لم تكن تلك السيدة ملمة بعلم الفلسفة والمنطق، بل كانت قد تلقنت كثيرا من الفضائل السامية في التعليم المسيحي، وانقطعت عن المدرسة بعد أن درست أصول ديانتها درسا مدققا.
لم تقرأ في حياتها رواية من تلك الروايات الخلاعية، إلا أن مخيلتها الطافحة بذكريات القديسين وأعمالهم الصالحة كانت نقية لألاءة عذبة تطفو عليها سلامة الطوية وجمال القلب.
يا للحداثة من ينبوع شعري إذا صرفت بين عذوبة التقى وفضيلة العمل!
تزوجت السيدة فارس في الثلاثين من عمرها؛ لأنها كانت تود أن تبقى بتولا وتنذر نفسها للعبادة ومؤاساة الفقراء والمرضى؛ ولكن عندما تقدم فارس لطلب يدها من أهلها نزلت عند رغبته لما رأت فيه من الخصال الطيبة التي تؤهله لأن يكون شريكا لها في نياتها الحميدة ومزاياها الشريفة، أما فارس فقد دفعه إلى الاقتران بها ما عرفه فيها من الرغبة في العمل ومحبة البؤساء، فلم يسألها مهرا غير إبرتها وإقدامها.
ترددت السيدة فارس في بادئ الأمر عن أن تضع يدها في يد ذلك العامل النشيط الذي لم يكن راسخا في معتقده الديني كما يجب أن يكون، ولكن حبه لها اضطره إلى النزول عند كل مزية من مزاياها، فصار يقوم بواجباته الدينية بدون إخلال حتى انتهى به الأمر إلى مشاطرتها تربية بنيه تربية مسيحية صرفة.
كان راتب فارس الشهري غير كاف وحده للقيام بأود عائلته، إلا أن آلة الخياطة واجتهاد امرأته واقتصادها، كل ذلك كان يمهد له حياة هادئة عذبة بعيدة عن مطامع الإنسان، فينسى الغنى الذي يسعى المرء وراءه في مطارح حياته، أوليس غنيا ذلك الذي تتوفر لديه ضروريات الحياة؟
كانت السيدة فارس تنهض في الصباح وتبدأ بعملها بكل نشاط؛ فلا نبالغ إذا قلنا عنها ما تقول الكتب المقدسة عن المرأة القوية؛ فهي لم تكن تأكل خبزها بالبطالة والكسل.
لماذا لا تنشد الشعراء فضيلة النساء العاملات في إدارة منازلهن؟ إنني أفضلك على أنامل الشريفات أيتها الأيدي العاملة؛ إنني أؤثرك على الأيدي المتراخية البيضاء يا أنامل نساء الشعب المتواضعات، أيتها الأيدي الحمراء المشوهة بالأعمال، أيتها الأيدي المستعيرة سواد الفحم من أفواه المطابخ، المخدشة بشعفات الحطب، التي لا تترك المكنسة إلا لتعود إلى إبرتها! إن جهودك الشاقة لتعرف كيف تلد الراحة بعد العناء. أجل فالفضل راجع لك في إلباس تلك الغرف القذرة لباس النظافة والترتيب، وتحويلها من مآو هادئة عذبة تسمى: المنزل المرتب، الفضل راجع لك في غرس تلك الأزهار النيرة، تلك الأزهار البهيجة: الشعلة! الفضل راجع لك في إعداد الطعام الشهي الذي يزيل الغضون عن جبهة الأب، ويضع السرور في عيون الأبناء، إن في كل خدة من خدودك وفي كل ندبة من ندوبك أثرا واضحا يخبر عن تاريخ فضيلتك.
لم يكن للسيدة فارس وقت يتسع لها فيه أن تصرف بعض دقائق في الثرثرة مع جاراتها، فأحيانا كانت السيدة أديب تقف على عتبة مطبخها وتناديها قائلة: ألا تسمحين لنفسك ببعض دقائق تصرفينها مع صديقاتك يا سيدة فارس؟ فتجيبها هذه: يصعب علي ذلك يا سيدة أديب قبل أن أنهي طي الأثواب المغسلة ورتقها؛ فاعذريني ! فكيف يتسع لمن تكون مثلي أما لثلاثة أولاد صغار أن تغنم دقيقة واحدة للاستراحة من عناء الأشغال؟ فتجيبها السيدة بطرس: إن وقتي لثمين كوقتك ولدي من الأشغال ما لا يقل عما لديك، ولكن الإنسان يحتاج دائما إلى ساعة يستريح فيها، ثم إن النساء لم يخلقن في هذه الحياة لكي يرتبن المنزل ويهيئن الغذاء فقط، فهن كغيرهن من البشر يحق لهن أن يستغرقن حينا من الزمن في الأحلام اللذيذة وينصرفن عن الحياة المادية إلى الحياة الخيالية الهادئة ...
كانت السيدة بطرس ذات روح خيالية وطبيعة متراخية، تسعى جهدها في أن تتلهى عن الحقائق العالمية المبهمة، ولقد تزوجت بلا مهر من موزع بريد جونية، وهو شاب كثير الذكاء ذو آمال واسعة يدعى بطرس، فما عتم أن ارتقى إلى وظيفة مدير في المحطة. كانت أفكار السيدة بطرس تقطن في نواح مرتفعة عن مطارح الأرض، وهذا ما دفعها إلى تبذير الأموال وإنفاقها بدون داع حتى بلغت نفقاتها ثلاثة آلاف ليرة في السنة، ومع ذلك فقد كانت عديمة الاعتناء بأمور بيتها، لا تكترث إلا لقراءة الروايات والقصص الغرامية، أما زوجها فقد كان يعود إلى منزله في الساعة الحادية عشرة والنصف، فلا يجد الطعام مهيئا ولا الأسرة مرتبة ولا الأواني معدة في أماكنها، فيسخط ويجدف ويحطم ما يراه أمامه، ويقول لها بصوت غضوب: إن هذا المأوى لجحيم لا أستطيع السكن فيه! فتضطرب امرأته وترفع إلى السماء عينيها المغلفتين بأهداب مستطيلة، وترجع بالذكرى إلى بواسل رواياتها الكئيبات فتستعير أصواتهن المحزنة المتهززة وتصرخ قائلة: بماذا جنيت على السماء؟ فيجيبها بطرس: جنيت عليها بأنك قرأت روايات وقصصا عوض أن تهتمي بإدارة منزلك. فما الذي شغلك هذا الصباح عن ترتيب الأسرة وإعداد الطعام؟ - لا تدع الحدة تأخذ منك مأخذها يا صديقي. أنا لا أنكر أنني لم أحسن اختيار الوقت المناسب للقراءة، غير أني كنت قد انتهيت إلى فقرة مؤلمة: لقد نصبوا فخا لفتى جميل من أسرة كريمة وأرادوا الإيقاع به، فهل أقدر أن أقف عن القراءة قبل أن أراه مفلتا من أيدي أعدائه؟ لا يا عزيزي بطرس، فهذا ما يفوق قدرتي، أما الآن فأيقن بأنني سأجتهد في أن أتمم ما يجب علي بوقت قصير. أنت لا تجهل أنني كثيرة الحذاقة ساعة أرغب فسترى كل ما تريده متمما قبل الساعة الثانية.
Unknown page