Copernicus Darwin Freud
كوبرنيكوس وداروين وفرويد: ثورات في تاريخ وفلسفة العلم
Genres
14
تأمل ثلاث ظواهر منها: (1)
دهش داروين بالتوزيع البيولوجي الجغرافي للأنواع وأصنافها في جزر جالاباجوس. كيف كان من الممكن أن يتسم نفس النوع من عصافير الدوري بخصائص مختلفة قليلا من جزيرة إلى جزيرة؟ كان الرأي السائد قبل داروين هو نظرية الخلق الخاص. كان جواب داروين هو التعامل مع تعديلات كل مجموعة «ج» من الكائنات الحية عن أسلافها كرد فعل للكائنات الحية تجاه التغيرات في البيئة. ويمكن توسيع نطاق هذا الأمر ليوضح مثلا الاختلافات المرصودة بين جماجم إنسان نياندرتال وجماجم الإنسان الحديث. (2)
ترسخ أصل الإنسان من خلال أبحاث في التشريح المقارن. وكما أكد هكسلي، لم يوجد سوى اختلافات تشريحية بسيطة بين البشر والقردة. فإذا كان البشر والقردة - الذين ينتمون إلى أنواع مختلفة - يتشاركون في خصائص عامة في بنية عظام الأطراف، فكيف يفسر ذلك؟
من أجل معالجة مثل هذه الأسئلة، فرق الداروينيون بين «التنادد» و«التناظر». «التنادد» هو وجود نفس الجهاز في كائنات مختلفة بمجموعة متنوعة من الأشكال والوظائف، مثل أجنحة الطيور وذراعي البشر. يرجع التنادد إلى التحدر مع التعديل. ويمكن الاستدلال على وجود التنادد في الكائنات الحية المختلفة من خلال تاريخ التحدر من سلف مشترك. أما «التناظر» فهو وجود أعضاء متشابهة ذات وظائف متشابهة لدى حيوانات غير مرتبطة بعضها ببعض، مثل أجنحة الطيور والحشرات. ويعزى التناظر إلى التطور المقارب، أي نتيجة لضغوطات بيئية مماثلة. ويمكن تفسير وجوده عن طريق تتبع تاريخ ظهور السمة التناظرية على مدار سلسلة النسب المختلفة للأنواع المختلفة. فليس لديها أصل تطوري مشترك حديث. ورغم أن هذا التمييز واضح من الناحية النظرية، فقد يكون من الصعب إثباته عمليا (داروين 1859؛ رول 1870، 151-152؛ كرومبي 1994، المجلد الثاني، 1291؛ دينيت 1995، 357؛ راف 1996، 34-36؛ دي بير 1997، 213-221). (3)
وأخيرا ثمة أسئلة تخص التكيف: لماذا تظهر الكائنات الحية التي تعيش في بيئات معينة خصائص معينة، تسهم في صلاحيتها لهذه البيئة تحديدا. يمكن الإجابة على هذه الأسئلة أيضا عن طريق إعادة إنشاء العملية التاريخية التي حدثت خلالها عملية التكيف. تحل هذه الإجابات محل حجة التصميم القديمة، كما أنها ترفض الإصرار على الكمال المطلق. وكما يؤكد داروين، التكيف مسألة تتعلق بالدرجة بالأساس:
يميل الانتقاء الطبيعي فقط لجعل كل كائن عضوي كاملا، أو أكثر كمالا بقليل من السكان الآخرين في المكان نفسه الذين يتصارع معهم من أجل الوجود. (داروين 1859، 229)
تسبب آلية التحدر مع التعديل الكمال النسبي الخاص بتكيف الكائنات العضوية مع بيئتهم المادية، ولكن الكائنات الأخرى، التي تدخل معها هذه الكائنات في المنافسة، تسكن أيضا بيئتها المادية. ثمة صراع عنيف حول الغذاء والمأوى، ولتجنب الإصابات والموت. وللصراع من أجل الوجود «نتيجة طبيعية ذات أهمية قصوى»؛ إذ ترتبط بنية كل كائن على نحو أساسي «بكل الكائنات العضوية الأخرى» (داروين 1859، 127).
كان من الواضح بالفعل لمعاصري داروين أن نظرية التحدر مع التعديل تتمحور حول استقاء استنتاجات مقبولة. السؤال الحقيقي ليس ببساطة: ما الاستنتاجات «المسموح بها»؟ ولكن ما الاستنتاجات «المقبولة» في ضوء الأدلة المتاحة؟ ينعكس هذا التأكيد في الفرق بين الحلول الممكنة والفعلية. بالنسبة لأصدقاء داروين وخصومه، يتلخص الأمر في بديل بسيط: هل أدلة التكيف الرائع تسوغ الاستدلال على وجود مصمم خارق أم عملية الانتقاء الطبيعي؟ (انظر نيتشر 27 (1882-1883)، 362-364، 528-529). بالنسبة للداروينيين، الاستدلال الكامن وراء حجة التصميم - من نظام الطبيعة إلى الرب المصمم - غير مقبول؛ لأنه لا ينتمي إلى عالم العلوم الطبيعية، ولكن كما توضح نظرية التصميم الذكي، لا توجد عقبة من الناحية المنطقية تمنع استنتاج التصميم على الأقل. ويتفق مؤيدوها مع الداروينيين على أن الأمر يتلخص في مسألة الدعم. أي فرضية من الفرضيتين - التصميم أم الانتقاء الطبيعي - تتلقى دعما أفضل من الأدلة؟ لم يدع الداروينيون قط أن فرضية الانتقاء الطبيعي صحيحة تماما وأن فرضية التصميم خاطئة تماما. العديد من الاستنتاجات مسموح بها منطقيا، ولكن هل هي مقبولة ؟ الاستنتاجات المقبولة تمثل مسألة دعم بالأدلة. وسنميز عما قريب بين الأدلة «الإيجابية» و«الداعمة». وهنا يكفي أن نميز الدليل الداعم كدليل يثبت فرضية واحدة على حساب الأخرى. وبالنظر إلى الأدلة، من المقبول استنتاج معقولية نموذج تفسيري واحد على حساب النماذج المنافسة له. هذه هي الطريقة التي جادل بها الداروينيون. في بعض الحالات تمنح الأدلة دعما لفرضية واحدة وتضعف منافستها. لم يجادل داروين في سياق فكرة التصميم المثالي الغامضة نوعا ما؛ فقد درس التوزيع البيولوجي الجغرافي للأنواع، وأصنافها وأوجه التشابه بينها والتكيفات، وقال إن هذه المجموعة من الأدلة يمكن تفسيرها من خلال اللجوء للانتقاء الطبيعي. فإذا كان يوجد تشابه تشريحي بين القرود والبشر، فإن نشأتهما من سلف مشترك أكثر ترجيحا من نشأتهما على نحو منفصل (داروين 1859، الفصل الثالث عشر، الرابع عشر). إذا كانت السجلات الحفرية تكشف عن العصور القديمة للإنسان، فمن المعقول أن نستنتج أن البشرية أقدم من التأريخ الزمني الذي يقدمه الكتاب المقدس. لاحظ أن هذا يجعل المحاولات التفسيرية من جانب المؤمنين بنظرية الخلق قديمي الطراز أكثر صعوبة، ولكن ليست مستحيلة. فيمكن للمؤمن بنظرية الخلق أن يجادل دائما بقوله إن الرب زرع المكتشفات الحفرية منذ حوالي 6000 سنة. ويضطر المؤمن بنظرية الخلق إلى خوض هذه المناورات؛ لأن عمر المكتشفات الحفرية يتعارض من النظرة الأولى مع الأدلة. ويتجنب منظرو التصميم الذكي مثل هذه المناورات؛ فهم يفضلون استنتاج التصميم. تشير نظرية الانتقاء الطبيعي إلى أسباب مادية، وتعتمد حجج التصميم على قوة خارقة للطبيعة. تسمي حجج التصميم المتعصبة هذه القوة، أما حجج التصميم الحديثة فتتركها دون تسمية. ويتفق منظرو التصميم الحديث مع الداروينيين على الحاجة إلى توافر أدلة داعمة. ولا يوجد منطقيا أي خطأ في الانتقال من الأدلة إلى التصميم، ولكن ذلك يتطلب كسرا لسلسلة التفسير الطبيعي. فيطلب منا أن نقفز قفزة واسعة من الاستدلالات المقبولة إلى الاستدلالات المسموح بها.
دخلت الداروينية فضاء مفاهيميا مزدحما بالنماذج التفسيرية المتنافسة. كان الداروينيون دائما يشاركون في تفسيرات معارضة (انظر مربع 2-4). نظرا لنتائج وايزمان السلبية بشأن وراثة الخصائص المكتسبة، أصبح من الأقل احتمالا أن يحظى تفسير لامارك بدعم كبير من الأدلة. وعلى النقيض من ذلك، كان الانتقاء الطبيعي يعمل على الأنماط الظاهرية للاختلافات الجينية العشوائية. فقط لو أن الخلايا الوراثية تنقل، فإن هذا يتوافق مع اعتقاد داروين بالاختلاف المتناحي. ونظرا لعدم وجود تكيفات مثالية وترتيب متناغم في الطبيعة، تضاءلت قوة حجة التصميم. عانت النظرية الداروينية نفسها من صعوبات متنوعة؛ فكانت هناك حجة «الحلقة المفقودة»، التي عزاها داروين - في هذه الحالة وحدها - إلى فقر سجل الحفريات. ثم جاءت حسابات طومسون لعمر الأرض. لم تكن تسعون مليون سنة كافية لأداء عملية التطور التدريجي البطيء الخفية التي تخيلها داروين. وكانت ثمة شكوك حول القيمية التفسيرية للانتقاء الطبيعي نفسه. ورغم أن الداروينيين اعترفوا بالصعوبات، فإنهم ظلوا يعتبرون النموذج الدارويني متفوقا على نظرية الخلق الخاص.
Unknown page