قال ولم يدع الاجتهاد المطلق غير المنتسب بعد الأئمة الأربعة إلا الإمام محمد بن جرير الطبري ولم يسلم له ذلك انتهى ويحتمل أن هؤلاء العلماء الذين كانوا يفتون الناس على المذاهب الأربعة أطلعهم الله تعالى على عين الشريعة الأولى وشهدوا اتصال جميع أقوال الأئمة المجتهدين بها وكانوا يفتون الناس بحكم مرتبتي الميزان لا بحكم العموم فلا يأمرون قويا برخصة ولا ضعيفا بعزيمة وكأنهم نابوا مناب أهل المذاهب الأربعة في تقرير مذاهبهم واطلعوا على جميع أدلتهم وقد بلغنا حصول هذا المقام أيضا لجماعة من علماء السلف كالشيخ أبي محمد الجويني والإمام ابن عبد البر المالكي ومن الدليل على ذلك أن أبا محمد صنف كتابه المسمى بالمحيط ولم يتقيد فيه بمذهب كما مر عن الزركشي وكذلك ابن عبد البركان يقول كل مجتهد مصيب فإما أن يكونا فعلا أو قالا ما ذكر لاطلاعهما على عين الشريعة الكبرى وتفريع أقوال جميع العلماء منها كما اطلعنا بحمد الله تعالى وإما أن يكونا فالا ذلك من حيث إن الشارع قرر حكم المجتهد الذي استنبطه من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وقد بلغنا عن الشيخ عز الدين بن جماعة أنه كان إذا أفتى عاميا بحكم على مذهب إمام يأمره بفعل جميع شروط ذلك الإمام الذي أفتاه بقوله ويقول له إن تركت شرطا من شروطه لم تصح عبادتك على مذهبه ولا غيره إذ العبادة الملفقة من عدة مذاهب لا تصح إلا إذا جمعت شروط تلك المذاهب كلها انتهى وذلك منه احتياطا للدين وخوفا أن يتسبب في نقص عبادة أحد من المسلمين فإن قلت فهل ينبغي لمن يفتي على الأربعة مذاهب أن لا يفتي المقلدين إلا بالأرجح من حيث النقل أو يفتيهم بما شاء من الأقوال فالجواب الذي ينبغي له أن لا يفتي الناس إلا بالأرجح لأن المقلد ما سأله إلا ليفتيه بالأرجح من مذهب إمامه لا بما عنده هو اللهم إلا أن يكون المرجوح أحوط في دين السائل فله أن يفتيه بالرجوح ولا حرج * ولما ادعى الجلال السيوطي رحمه الله مقام الاجتهاد المطلق المنتسب كان يفتي الناس بالأرجح من مذهب الإمام الشافعي فقالوا له لم لا تفتيهم بالأرجح عندك فقال لم يسألوني ذلك وإنما سألوني عما عليه الإمام وأصحابه فيحتاج من يفتي الناس على الأربعة مذاهب أن يعرف الراجح عند أهل كل مذهب ليفتي به المقلدين إلا أن يعرف من السائل أنه يعتمد علمه ودينه وينشرح صدره لما يفتيه به ولو كان مرجوحا عنده فمثل هذا لا يحتاج إلى الاطلاع على ما هو الأرجح عند أهل كل مذهب انتهى فاعلم ذلك * (فصل) * ومما يوضح لك صحة مرتبتي الميزان أن تنظر إلى كل حدث ورد أو قول استنبط وإلى مقابله فإذا نظرت فلا بد أن تجد أحدهما مخففا والآخر مشددا غير ذلك لا يكون ثم إن الحديث أو القول المخفف قد يكون هو الصحيح الراجح في مذهبك وقد يكون هو الضعيف المرجوح ولا يخلو حالك يا أخي عند العمل به من أن تكون من أهل مرتبة من مرتبتي الميزان دون المرتبة الأخرى بالشروط التي تقدمت في فعل الرخصة أي التخفيف فتفتي كل أحد بما يناسب حاله ولو لم تفعل أنت به كذلك لأنه هو الذي خوطبت به فاعلم ذلك واعمل عليه وأفت غيرك بما هو وأهله فليس لمن قدر على سهولة الطهارة أن يمس فرجه
Page 18