في ذلك الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تبيينه ما أجمل في القرآن مع قوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شئ فإنه لولا بين لنا كيفية الطهارة والصلاة والحج وغير ذلك ما اهتدى أحد من الأمة لمعرفة استخراج ذلك من القرآن ولا كنا نعرف عدد ركعات الفرائض ولا النوافل ولا غير ذلك مما سيأتي في الفصل الآتي عقبه إن شاء الله تعالى فكما أن الشارع بين لنا بسنته ما أجمل في القرآن فكذلك الأئمة المجتهدون بينوا لنا ما أجمل في أحاديث الشريعة ولولا بيانهم لنا ذلك لبقيت الشريعة على إجمالها وهكذا القول في أهل كل دور بالنسبة للدور الذي قبلهم إلى يوم القيامة فإن الاجمال لم يزل ساريا في كلام علماء الأمة إلى يوم القيامة ولولا ذلك ما شرحت الكتب ولا عمل على الشروح حواش كما مر فافهم فإن قلت فهل ما وقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من المراجعة في شأن الصلاة كان اجتهادا منه أم لا فالجواب كما قاله الشيخ محيي الدين كان ذلك منه اجتهادا فإن الله تعالى لما فرض على أمته الخمسين صلاة نزل بها إلى موسى ولم يقل شيئا ولا اعترض ولا قال هذا كثير على أمتي فلما قال له موسى إن أمتك لا تطيق ذلك وأمره بالمراجعة فبقي صلى الله عليه وسلم متحيرا من حيث وفور شفقته على أمته ولا سبيل له إلى رد أمر ربه فأخذ في الترجيح في أي الحالين أولى وهذا هو حقيقة الاجتهاد فلما ترجح عنده أنه يراجع ربه رجع بالاجتهاد إلى ما يوافق قول موسى وأمضى ذلك في أمته بإذن من ربه عز وجل فإن فهمت ما ذكرناه علمت أن في تشريع الله تعالى اجتهاد المجتهدين تأنيسا له صلى الله عليه وسلم كي لا يستوحش وفيه أيضا التأسي به كما أن في اجتهاده صلى الله عليه وسلم أيضا تأنيسا وجبرا لقلب موسى عليه الصلاة والسلام لأنه ربما ندم إذا رجع إلى نفسه وتأمل فوجد الله أرحم بعباده منه ولو أنه كان أبقى عليهم الخمسين صلاة لكان يقويهم على فعلها فإنه تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها كما أن الله تعالى جبر قلب موسى حين استشعر الندم على قوله بقوله تعالى ما يبدل القول لدى فأفهم موسى أن مراجعة موسى كانت في محلها لكون القول كان من الحق تعالى على سبيل إرادة إظهار نعمه على رسوله صلى الله عليه وسلم تشريفا له فسر بذلك وعلم أن في الحضرة الإلهية ما يقبل التبديل والنسخ ومنه ما لا يقبل ذلك فقد بان لك يا أخي بما قررناه منشأ اجتهاد المجتهدين وهو كلام نفيس ولعلك لا تجده في كتاب والحمد لله رب العالمين * (فصل) * إن قال قائل أي فائدة في تأليف هذه الميزان ومن المعلوم أن أهل جميع المذاهب يعلمون أن كل من عجز عن العزيمة يجوز له العمل بالرخصة فالجواب أن ما قاله هذا القائل صحيح ولكن أهل المذاهب إذا عملوا بالرخصة يعملون بها وعندهم منها حصر وضيق في نفوسهم لعدم معرفتهم بتوجيهها وموافقتها للكتاب والسنة بخلاف صاحب هذه الميزان فإنه يعمل بها مع انشراح القلب لمعرفته بتوجيهها وموافقتها للكتاب والسنة وأين من هو على يقين من صحة عبادته ممن هو على شك فيها فاعلم ذلك والله تعالى أعلم والحمد لله رب العالمين
Page 51