولة التي بلغ الخافقين صوت دعواها أنها حامية الإسلام والمسلمين، وظهيرة للعثمانيين! فليعلم كل مسلم أن من نيتها انقراض هذا الدين وأهله من وجه الأرض، وإن لم يكن ذلك عليها بيسير.
الفصل الثاني والثمانون
التهتك في الحيلة
اشتهرت دولة الإنجليز بخلابة الشرقيين وأخذهم بالرويغة
1
حتى وضحت سبلها من كثرة ما طرقت، وانقلب وجه الحيلة فظهر مستورها، وعادت تشبه ألهيات الصبيان، وألاعيب الأطفال، يدرك سرها الذكي والغبي، من يوم كان اللورد دوفرين في القاهرة لكشف حالة مصر وتقرير نظامها لحكومتها (كما يزعمون)، لوح للحكومة بترك السودان، ثم جاء من بعده الماجور بارنج، وألزم الحكومة بالتنازل عن حقها فيه؛ لأنه يكلفها نفقات وافرة ليس لها عوض من الفائدة، فامتثلت الحكومة أمر غالبيها وهمت بإخلائه.
ولم تلابس عملها حتى صدرت أوامر الدولة البريطانية بتعيين الجنرال جوردون للقيام بتخلية السودان؛ فتكون المنة على السودانيين في استقلالهم (الموهوم) لدولة بريطانيا، وتكون الصلة بينهم وبينها خاصة، وما وصل الخرطوم إلا وأقام محمد أحمد أميرا على كوردفان، وأخذ في إرجاع الولايات السودانية لملوكها الأقدمين أو أبنائهم، ولم يكن القصد من هذه الزغزغة إلا أن يكون السودان بعد تنازل المصريين فراطة لا حق لأحد فيه فيأخذه السابق إليه بدون أن تعترض فيه المشكلات السياسية ليتيسر للإنجليز عاجلا أو آجلا أن يستولوا عليه وينزعوه من أيدي أمرائه الصغار، ويكون فيه بعض العوض عن مصر لو صدتهم مقاومات الدول عنها كما أشرنا إلى ذلك في أحد الأعداد.
وفي هذه الأزمان الأخيرة أخرجت حكومة إنجلترا من جرابها ألعوبة أخرى، ومثلت من ضيق جوردون في الخرطوم سببا عظيما لتمهيد طريق يوصل الجيوش لتخليصه، فأصدرت أوامرها إلى أحد المصانع الكبيرة بإعداد الآلات، وتعيين المهندسين والصناع، ليسيروا إلى سواحل البحر الأحمر ويباشروا مد سكة حديد من سواكن إلى بربر كما ذكرت ذلك جريدة «البال مال جازيت»، وتزعم أن لا باعث لها على ذلك إلا الرغبة في تخليص جوردون! إن كان جوردون في خطر ويحتاج في إنقاذه إلى إرسال الجيوش، فهل يبقى حيا إلى أن تمد سكة الحديد وتخرق الجبال والأودية وتسير عليها العربات حاملة الجيوش، مع أن الأخبار قد أشارت إلى وقوعه أسيرا أو هلاكه قتيلا؟!
إذا فرضنا هلاك جوردون - كما هو الغالب - أو خلاصه، فهل تهدم دولة إنجلترا طريق الحديد، وتنقض بناءها بعد إنفاق النفقات الواسعة عليها، أو تتبرع بهبتها للحكومة المصرية سخاء وجودا؟!
كلا والله، لا هذا ولا ذاك، ولكن أخذت أقرب الطريقين للاستيلاء على السودان، فإن مد الطريق الحديدية في تلك الجهة يسهل لها الولاية على السودان الشرقي، فإذا استقر لها الأمر فيه وصلته بالغربي ولم تلاق في ذلك صعوبة، على أنها في خلال المدة بعد مد السكك الحديدية تستفيد أعظم فائدة جوهرية من مواصلة البلاد السودانية، فإنها تفتح للتجارة الإنجليزية بابا وتغلق، بصفته باب المنفعة عن مصر فتأتي بضائع البن ونحوها مما يحتاج إليه السودانيون من إنجلترا إلى سواكن، ومن سواكن تذهب إلى السودان، بدون أن تصل إلى أيدي المصريين، وتنقل الأصناف التجارية السودانية من داخل السودان إلى بربر ثم تحمل إلى سواكن وتصدر إلى أوروبا ولا يراها مصري.
فإذا تولى الإنجليز مصر - لا قدر الله - حرموا الوطنيين من الاشتراك معهم في تجارة السودان - وهي من أغزر ينابيع ثروتهم التجارية - وإذا ألجأتهم الحوادث للجلاء عنها فقد اختصوا بمادة المنفعة التي يمكن أن تأتي من أقطار السودان، وبذلك يتقوض كثير من بيوت التجارة في الأقطار المصرية، ويعدم بخرابها آلاف مؤلفة من النفوس، فليس حقيقة الغرض من مد سكة الحديد من سواكن إلى بربر إلا التوصل إلى ينبوع متدفق من ينابيع الثروة المصرية، وتحويل مجراه عن مصر إلى جزائر بريطانيا، وسنأتي على تفصيل الخسائر التي تلم بأهالي مصر من مد هذه السكة في عدد آخر.
هذه إحدى خطيئات الإنجليز الذين بعد استيلائهم على الهند حظروا على الأهالي في جميع ممالكهم أن يعالجوا زراعة الأصناف التجارية كالنيلة ونحوها، واختصت الحكومة الإنجليزية بزراعتها، وزادوا في المظلمة فحكموا على جميع الحكومات المستقلة التي يتولاها النوابون والرجوات أن لا تزرع الأفيون بحجة أن الحكومة الهندية الإنجليزية تزرعه، فلا يجوز لغيرها العمل في زراعته؛ كي لا تقل الفائدة، أو لئلا تستفيد شيئا مما تستفيد.
هذه آثار جورها، يثبتها خراب البيوت القديمة وفاقة العائلات الشريفة، في كل بلد لها فيه أمر ونهي، ولا تزال ترد شرعتها هذه في كل قطر تطأه أرجل رجالها قريبا كان أو بعيدا، فعلى البصير أن ينظر وعلى اللبيب أن يحظر.
الفصل الثالث والثمانون
فرصة يجب أن لا تضيع
نشرت الدعوات وطلبت الدول العظام لعقد مؤتمر في لندن بعد مفاوضات طويلة بين حكومتي فرنسا وإنجلترا، ماذا كان المؤتمر، وماذا نوت الحكومة الإنجليزية بالدعوة إليه؟ وماذا كانت تقصد الدول من وجود نوابها فيه؟ وأية غاية كان يطلبها خريت السياسة اللورد بسمارك؟
انعقد المؤتمر ثم صار عقيما، وبقيت تلك المقاصد مكنونة في صدور أربابها، كانت حكومة إنجلترا تطمح للاستيلاء على مصر باسم أمير مصري، وحالت دون مطمحها المصاعب أزمانا، حتى سنحت لها الفرصة المشئومة بتشويه وجه الحركة العرابية، فتيسر لها بتلك الحركة إرضاء الدول، واستئذان الدولة العثمانية بالتداخل في توقيفها، فسهل لها دخول مصر على نية أن لا تخرج، وهل يمج الظمآن بارد الزلال من فيه؟!
ظنت أنها ملكت أرض مصر، ووجدت عليها دينا ثقيلا فرغبت تخفيفه؛ لأنها ترى ما ينفق من خزانة مصر إنما ينقص من خزانة إنجلترا، ولم تقصد بتخفيفه رحمة الفلاحين، ولم يبعثها عليه الشفقة على المصريين، وعميت بصيرة من ظن بحكومة إنجلترا قصد المرحمة في هذا أو في غيره من الأعمال.
قصدت تعمية الأمر على الدول؛ لتنال منهم تصديقا على أعمالها، فيتسع لها المجال فيما بعد، وبدأت باستمالة فرنسا وعقدت معها اتفاقا يوطن نفوس السياسيين على الرضاء بما تريد، ثم أنشأ السير بارنج لائحة للمالية أثبت فيها عجز مصر عن أداء ديونها، إلا أن رجال الدول كانوا أحذق من أن ينخدعوا؛ لعلمهم أن وادي النيل أحوج إلى العدالة وحسن الإدارة من تخفيف الدين.
لم يخف على السياسيين أن مصر لو سلمت إدارتها لحاكم نافذ الكلمة قوي العزيمة واسع الخبرة بأحوال البلاد، لوسعت قدرتها أداء ما عليها بل وما يزيد عليه - وإن كان يثقل على دولة تجارية.
قررت في الاتفاق الفرنسي إطالة مدة حلولها العسكري إلى ثلاث سنوات ونصف ثم تخرج، على شرط اتفاق جميع الدول على خروجها، فعلقته بما يشبه المحال؛ لتسهل عليها المواربة، ولكن لم يذهب على رجال السياسة في سائر الدول أن بقاء إنجلترا في مصر لا يزيدها إلا خرابا.
ولما انعقد المؤتمر كشف مسيو دبلنيير الفرنسي ما في لائحة بارنج من الأغلاط، فشرعت إنجلترا في تهديد فرنسا بالميل إلى ألمانيا، إلا أن السفير الألماني، وهو تلميذ البرنس بسمارك ولا يعمل إلا بإشارته، كان أميل إلى فرنسا؛ فإن سياسة البرنس مبنية على التفريق بين فرنسا وإنجلترا (وقد حصل) فحصل اليأس لحكومة إنجلترا من تخفيف النفقة على الملك الذي زعمت أنها ملكته، فحلت المؤتمر، أو انحل بطبعه، وصارت الدول الأوروبية في جهة، وإنجلترا وحدها في جهة أخرى،
1
ولم يكن من رأي الدول أن يقعوا آلة في يد إنجلترا تستعملهم في قضاء أوطارها، فطاشت جرائد الإنجليز غضبا على ألمانيا وأخذت تذكرها بأن استيلاءها على الألزاس واللورين إنما كان بمساعدة إنجلترا المعنوية، وهاجت الجرائد النمساوية والألمانية، وصالت بالطعن والتجريح في السياسة الإنجليزية، واتفقت حكومة ألمانيا والنمسا على إلزام إنجلترا بتحديد أجل لدفع الخسائر التي نشأت عن ضرب الإسكندرية.
الحكومة الإنجليزية في رجفة شديدة، وخيفة من سوء العاقبة، إلا أنها على عادتها تظهر الإقدام وتنطق بالحماس وتوهم أنها غنية عن العالمين، عمدت إلى الاستقلال بتدويخ مصر، وتقرير سلطتها فيها وإخماد فتنة السودان، وظنت أنها قادرة على ذلك، فجهزت القواد وعينت اللورد نورثبروك، أعدى أعداء المسلمين ومخرب بيوت الشرقيين، ليتولى العمل لدولته في القطر المصري، ولكن هيهات وهيهات.
نترك الآن بيان ما يترتب على انفراد الإنجليز عن سائر الدول في أمر مصر إلى عدد آخر، ونقدم كشفا لجوهر حالهم العامة.
أولا:
إن الإنجليز - على عادتهم المألوفة - إذا قصدوا الاستيلاء على قطر لا يصرحون بقصدهم حتى يتمكنوا فيه، ولا يبقى لهم منازع في الداخل ولا في الخارج، فلو فرضنا أن المصريين والدول أجمعين اتفقوا الآن وطلبوا من إنجلترا أن تعلن بتملكها لمصر لامتنعت الحكومة الإنجليزية وأظهرت العفة والقناعة، ولظهر المستر جلادستون في دلوق الزهاد ولصالح جميع الإنجليز من جميع الأحزاب، أستغفر الله لا نريد سوى إصلاح البلاد وتوفير خيراتها! وتحت هذا الحجاب يتصرفون تصرف الملاك ويختصون بالوظائف العليا، ويديرون حكومة البلاد على رغبتهم، وينقلون ثروتها إلى جزيرتهم، ويمزقونها قطعا يهبون منها ما لا يهمهم لأعداء البلاد، ليعينوهم على تذليلها واستعبادها.
وثانيا:
إن حكومة الإنجليز من أضعف الحكومات في القوة العسكرية البرية، وأحد سلاحها التهديد، واكبر قوتها التهويل، ووضع الأمور الصغيرة تحت النظارات العميقة؛ لترهب بذلك كل جاهل، وتخيف كل غبي، لهذا لا تتمكن بدسائسها في قطر إلا عند سكون أهاليه، فإذا نبذ الأهالي طاعتها، وعارضوها في أعمالها، سترت ضعفها بترك البلاد لأهلها؛ فإن مقاومة الأهالي أشد بأضعاف مضاعفة من القوة العسكرية المجتمعة في أماكن مخصوصة تحت قيادة رؤساء معينين، تنهزم بانهزامهم، وما جرى لحكومة إنجلترا مع الأفغانيين أعظم شاهد على ما نقول.
دخلت الحكومة الإنجليزية أرض الأفغان بستين ألف عسكري واستولت على المدن، وكاد قدومها يرسخ في البلاد، فلما قام الأهالي من كل صقع، والتحمت المقاتل في جميع أنحاء أفغانستان، عجز الستون ألفا عن الوقوف موقف الدفاع، واضطرت حكومة إنجلترا بعد تسلطها سنتين ، وبعد صرف ثلاثين مليون جنيه إسترليني؛ أن تطلب الأمير عبد الرحمن خان من روسيا بعدما أقام عند الروسيين اثنتي عشرة سنة معززا مكرما، وأن تقدم له أربعة ملايين من الجنيهات لينفقها في إدارة بلاده، وتركت له البلاد وولت.
حكومة الإنجليز إنما تخصع للضرورة وللضرورة أحكام، فعلى قبائل العرب في مصر وشمائخها أن يتذكروا شهامتهم العربية، وحميتهم الدينية، ويقتدوا بالأفغانيين؛ لينقذوا بلادهم من أيدي أعدائهم الأجانب، الذين لو تمكنوا في البلاد لمحقوهم وأذلوهم، وليس من الفتنة أن ندعوهم إلى طلب الحقوق والدفاع عن الدين والوطن كما يظن بعض المتطفلين على موائد السياسة، فإنما ننادي على صاحب البيت أن يدافع عن حريمه وماله وشرفه، وأن يخرج مخالب عدوه من أحشائه، وهي سنة جرى عليها دعاة الحق في كل أمة، وتاريخ أوروبا القديم والحديث، وتواريخ الأمم الشرقية أولها وآخرها تنطق بصدق ما نقول.
وعلى المصريين عموما والفلاحين خصوصا أن يجمعوا أمرهم على أن يمنعوا الحكومة كل ما تطلب منهم، وأن يرفعوا أصواتهم بنداء واحد قائلين: لا نطيع إلا حاكما وطنيا مسلما نافذ الكلمة حازم الرأي، قادرا على إدارة البلاد بقوة وطنية، وليستصرخوا في ذلك جميع الدول ويبرهنوا على قدرتهم، ويقيموا الأدلة على أن مصلحة الدائنين لا يمكن حفظها إلا بإجابة طلبهم، فإن فعلوا هذا وجدوا لهم من الدول أنصارا، بل ومن الجنس الإنجليزي نفسه!
على الدولة العثمانية أن تتذكر أنه لولا فرمانها بعصيان عرابي لما سهل للإنجليز أن يدخلوا أرض مصر،
2
ولا أصابوا هذه الغنيمة باردة، فلتنظر إلى قوتها ونفوذها وتلاحظ أن الحل على من عقد، والعقد على من حل، ولا تنس أن مصر حبكة الممالك العثمانية كما بينا مرارا، ولا تغفل من النمسا وشرهها، وروسيا وطمعها، وفرنسا وآمالها، فمن الأمور الطبيعية أن المنافسة أو الموازنة تدعو الأقران إلى التسابق في الأطماع، وإذا فرط متساهل في أهل ملته فلن يجد منهم فيما بعد عونا، لو تحرك العثمانيون لرأوا عونا من جميع المسلمين؛ خصوصا وقد حصلت كدورة بين إمارة الأفغان وحكومة الإنجليز، بل نكرر ما قلناه مرارا من أن نفوذ العثمانيين في الهند يمنع الإنجليز من الجهر بعداوتهم البتة، فهذه فرصة الإقدام، فإن ولت الفرصة فربما يصعب التلافي، ولا يبقى إلا الندم، حيث لا ينفع الندم - وفق الله الدولة العثمانية إلى ما فيه خيرها وخير المسلمين، وبصرها بالرشد وكفاها شرور المفسدين.
الفصل الرابع والثمانون
تنبيه
طلب إلينا أحد الأعاظم من ذوي الحل والعقد في المسلمين أن ننشر الجملة الآتية بنصها، فها هي:
وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم . (التوبة: 3)
ملعون من يخون بلاده لمرض في قلبه، ملعون من يبيع أهل ملته بحطام يلتذ به، ملعون من يمكن الأجانب من دياره، محروم من شرف الملة الحنيفية من يعظم الصغير، ويصغر العظيم، ويمهد الطرق لخفض كلمته إعلاء كلمة الأغراب، ملعون من يختلج في صدره أن يلحق عارا بأمته ليتمم ناقصا من لذته، عجبا عجبا، لا حول ولا قوة إلا بالله، هل صحيح أن خمسة ملايين سابقة وخمسة ملايين لاحقة تمكن الأجانب من مصر، وهي مفتاح الحجاز وباب الأقطار الشامية، هيهات هيهات، أيظن مريض القلب أن يترك حتى يأتي هذا المنكر؟! أيظن أنه يعيش حتى يتمتع بما تكسب يداه؟! أيتوهم أنه يبقى حيا على وجه الأرض وفيها مسلم؟! لا أظن أن يكون له حظ من البقاء، ولو كان في أبراج من الفولاذ. ا.ه.
الفصل الخامس والثمانون
مطلوب من توفيق باشا أن يموت شهيدا!
يتوكأ الإنجليز عن توفيق باشا في حركتهم بمصر، ويتخذونه آلة لتخريب بلاده وهدم ملكه، وما يكون من شر ينسبونه إليه، وما عساه يوجد من خير يصلون نسبته بهم، ويردونه إلى أنفسهم، وفيما بين ذلك يبغضون إليه الولاية الإسلامية، ويجيبون إليه إغفال الأصول الدينية، وهو يميل معهم ويمدهم في مقاصدهم ويطوع البلاد لهم بما بقي له من السلطة الصورية، كما يتظاهر بالتدين والمحافظة على الصلوات.
فإن كان باطنه يطابق ظاهره، وكان معتقدا بدين الإسلام، فعليه أن يتنحى عن الأمر ويترك الملك لمن يستطيع إنقاذه مما هو فيه، فتبرأ ذمته من العار الذي يلحقه ويلحق بيت محمد علي من تصرفه، فإن لم يكن هذا فعليه أن يجهر بعقيدته، ويقاوم الإنجليز بما في جهده، ويموت شهيدا في سبيل دينه ووطنه، وإلا فليس يغني عنه من الله شيئا؛ أن يظهر عند أهل خاصته وحاشيته أنه ناقم على الإنجليز كاره لوجودهم في بلاد مصر ويود لو يخرجون! كما أنبأتنا به الأخبار الخصوصية من القطر المصري.
إذا تمادى توفيق باشا في سيره الملتوي فعلى المصريين أن لا يقعوا صيدا في يد الإنجليز بهذه الحبالة البالية وهذا الفخ الواهن، ولينظروا في شئونهم وما توجه عليهم فروض دينهم، وإلا فما الله بغافل عنهم.
الفصل السادس والثمانون
هؤلاء رجال الإنجليز، وهذه أفكارهم
تأخر صدور الجريدة أياما؛ لضرورة ما مسنا من ضعف في المزاج مع مصادفة رداءة الهواء في البلاد الفرنسية هذه الأيام، والحمد لله على زوال المانع، إلا أننا مع ذلك لم نقصر في أداء الواجب من العمل الذي قمنا به في المدافعة عن حقوق المسلمين، فقد خلقنا - والشكر لله - لهذا العمل وطبعنا عليه، ونرجو ديان السماوات والأرض أن نموت في هذه السبيل، وأن نبعث في زمرة السالكين فيها.
رأينا أن يذهب الشيخ محمد عبده (المحرر الأول لهذه الجريدة) إلى لندن إجابة لدعوة من يرجى منهم الخير لملتنا، ومن يؤمل فيهم صدق النية في رعاية مصالح المسلمين من رجال السياسة الإنجليزية، وليستكشف مناصب الفخاخ السياسية التي ما مرت قدم شرقي إلا سقطت منها فيما يعسر الخلاص منه، وليسبر أغوار المطامع الإنجليزية التي لا يدرك منتهاها.
تلك المطامع التي بعدما التهمت ثلث المسكونة وطوقت كرة الأرض بالفتح والاستملاك لم تزل في مد لا جزر معه، ولا يزال رجال حكومة بريطانيا في نهم شديد لابتلاع ممالك العالم، وكلما أساغوا قطرا طلبوا إليه آخر، وليستطلع خفايا المقاصد من أثناء الأفكار وغضون الأقوال، وليقف على الطرق المألوفة بين أولئك السياسيين في التلوين، ويتبين كيف يتمكنون من إبراز محاسن الأعمال في صفات رديئة يستنكرها كل ناظر إليها، وإظهار السيئات في ألوان بهجة تسر الناظرين، حتى يمكن بعد ذلك وضع ميزان قسط يتميز به الزيف من النضار الخالص؛ كي لا يغتر الجاهل، ولا يزل العالم.
لاقى (محرر الجريدة) كثيرا من رجال السياسة الإنجليزية وأنفذ الناس رأيا فيها، وقد جرت بينه وبينهم محادثات طويلة في الأحوال المصرية، ومن محادثاته التمهيدية ما نشر في بعض الجرائد الإنجليزية كجريدة «البال مال جازيت»، وجريدة «التروت» التي يحررها النائب الشهير مستر لابوشير، وجريدة «التايمس»، وسيذكر شيء مما جرى بينه وبين بعض الأكابر من رجال الحكومة مما يستفيد منه الشرقيون عموما، والمصريون خصوصا، وستأتي جريدتنا على بعض ما استنبطه من فحوى أقوالهم وأدركه من مرامي أفكارهم، أما الآن فنأتي على جملة واحدة من محادثة طويلة كانت بينه وبين اللورد «هرتنكتون» وزير الحربية الإنجليزية؛ ليأخذ كل مصري منها حظه، ويصيب كل شرقي سهمه، ويقف جميعهم على مواقع الشرقيين من أنظار الحكومة الإنجليزية.
سأل اللورد هرتنكتون وزير الحربية الإنجليزية: «ألا يرضي المصريين أن يكونوا في أمن وراحة تحت سلطة الحكومة الإنجليزية؟ وألا يرون حكومتنا خيرا لهم من حكومة الأتراك، وفلان باشا وفلان باشا؟» فأجاب الشيخ (محرر جريتنا): «كلا، إن المصريين قوم عرب، وكلهم مسلمون إلا قليلا، وفيهم من محبي أوطانهم مثل ما في الشعب الإنجليزي، فلا يخطر ببال أحد منهم الميل إلى الخضوع لسلطة من يخالفه في الدين والجنس، ولا يصح لحضرة اللورد وهو على علم بطبائع الأمم أن يتصور هذا الميل في المصريين.»
فقال الوزير: «هل تنكر أن الجهالة عامة في أقطار مصر، وأن الكافة لا تفرق بين الحاكم الأجنبي والحاكم الوطني، وأن ما ذكرته من النفرة من سلطة الأجانب إنما يكون في الأمم المهذبة؟» فاحتد الشيخ حدة تليق بمسلم لا يتهاون في أداء ما فرضه الدين، وأوجبته حقوق الشريعة، وقال: «أولا إن النفرة من ولاية الأجنبي ونبذ الطبع لسلطته مما أودع في فطرة البشر، وليس بمحتاج للدرس والمطالعة، وهو شعور إنساني ظهرت قوته في أشد الأمم توحشا كقبائل الزولو الذين لم تنسوا ما كابدتموه منهم في الدفاع عن أوطانهم.
وثانيا إن المسلمين مهما كانوا وعلى أية درجة وجدوا لا يصلون من الجهل إلى الدرجة التي يتصورها الوزير؛ فإن الأميين منهم ومن لا يقرءون ولا يكتبون، لا يفوتهم العلم بضروريات الدين، ومن أجلاها ومن أظهرها عندهم أن لا يدينوا لمخالفيهم فيه، وإن لهم في الخطب الجمعية ومواعظ الوعاظ في مساجدهم ما يقوم مقام العلوم الابتدائية، وإن جميع ما يتلقونه من النصائح الدينية يحذرهم من الخضوع لمن لا يوافقهم ويحدث فيهم من الإحساسات الشريفة الإنسانية ما لا ينحطون معه عن سائر الأمم، خصوصا المصريين الذين ينطقون باللسان العربي ويفهمون دقائق ما أودع في ذلك اللسان وهو لسان دينهم.
وثالثا إن أرض مصر من زمن محمد علي قد انتشرت فيها العلوم والآداب الجديدة على نحو ما هو موجود في بلاد أوروبا، وأخذ كل مصري نصيبا منها على قدره، ولا تخلو قرية من القرى الصغيرة من أن يكون فيها قارئون وكاتبون، والأخبار العمومية توصلها إليهم الجرائد العربية، ومن لم يقرأ يستنبئ الأخبار من القارئين، فبهذا أضافوا إلى الشعور الطبيعي والتقليد الديني محبة وطنية منشؤها التهذيب العمومي قوي بها الميلان الأولان، ولا أظنهم يخالفون في ذلك سائر الأمم.» ا.ه.
أين العلماء الأذكياء؟ أين الجهلة الأغبياء؟ أين الأباة الأعلياء؟ أين السفلة الأدنياء؟ ليرى كل واحد منهم منزلة الشرقيين عند رجال الحكومة الإنجليزية، كل ذي شكل إنساني وصورة بشرية يدرك ما وراء هذه الأسئلة، وما تشف عنه هذه الظنون العجيبة، هذا اللورد هرتنكتون وزير الحربية الإنجليزية يظن أن الجهل بلغ من المسلمين عموما، والمصريين خصوصا، إلى حد سلب عنهم كل إحساس إنساني، وأنهم في حضيض من الجهل، لا يميزون فيه بين الغريب والقريب، ولا بين العدو والحبيب.
هذا دليل على أن الإنجليز - إلا من أنار الله بصيرته ووفقه لفهم الصواب - يعتقدون أن الأمم الشرقية، والأمة المصرية، في درجة الحيوانات السائمة، والدواب الراعية، لا تتألم إلا من الجوع وفواعل الطبيعة المادية، وليس لها من الإحساس إلا نوع من الانفعالات البدنية، ولا تعرف من شئونها إلا ما به تقوم حياتها الحيوانية، فتألف راكبها والعامل عليها ومستخدمها في أي عمل من الأعمال الشاقة؛ ما دام يقدم لها طعاما وشرابا، وأنها تهش وتبش لرؤية من يقدم لها غذاءها وعشاءها وإن كان من أشد البلاء عليها، بما يسومها من مشاق الأعمال، فإذا عجزت عن العمل ذبحها وتغذى بلحومها!
ألا فأعجبوا ... إن كانت هذه عقيدة رجال الحكومة الإنجليزية في الأمم التي يتسلطون عليها، فأي معاملة تكون منهم لها؟! ألا يعاملونهم معاملة العجموات والحيوانات الرتع؟! بلى، وهكذا يعاملون، وهذا تصرفهم في البلاد الهندية، يشهد بأفصح لسان على ما يعملون.
فالمصريون الآن بين أمرين أفضلهما أيسرهما: إما أن يتناكفوا ويتضافروا ويبذلوا أموالهم وأرواحهم في حفظ شرفهم الإنساني ومكانتهم العربية، وأداء حق عقيدتهم الدينية، ويخلصوا أنفسهم من عبودية قوم لا ينظرون إليهم إلا كما ينظرون إلى البغال والحمير، وإن هموا بذلك وجدوا لهم من إخوانهم المسلمين أنصارا ينتظرون الآن حركة منهم، وهذا أشرف الأمرين وما هو عليهم بعسير، وإما أن ينسلخوا عن جميع الخصائص الإنسانية، ويخلعوا حلية الإيمان، ويتبرأ منهم شرف العرب، وليحملوا ناف العبودية على أعناقهم، وليقاسموا الحيوانات في حظوظها، وليستعدوا لكل ذلة، وليقبلوا كل ضيم.
وهذا أعسر الأمرين وأدناهما، وما أظن مصريا يختاره لنفسه، ولئن اختاره - معاذ الله - فسيذهب الله بهم ويورث الأرض قوما آخرين؛ فإن الله غيور على دينه، غيور على العدل، منتقم من الضالين - وإنا لله وإنا إليه راجعون.
الفصل السابع والثمانون
اللورد نورث بروك حاكم مصر الجديد
كثيرا ما أتينا في جريدتنا على بيان مسالك الإنجليز في تملك الهند وتذليلهم لأهاليه، وذكرنا أن سيرة الحكومة الإنجليزية في افتتاح البلاد لا تشابه سير الفاتحين الذين يزحفون بخيلهم ورجالهم على الأقطار، فيقتلون ويقتلون، حتى يتغلبوا على من يريدون، وقلنا: إن الإنجليز ملكوا نحو ثلث العالم بلا سفك دماء غزيرة، ولا صرف أموال وافرة، وإنما ملكوا ما ملكوا بسلاح الحيلة، يدخلون في كل بلد أسودا ضارية، في جلود ضأن ثاغية! يعرضون أنفسهم في صورة خدمة صادقين، وأمنة ناصحين، طالبين للراحة، مقومين للنظام!
نادينا مرارا بأن الإنجليز إذا أرادوا التدخل في ملك للشرقيين، ورأوا أن القائم به رجل حاذق بصير، وأن وجوده في الملك يبطئ سيرهم إلى ما يقصدون؛ بادروا إلى التشويش عليه، فإما أن يفسدوا عليه قلوب رعيته ويثيروا عليه أحقادها، أو يغروا أحد أعضاء العائلة المالكة بالعصيان وطلب الملك ليجدوا في ذلك وسيلة للدخول في الأمر، أو يتفقوا مع الوزراء على خلع صاحب السلطة، ثم ينصبون بدله إما ضعيفا أحمق، وإما صبيا لم يبلغ الرشد، إما من أبناء الملك أو أقاربه ليتمكنوا من بلوغ مقاصدهم تحت علمه، ويبلغوا غاياتهم باسمه، ويقطعوا المسافة الطويلة في مدة قصيرة، بلا ممانع ولا عائق، مع إصابتهم جزيل الأجر، على ما عملوا في بداية العمل.
هذا كما فعلوا من مدة غير بعيدة مع «راجا برودا»، خلعوه بدعوى باطلة، لما أحسوا فيه البصيرة والحزم، وأقاموا بدله ولدا صغيرا من عائلته، ثم انتصبوا له أوصياء، فوضعوا أيديهم على جميع خزانته، وتولوا إدارة ممالكه، واستلموا قيادة عساكره، ولم يبق له إلا الاسم، يذكر ولا يشكر!
كل هذا تحت راية العدالة والإصلاح، وحفظ الراحة وتقرير النظام، ولم يساقوا إليه إلا بباعث المحبة والإخلاص (ولا يذكر هناك اسم التملك والاستيلاء). نعم، ولهم الحق في استبقاء اسم والسكوت عن آخر؛ فإن الأمراء الشرقيين لا يبالون بما دلت عليه الأسماء، وإنما يهمهم طنطنة الألفاظ وضخامة الألقاب!
إذا سلب الأمير الشرقي ملكه وماله، وجرد من جميع حقوقه، وبقي له لقبه ولواحق لقبه؛ فهو في سكرة من لذة ما بقي له، وفي ذهول عما سلب منه، هذه خلة عرفها الإنجليز في كل أمير شرقي، فلم لا يقرون أعينهم بحفظ هذه الأسماء، بعدما جردت عن معانيها، وأي داع يدعو رجال الإنجليز لإزعاج قلوب الأمراء بنزع هذه الألقاب؟
إن اللقب الضخم حصن حصين، يسجن فيه الأمير الشرقي، أو جب عميق يلقى فيه، وهو يظنه جنة عرضها السماوات والأرض، فليعش أمراء المشرق متمتعين بنعيم ألقابهم، وسعادة أسمائهم، ويكفيهم من المجد أن يقال لهم بين خدمهم وخاصتهم، في داخل دوائرهم: «نواب صاحب»، «راجا صاحب»، «خديو صاحب»، «سلطان صاحب»، واخجلتاه! هذه الألقاب كانت تشير إلى ملك فسيح، ومجد شامخ، وشوكة قوية، وسطوة تخضع لها الشمم العوالي، فكيف طابت نفوس أمراء المشرق بقبولها عارية من كل شرف، لم يبق من معناها إلا سلطة على الخدم والحشم، وما هم فيها بأحرار، بل لا بد أن يوافقوا فيها رضاء الأجانب.
من أدق رجال الحكومة الإنجليزية في فن الحيلة، وأمهرهم في صناعة الخدعة، وأطولهم باعا في النفاق، وأحذقهم في اختراع الوسائل لسلب الأملاك من أربابها، وأشهرهم في عداوة المسلمين؛ ذلك اللورد المحترم «نورث بروك».
كان هذا الرجل البارع حاكما في الهند فأذاق أهاليه مر العذاب، في كئوس المحبة والوداد، كم خرب بيوتا، وقلب عروشا، وكم خفض رفيعا، وأذل عزيزا، وهو في جميع سيئاته يبكي بكاء الشفقة، ويسكب دموع المرحمة على الهنديين، ويقول: «إنني أول إنجليزي تهمه رفاهة أهل الهند، وإنني وحيد بين الإنجليز بمحبة الهنود، والسعي فيما يعود عليهم بالصلاح والنجاح، وإنني أستغفر الله إن كنت قصرت في عمل يؤمل بهم إلى الفلاح»، وينادي في الهنديين بقوله: «واأسفاه! إنكم اليوم ما عرفتموني، ولا أحطتم بما حواه ضميري، من إرادة الخير لكم.» هذا هو الكاهن الحاذق في وعظه (ودونه في النفاق عبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين في الإسلام).
إن الحكومة الإنجليزية عرفت قدره في براعته ومعرفته بوجوه المكر، وخبرته بأحوال الشرقيين، وسعة علمه بكيفيات التصرف في عقولهم وأهوائهم، وطرق أخذهم من حيث لا يشعرون، واعترفت له حكومته بصدق الطوية في معاداة المسلمين؛ لأجل هذا قررت أن تبعثه إلى مصر، وعزمت على إرساله إليها مفوضا من قبلها يفعل ما يشاء.
ولكن لا نظن حبالته الخداعية تصرع فطانة المصريين وتأخذ عقولهم، فإن تسنى له النجاح، ورضي المصريون على أنفسهم عار الذل، ووصمة الضيم، فلا يكون إلا باستعمال توفيق باشا آلة في جميع أعماله، يستخدمه لإدخال مصر في ملك الحكومة الإنجليزية، يلقنه الأوامر السامية، ويلهمه الإرادات السنية، لتذليل أهل بلاده وسوق المصريين لقتل إخوانهم وفتح البلاد الثائرة، وإقرار السلطة فيها للحكومة الإنجليزية.
فإن تم له ما يريد من تسكين الفتن وتقريب المصريين للرضاء بحكومة تنفر منها طباعهم عمد إلى خلع توفيق باشا بأية علة وطلب تولية ابنه عباس؛ لكونه ولدا صغيرا لم يبلغ الرشد، واستند في ذلك إلى الفرمانات السلطانية (يحترمونها إذا وافقت أغراضهم)، وجعل نوبار باشا ديوانا له (الديوان وزير يعينه الإنجليز من طرفهم في الممالك التي تبقى في الهند تحت أسماء الأمراء الذين لا يعرف فيهم الرشد ولا يجوز عزله إلا بأمر من الحكومة الإنجليزية).
نوبار باشا لا يقصر في هذا العمل ولا يألو جهدا في إبلاغه إلى نهايته، نوبار باشا رجل لا هو مسلم فيغار على دينه، ولا هو مصري فيحتمي على وطنه، ولا هو عربي فتأخذه النفرة على جنسه، وبهذا الطريق نال سلطة في القطر المصري مدة لا تنقص عن الباقي من عمره، ويكون في أمان من العزل، تحت ظل الحكومة الإنجليزية.
هذه مقاصده التي بلغتنا من مصدر يوثق به، ولا نظنه ينجح فيها؛ فإن صلاح الأمر في مصر لا يقوم به إلا من هو أعرف بحال المصريين وأقرب إليهم من «نورث بروك»، هذا اللورد يسلك في سيره على ما جرى عليه في الهند، إنا نذكر طرفا من أعماله عبرة للمعتبرين.
إن «جيرت ستك» كان راجا على ممالك «جنبة» الواقعة في جنب «عنبر سر» من طرف «همالايا»، فلما مات هذا الملك تولى ابنه «سرسينك» وهو ولده من الملكة، ثم مات وتولى شقيقه «سوجيت سنك» على طبق قانون الوثنيين، فلما ذهب «نورث بروك» حاكما في الهند قصد إلى تنفيذ حكمه في تلك المملكة واستملاك أراضيها حسب المألوف بين أمثاله من رجال حكومته، فطلب من «سوجت سنك» أن يتنازل عن الملك لأخيه «قوبال سنك» وكان وليدا من جارية، ولا يجوز في قوانين الوثنيين أن يتولى الملك أبناء الإماء ما دام من أبناء الأحرار حي، فلما تمنع «سوجت سنك» من التنازل؛ اعتمادا على قانون باده، أنزل بحكم اللورد جبرا بعدما ضربت زوجته التي كانت ملكة تلك البلاد (لكونها زوجة الملك) ونهب جميع ما كان في بيت الملك من الخزائن والتحف والجواهر الثمينة والمخلفات القديمة (أنتيكات) التي كان يتوارثها الملوك من أجيال طويلة (فإن عائلة الملك كانت من قدماء العائلات الملكية).
ثم نصب بدله «كوبال سنك»، وبعد مدة قصيرة عزل «كوبال سنك» ونصب ولده الصغير «سيام سنك» ليكون الأمر والنهي حسا ومعنى بيد أمراء الإنجليز، وتحت تصرف الديوان الذي أقاموه من طرفهم! هذا مثال لما يطول عده من أعمال اللورد نورث بروك في الهند.
ثم إن «سوجت سنك» المخلوع ظن أن نورث بروك وحده هو الظالم، وأنه لو رفع أمره للحكومة العليا في لندن يجد لديها عدلا ويصادف منها إنصافا، فجاء من مدة ست نسوات وعرض حاله على الحكومة، فإذا القلوب متشابهة، والنفوس متوافقة، والآراء متألبة على سلب الحقوق، والغلو في العدوان، وفي خلال هذه المدة أنفق كل ما كان عنده في المطالبة بحقه، والمرافعة مع ظالمه، حتى أصبح صفر اليدين، لا يملك قوت يومه، ولا يجد منصفا.
هذا الملك السيئ الحظ مع ما كان له من رفعة الشأن، وارتفاع نسبه في الملك إلى أجداده الأقدمين، من نحو ألف سنة؛ تراه الآن يتضور من الجوع في بلاد أوروبا رث الثياب حقيرا ذليلا، هذا الذي احترمه اللورد نورث بروك الذي تريد حكومة إنجلترا أن ترمي به مصر، وهذا هو الإصلاح الذي يقصد إجراءه فيها!
لكن رجاءنا في المسلمين، وأملنا في المصريين، وقوة إيماننا بوعود الله، وصدق النبأ عما تكنه الحوادث المصرية، وتألب الدول على معاكسة الحكومة الإنجليزية، واضطرار الدولة العثمانية للدفاع عن مصر؛ كل هذا يبشرنا بخيبة هذا الغادر في قصده - والله لا يهدي كيد الخائنين.
الفصل الثامن والثمانون
نكتة
عندما كان الشيخ محمد عبده يحادث أرباب السياسة في لندن كان أغلبهم يقول له: «كثيرا ما سمعنا من الأجانب الذين ينتمون إلى البلاد المصرية أخبارا متعلقة بها، لكنا لا نحلها محل الاعتبار؛ لما نعلم عن بعدهم عن الشعب المصري الحقيقي، أما أنت فلكونك عريقا في المصرية ، وعالما من علماء المسلمين، فنحب أن تبين أفكارك، وما تعلمه من أحوال الأهالي المصريين، وشئون أمرائهم واستعداداتهم، وما يليقون له، وما يليق بهم؛ فإنا نرى ذلك منك حاكيا عن حقيقة الأمر فيهم، وكاشفا عن أفكار أهالي مصر عموما»، وقد أشارت إلى هذا المعنى جريدة «البال مال جازيت».
الفصل التاسع والثمانون
معارضة الإنجليز
تنبهت أفكار الدول الأوروبية في هذه الأيام إلى ما يمسها من إيغال الإنجليز في طمعهم، وأن ظفرهم في أعمالهم المشرقية لمما يخمد أنفاس أوروبا ويسد عليها أبواب التجارة، ولو نجح الإنجليز في سيرهم إلى ما يطمحون إليه، لم يبق موضع قدم للتجارة الأوروبية، فيضرب الفقر في غالب أقطار أوروبا التي قوام معيشتها التجارة، وأن الدول لتعجز بعد هذا عن حاجاتها.
هذا فزع ألمت بدايته بنفوس الدول من صيحة الطبيعة، وزاد عليه ما خدش خواطرها من الإهانات المتتباعة اللاحقة بها من غرور الإنجليز. دولة إنجلترا هي التي تركت الدول تأتر في الأستانة، واستبدت بإطلاق النيران على مدينة الإسكندرية.
هذه الدولة هي التي دعت الدول العظام إلى مؤتمر للمداولة في مسألة مصر، معترفة بحقوقها فيها، فلما لم تجبها الدول إلى مطلبها الباطل، صرفت نوابهم، وانطلقت في أعمالها غير مبالية بهم، وعزمت على إرسال «اللورد نورث بروك»، و«الجنرال ولسلي»، في آن واحد إلى مصر.
هذا كله حرك خواطر الدول، وصار من أعظم البواعث على اجتماع الأباطرة الثلاثة في شهر سبتمبر - كما أنبأت الجرائد - وأكد أن موضوع المداولة بينهم هذه المسألة المهمة، لهذه المسألة كانت مدينة وارزين دار ندوة سياسية، وبها وجد البرنس بسمارك مجالا واسعا للسياسة.
تلاقى الكونت كالنوكي مع البرنس بسمارك، وطالت مدة الاجتماع ولحق بهما مسيو دي جيرس وزير دولة روسيا، وكان البحث فيما ألم بالدول بعد مؤتمر لندن، ثم عقب ذلك سفر مسيو كورسيل سفير فرنسا في برلين إلى وارزين لملاقاة بسمارك (وإن أولت بعض الجرائد الإنجليزية حركة هذا السفير بمقصد آخر)، فهذه الزيارات المتتالية بين هؤلاء الوزراء العظام، بعد خيبة المؤتمر، تفتح للمتأمل بابا واسعا من الفكر، وتشف عن أمور عظيمة سيكشفها الزمان عن قريب.
هذا إلى جانب الأمر الجديد الذي صدر من دولة ألمانيا وهو تعيين وزير في سفارة مبجلة لدى شاه إيران وفي أعضاء سفارته بروكش باشا المشهور بعلم الخط المصري القديم، وهي أول مرة كان لهذه الدولة سفير عند الشاه، ثم ذهاب ميرزا خان سفيرا خصوصيا من الدولة الفارسية إلى الدولة الروسية، ونيله غاية التبجيل والتكريم.
كل هذا ينبئنا أن في كمين الغيب مصيبة كبرى ستنقض على دولة الإنجليز ... إن الأحقاد قد أخذت بقلوب الأمم الأوروبية وامتلأت الأفئدة غيظا حتى طفحت، ولهذا لا ترى جريدة ألمانية أو نمساوية أو فرنسية أو روسية إلا وهي مشحونة بالطعن والتنديد، والوعيد والتهديد، والإنذار بسوء عاقبة حكومة الإنجليز.
ليس ببعيد على عدل الله أن ينكس أعلام العاتين، الذين يعبثون في الأرض مفسدين ويسلبون ممالك العالم غيلة، ويهضمون حقوق الأمم بغيا وعدوانا، ويسيمونها عذاب الرق والعبودية عتوا واستكبارا، أظلم جو السياسة على سابلة الإنجليز، وزأرت عليهم ضارية الويل من كل جانب، ولهم في هذه الأهوال حركة الخابط، إما سترا لضعفهم، أو غرورا ببأسهم.
ويتعلقون بحبال الوسائل لامتلاك مصر والسودان، اللورد نورث بروك وسميع الله خان الدهري يذهبان إلى مصر لتأليف القلوب، وجميع الخواطر على ولاء الحكومة الإنجليزية، وإن ولسلي بعدما نال من حسن الصيت بصرف الدنانير في التل الكبير؛ عزم على أن يفتح فتحا آخر بمثل تلك الوسيلة، ولكنا لا نظن في السودان مثل شهيد الخيانة وأبى سلطان باشا إضرابه، وهذا من جهة أخرى يسعون لإجبار الحكومة المصرية على إعلان الإفلاس وإشهار العجز عن القيام بنفقات الحكومة؛ ليجدوا في ذلك وسيلة لتقرير حمايتهم على القطر المصري، وتخفيض فائدة الدين والاستبداد بشئون المملكة.
إنهم نالوا في الحرب المصرية من الدولة العثمانية فرمانا سلطانيا بعصيان عرابي، فحقنوا به دماء رجالهم، وصانوا كثيرا من أموالهم، واليوم يسعى اللورد دوفرين بمواعيده العرقوبية، وأيماناته الكاذبة عند الباب العالي ليحمله على إرسال عشر مدرعات إلى الإسكندرية، وسوق جيش إلى سواحل البحر الأحمر؛ ليكون هذا بدل الفرمان بعصيان محمد أحمد، ويفوز الإنجليز بالتسلط على مصر والسودان، ويحلفون - وهم الكاذبون - إنهم لا يمسون حقوق السلطان (هل أبقوا حقوقا تمس؟) حتى إذا ثبتت أقدامهم تحت ظل العلم العثماني، قلبوا للعثمانيين ظهر المجن وأجابوهم بهز الرءوس وكشرة الأنياب.
ولا نظن أن الدولة العثمانية تغتر بوعود الإنجليز مرة ثانية، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، وقد جربت منهم حلاوة الوعد، وذاقت في إخلافه مضاضات الإهانة، ومرارات التحقير. نعم، هذا وقت يتسنى للدولة العثمانية أن تتفق مع سائر الدول لصون مصالحها، ولا يخطر ببال عثماني أن ينال خيرا بالاتفاق مع الإنجليز.
إن حكومة بريطانيا ما عاهدت عهدا إلا ونقضته، بعدما جنت ثمرته، فربحها في العهود خاص بها، لا يشركها فيه غيرها، لم يخف على الدولة العثمانية أن الإنجليز تصرفوا في الأراضي المصرية تصرف المالكين بلا مشورتها، وهبوا قسما عظيما من السودان الشرقي للحبشة وأثاروا حربا صليبية بين الحبشيين ومسلمي السودان، نزعوا إلى الاستيلاء على زيلع وهرر وبربر، هل كان شيء من هذا بإذن الباب العالي؟ فعلى أي وجه تثق الدولة بإنجلترا، بعدما جربت من غدرها ما جربت ورأت من عدوانها ما رأت؟
لو تساهلت الدولة مع الإنجليز في مسألة مصر فسنسمع عن قريب بأمور في الحجاز وسوريا واليمن وبغداد وكلها من دسائس الإنجليز، أما لو أقدم العثمانيون بعزيمة ثابتة وأقبلوا على شأنهم في مصر، مع هيجان الأفغانيين وانفراد إنجلترا عن سائر الدول؛ لوجدوا لهم أنصارا من جميع المسلمين في الشرق، ومن المصريين والسودانيين، ولأرغموا الإنجليز، واسترجعوا ما فقدوه من المكانة أيام حرب روسيا، ولأعادوا عزتهم الأولى.
هكذا ينبغي أن يساق الجيش العثماني، لصدمة الإنجليز لا لخدمتهم، فإن لم تفعل الدولة العثمانية فعلى الدنيا العفا، وعلى الإسلام السلام!
وليعلم المصريون من الفلاحين والعرب أن الإنجليز لا يقصدون إلا استعبادهم واستخدامهم كما يستخدم الأرقاء، وأول نير للذل يوضع على أعناق أمرائهم، فعليهم ألا يكونوا آلة في تمكين العدو من رقابهم، وأن لا يكون بعضهم فخا لصيد باقيهم، لعمر الله إنا لفي عجب من الذين يحفظون القلاع في السودان، ومن المصريين الذين يخفون لمقاتلة السودانيين ، هل يعلمون أي أمة يخدمون؟!
بلى، إن حامية كسلا حافظت عليها حتى تسلمها للحبشة، وإن حماة القلاع في السودان يحفظونها حتى يسلموها لقواد الإنجليز إن استطاعوا، نعم كنا نحب أن نرى هذه الشهامة من العساكر المصرية، لكن إذا لم يكونوا في تصرف دولة أجنبية، أما اليوم فثباتهم هو العار بعينه، والله لا أظن شخصا في قلبه ذرة من الإيمان تسمح له نفسه بهذا العمل، فإن لم يسعوا في إخراج عدوهم من ديارهم، والظن بهم أن يسعوا، فلا أقل أن يكفوا عن مساعدته في تملكها.
ألا يعلم المصريون أن حركة خفيفة منهم في معارضة الإنجليز في هذا الوقت تجلب تدخل الدول، وتكون سببا لإنقاذهم من هذا العدو الذي لا يكتفي بأكل لحومهم حتى يهشم من عظامهم؟ فليعلموا ذلك وليعملوا - والله لا يضيع أجر العاملين.
الفصل التسعون
الدهريون في الهند
دخل الإنجليز بلاد الهند ولعبوا بعقول أمرائها وملوكها على نحو يضحك العقلاء ويبكيهم، وكانوا يوغلون في أحشاء الهند ويتخطفون أراضيه قطعة بعد قطعة، كلما سادوا في أرض أدلوا على سكانها وأظهروا الضجر والسآمة من الإقامة بينهم قائلين: إن الإنجليز لا يشتغلون إلا بالأعمال التجارية، أما مقارفة الإدارة والسياسة فليست من شئونهم، إنما يدعوهم إلى احتمال أثقالها الشفقة على الملوك والأمراء العاجزين عن سياسة ممالكهم، ومتى قدر الأمير أو الملك على ضبط بلاده فلا يبقى إنجليزي فيها؛ لأن لهم أشغالا مهمة أخرى تركوها لمحض المرحمة.
وبهذا سلب الإنجليز كل مالك ملكه بحجة أن العمل في الملك ثقيل على النفس متعب للفكر والبدن، فالأولى لصاحب الملك أن يستريح وأن يموت فقيرا ذليلا تخلصا من عناء التدبير! وينادون بأنه متى سنحت الفرصة وجاء الوقت الذي لا يكون للأعمال المعاشية ولا المعادية تأثير على الأبدان ولا على الأفكار؛ فإنهم مستعدون لترك البلاد (يوم الحشر)، واليوم يقولون نفس الكلام بعينه في مصر!
ولما استقرت أقدامهم في الهند وألقوا به عصاهم ومحيت آثار السلطنة التيمورية؛ نظروا إلى البلاد نظرة ثانية فوجدوا فيها خمسين مليونا من المسلمين، كل واحد منهم مجروح الفؤاد بزوال ملكهم العظيم، وهم يتصلون بملايين كثيرة من المسلمين شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وأحسوا أن المسلمين ما داموا على دينهم، وما دام القرآن يتلى بينهم فمحال أن يخلصوا في الخضوع لسلطة أجنبي عنهم، خصوصا إن كان ذلك الأجنبي خطف الملك منهم بالخديعة والمكر تحت ستار المحبة والصداقة.
فطفقوا يتشبثون بكل وسيلة لتوهين الاعتقاد الإسلامي، وحملوا القسس والرؤساء الروحانيين على كتب الكتب ونشر الرسائل محشوة بالطعن في الديانة الإسلامية، مفعمة بالشتم والسباب لصاحب الشريعة (برأه الله مما قالوا)، فأتوا من هذا العمل الشنيع مما تنفر منه الطباع، ولا يمكن معه لذي غيرة أن يقيم على أرض تنشر فيها تلك الكتب، وأن يسكن تحت سماء تشرق شمسها على مرتكبي ذلك الإفك العظيم.
وما قصدهم بذلك إلا توهين عقائد المسلمين، وحملهم على التدين بمذهب الإنجليز، هذا من جهة، ومن جهة أخذوا في تضييق سبل المعيشة على المسلمين، وتشديد الوطأة عليهم والإضرار بهم، من كل وجه، فضربوا على أيديهم في الأعمال العامة، وسلبوا أوقاف المساجد والمدارس، ونفوا علماءهم وعظماءهم إلى جزائر «أندومان» و«فلفلان» رجاء أن تفيدهم هذه الوسيلة إن لم تفدهم الأولى في رد المسلمين عن دينهم، بإسقاطهم في أغوار الجهل بعقائدهم حتى يذهلوا عما فرضه الله عليهم.
فلما خاب أمل أولئك الحكام الجائرين في الوسيلة الأولى، وطال عليهم الأمد في الاستفادة من الثانية؛ نزعوا إلى تدبير آخر في إزالة الدين الإسلامي من أرض الهند أو إضعافه؛ لأنهم لا يخافون إلا من المسلمين أصحاب ذلك الملك المنهوب والحق المسلوب، فاتفق أن رجلا اسمه أحمد خان بهادور (لقب تعظيم في الهند) كان يحوم حول الإنجليز لينال فائدة منهم، فعرض نفسه عليهم وخطا بضع خطوات لخلع دينه والتدين بالمذهب الإنجليزي، وبدأ سيره بكتابة كتاب يثبت فيه أن التوراة والإنجيل ليسا محرفين ولا مبدلين لينال بذلك الزلفى عندهم، ثم راجع نفسه فرأى أن الإنجليز لن يرضوا عنه حتى يقول: إني نصراني ، وأن هذا العمل الحقير لا يؤتى عليه أجرا جزيلا، خصوصا وقد أتى بمثل كتابه ألوف من القسس والبطارقة وما أمكنهم أن يحولوا من المسلمين عن الدين أشخاصا معدودة، فأخذ طريقا آخر في خدمة حكامه الإنجليز بتفريق كلمة المسلمين وتبديد شملهم.
فظهر بمظهر الطبيعيين (الدهريين) ونادى بأن لا وجود إلا للطبيعة العمياء، وليس لهذا الكون إله حكيم (إن هذا إلا الضلال المبين)، وأن جميع الأنبياء كانوا طبيعيين لا يعتقدون بالإله الذي جاءت به الشرائع (نعوذ بالله)، ولقب نفسه بالنيجري (الطبيعي)، وأخذ يغري أبناء الأغنياء من الشبان الطائشين، فمال إليه أشخاص منهم؛ تملصا من قيود الشرع الشريف وسعيا وراء الشهوات البهيمية، فراق لحكام الإنجليز مشربه ورأوا فيه خير وسلية لإفساد قلوب المسلمين، فأخذوا في تعزيزه وتكريمه، وساعدوه على بناء مدرسة في «علي كده» وسموها مدرسة المحمديين، لتكون فخا يصيدون به أبناء المؤمنين ليربوهم على أفكار هذا الرجل (أحمد خان بهادور).
وكتب أحمد خان تفسيرا على القرآن فحرف الكلم عن مواضعه، وبدل ما أنزل الله، وأنشأ جريدة باسم تهذيب الأخلاق، لا ينشر فيها إلا ما يضل عقول المسلمين، ويوقع الشقاق بينهم، ويلقي العداوة بين مسلمي الهند وغيرهم، خصوصا بينهم وبين العثمانيين، وجهر بالدعوة لخلع الأديان كافة (لكن لا يدعو إلا المسلمين) ونادى: الطبيعة! الطبيعة! ليوسوس للناس بأن أوروبا ما تقدمت في المدنية، وما ارتقت في العلم والصنعة، وما فاقت في القوة والاقتدار إلا برفض الأديان، والرجوع إلى الغرض المقصود من كل دين (على زعمه وهو بيان مسالك الطبيعة، قد افترى على الله كذبا).
ولما كنا في الهند أحسسنا من بعض ضعفاء العقول اغترارا بترهات هذا الرجل وتلامذته، فكتبنا رسالة في بيان مذهبهم الفاسد وما ينشأ عنه من المفاسد، وأثبتنا أن الدين أساس المدنية وقوام العمران، وطبعت رسالتنا في اللغتين الهندية والفارسية. إن أحمد خان ومن تبعه خلعوا لباس الدين وجهروا بالدعوة إلى خلعه ابتغاء الفتنة بالمسلمين وطلبا لتفريق كلمتهم، وزادوا على زيفهم أنهم يزرعون الشقاق بين أهل الهند وسائر المسلمين، وكتبوا عدة كتب في معارضة الخلافة الإسلامية.
هؤلاء الدهريون ليسوا كالدهريين في أوروبا، فإن من ترك الدين في البلاد الغربية تبقى عنده محبة أوطانه ولا تنقص حميته لحفظ بلاده من عاديات الأجانب، ويبذل في ترقيتها والمدافعة عنها نفائس أمواله، ويفدي مصلحتها بروحه.
أما أحمد خان وأصحابه فإنهم كما يدعون الناس لنبذ الدين؛ يهولون عليهم مصالح أوطانهم ويسهلون على النفوس تحكم الأجنبي فيها، ويجهدون في محو آثار الغيرة الدينية والجنسية، وينقبون على المصالح الوطنية التي ربما غفل الإنجليز عن سلبها لينبهوا الحكومة عليها فلا تدعها!
يفعلون هذا لا لأجر جزيل، ولا شرف رفيع، ولكن لعيش دنيء ونفع زهيد ... (هكذا يمتاز دهريو الشرق عن دهريي الغرب، بالخسة والدناءة بعد الكفر والزندقة).
أحسن الإنجليز إلى أحمد خان بتوظيف ولده مولوي محمود عضوا في مجلس قرية من قرى الهند لا تزيد عن «شبراخيت» في مديرية البحيرة.
ومن حبائله لصيده الضعفاء من المسلمين أنه يعدهم ويمنيهم بأنهم لو تبعوه لأدخلهم في وظائف الحكومة، بما له من الجاه عند جائرة الإنجليز، وحكومة الإنجليز لم توظف من أصحابه إلا أربعة أعضاء في مجالس القرى، ولا يوجد وطني هندي في مثل هذه الوظائف سواهم، هذا هو المجد الذي ناله أحمد خان ثمنا لدينه ووطنه، فهو كما قال صديق نواب حسن خان ملك بهوبال صاحب التصانيف المشهورة: إن «أحمد خان» دجال آخر الزمان، نعم ساعده حكام الإنجليز على استخدام بعض من يقدمهم، لكن لا في الحكومة الإنجليزية الهندية ولا على الخزينة الإنجليزية، وإنما يلزم الحاكم أحد النواب الباقين على صورة استقلالهم أن يوظفوهم في بعض الوظائف الدانية.
راق هذا المشرب في أعين الحكام الإنجليز وابتهجوا به، وظنوه موصلا إلى غايتهم من محو الدين الإسلامي من البلاد الهندية، هؤلاء الدهريون ساروا جيشا للحكومة الإنجليزية في الهند يسلمون سيوفهم لقطع رقاب المسلمين، لكن مع البكاء عليهم والصياح بهم، إنا لا نقتلكم إلا شفقة عليكم ورحمة بكم وطلبا لإصلاحكم ورفاهة عيشتكم، ورأى الإنجليز أن هذه أقرب الوسائل لنيل المقصود من ضعف الإسلام والمسلمين.
كان التلميذ الأرشد لأحمد خان والوزير الأول والمدير له في جميع شئونه رجلا اسمه سميع الله خان.
سميع الله خان هو أعظم الدهريين دهاء، وأشدهم اجتهادا في تضليل المسلمين، وأدقهم حيلة وأقواهم مكرا في إيجاد الوسائل لتفريق شمل المؤمنين، وتمكين الحكومة الإنجليزية في أرض الهند، يقوم هذا الخادع خطيبا في محافل المسلمين فتسبق دموعه كلامه، ويأتي بغاية ما عنده من الفصاحة؛ لهدم أركان الديانة الإسلامية وإبطال عقائدها الأصلية، ويتجرأ على حضرة الألوهية، ويطعن في الرسالة وصاحبها. كل ذلك وهو ينتحب كأنما يرثي الدين وأهله.
إذا دخل في بلد من بلدان لأداء هذه الخدمة واظب أياما على دخول المساجد، وحضور المحافل الدينية، واستدرج الناس بعذب الكلام، ولطف الوعد، وجذبهم إليه من حيث لا يشعرون، فإذا اجتمع عليه بعض من الناس اغترارا بطلاوة ظاهره بدأ في دعوتهم إلى مشربه الكدر (خلع الدين).
هذا العدو المبين للإسلام والمسلمين قد نال بمساعيه هذه وظيفة قاض (في الشريعة الإنجليزية) في بلدة «أكره» وهي بلدة لا تزيد عن دسوق في مديرية الغربية، قالت جريدة التايمس بعدما مدحت سميع الله خان بكل ما يمدح به: «إن هذه الوظيفة (قاض في بلد صغير) هي أعلى وظيفة ينالها هندي وطني.» (أيحتاج لإثبات العدالة الإنجليزية إلى شاهد أكبر من هذا).
نورث بروك، اللورد الإنجليزي الذي أشرنا إلى طرف من تاريخه في الهند في العدد الماضي، عرف سميع الله خان حق المعرفة عندما كان حكمدارا في الهند، ووقف على أنه أصدق الناس في خدمة الإنجليز وأقدرهم على أدائها،؛ ولهذا طلبه ذلك اللورد ليكون كاتم سره في مصر ليستعمله في تنفير المصريين من الدولة العثمانية، وفي إقناع المصريين بأن حكومة إنجلترا تريد بهم خيرا، ويستخدمه في استمالة قلوب العلماء؛ لأنه واحد منهم (على دعواه).
وقد يكون من نيته أن يدخل الجوامع، ويعظ، ويخطب، ويروي عن عدل الإنجليز ما لا صحة له وما تكذبه المشاهدة. ولكن رجاءنا في نباهة المصريين وصدق عقائدهم الدينية وشدة ارتباطهم بالدولة العثمانية؛ أن لا ينخدعوا لهذا الراكس الهندي (الراكس بلسان السنسكريت الشيطان المريد)، لا نجح الله له مقصدا ولا أناله مبتغى.
الفصل الحادي والتسعون
جريدة الأهرام
اشتد غضب نوبار باشا على جريدة الأهرام فأصدر أمره بتعطيلها شهرا وقفل مطبعتها، وقيل في السبب: إنها نشرت رسائل مدير الجريدة وهو في لندن على ما فيها من بيان بعض مساوئ السياسة الإنجليزية على خلاف رغبة سعادة الباشا! وقيل: إن السبب لنشر الشكر الذي قدم إلى المدير والمحرر من أعيان البلاد دلالة على استحسان مشرب الصحيفة (استقباح سياسة الإنجليز).
ولكن كتب إلينا من مصدر خاص أن هذه المسائل العمومية لا تهم نوبار باشا إلا إذا مست مصلحته الخاصة، فالسبب الحقيقي هو المنهج المستقيم الذي سلكته «الأهرام». دعا إلى ذكر بعض الرجال الوطنيين مثل رياض باشا وشريف باشا، مع وصفهما بالوطنية وعلو الهمة وكمال الغيرة.
نوبار باشا ساع إلى أمر مهم وهو ما ذكرناه في العدد السابق ونشرته بعدنا جريدة «الديبا» وسائر الجرائد الإنجليزية، وهو أن يكون ولي القاصر «عباس» بعد خلع أبيه فينال بسطة في السلطة وإطلاقا في الأمر والنهي، وعلم أن هذا وقت الفرصة لحرص الحكومة الإنجليزية على تملك مصر وهي محتاجة في ذلك إلى كل من ليس له وطن ولا دين ولا جنس في مصر، فهي في شدة الاحتياج لنوبار باشا، وتوفيق باشا قبة جوفاء لا يرجع منها إلا صدى الأصوات، إن قلت: لا فلا، أو قلت: نعم فنعم، فهو في غضبه ورضاه تابع لما يلقى إليه.
فعلم نوبار باشا أن خديويا مثل هذا يمكن أن يكون واسطة في تمكين الإنجليز من مصر من حيث لا يشعر، وبتقديم هذه الخدمة لهم يبني لنفسه من العزة قصرا شاهقا، فكيف يطيب لنوبار باشا مع هذا السعي أن يسمع ذكر رياض باشا وشريف باشا مع وصفي الوطنية وعلو الهمة، ربما الإكثار من ذكر هؤلاء الرجال يحرك الخواطر الوطنية فيندفع منها سيل يهدم كل ما يبنيه.
إن صاحب الأهرام أكثر من ذكر الوطن والوطنيين، ونوبار باشا أبعد الناس عنهما لهذا أغضبه ذكرهما، كلما ذكر لفظ الوطن أو الملة أو الجنس أو الأمة، سواء كان في مقال عام أو في جانب شخص خاص، حسب نوبار باشا أن في الكلام تهكما عليه واستهزاء به، ولا عجب من نوبار باشا إن ظن ما ظن أو فعل ما فعل؛ فالرجل ليس بمصري ولا عربي ولا مسلم، فإذا باع مصر بأبخس الأثمان فهو الرابح، لا خسر ملة ولا وطنا ولا جنسا.
وقيل: إن نوبار يطلب إبعاد الزبير باشا من مصر، فإن نال مطلبه لم يبعد أن يطلب لشريف باشا ورياض باشا وكل ذي شهامة أو فكر في مصر مثل ما طلب للزبير، وتكون الحكومة النوبرية حكومة هندية، وهل يبعد مثل هذا على من يسعى لخلع الخديو؟! إن الذي يؤيد ما روي لنا في سبب تعطيل الأهرام هو أن نوبار باشا ما تحرك لحجز العروة الوثقى عن دخول مصر إلا عندما ذكر فيها رياض باشا مع ذكر بعض أوصافه، وإلا فإن كان السبب ذكر الإسلام والمسلمين فيها فذلك ينذرنا بقفل الأزهر وبأمر نوبار باشا.
إني أتعجب وكل ذي إحساس يتعجب من سكان الديار المصرية من المصريين والأتراك والحجازيين واليمنيين، ألا يوجد من بين هؤلاء فتى يشمر عن ساعده ويتقدم بصدره ويخطو خطوة إلى هذا الوزير الأرمني، فيبطل هذه الصفقة وينقض هذه البيعة ويكشف له وللمغرورين من أمثاله حقيقة الوطنية، ويرفع الحجاب عن واجبات الملية؟! لا حول ولا قوة إلا بالله.
إن المولعين بحب الحياة يقضونها من خوف الذل في الذل، ويعيشون من خوف العبودية في العبودية، ويتجرعون مرارات سكرات الموت في كل لحظة خوفا من الموت، لا الدين يسوقهم إلى مرضاة الله، ولا الحمية الوطنية تدفعهم إلى ما به فخر بني الإنسان!
الفصل الثاني والتسعون
لاهور
جاءتنا رسالة من لاهور باللغة الهندية (ورجاؤنا أن تكون المكاتبة فيما بعد باللغة الفارسية) فرأينا أن ننشر ملخصها: قال الكاتب: «إنا نسمع صاحب جريدة «أخبار عامة» اللاهورية ينادي من صميم قلبه بأن الإنجليز سلاطيننا، خصوصا عند كلامه في الانتقاد على العروة الوثقى، ومن غريب كلامه قوله : إن غرض العروة أن تفصم رابطة الاتحاد بين الرعايا الهنديين وسلاطينهم الإنجليز ، ولا يخجل من قوله: إن سلاطيننا الإنجليز هم الذين زينوا الهند بإصلاح طرقه ومد السكك الحديدية في أنحائه ووصل أرجائه بأسلاك التلغراف. كأنما الإنجليز من سلالة بكر «ماجيت» أو من جنس «الجهتري» أو من أحفاد «أكبر شاه الهندي»!
وإذا سمع سامع صوت هذه الجريدة على بعد يظن أن هذه الأعمال التي زينوا بها الهند - على رأي الجريدة - ما قام بها الإنجليز إلا لمنفعة الهنديين، ويتوهم أن الهنديين جنوا من ثمرتها شيئا، وأن ضجرهم من سلطة الإنجليز ونزوعهم إلى التملص منها إنما هو من كفران النعمة.
يا عجبا من هذا البانديت اللاهوري! إنه يرى فقر أبناء وطنه ومسكنتهم ويشهد بعينه أنهم لا يجدون ما يسدون به رمقهم، وأن أسعد الناس منهم من يحصل عشر روبيات في الشهر بعد أن يبلغ درجة عالية من الكمال، ومن جملتهم نفس صاحب الجريدة، فكيف يطيل لسانه بشكر هذه الحكومة ويضع على ظهور الهنديين حملا ثقيلا من المنة لمد سكك الحديد وخطوط التلغراف؟! إن كانت حكومة الإنجليز تسوس الهند بالعدل، فأين ذهبت ثروة أهاليه مع خصب الأرض ووفرة الثمرات؟! ولأي سبب ابتلي الناس بالفقر حتى لا يجدوا قوتا؟!
إن الجرائد الإنجليزية في الهند تنذر حكومتها بأنه لو استمرت الإدارة الهندية على حالها هذا فلا يمضي عشر سنوات إلا وتكون فتنة عمومية تأخذ بجميع أطراف الهند ويكون منشؤها الجوع، فإذا أنشأت الحكومة الإنجليزية سكك الحديد لنقل بضائعها وترويج تجارتها وحمل العساكر لقتل أبناء البلاد، وليس عند الهنود الآن ما يباع ويشترى حتى يستفيدوا من سهولة نقله، فلأي شيء تكون المنة على الهنود؟! وإذا مدت خطوط التلغراف لاستطلاع ما يجري في ممالكها وتسهيل المخابرة بين رجالها، فأي منفعة في هذا توجب مسرة الهنود؟!
إن رجال الإنجليز بعدما دخلوا البلاد على هيئة تجار وكانوا يخضعون للصغير والكبير أزيد من قرن، بلغ من أمرهم الآن أن لا يعدوا الهنود من فصيلة البشر، إذا أراد الإنجليز أن يجمعوا أعيان البلاد لإلزامهم بأداء ضريبة جديدة هيئوا مكانا عليا يرتفع عن الأرض نحو ثلاث أذرع لتوضع عليه كراسي سادة الإنجليز، ويجلس الهنود في منخفض من الأرض إظهارا للامتياز، مع أنهم ما جمعوهم إلا لسلخ ما بقي من جلودهم وامتصاص ثملة دمائهم.
أي أمة متوحشة أو متمدنة تعامل أمة أخرى بهذه المعاملة؟! أحلف بالله أن جنس الهندو (قوم برهما) حينما قدموا من إيران وفتحوا الهند ما عاملوا السكنة القدماء بهذه المعاملة مع أنهم كانوا يعتقدون أنفسهم سماويين، وما أذلوا جنس «الباريا» بهذه الدرجة مع أنهم كانوا يزعمون أنهم أبناء الآلهة، قبلوا جنس «التلنكان» في مصافهم وأشركوه في حقوقهم مع كونه مغلوبا لهم.
فتح المسلمون أرض الهند فعاملوا الوثنيين كمعاملتهم لبني ملتهم وما حرموهم من الوظائف السامية، وما من سلطان مسلم تسلط في الهند إلا كان له من الوثنين عمال ووزراء، كان المسلمون يسيرون مع الوثنيين سيرة الإخوة حتى أوقع الإنجليز بينهم الشقاق في بنجاب وأطراف مدراس.
يزعم الإنجليز أن المسلمين أولو تعصب ديني يجور بهم عن العدل، مع أننا نرى إلى الآن في الهند حكومات صغيرة يحكمهم راجوات ونوابون من أهل السنة والشيعة ونرى للراجا الوثني وزيرا مسلما وعمالا مسلمين وللنواب المسلم وزيرا وثنيا وعمالا وثنيين، وهكذا السنيون مع الشيعة والشيعيون مع أهل السنة، ولا نرى في الملايين الكثيرة المحكومة بالإنجليز رجلا هنديا في وظيفة شريفة.
إن هذا البانديت (صاحب أخبار عام) لا يخجل من قوله: إن الإنجليز سلاطيننا، أي سلطان يستكشف من شرف رعيته ويعدهم في عداد البهائم؟!
إن اللورد ريبون لما صار حاكما على الهند ورأى أن روسيا وصلت إلى مرو وأحس بنفرة الهنود من الحكومة الإنجليزية واستعدادهم للثورة؛ أراد أن يطيب قلوبهم بأمر حقير يسخر منه الأبله - فضلا عن الحكيم - وهو توظيف «رام جندر متر» ومولوي محمود بن أحمد خان في وظيفة القضاء ببلدة صغيرة، وهما ممن تعلم الشريعة الإنجليزية في بلاد الإنجليز (انظر كيف يطيب قلب أمة عظيمة مجروحة الأفئدة ساقطة في جحيم الشقاء بمثل هذه النكتة المضحكة )، وهذا الالتفات من اللورد لكمال سياسته وحذقه، فماذا يكون موقع الهنود من نظره إذا كان يظن أن الأمم العظيمة المحترقة بنيران الظلم من أزمان تعترف بعدالة الإنجليز لمجرد توظيف شخصين وظيفة صغيرة؟!
إن هذا مما عده اللورد الإنجليزي أمرا لازما لصون سياسته مما عساه يطرأ عليها، ومع هذا قام الإنجليز في الهند ورفعوا شكواهم إلى لندن من تصرف اللورد، ولا يزالون يرفعون ويقولون: كيف يجلس «كالا» أي الهندي الأسود على منصة القضاء، وربما يأتي وقت تقام فيه الدعوى بين يديه على إنجليزي فيصدر الحكم منه عليه؟ (كيف يصدر الحكم من هندي على إنجليزي؟) فليعتبر من يعتبر.
إن الإنجليز لا تسمح نفوسهم أن يعترفوا بإنسانية الهندي ولو للضرورة، أيحب البانديت اللاهوري أن يلقي غشاوة الغش على عينيه وأعين إخوانه ويفتري الكذب بقوله: إن بين الهنديين وحكومتهم نوعا من الالتئام؟! وهل مثل هذه الحكومة يلتئم معها ذو إحساس؟!
إن البانديت يقول في جريدته وفي أثناء انتقاده على العروة: إن سلالة الأمراء وأبناء العائلة التيمورية (ملوك الهند) عراة في الأسواق، يتضورون جوعا ولا يجدون خصا يأوون إليه، فإذا كان هذا حال الأمراء - باعترافه - فكيف يكون حال سواهم؟ وكيف طوعت له نفسه أن ينطق بكلمة تشعر بالرضاء عن حكومة الإنجليز؟ إنه يتملق للحكام ولكن لا أظنه ينال على التملق أكثر من عشر روبيات في الشهر، فليس له أن يتعب لسانه ويجهد نفسه مجانا.
لا ينكر البانديت أن الإنجليز إذا خاطبوا هنديا لا يكلمونه إلا بالعصا، وإذا اعتدى إنجليزي على هندي فقتله حكم أطباء الإنجليز بأن القتيل مات بالسل المزمن أو داء الكبد أو بمرض عياء ورثه عن آبائه كي لا يقاص إنجليزي بدم هندي، فيذهب دم الهندي هدرا.
إن ظلم الإنجليز وجورهم يظهر لكل قارئ من تلك الورقة الصغيرة «أخبار عام»، وإني أقول بلسان كل هندي - وثنيا أو مسلما، سنيا أو شيعيا: إن البانديت لا يمكنه بورقته هذه أن يقطب جروح الهنديين ولا أن يطفئ لهيب أحشائهم مما يرونه كل يوم من سلب الأملاك وإهانة الأديان وتضييع الحقوق وحرمان الأهالي من خدمة أوطانهم، وليس في طاقة قلمه أن يرفع شيئا من الواقع ولا أن يحدث خاطر محبة الإنجليز في قلب هندي إلا من خربت ذمته ومرق من عهود دينه ووطنه، وإن البانديت يعرف هذا ولكنه يسعى لعله يحصل شيئا زهيدا ويقنع به بعضا منا، وكثير من الشرقيين صارت حوصلتهم كحوصلة العصفور يملؤها حبتان من الحنطة! وسنكتب إليكم عن تفصيل الأعمال الإنجليزية عندنا - إن شاء الله. ا.ه.»
الفصل الثالث والتسعون
الإنجليز والدول
ما للحكومة المصرية لاهية عن شأنها؟! ماذا تبتغي من سكونها وميلها مع ريح الحكومة الإنجليزية؟! ماذا تنتظر الدولة العثمانية بعد انحلال المؤتمر على غير طائل؟! أتظن الحكومة المصرية أن خضوعها لأوامر بريطانيا، واهتمامها بخدمة عساكرها الزاحفة إلى السودان؛ مما يوجب الخجل لحكومة الإنجليز، فتستحي بعد ذلك أن تكفر نعمة الصداقة وترعى سابقة الخدمة، فتترك مصر نقية الراحة، بريئة الذمة، وتمكن الأمر للحكومة المصرية، وتشيد الخديوية لتوفيق باشا؟! إن خطر هذا الوهم ببال الحكام في مصر فقد خرفوا، فليس يحوم مثل هذا الهاجس في فكر إلا وقد مسه الخبل، ولا يختلج في صدر حتى يختم عليه بطابع العمى.
حكومة بريطانيا انتحلت لنفسها أسبابا للدخول في وادي النيل، وأنشأت له عللا، فغايتها من كل أعمالها أن تكون لها سلطة ممتازة فيه سواء تأيد توفيق باشا أو تأوده، ولما أحس رجالها أن بحث المؤتمر ربما ينجر إلى ما يمس غايتهم هذه تملصوا منه واستبدوا بأعمالهم وأخذوا على أنفسهم تسكين عاصفة الثورة السودانية، فإن تم لهم ما أرادوا واستقلوا بالعمل في السودان فهل يرجى منهم أن يخلوا مصر بعدما فتحوا من ورائها ما فتحوا؟! إن هذا إلا خيال باطل.
هل تهورت إنجلترا، وأغاظت جميع الدول العظام، وهيأت لنفسها خطر تألبهم عليها حبا في توفيق باشا ورغبة في حفظ مسنده؟! هذا مما لا يعقل، ربما تكون الدولة العثمانية والحكومة المصرية في رجاء أن الدول الأوروبية يستفزها الغضب فتندفع بقواها على دولة الإنجليز فتكبلها في سياستها وتلجئها للجلاء عن مصر فتتركها لأهلها وكفى الله المؤمنين القتال، إن كان ذلك سبب الفتور فهو ثقة في غير محلها ونوع من الطمع غريب.
قد يكون اتفاق الدول على معاكسة الإنجليز متعلقا بجهات أخرى ولا يكون إخلاء مصر من مواضيع الاتفاق - كما أشار إليه كثير من الجرائد - حيث ذكرت أن من المقاصد التي يجتمع لها القياصرة الثلاث كف روسيا عن مطامعها في أوروبا وإطلاق العنان لها في آسيا والأقطار الهندية، أليس من الممكن أن مناوأة الدول للإنجليز تنتهي بسلب جزء أو أجزاء من أراضي المسلمين في مقابلة تمكن الإنجليز في أراضي مصر؟
نبهت بعض الجرائد المهمة على شيء من هذا، وصرحت بما لا ينطق اللسان بذكره. إن للدول اهتماما بنكاية الإنجليز، ومن أعظم البواعث على اجتماع القياصرة خروج إنجلترا عن حدها في الاستئثار بالمنفعة على غيرها، لكن أليس من الواجب على صاحب البيت أن يبدأ بعمل في الذود عن بيته قبل أن يساعده الجيران؟ خصوصا إن كان للجيران أطماع متنوعة بعضها يمنع عن المساعدة وبعضها يحمل على التواني وتأجيل العمل لأوقات أخرى.
وما يدرينا لو حولنا الأمر إلى الجار لينقذ المغصوب من يد الغاصب لعله بعد استخلاصه يختص به لنفسه، فما الذي جنيناه من ثمار مساعيه وأية فائدة حصلناها؟ لو شحت الحكومة المصرية بحياتها، وأبصرت أن بقاءها في إبائها، وترفعت عن هذا الخضوع البارد، وتجافت عن تسهيل الطرق وتمهيد السبل لمسير العساكر الإنجليزية، ثم قامت الدولة العثمانية على المطالبة بحقوقها، وذهبت في الطلب مذهب العمل، ولم تكتف بلوائح تسطر، وحجج تنشر، ولم تستند على سفرائها الذين ليس لهم خوض حقيقي إلا في ملاذهم وشهواتهم.
لو كان كل هذا لشاركت الدولة العثمانية ومعها حكومة مصر سائر الدول في معاكسة إنجلترا، وحيث إن للدولة العثمانية والحكومة المصرية الحق الأول والملكية الشرعية في تلك الأقطار فما يكون منهما من الأعمال يكسبهما تخليص البلاد فإن الدول تكون في عونهما ولا حق لواحدة منها فيما بعد أن تستأثر عليهما.
إن إقدام الدولة على العمل وعدول الحكومة المصرية عن مسلكها المضر بها مما يقرب المسافة ويقصر المدة ويقوي حجة الدول في مطاردة إنجلترا، لو تساهلت الدولة العثمانية واطمأنت الحكومة المصرية لحالتها الحاصرة، فبأي وجه تؤمل الحكومتان نفعا من مطاردة الدول؟! على فرض لو استخلصت مصر من أيدي الإنجليز ماذا يبعث الدول على مقارعة دولة عظيمة كدولة بريطانيا لتسلبها ملكا عظيما ثم تسلمه للدولة العثمانية أو الحكومة المصرية؟
لا نتحاشى أن نقول: إن الدولة العثمانية والحكومة المصرية واقعتان بين خطرين عظيمين: إن فاز الإنجليز في السودان فقد ضاع القطر المصري، واستقر فيه السلطان لحكومة إنجلترا، سواء عارضت الدول أم لم تعارض، وضياع القطر المصري هو ضياع الكل - كما أشرنا إليه مرارا وكما يشهد به موقع البلاد المصرية من سائر بلاد المسلمين - وإن خاب الإنجليز في منازلة الثائرين فليس يخفى على عقل عاقل ما يترتب على هذه الخيبة، وما ينشأ عن غلبة محمد أحمد وأتباعه وانهزام العساكر الإنجليزية، وربما كان هذا الأمر الثاني، سببا لمداخلات أجنبية في جميع أقطارنا.
ليس من الصعب على الدولة العثمانية ولا على الحكومة المصرية أن تظهرا شيئا من الشدة وتأخذا بجانب من القوة، وتقفا على قدم الثبات؛ ودولة إنجلترا في تخبط مع الدول وارتباط بالسودان، والمسلمون من جميع الأقطار في هياج شديد، لو قامتا بها يسهل عليهما لحفظ لهما الموجود ورد المفقود، وسدت أبواب المطامع، وأخذت الدولة العثمانية مكانا من القوة تخشع له قلوب الجبارين، ولازدادت بذلك ثقة المسلمين وانبعثت آمالهم.
سلكت جريدتنا مذهب الصدق في بيان حال الإنجليز مع الدولة العثمانية، وأثبتت - عن بصيرة وكمال خبرة - أن الإنجليز يهابون منافرة الدولة ويخشون سوء مغبتها. جريدتنا تنادي بذلك، من يوم صدورها بينا أن للدولة سلطة معنوية في الهند لم تبلغها حكومة الإنجليز بعد إفراغ جهدها.
هذه حقيقة الأمر، ومع ذلك لا ندري سر هذه السياسة اللينة التي لا نرى لها أثرا إلا في الأوراق وتحت أسنة الأقلام، والإنجليز يقاتلون ويتملكون وتزداد أقدامهم رسوخا يوما بعد يوم، وانطلق بهم الغي إلى أن أطالوا أيديهم إلى الأوقاف المصرية يطلبون التصرف في خزينتها والقيام على إدارتها.
نعيد الكلام مرة أخرى ونقول: إن جميع المسلمين في الأقطار الهندية وما يتاخمها؛ قائمون على قدم وساق متهيئون لمواثبة أعدائهم وسالبي حقوقهم، فبثبات ما من الدولة العثمانية يظهر له أثر عظيم يضطر الحكومة الإنجليزية إلى ترك مصر.
وليس للدولة أن تضيع هذه الفرصة؛ فقلما يأتي الزمان بمثلها. الدولة متألبة على الإنجليز، وروسيا مشرفة على الهند، والهنديون في هياج، وخطب السودان غير يسير، فإن لم تأخذ الدولة حقها من الإنجليز في هذا الوقت، فمتى؟!
الفصل الرابع والتسعون
تعظيم توفيق باشا لنورث بروك!
ورد خبر من القاهرة بوصول اللورد نورث بروك إليها، وتمت المقابلة الرسمية بينه وبين توفيق باشا، وقدم إليه رسالة من اللورد جرانفيل يخوله فيها «نورث بورك» وكيلا للحكومة الإنجليزية في القطر المصري، ويطلب من الحكومة المصرية أن تساعده في حل المشكلات الحالية خصوصا المالية، فأظهر توفيق باشا غاية المسرة من تعيينه بهذه الوظيفة، وأكد له خلوص الوداد وكمال الرضا بجميع مطالبه. ا.ه.
ويظهر أن توفيق سر بقدوم اللورد نورث بروك، وإن لم يكن بينه وبينه معرفة شخصية، ولا له سابقة علم بأحواله ولا بما يريد أن يعمله في بلاده، هذا يمكن، وليت شعري ماذا يجني هذا الخديو الشاب من مرضاة هذا الخادع؟! وماذا يصيبه من سهام حيله؟! ولقد بينا في الأعداد الماضية بعض صفات هذا اللورد وطرفا من أعماله في الهند، ونذكر الآن عملا آخر منها.
طلب وهو حكمدار الهند أن يمكن السلطة الإنجليزية في مملكة «كابورتال» وهي مملكة واسعة تتاخم «لاهور» و«بتيالة»، فادعى على مهراجها (ملكها) أنه مجنون وهو في رشاد عقله واعتدال مزاجه، وخلعه بهذه الدعوى وسجنه في «بكسو» حتى مات حتف أنفه وقيل: بالسم، وكان هذا الملك المخلوع ابن «راندهير سنك»، ونصب بدله ولدا صغيرا من أولاد كاتب من كتاب ذلك الملك، ليعد المملكة بذلك للدخول في حوزة الحكومة الإنجليزية، وكانت الحكومة الإنجليزية قد تركت لبعض الرجوات المخلوعين غابات صغيرة من بقايا أملاكهم للصيد، فكان لأولئك المساكين يسلون أنفسهم على ضياع ممالكهم بصرف بعض الزمان فيها، فلما جاء اللورد نورث بروك حاكما في الهند رآها كثيرا عليهم فنزعها من أيديهم وحرمهم من هذه المنفعة الزهيدة.
هذا هو اللورد الذي طلب سميع الله خان الدهري ليكون معينا له في مصر على إرضاء المصريين بحكومة الإنجليز، وهو الذي أعطى المبالغ الوافرة للمعلم «بالمر» لينثرها بين العرب حتى يثوروا في أراضي الدولة العثمانية أيام الحرب المصرية - كما أخبرنا الثقة الصادق من لندن - ولكن العرب قتلوا رسوله هذا وشنق به أشخاص من مصر بلا جرم، هذا اللورد هو الذي يبتهج توفيق باشا بقدومه! صان الله الأراضي المصرية المقدسة من شر هذا المحتال، ومن شر صاحبه سميع الله خان الدهري.
الفصل الخامس والتسعون
فرنسا وألمانيا
جزمت جريدة «نوفيل بريس ليبر» أن الباعث على سفر البارون كورسل (سفير فرنسا في برلين) إلى وارزين هو أهم حدث سياسي، وفي ظنها أن الحديث بينه وبين البرنس بسمارك انتقل إلى موضوع الحرب الصينية ومسألة الكونغو، قالت الجريدة: «إن بسمارك قد غير منهجه السياسي الذي سلكه من سنة 1870، كان مضطرا لإبعاد فرنسا عن سائر الدول، واليوم وجه عزيمته لإبعاد إنجلترا.»
ولما اجتمع الأباطرة الثلاثة في سنة 1872 اضطربت خواطر الفرنسيين وكان كل منهم يحدث نفسه: هل ينتظر اتفاق بين الأباطرة على مناوأة الجمهورية؟ أما إذا اجتمعوا في هذا العام فلا يخالط الريب قلب فرنساوي، بل تكون النفوس ساكنة مطمئنة، ولا يوجد في دولة أوروبية ما يوجب حدوث قلق في باريس بأي وجه كان، بل يوجد ما يثبت الطمأنينة، فإن من نية البرنس «بسمارك» في وارزين أن يقرب فرنسا إلى سائر الدول البرية، وإن زيارة البارون كورسل للبرنس تعد أكبر شاهد على ما نقول. ا.ه.
الفصل السادس والتسعون
كيد الإنجليز في مصر
أرسل الإنجليز مراكبهم إلى ثغر الإسكندرية سنة 1882 بلا سبب أو لقصد تهييج الخواطر الساكنة، ثم أطلقوا نيران مدافعهم على ذلك الثغر فكان عملهم الأول والثاني سببا في خسارات جسيمة نكب بها سكان البلاد، ثم كان الضمان عليهم هذا إما سوء حظ المصريين أو لضعف الحكومة أو خرقها .
لا ريب أن خزانة الحكومة المصرية في عجز عن أداء هذه الغرامة الثقيلة التي هي - في الحقيقة - قصاص بلا جناية، ولكن مع ذلك للمصابين حق في المطالبة بخسائرهم، وليس لهم صبر على الإهمال فيها، فحدثت ربكة، وحكومة الإنجليز كالصياد الماهر لا يطلب السمك إلا عند تعكير الماء! رأت أن تصيد صيدا أو تخطو خطوة أخرى إلى مقصدها في مصر بعد خطواتها السابقة أو تمكن مخالبها في أحشاء مصر، بل يصح أن نقول: إن الحكومة الإنجليزية بحيلتها التي أشرفت على تتميمها تريد أن تقبض على زمام البلاد المصرية فتكون بأسرها في تصرفها.
من المعلوم أن عمار المساجد والمدارس الدينية إنما هو بالأوقاف التي أنشأها صلحاء الملة من أزمان مديدة ولا يزال ينشئها المقتفون لآثارهم، وقيام الدين الإسلامي إنما هو بعمار المساجد والمدارس الدينية، فالأوقاف عماد عظيم يقوم عليه عرش الديانة الإسلامية، فقصد رجال الحكومة الإنجليزية بكيدهم أن يجعلوا العلماء الذين يعمرون مساجد الله ومعاهد العلوم الشرعية خاضعين لأحكامهم، مرتبطين بعمالهم حتى يستعملوهم، (وإن طلبوا محالا) في جلب قلوب الأهالي إليهم وتأليفها على ولائهم، وربما نالوا بهم حجة عند دول أوروبا، يثبتون بها رغبة المصريين في بقائهم تحت سلطة الحكومة الإنجليزية واطمئنانهم إلى ما تقضي به فيهم.
هكذا رأى اللورد نورث بروك أن يحل مسألة التعويضات بأن تدفع الحكومة الإنجليزية قرضا للخزينة المصرية تؤدي به تعويضات الخسائر التي حدثت من ضرب الإسكندرية، على شرط أن تكون الأوقاف العمومية كافلة للقرض وفوائده وتكون إدارة الأوقاف في تصرف الإنجليز.
ألا أيها النائمون تيقظوا، ألا أيها الغافلون تنبهوا، يا أهل الشرف والناموس، ويا أرباب المروءة والنخوة، ويا أولي الغيرة الدينية والحمية الإسلامية، ارفعوا رءوسكم، تروا بلاء منصبا على أوطانكم، وما أنتم ببعيد منه، ولا بمعزل عنه، إن لم يكن أصابكم اليوم، فسيصيبكم غدا، تساهلتم في الذود عن حقوقكم المقدسة، ولهوتم عن ما أضمرت لكم هذه الحكومة من الإهانة والتذليل وسوم الخسف، وتعللتم بالأوهام ، فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور، أصبحتم على شفا جرف المذلة، ويخشى أن يقذف بكم - بعد قليل - في جحيم العبودية.
إلا أن وقت التدارك ما فات، فالأرواح في الأجساد، والعقول في الرءوس، والهمم في النفوس، وإقدام العدو في زلل، وشئونه في خلل، فاثبتوا ولا تهنوا، ولا تحزنوا وأنتم الأعلون، إن كنتم مؤمنين، لا ترضوا بالدنية، خوفا من المنية، واعلموا أن ثباتا قليلا وإقداما خفيفا في هذا الوقت يفعل ما لا يفعله الجيش العرمرم.
نعم؛ فإن الدول متفقة على معاكسة الإنجليز، والإنجليز في شغل شاغل بالمسألة السودانية، وقلوب رعاياهم في الشرق - خصوصا المسلمين - منحرفة عنهم، وكوامن الأحقاد متهيئة للوثبة عليهم، فعمل صغير في مناوأتهم من أهل مصر يوجب - بعون الله - سقوطهم وتنكيس أعلامهم، ورجوعهم بالخيبة خاسرين.
فالثبات الثبات! وحذار حذار من التواني والتقاعد! هذا وقت يقرب فيه المؤمنين إلى ربهم بأفضل عمل شرعي، هذا وقت تنال فيه سعادة الدارين، للعامل فيه خير الدنيا وله في الآخرة الحسنى وزيادة، هذا وقت تظهر فيه ثقة المؤمن بوعد ربه، هذا وقت يشكر فيه العامل على بسيط الأرض، ويحمد له عمله فوق سبع سموات.
ألا إن الشيطان يخوف أولياءه، فلا تخافوا أعداءكم ولا تكونوا كالذين استحبوا الدنيا على الآخرة، إن الله تعالى قد جعل من علامات الإيمان حب الموت اختيارا لرضاه وإعلاء لكلمته، كونوا مع الله في نصره ينصركم ويثبت أقدامكم، ثقوا بوعد الله؛ فلن يخلف الله وعده، إن أخلصتم له في العمل سلوا قلوبكم، وامتحنوا إيمانكم، ولا ترتابوا في وعود ربكم، فلن يرتاب فيها إلا القوم الكافرون.
الفصل السابع والتسعون
الصراع بين إنجلترا وفرنسا
أظهرت جريدة إستندارد عند كلامها على السياسة الفرنسية حدة زائدة، وقالت: إنا وإن كنا لا ننصح حكومتنا (الإنجليزية) بمعاداة دولة فرنسا؛ ولكن علينا أن ننهج الطريق الذي يوافقنا بدون أن ننتظر فضلا من الأمة الفرنسية ولا أن نخشى غائلتها؛ فإن كل عمل لا يبنى على هذا الأساس لا تكون غايته إلا الخيبة، ولا عاقبة له إلا الخسارة، وإن تباين المصالح بين فرنسا وإنجلترا في درجة لا يمكن معها وفاق بين الدولتين. ا.ه.
ولم تنفرد جريدة إستندارد بهذا القول، ولكن على شاكلتها جميع الجرائد الإنجليزية المهمة، وليست جرائد فرنسا بأقل حدة من جرائد إنجلترا في تسوئة السياسة الإنجليزية، وهذا مما يرشد إلى تمكن النفرة بين الدولتين، وربما ذهب بهما التباغض الذي يزداد يوما بعد يوم إلى مقارعة أشد من مقارعة الكلام.
والسياسيون في إنجلترا يرون أنهم يخسرون في ذلك اليوم أكثر مما تخسر حكومة فرنسا؛ فإن انفرادهم عن الدول وضعفهم في القوى العسكرية، وجفول أمتهم من الحرب خارج بلادهم، إذا امتد زمنها أو كان المنازل فيها أمة قوية حربية؛ كل هذا سيوقعهم في فشل لا يسهل عليهم النجاة من عواقبه - نسأل الله تحقيق ما يخافون.
الفصل الثامن والتسعون
نكاية الإنجليز
حركات العقلاء على حسب المقاصد ومقدرة نقدرها وأولاها بالاعتبار ما يصدر عن كبار الرجال الذين يدبرون شئون الممالك على قواعد العقل وأصول الفكر، وعلى رعاة الأمم في كل دولة أن يكونوا بمرصد لكل حركة سياسية وبمرقب للنظر في غايتها والبحث عما بعث عليها، رب نهضة من سياسي عظيم تميد لها الراسيات في كل دولة وتضطرب لها الروابط العامة بين أمة وأمة.
فليس لمحنك في السياسة أن يقصر نظره على ما عنده ويرد كل حادث سياسي إلى ما رسم في مخيلته واعتقده موافقا لمصلحته، فيضل عن الرشد بالقصور ويغيب عن الصواب بالغرور، بل عليه أن يطالع مقاصد السياسيين في لوح الإمكان، ويتلوها في صفحات المنافع والمضار التي يحمل على جلبها أو يدعو إلى دفعها طبائع الأمم، ولوازم مليتهم، ومواقع بلدانهم، وعلائقهم مع سواهم، حتى يمكنه أن يكون بين هذه الجواذب والدوافع حافظا لمداره، واقيا لنظام سيره، يكون على غوارب أمواج الحوادث كالملاح الماهر، يضرب بسفينته عروض البحار، في أمن من الأخطار، يستفيد حتى من العواصف، وينجو حتى من القواصف.
كانت حكومة فرنسا أشد الدول في دفع إنجلترا عن مطالبها المالية، وبهذه الشدة سقط المؤتمر ، بعد هذا بذل البرنس بسمارك جهده في اجتماع القياصرة الثلاثة فاجتمعوا في «إسكيارنيافيس»، ثلاثة ملوك عظام تلاقوا بعد طول المخابرة ومعهم وزراؤهم، ورجال تميزوا بين السياسيين بعلو الرأي وبعد الغاية.
هل كان هذا التلاقي لإطفاء لوعة الشوق وإجابة داعي المحبة الشخصية؟! هل كان كما ذكرته الصحف للتداول في الوسائل التي يجب استكمالها لقهر الفوضويين؟! كيف يكون هذا وليس أعوان الفوضى إلا كلصوص تقمعهم السطوة الداخلية ويكفي لسد أبواب الفرار في وجوههم مخابرات خفيفة بين أولئك الملوك، كما هو الشأن في أمثالها من المسائل الجزئية. إن ما تقوله الجرائد من هذا القبيل إنما يقصد به التعمية وصرف الأذهان عن النظر في الحقيقة - أي غرض عظيم دعاهم للاجتماع؟! - لم يجتمعوا لنفع دولة واحدة، فإن حكم المنافسة محا فضيلة الإيثار.
قد انضم لهذا الاجتماع تعدد الملاقاة بين البرنس بسمارك بهذا الاتفاق الإمبراطوري أن يجعل لفرنسا ركنا شديدا في معارضة إنجلترا حتى يستحكم الشقاق ويفضي إلى حرب توهي القوة الفرنسية ويصيب منها ما يحب، هذه فائدة خاصة بدولة الألمان لو قدرت على نيلها، فماذا ينال الدولتين المنافستين لها من الاتفاق معها؟ أويريد البرنس مجرد المجاملة لفرنسا وتقطيب جراحها بتأييدها في رغباتها فتكون المصفاة بينها وبين ألمانيا وتنسي الأحقاد بينهما؟
غاية لا تطلب والشأن فيها كسابقتها، يقصد البرنس مجرد الانتقام من وزارة بريطانيا تشفيا من غيظ الإهانة التي لحقته في المؤتمر. إن كان هذا، ما بال الدول تتفق معه على انتقام شخصي لا يمس المصلحة المشتركة، هل هذه الحركة الشديدة موجهة إلى ما يقصده بسمارك من التملك والفتوح في الشرق وإلى هذا القصد تنتهي؟! أيصح أن يكون ذلك الأمر الكبير وسيلة لهذا الغرض الحقير، على أن إنجلترا كانت أقرب إلى ألمانيا في هذه الوجهة، وأجدر بأن يميل إليها البرنس ويتحالف معها لنيل هذه البغية؟!
هل أراد البرنس أن يحتل روسيا ويلهي فرنسا بالمسألة المصرية لتنام الأعين عن دولة النمسا، فتتقدم من طرف هرسك وبوسنة إلى ما شاء الله ووسعت القوة، في غير موضع وصنيعة في محل القطيعة؟ هل أحب البرنس أن يمتع نظره بشهود الفتوحات، فبعدما فتح للنمسا بابا في الشرق من جهة هرسك رسم لروسيا طريق هراة وقندهار، ومد لفرنسا خطا في حدود تونس، وهو قرير العين بما يرى ويسمع من توسع هذه الدول في فتوحاتها، وإن لم تعد من ذلك فائدة على الأمة الألمانية؟ شيء لا يأتي عليه الفكر ولا يصيبه النظر.
هذا ولا يصح لنا أن نقول: إن الحلف العظيم بين القياصرة واهتمامهم بتأكيد الروابط بينهم لمجرد كف يد الإنجليز عن مصر، وإبقاء فائدة الدين ومبلغ الاستهلاك على ما كانا عليه، وحفظ قانون المالية المصرية، كما ظن مراسل «التان البرليني»، قال: إن في عزم البرنس بسمارك تأييد الحجة الفرنسية بثبات شديد وإرادة صحيحة، وسيكون مع فرنسا يدا واحدة في إبقاء الحالة المالية في مصر على ما كانت عليه، وفي زعم المراسل أن هذا كان باعثا لسياسيي إنجلترا على بذل الجهد لحل عقدة الاتفاق بين ألمانيا والنمسا وفرنسا؛ فإن المسألة المصرية بمجردها ليست مما يدعو إلى حملة عمومية.
إني أرى تحت هذا النفع جحافل أهوال، ووراء هذا الغيم وابلات أرزاء، أرى تنقلا قريبا في حدود الجغرافيا في السياسية، وتغييرا عظيما في الخطط الدولية، وانقلابا في هيئة الروابط العمومية، نعم، قد يكون من المبادئ الأولية لهذا العمل أن يتفق البرنس بسمارك مع فرنسا؛ فإنه لم يجد خيرا في مناوأتها زمنا طويلا، وكلما رام الوضع منها زادت علوا وارتفاعا فيريد أن يجرب صداقتها كما جرب عداوتها، وأن يدفع البرنس دولة روسيا إلى آسيا، فهو أسلم للدولتين الألمانيتين.
ثم يبعث النمسا على التقدم خطوات حيث تولي وجهها وفيما تخلفه وراءها فائدة البرنس المالية - أرسل البرنس ولده الكونت هيربرت بسمارك سفيرا في لندن ليكون حفيظا لسره أمينا على عمله، حتى إذا ما فاته ما يرجو من العزيمة الأولى، لم يخجل من الانقلاب عنها إلى الأخرى، وربما يرى الارتباك الذي يؤدي به إلى ما يريد إنما يكون بعقد مؤتمر جديد باسم المسألة المصرية، ويقال: إنه سيثبت على شدته في هذه المسألة إلى حد، كما روته الجرائد المهمة - وقضت الحوادث أن تكون الدولة العثمانية والحكومة المصرية التي هي جزء من أجزاء الدولة في مهب رياح مختلفة، فعليها التيقظ التام، والاحتراس الشديد؛ كي لا تكون خسارتهما في استفادة غيرهما.
إذا قامت الدولة بعمل كما يليق بها حفظت حقوقها وصانت بقية ممالكها، الحكيم اليقظ يستفيد من كل حادثة وإلا خرق الغافل عرضة لكل خطر، الدولة تطلب نكاية الإنجليز من كل وجه، فما الذي يمنع الدولة العثمانية من مجاراة الدول العظام وهي أقدرهن على الإضرار بهم فإنهم في بلادها، يعبثون فيها مفسدين، وسكان البلاد لا ينتظرون إلا خطوة من دولتهم إليهم فيقيمون القيامة عليهم.
الفصل التاسع والتسعون
أسف
أنبأت الأخبار الأخيرة بحدوث ثورة في دارسين من بلاد أرمنستان؛ قصد الإخلال بالسلطة العثمانية في تلك الأقطار، ومهب ريح هذه الثورة من جمعية الأرامنة في تفليس، والأسلحة والذخائر تنهال على الثائرين من تلك الجمعية، هذه هي الأمم الخاملة التي لم يكن لها في الكون مكان، ولا على صفحة الوجود أثر، ولا في صفوف الأمم العظام قدم، أصبحت تطلب اسما رسميا وشأنا عليا، تنفق أموالا، وتبذل أرواحا، ولا تبالي بأغوال المنايا، فما بال المسلمين في بعض الأقطار وقد كانوا هامة العالم، نراهم اليوم في قنوط ويأس، تتخطف الدول الأجنبية ممالكهم، وهم في سكون يكتفون بأسف العجائز، وتحسر الزمنى، مع أن لهم دولا عظاما، وعددهم يتجاوز مائتي مليون من النفوس، إن هذا لشيء عجيب حقا!
الفصل المائة
إسماعيل باشا يحن إلى مصر!
عظم على الخديو السابق أمر ما نزل بمصر، وعز عليه اشتداد الأزمة في داخليتها، وعسر ماليتها، واكتنافها بالفتن الخارجية، وارتباكها في المشكلات السياسية، فحن إليها (وله أن يحن)، وأراد أن لا يدع للإنجليز موضعا للتعلل (في تأمين الدين وأطفأ الثورة) فأظهر من سريرته ما ذكرته جريدة «الروبيبليك فرانسز» وهو: أن يتبرع بالتزام أداء ما يطلبه حاملو الأوراق المصرية مع استعداده لأن يقود جيشا لمغالبة محمد أحمد!
ورأينا في جريدة الماتان: أن مسيو كورسيل سفير فرنسا في برلين أخبر حكومته بوجه رسمي أن القياصرة الثلاثة استقر عزمهم أن يبعثوا إلى الخديو «توفيق باشا» بلائحة مقتضاها أن منصبه سيكون في خطر إذا استمر زمنا طويلا على الركون لإنجلترا في الدسائس المالية بالقطر المصري، وأن السعي في عودة إسماعيل باشا إلى مصر سيكون مؤيدا من وزارات برلين وستراسبورج وفيينا وباريس، وأن مسيو هربرت بسمارك يأخذ على نفسه أن يشهر الدوائر السياسية بلندن ما يترتب على عودة الخديو السابق من الفوائد؛ حيث يعلن رسميا أن عودة إسماعيل باشا هي أفضل في نظر الدول من الأعمال التي تصدر من إنجلترا متعلقة بمصالح أوروبا ومنافعها في البلاد المصرية. ا.ه.
إنا نعلم أن إسماعيل باشا لو رجع إلى مصر لا يكتفي بتخفيض سلطة الإنجليز في وادي النيل، بل يبذل جهده في محو النفوذ الإنجليزي بالمرة، وربما مد حباله إلى سائر البلاد الشرقية الداخلة في سلطة الإنجليز؛ ليحبط أعمالهم فيها، ويهدم أركان سلطتهم عليها؛ لأنه يعلم أن الدولة الإنجليزية هي السبب في كل مصاب نزل به، وكأن الإنجليز أحسوا بذلك منه على ما روته بعض الجرائد، فدفعوه عن نيل مقصده ولا يزالون يدفعونه، لكن لو اتفقت بقية الدول مع الدولة العثمانية على إرجاعه لم يبعد وقوعه، غير أن إحدى الجرائد ذكرت مانعا قويا وعائقا شديدا يحول دون نجاح هذا المقصد، وهو امتناع الذات الشاهانية عن إصدار الفرمان لإسماعيل باشا بخديوية مصر، أيا كانت الحال.
واستعظام هذا المانع مبني على ما تراءى للسلطان من أن إسماعيل باشا وهو في أوروبا أعزل فاقد السطوة لا حول له ولا قوة؛ كان مهتما للتشويش على الخلافات العثمانية ومعارضة الذات الشاهانية، وأن الرسائل الكثيرة والمقالات المتعددة المطبوعة بالألسن المختلفة المشحونة بما يمس الخلافة، وقد وصل إلى علم السلطان أن الحامل على تحريرها هو إسماعيل باشا، فهذا الظن هو الذي يمنع السلطان من تسهيل الطريق لعودته لحسبانه أنه لو صار له نفوذ وسلطة في مصر فربما صدرت عنه أعمال لا توافق مصلحة الدولة.
فعلى رأي صاحب الجريدة إن عود إسماعيل باشا إلى مصر بعد اليأس من إنجلترا لا يكون إلا بإصلاح الصلة مع السلطان واستمالة سائر الدول، هل يمكن هذا؟ ربما يمكن إذا وثق السلطان بما يطمئن به ووضح للدول ما يصح الركون إليه، هذا إذا لم تراع الدول ولا الدولة العثمانية حركة الأفكار العمومية في مصر، فإن جعلت هذا أساس العمل زادت المسألة صعوبة؛ فإن الرأي العام في هذه الأيام مختلف بالديار المصرية، فمن الناس من سبقه ميله لتوفيق باشا، ومنهم من قام يدعو إلى حليم باشا ويطلب من الناس أن يوقعوا على محضر بطلبه كما جاءنا به خبر الثقة، ومنهم من هو ممسك عن الرأي صامت عن القول. وسنأتي على بيان هذه المسألة فيما بعد، إذا دعت الحوادث حقيقة للكلام فيها.
الفصل الحادي والمائة
الفرصة
إذا تليت سطور الحوادث الأخيرة وأعطيت حقها من الاعتبار، ولوحظ ما وصلت إليه هيئة السياسة في أوروبا لهذا العهد القريب، وما يشف عنه اجتماع القياصرة الثلاثة، وما يرشد إليه تداول الزيارات بين البارون دي كورسيل سفير فرنسا في برلين، وبين البرنس بسمارك، ولو تبصر متأمل فيما يتبع ذلك؛ لصح له الحكم بخطر هذه الحالة في مصر على إنجلترا، وأنه لم يبق لتخليصها من يديها إلا شيء واحد هو قيام العثمانيين على حقوقهم واشتدادهم في طلبها وعدم اطمئنانهم لأعمال وكلاء الإنجليز في الأستانة، خصوصا في هذا الوقت الذي همت فيه الدول بتخفيض السلطة الإنجليزية ونزع مصر من يد إنجلترا، ويرى السياسيون أنه لا شيء أشد تأثيرا وأجمل عائدة في تلطيف المسألة المصرية من مداخلة الدولة العثمانية.
وأخبر مراسل صحيفة التان في فيينا بناء على ما وصل إليه من مصدر موثوق به أن دولة ألمانيا والنمسا وروسيا من رأيهم أن تداخل الدولة العثمانية وتجديد سلطة السلطان في وادي النيل؛ يوجب تعديل الحالة السياسية، وليس الغرض من هذا إلا كف أيدي الإنجليز عن تلك الأقطار، فليس من الرأي أن تصغي الدولة العثمانية لنصائح إنجلترا ووكلائها وهي ترى أن جرائد الإنجليز تنادي بلسان الأمة الإنجليزية على حكومة بريطانيا طالبة منها إعلان الحماية على مصر، بل والتمكين في الخرطوم بعد رفع الحصار عنها، وتنصحها بمد سكة الحديد من سواكن إلى مدينة الخرطوم، فلو تساهلت الدولة في هذا فقد فرطت في جزء عظيم من ممالكها، وأضاعت حقا ثابتا، وأي دولة سواها تهتم بإخراج الإنجليز من مصر، فهي صاحبة الحق فيها، فلا يكون للدولة نصيب من ملكها إذا أضاعته بالتفريط.
اللورد نورث بروك وزبانيته يسعون لجلب قلوب الأهالي بتزيين الأماني وتخييل الآمال.
يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (النساء: 120)، ليتخذوا من ميل المصريين حجة يجادلون بها الدول ويثبتون لأنفسهم حقا قانونيا في الإقامة بمصر، ثم من جهة أخرى يحشدون قوة عظيمة إلى مصر؛ استعدادا لتلقي الحوادث المنتظرة لكن تحت اسم إنقاذ جوردون، فلو وجد الإنجليز برهانا من الحيلة ومنعة بالقوة وحملهم الغرور والكبرياء على مشاورة الدول اعتمادا على عدم الاتصال في البر وتمكنهم من المراكز الحربية في البحر كمالطة وقبرص، وأن تحارب الدولة العثمانية؛ فهم أقدر الناس على محاربتها من جهة العريش وفي عموم السواحل، فماذا تكون العاقبة؟ هل تكظم الدول غيها وتترك الإنجليز وشأنهم؟ لا نظن ذلك، ولكن إذا حالت الموانع دون نكاية الإنجليز في مصر عمدت الدول إلى نكايتهم بالحصول على غنيمة تعادل مصر ولا تكون إلا في بلاد المسلمين، فتساهل أصحاب الحق الشرعي في وادي النيل يضيع لهم حقوقا أخرى في غيره.
إن الدولة العثمانية أولى من سائر الدول بالعمل في المسألة المصرية وأجدرهم بالاهتمام بها، ومن الواجب أن تكون أشد حرصا على الظفر بالإنجليز فيها، إن الدولة في مقام المدافع عن حياته، وهو بحكم الطبع أقوى باعثا وأدنى للعمل من طالب الفائدة، إن شرا يقع أولى بالتلافي من شر يتوقع، وإن خطرا عاجلا أحرى بالالتفات من وهم باطل.
نفوس المصريين في هياج، فإن ما أفسد قلوبهم على الإنجليز من سوء التصرف في الحكومة واستلام إدارتها وإبطال الحقوق الوطنية وحشد الجيوش إلى البلاد لقصد التمكن فيها؛ كل هذه سهام خرقت شغاف القلوب، وزاد الجراح نغرا ما اعترفت به جريدة التايمس من اشتداد الارتباك وتعطل أسباب المعيشة، ووقوف دولاب التجارة، وإشراف العائلات الكبيرة على الافتضاح، خصوصا الذين كانوا في خدمة أوطانهم وحرموا منها، فلو أحس المصريون وهم في هذه الحالة بحركة خفيفة من دولتهم (العثمانية) لكفوها شر الإنجليز، وقليل من العمل فيه الكفاية.
واليوم يتوجه الإنجليز إلى السودان، فلو لمحوا ثباتا من العثمانيين لوقفوا وقفة الحائر، بل سقطوا فيما لا منجى لهم منه، إن الخطر كل الخطر في سكوت العثمانيين عن طلب حقوقهم، وليس من الرأي أن يخاطروا بأنفسهم ثقة بمواعيد الإنجليز، وفي علمهم أن لا وفاء لها، فهذا هو الوقت الذي يتمكنون فيه من إعادة سلطتهم على القطر المصري إلى أعالي السودان، وفي ذلك صيانة ممالكهم من العدوان ولا يرضي بفوات هذه الفرصة إلا من أسلم نفسه للموت وألقى بها إلى التهلكة، هذا ما يثبته العيان ولا يختلف عليه اثنان، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وما أنا عليكم بوكيل.
الفصل الثاني والمائة
جلادستون
قامت الدول الأوروبية كافة على المطالبة بحقوقها وإعنات الإنجليز في مصر، خصوصا دولتي فرنسا وألمانيا، وجميعهم يطالبون إنجلترا بإنجاز وعودها، ويقيمون الحجة عليها في أعمالها على كيفيات مختلفة ومن وجوه متعددة.
ومحمد أحمد وأتباعه قد فرغوا من أعمالهم الزراعية وأحرزوا غلتهم وهيئوا مؤنهم وجندوا الجنود الكثيفة وقصدوا أطراف دوصد وبربر، وفي الأخبار الأخيرة أنهم سيروا جيشين على طريقين أحدهما يزحف من الصحراء والآخر على خط النيل، والقلق والاضطراب وضيق الحال واختلال الأمن يزداد في مصر كل يوم حتى صار يخشى من فتنة عامة، خصوصا بعدما أحس الناس بسوء نية الإنجليز.
ويمد هذه الأفكار ما فشى بين العساكر والعامة من أن السلطان غير راض عن أعمال الإنجليز في مصر ولا هو مرتاح لزحفهم على السودان، وبوده لو يصادفون مقاومة لا يخطون بها خطوة، ونزول ماء النيل وفقدان وسائل النقل ووعر الطريق وبعد المسافة، كل هذا أطفأ تلك الحرارة التي كانت تطير بالعساكر الإنجليزية إلى الخرطوم بأسرع من حركة البخار لإنقاذ جوردون - كما يزعمون - أو تملك الخرطوم - كما هو حقيقة القصد .
وانقلاب قلوب الهنديين على حكامهم الإنجليز وظهور تلك الضغائن مع العجز عن سترها، خصوصا من النوابين والرجوات الذي يتوجسون الشر من وثبات الحكومة الإنجليزية عليهم، وهم الآن في ضجر شديد من تضييقها وتشديدها في مراقبة أعمالهم وهم على صورة الاستقلال، حتى إن بعضا منهم ومن أعيان الأهالي الهنديين بعثوا بأناس إلى سرخس ومرو وآشقاباد - على ما بلغنا - ليعرضوا إخلاصهم ويتبينوا يوم خلاصهم، ذلك كله أحدث قلقا واضطرابا في أفكار سياسيي الإنجليز وتخبطا في سيرهم.
فمن جهة يريدون ستر خجلهم من الأعمال المصرية مع قضاء بعض أوطارهم فيطلبون إلى الدول تشكيل مراقبة عمومية وترك مصر وشأنها، مع بقاء شرذمة من عساكرهم في وادي حلفا لصيانة الحدود المصرية بعد طرد الجند الوطني (كما صانوا سائر الممالك الهندية بأمثال هذه الشرذمات!) ويتوهمون أنهم يلهون الدول بهذه الأضحوكة، ومن جهة أخرى يبتغون إقناع أنفسهم وإقناع الأمة الإنجليزية بأوهام خيالية وترهات صبيانية يجعلونها أساسا لسياستهم في الممالك الهندية، من ذلك ما اعتمده اللورد دوفرين (ذلك السياسي المشهور الذي أفسد شئون مصر) قاعدة متينة لصون الممالك الهندية، بعد أن عين حكمدارا عليها، قال في مقال ألقاه في «بال فاست»: إنه يعد نفسه سعيدا بمعرفته الخصوصية لمسيو جيرس وزير خارجية روسيا، ثم أثنى عليه بحدة تنبئ عن الإخلاص، وقال: إني أرى لمسيو جيرس رغبة صادقة في حصول المصافات بين روسيا والإنجليز ورفع الشقاق بينهما، وبالغ في القول حتى قالت جريدة «الميموريال دبلوماتيك» بعد ذكر تهنئة روسيا للورد دوفرين على الوظيفة الجديدة: «إن اللورد مكلف بعقد وفاق تعين به مهلة لتلاطم الدولتين المتنازعتين في آسيا الوسطى بعد تحديد تخوم أفغانستان من طرف الشمال، هذا ما اندفع إليه جناب اللورد بقوة الاضطراب وشدة الشغف بتسكين خواطر الشعب الإنجليزي، وتغرير العقول في الهند، وإرضاء القلوب عن سياسة الحكومة وربما إرضاء نفسه أيضا.»
والقارئ يعلم من هذه الحالة مقدار العجز الملم بسياسيي بريطانيا؛ حيث طفقوا يجعلون من مباني سياستهم في الشرق معرفة شخصية بين حاكمهم في الهند وبين وزير روسيا الذي لم يخط خطوة في الشرق إلا وغايتها الهند، ولم تتقدم قدما إليه إلا بعد عهد ينكث وميثاق ينقض، فإن حلف وزير روسيا للورد هذه المرة لا يختلف هذا اليمين عن اليمين السابقة، على أن المحبة الشخصية لا قيمة لها في السياسات الكلية، وما سرور الإنجليز بها إلا من آثار الذهول وسر سأم العقول.
وأعجب من هذا أن جلادستون يرفع صوته بين شعبه بقوله: إن من ضعف العقل أن يظن الوهن في إمبراطورية الإنجليز أو يترقب بها الضعف في المستقبل، وإن بسطة الدول مما يوجب بسطة إنجلترا، عجبا! فإذا انبسطت روسيا إلى الهند فإلى أين تنبسط إنجلترا؟ أظنها تنقبض، لا تنبسط، ويقول: إن يوما تشعرون فيه بالخوف لبعيد وليس بقريب، سبحان الله! روسيا وضعت يدها على باب الهند «سرخس» وشهرتها عمت أنحاءه، وقلوب أهاليه ميالة إليها، وهي لا تهاب الإنجليز ولا تتوانى في سيرها، فأي يوم يشعر فيه بالخوف بعد يومه هذا؟! كأن الوزير لا يحس الخطر حتى تحل روسيا في بنجاب أو تصل إلى نهر السند.
لا جرم أن الارتباك يضل بالإنسان عن رشده، ومن المضحكات ما ذهبت إليه جريدة البال مال جازيت من أن هذا الكلام من جلادستون يدل على ثقة جديدة منه بالدول بعد مفاوضات حل بها المشكلات، وأن من له أدنى إلمام بحال الإنجليز في ممالك الهند وضعف عسكريتهم، وتوزع أساطيلهم لحفظ سائر أملاكهم ونفرة الرعايا الشرقيين منهم، مع تألب الدول عليهم وتقدم روسيا إلى الهند يوما بعد يوم؛ يحكم بأن قد حل أجلهم وقرب يوم يهدم فيه سلطانهم ويتقلص ظل سلطتهم في المشرق، ويهزأ يما يقول جلادستون: «إن إمبراطورية إنجلترا تزداد قدرتها بتجدد الأيام»، ومن رأي العقلاء أنه لو تقدم محمد أحمد وساعده أهل الشهامة من الصعيد والشرقية والبحيرة في مصر، وخاب أمل الإنجليز في حملتهم، وقامت الفتنة في الهند، وتقدمت روسيا وخلصت النفوس من رق العبودية، وقضي الأمر وقيل بعدا للقوم الظالمين.
الفصل الثالث والمائة
عماء بعض الناس في مصر أو تعاميهم عن مقاصد الإنجليز فيها
تسعى حكومة بريطانيا بكل ما في وسعها لوقف دفع الاستهلاك وتنقيص فائدة الدين المصري، ويعترضها في ذلك سائر الدول الأوروبية العظيمة، هل الدولة الإنجليزية أشد الدول رحمة على العالمين عموما وعلى المصريين خصوصا، فدعتها الرحمة للقيام على هذا العمل قصدا لراحة المصريين وتخفيفا لثقل الدين على الخزينة المصرية، وتوصلا لرفاهة الأهالي وتوسيع دائرة ثروتهم؟
أو أن الدولة لم تبالغ في الشفقة وهي على حد الاعتدال في الحكم، ولكن الدول تجاوزوا القسط في القسوة خشونة وغشمرة أو لعداوة خصوصية بينهم وبين المصريين، لهذا لا يريدون تخفيف شيء من أثقالهم؟! أو أنها اطلعت على أحوال المصريين وكشف حقيقة ما هم عليه وعلمت عجزهم عن الوفاء مما عليهم وخفيت هذه الحقيقة على سائر الدول، فرأت حكومة بريطانيا أن تخبر الدول بما وقفت عليه قياما بخدمة الصدق، وإنما يعارضها من سواها؛ جهلا بواقع الأمر؟! لا ... لا ... ليس شيء من ذلك.
من ساح في المستعمرات الإنجليزية كالبلاد الهندية ونحوها؛ تبين له أن الأهالي في تلك الممالك حملوا من أثقال الضرائب وأوقار الرسوم الدائمة والمؤقتة ما لا يعرف له غاية ولا يؤخذ فيه بقياس، حتى سقطوا في مهواة من الفقر لا يجدون منها خلاصا، ويوجد ملايين من أهل الهند يقتاتون بالأعشاب البرية؛ لفقدان أقوات البشر مع خصوبة أراضيهم وجودة منابتهم، فهل يصح لعاقل أن يظن بعد هذا أن الإنجليز ضنوا برحمتهم على رعاياهم الهنديين وأفاضوا فيضها على المصريين؟
أي رابطة بين المصريين والجنس البريطاني تدعو إلى هذا الاختصاص؟! هل يصح أن يقال: إن الأمة الفرنسية مع ما لها من سابق الآثار في مصر تعادي المصريين وتقسو عليهم وتطلب تنكيلهم حقدا وانتقاما؟! وهذا هو ما يحملها على المعارضة في تخفيف الفوائد وتوفيق الاستهلاك؛ قصد الإضرار بالمصريين، ووافقتها على ذلك الدول الباقية! هذا مما لا يعقل، فإن في مصر ما يستميل الدول إليها لا ما يبعثها على الانتقام منها - كما لا يعقل - أو أن وكلاء السياسة في مصر ومديري خزينة الدين من رجال الدول العظام؛ قد خفي عليهم حال المصريين وشئون ماليتهم وتفرد الإنجليز بعلمها من بين سائر الأمم.
على أن من يزعم أن أرض مصر فقيرة في ثروتها قاصرة عن أداء ما أوجبه عليها عهد الدول؛ فقد افترى كذبا، فإن مصر قد قامت بوفاء ما طلب منها أيام وزارة رياض باشا أحسن قيام مع غاية السعة وارتياح الأهالي إلى تأدية الضرائب بأنواعها، ومسرتهم التامة من تقسيم المطلوبات على حسب المواسم الزراعية، وهكذا استمر الحال بعد رياض باشا على الأساس الذي وضع في عهده إلى أن زحفت إنجلترا بجيش من دسائسها على تلك النفوس المطمئنة فأقلقتها، وتلك الأرواح الساكنة فأثارتها، فما تبتغي إنجلترا الآن من الإلحاح على تنقيح قانون التصفية وتنقيص الفوائد؟ وماذا بعث الدول على معارضتها؟!
تريد حكومة بريطانيا أن تسود على مصر وتستعبد أهلها، وترى أن بقاء الحالة المالية على أصولها السابقة يرجع بالمنفعة على الدائنين من الأمم المختلفة، فلا يكون حظ الخزينة الإنجليزية الخاصة من ثروة مصر وافرا، ولهذا بادرت قبل إعلان الحماية أو السيادة أو الاستملاك بالسعي في تخفيض فائدة الدين لتستأثر فيما بعد بما تزعم التفضل به الآن على المصريين، فهي تسعى لفائدتها الخاصة ليس إلا.
هذا قصدها، لم يخف على الدول فقامت بمعارضتها وأصرت حرصا على مصالحها لا تهدر فداء لحظوظ الإنجليز وقضاء لشهواتهم.
يهم الدول جلاء الإنجليز عن مصر عاجلا أو آجلا، لهذا تهتم بسد أبواب الحيل عليهم وإقامة العقبات الصعبة في كل خطوة يخطونها إلى مآربهم.
وظهرت مقاصد الإنجليز وانكشفت مضمراتهم لعموم أوروبا ولم يبق فيها ريبة عند دولة من الدولة الأوروبية، وإن كان بعض الغفل في تلك البلاد المنكودة الحظ (لا نريد نوبار باشا فإنه ضارب في طريقه ذاهب إلى مقصده يتزلف للإنجليز بكل ما يمكنه؛ لينال بوساطتهم ما أشرنا إليه مرارا)؛ تسول لهم أنفسهم إما جهلا وإما طمعا أن يميلوا مع ريح الحكومة الإنجليزية ويظنوا أنها لا تقصد بالبلاد المصرية إلا خيرا، فإذا فاض الخير في البلاد وشملت الراحة جميع أنحائها؛ انجلت العساكر الإنجليزية عنها كما جاءت إليها ورجعوا إلى بلادهم فرحين بأنهم أدوا فرائض الذمة وحقوق الإنسانية!
والعجب من هؤلاء المغرورين كيف لم يعتبروا بحركات اللورد نورث بروك؟! يتجول في البلاد المصرية ويستدعي إليه العمد والمشايخ ويذاكرهم فيما يريد، طورا سرا وطورا آخر علانية، ويجاذبهم أطراف الأحاديث فيما يمكن أن يتخذ وسيلة لتمكين حكومته من الولاية على تلك البلاد، أما كان يكفي هذا السير لإدراك الحقيقة؟! فبم يعلل الغافلون أنفسهم؟ وأي أوهام تخيل لهم ما يظنون؟!
ألم يكشف الغطاء عن نية السوء بسؤال اللورد نورث بروك للشيخ العباسي المهدي شيخ الجامع الأزهر ومفتي القاهرة حيث افتتح الكلام معه بقوله: «ماذا تعلم من أفكار الأهالي لو أردنا نحن الإنجليز أن نديم الإقامة في البلاد؟!»
فلو لم يكن لدولة الإنجليز عزم على تملك وادي النيل فكيف كان هذا السياسي الداهية يبتدر شيخا من أجل المشايخ وأعلاهم مقاما في القطر المصري بهذا السؤال، مع أن أقل ما فيه إثارة الظنون وإحداث الريب إجابة حضرة الشيخ بما يفيد نفرة القلوب من بقاء الإنجليز في احتلال مصر، فاستدرك اللورد ما فرط منه بقوله إنا لا نريد البقاء، ولكن كان استدراكه مناقضا لما دل عليه أول سؤاله، وما الإنكار إلا خديعة لا تخفى على الصبيان فضلا عن الراشدين، يريد اللورد بهذه المحاولات أن يستكن مضمرات القلوب ليتبين له ضروب السير إلى ما يقصد من التسلط على أرض مصر، حتى إذا سد في وجهه باب حاول قرع باب آخر.
أما آن لهؤلاء المخدوعين أن يرجعوا لأنفسهم ويمدوا نظر الانتقاد لحركات هذا اللورد، أي إصلاح يقصده اللورد من طرد العساكر المصرية، وإلغاء كل ما يسمى جندا مصريا، ومحو هذا الاسم من دفاتر الحكومة المصرية؟! إن اللورد يلح بكل اهتمام على استبدال الجند المصري بأعوان الشرطة والخفر المسمى بالضابطة، ما هذا الاهتمام، إن لم يكن من قصده تمهيد الطرق للتسلط التام على مصر؟! هذا سبيل سلكته الإنجليز في جميع فتوحاتها كما نبهنا مرارا ، وإن هذا الداهية الإنجليزي لا يحيد عنه بعدما سلكه أسلافه من قبله وقفاهم عليه عندما كان حكمدار الهند وجنوا ثماره، يجتهد بما في وسعه لطرد العساكر المصرية وإبدالهم بالضابطة ليقترح بعد أيام تبديل رجال الضابطة المصريين بأقوام من الجيوش الإنجليزية أو الهندية، تعللا بفساد أخلاق المصريين وعدم أهليتهم للخدم النظامية، وعجزهم عن القيام بوظائف الضبط وصيانة الراحة، وبذلك يجرد الحكومة من جميع قواها وتكون السلطة الإنجليزية سائدة في جميع الجهات بلا معارض لها من طرف الحكومة المحلية، كل هذا يجريه قبل إعلان السيادة والاستملاك كما فعل سابقوه في الهند مع كل نواب وراجا ولا يزال يفعل خلفهم من بعدهم.
يزعم الإنجليز أن تدخلهم في مصر إنما كان لتسكين الاضطراب وإزالة العصيان وتقرير الراحة، ارتفع العصيان وسجن عرابي ورؤساء حزبه وتبددت جموعهم ولم يبق أثر لما سموه عصيانا، وألزمت دولة بريطانيا حكومة مصر بالتنازل عن السودان من مدة طويلة، فماذا تريد من إرسال الجيوش إلى مصر الآن، ألمجرد إرسال جوردون كما يدعي رجال الإنجليز؟ إنهم يقولون: إن جوردون يسوق مراكبه في كل وقت لمحاربة الثائرين وتشهد الجرائد الإنجليزية نفسها بأنه يستطيع الخلاص بأي وجه متى شاء، فليس هناك حاجة إلى تجريد الجيوش وسوقها إلى الأراضي المصرية تحت هذه التعلة، هل تريد حكومة بريطانيا بتوقية
1
جيوشها أن ترفع الخلل الداخلي وتكف أيدي الناهبين وقطاع الطريق؟! هذا خلل ما حدث إلا بوجود الجيوش الأجنبية والنفرة من السلطة الغربية، فكيف يمكن محو الشيء بتوقية علل وجوده؟! هذا الخلل يرتفع ويمحى أثره إذا انجلى جيش العدو عن الديار ولم يبق لها فيها رءوس ولا أذناب، نعم، هذه كلها تعلات يزعمها الإنجليز حجابا لما يسعون إليه من الاستعلاء على عرش السيادة في مصر وحط الرجال في سهولها وحزونها.
2
فلم يبق بعد هذا سوى أن ينتبه الغافل، ويلتفت صاحب الأمر إلى ما يحف به ليحترس من هذا الكيد العظيم، ولا يعين الإنجليز على مقاصدهم جهلا منه أو اغترارا بما يخيلون له من نفع يعود على شخصه أو بلاده، سبحان الله! هل كان مثل هذا الأمر يحتاج إلى تنبيه؟! هذا محل العجب من غفلة أمراء الشرق، لا تفيدهم التجارب، ولا تريبهم المحن، ولا تعلمهم الحوادث، ولا تدربهم النوازل، وتناوب الرزايا والمصائب.
من له أدنى خبرة بسير الإنجليز في ماضيهم أو حاضرهم، يعلم أنهم يملكون البلاد بأيدي سكانها، ويقتلون أمراءها بسيوف أنفسهم، يرى هذا الأمير الشرقي في أرض جاره فيظن النازلة خاصة بموقعها فيلهو عنها ولا يخشى السقوط فيما سقط فيه غيره، فيقع في نفس الشرك الذي صيد به جاره، مثلهم مثل الأغنام سوق القصاب منها واحدا بعد واحد إلى المذبحة وسائر القطيع في غفلة عما يجري على آحاده يرعى ويرتع آمنا مطمئنا حتى يفنى.
لا عار على أمة قليلة العدد ضعيفة القوة إذا تغلبت عليها أمة أشد منها قوة وأكثر سوادا وقهرتها بقوة السلاح، وإنما العار الذي لا يمحوه كر الدهور ولا ينسيه تطاول الأزمان، هو أن تسعى الأمة أو أحد رجالها أو طائفة منهم لتمكين أيدي العدو من نواصيهم، إما غفلة عن شئونهم، وإما رغبة في نفع وقتي وجزاء نقدي على خيانتهم، فيكونون باحثين عن حتفهم بظلفهم.
علينا أن نرفع أعلام المحبة الوطنية، ونحمل عوامل الشهامة الإسلامية، ونوقد نيران الغيرة الوطنية، لتخيب آمال الإنجليز ونرد كيدهم في نحورهم، ونقذف بأولئك المغفلين الذي يميلون إليهم خارج تخوم هذه الديار ليلحقوا بالخائنين ممن سبقهم ويذوقوا عذاب الهوان بما كانوا يكسبون، هذا إذا حصل اليأس من تيقظهم ورجوعهم إلى الحق والصدق في محبة الأوطان ورعاية مصالحها، فإن تابوا وأصلحوا وأنابوا كان الحق ظهيرهم، وكان الله وليهم ونصيرهم، وهو نعم المولى ونعم النصير.
الفصل الرابع والمائة
إخفاق سعي الإنجليز
بينا العلة في اهتمام الإنجليز بتحوير قانون المالية المصرية ومعارضة الدول لهم فيما يرغبون، ولما لم يجدهم إلحاحهم، وثبتت الدول في امتناعها، نكبوا عن طريقهم واستكانوا لرأي الدول، وأعلن ترجمان سرهم ولسان حالهم «نوبار باشا» لجميع قناصل الدول في مصر أن الحكومة المصرية (الإنجليزية) رجعت عما عزمت عليه - وكانت نفذته - من توقيف الاستهلاك، كان قصد الإنجليز بهذا التصرف إثبات سلطتهم وتقوية شوكتهم على المصالح العامة في مصر، وهو نفوذ عاجل، وكانوا يؤملون فيه فائدة آجلة كما أشرنا إليه، ولما رأوا أن طول الزمن على معارضة الدول لهم ربما يحول بينهم وبين غايات أخر يبتغون الوصول إليها؛ انقلبوا عن وجههم ونقضوا عزيمتهم بلا خجل، ولا نظن أن يخفى على المصريين سر العزيمة الأولى وسر النقض الثاني، وأن هذا التنازل إنما دعت إليه الضرورة الحاضرة ووجود العقبة السياسية، أما سائر مطامعهم وبقية مقاصدهم فإنهم يغذون إليها السير ولا يدعون منها نقيرا، إلا أن تصادمهم جيوش الهمم وتقوم في وجوههم عقبات العزائم، هناك يرجعون بالخيبة ويخسرون خسرانا مبينا.
الحق
اعتدى على الحق جاهل فنال نكاله.
ينتصر الحق ويخذل الباطل وإن طاوله الكرم وأمهله العفو ومده الغرور.
جمال الدين الأفغاني - محمد عبده (تمت كلمات «العروة الوثقى» بفضل الله.)
Unknown page