193

ʿUmdat al-Qārī sharḥ Ṣaḥīḥ al-Bukhārī

عمدة القاري شرح صحيح البخاري

Publisher

شركة من العلماء بمساعدة إدارة الطباعة المنيرية

باعتقاده لما كرر الْمُرَاجَعَة. وَقَالَ بَعضهم: لَا دلَالَة فِيمَا ذكر على تعين الْفَتْح لجَوَاز إِطْلَاق الْعلم على الظَّن الْغَالِب، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: ﴿فان علمتموهن مؤمنات﴾ (الممتحنة: ١٠) سلمنَا، لَكِن لَا يلْزم من إِطْلَاق الْعلم أَن لَا تكون مقدماته ظنية، فَيكون نظريًا لَا يقينيًا. قلت: بل الَّذِي ذكره يدل على تعين الْفَتْح، لِأَن قسم سعد وتأكيد كَلَامه بِأَن وَاللَّام وصوغه فِي صُورَة الإسمية، ومراجعته إِلَى النَّبِي ﷺ، وتكرار نِسْبَة الْعلم إِلَيْهِ يدل على أَنه كَانَ جَازِمًا باعتقاده، وَهَذَا لَا يشك فِيهِ، وَقَوله: لَكِن لَا يلْزم من إِطْلَاق الْعلم الخ، لَا يساعد هَذَا الْقَائِل، لِأَن سَعْدا وَقت الْإِخْبَار كَانَ عَالما بِالْجَزْمِ، لما ذكرنَا من الدَّلَائِل عَلَيْهِ، فَكيف يكون نظريًا لَا يقينيا فِي ذَلِك الْوَقْت؟ . قَوْله: (فَقَالَ)، اي النَّبِي ﷺ، (أَو مُسلما) قَالَ القَاضِي: هُوَ بِسُكُون الْوَاو على أَنَّهَا: أَو، الَّتِي للتقسيم والتنويع، أَو للشَّكّ والتشريك، وَمن فتحهَا أَخطَأ وأحال الْمَعْنى، وَيُقَال: امْرَهْ أَن يقولهما مَعًا لِأَنَّهُ أحوط، لِأَن قَوْله: اَوْ مُسلما، لَا يقطع بايمانه. وروى ابْن أبي شيبَة، عَن زيد بن حبَان، عَن عَليّ بن مسْعدَة الْبَاهِلِيّ؛ ثَنَا قَتَادَة، عَن انس يرفعهُ: (الاسلام عَلَانيَة والايمان فِي الْقلب ثمَّ يُشِير بِيَدِهِ إِلَى صَدره التَّقْوَى هَهُنَا، التَّقْوَى هَهُنَا) وَيرد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن الْأَعرَابِي فِي (مُعْجَمه) فِي هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: (لَا تقل: مُؤمن قل: مُسلم) . وَالَّذِي رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة: قَالَ ابْن عدي: هُوَ غير مَحْفُوظ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَعْنَاهُ أَن لَفْظَة الْإِسْلَام أولى أَن يَقُولهَا لِأَنَّهَا مَعْلُومَة بِحكم الظَّاهِر، وَأما الْإِيمَان فباطن لَا يُعلمهُ إلاَّ الله تَعَالَى، وَقَالَ صَاحب (التَّحْرِير) فِي (شرح صَحِيح مُسلم): هَذَا حكم على فلَان بِأَنَّهُ غير مُؤمن. وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَيْسَ فِيهِ إِنْكَار كَونه مُؤمنا، بل مَعْنَاهُ النَّهْي عَن الْقطع بِالْإِيمَان لعدم مُوجب الْقطع، وَقد غلط من توهم كَونه حكما بِعَدَمِ الْإِيمَان، بل فِي الحَدِيث إِشَارَة إِلَى إيمَانه، وَهُوَ قَوْله: (لأعطي الرجل وَغَيره أحب إِلَيّ مِنْهُ) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: فعلى هَذَا التَّقْدِير لَا يكون الحَدِيث دَالا على مَا عقد لَهُ الْبَاب، وَأَيْضًا لَا يكون لرد الرَّسُول، ﵇، على سعد فَائِدَة، وَلَئِن سلمنَا أَن فِيهِ إِشَارَة إِلَيْهِ فَذَلِك حصل بعد تكْرَار سعد إخْبَاره بإيمانه، وَجَاز أَن يُنكر أَولا ثمَّ يسلم آخرا، لحُصُول أَمر يُفِيد الْعلم بِهِ. وَقَالَ بَعضهم: وَهُوَ تعقب مَرْدُود، وَلم يبين وَجهه، ثمَّ قَالَ: وَقد بَينا وَجه الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة قبل. قلت: قد بَينا نَحن أَيْضا هُنَاكَ أَن الَّذِي ذكره لَيْسَ بِوَجْه صَحِيح، فليعد إِلَيْهِ هُنَاكَ. قَوْله: (قَلِيلا) نصب على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف أَي: سكُوتًا قَلِيلا. قَوْله: (مَا أعلم) كلمة مَا، مَوْصُولَة فِي مَحل الرّفْع على أَنه فَاعل: غلبني، قَوْله: (غَيره أحب إِلَيّ مِنْهُ): جملَة اسمية وَقعت حَالا، وَهَكَذَا هُوَ عِنْد أَكثر الروَاة. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أعجب إِلَيّ)، وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ بعد قَوْله: (أحب إِلَيّ مِنْهُ، وَمَا أعْطِيه إلاَّ مَخَافَة أَن يكبه الله) . إِلَى آخِره قَوْله: (خشيَة)، نصب على أَنه مفعول لَهُ لأعطي، أَي: لأجل خشيَة أَن يكبه الله، بِإِضَافَة خشيَة إِلَى مَا بعده، وَأَن، مَصْدَرِيَّة. وَالتَّقْدِير: لاجل خشيَة كب الله إِيَّاه فِي النَّار. وَقَالَ الْكرْمَانِي: سَوَاء فِيهِ رِوَايَة التَّنْوِين مَعَ تنكيره، وَتَقْدِيره: لأجل خشيَة من أَن يكبه الله. وَرِوَايَة الْإِضَافَة مَعَ تعريفة لِأَنَّهُ مُضَاف إِلَى أَن مَعَ الْفِعْل، وَأَن مَعَ الْفِعْل معرفَة، وَيجوز فِي الْمَفْعُول لأَجله التَّعْرِيف والتنكير. قلت: لَا حَاجَة فِيهِ إِلَى تَقْدِير: من، لعدم الدَّاعِي إِلَى تقديرها، بل لَفْظَة: خشيَة، مُضَاف إِلَى مَا بعْدهَا على التَّقْدِير الَّذِي ذَكرْنَاهُ، فَافْهَم.
بَيَان الْمعَانِي وَالْبَيَان: فِيهِ حذف الْمَفْعُول الثَّانِي من بَاب: اعطيت فِي الْمَوْضِعَيْنِ الأول: فِي قولهِ أعْطى رهطًا، وَالثَّانِي: فِي قَوْله: إِنِّي لاعطي الرجل، تَنْبِيها على التَّعْمِيم بِأَيّ شَيْء كَانَ، أَو جعل الْمُتَعَدِّي إِلَى اثْنَيْنِ كالمتعدي إِلَى وَاحِد، وَالْمعْنَى إِيجَاد هَذِه الْحَقِيقَة، يَعْنِي ايجاد الْإِعْطَاء. والفائدة فيهمَا قصد الْمُبَالغَة، وَفِيه من بَاب الإلتفات، وَهُوَ فِي قَوْله: (أعجبهم إِلَيّ) لِأَن السِّيَاق كَانَ يَقْتَضِي أَن يُقَال: اعجبهم إِلَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ: وَسعد جَالس، وَلم يقل: وَأَنا جَالس، وَهُوَ الْتِفَات من الْغَيْبَة إِلَى التَّكَلُّم. وَأما قَوْله: (وَسعد جَالس) فَفِيهِ وَجْهَان. الأول: أَن يكون فِيهِ الْتِفَات على قَول صَاحب (الْمِفْتَاح) من التَّكَلُّم الَّذِي هُوَ مُقْتَضى الْمقَام إِلَى الْغَيْبَة، واما على قَول غَيره، فَلَيْسَ فِيهِ الْتِفَات لأَنهم شرطُوا أَن يكون الِانْتِقَال من التَّكَلُّم وَالْخطاب والغيبة محققًا. وَصَاحب (الْمِفْتَاح) لم يشْتَرط ذَلِك، بل قَالَ: الِانْتِقَال أَعم أَن يكون محققًا أَو مُقَدرا. وَالْوَجْه الثَّانِي: ان يكون هَذَا من بَاب التَّجْرِيد، وَهُوَ ان يجرد من نَفسه شخصا ويخبر عَنهُ، وَذَلِكَ أَن الْقيَاس فِي قَوْله: (وَسعد جَالس) أَن يَقُول: وَأَنا جَالس، وَلكنه جرد من نَفسه ذَلِك وَأخْبر عَنهُ بقوله: (جَالس) وَهُوَ من محسنات الْكَلَام من الضروب المعنوية الراجعة إِلَى وَظِيفَة البلاغة، وَفِيه من بَاب الْكِنَايَة: وَهُوَ فِي قَوْله: (خشيَة ان يكبه الله)، لِأَن الكب فِي النَّار لَازم الْكفْر، فَأطلق اللَّازِم وَأَرَادَ الْمَلْزُوم، وَهُوَ كِنَايَة،

1 / 194