Copernicus Darwin Freud
كوبرنيكوس وداروين وفرويد: ثورات في تاريخ وفلسفة العلم
Genres
شكر وتقدير
تمهيد
مقدمة
1 - نيكولاس كوبرنيكوس: فقدان المركزية
2 - تشارلز داروين: فقدان التصميم الرشيد
3 - سيجموند فرويد: فقدان الشفافية
الملاحظات
شكر وتقدير
تمهيد
مقدمة
Unknown page
1 - نيكولاس كوبرنيكوس: فقدان المركزية
2 - تشارلز داروين: فقدان التصميم الرشيد
3 - سيجموند فرويد: فقدان الشفافية
الملاحظات
كوبرنيكوس وداروين وفرويد
كوبرنيكوس وداروين وفرويد
ثورات في
تاريخ وفلسفة العلم
تأليف
فريدل فاينرت
Unknown page
ترجمة
أحمد شكل
مراجعة
محمد فتحي خضر
شكر وتقدير
يقدم المؤلف والناشر الشكر على منح الإذن بإعادة نشر الصور التالية:
Aristotle (354-322 BC).
Source:
Deutsches Museum (German Museum, Munich).
Foto Deutsches Museum.
Unknown page
Claudius Ptolemy (AD 100-75).
Source:
Wikimedia.
Nicolaus Copernicus (1473-1543).
Source:
Deutsches Museum (German Museum, Munich).
Foto Deutsches Museum.
Tycho Brahe (1546-1601)
Source: Nature
15 (1876-7), p. 406.
Unknown page
Johannes Kepler (1571-1630).
Source : Deutsches Museum (German Museum, Munich).
: Foto Deutsches Museum.
Galileo Galilei (1564-1642).
Source:
Wikimedia.
Isaac Newton (1642-1727).
Source : Deutsches Museum (German Museum, Munich).
: Foto Deutsches Museum.
Gottfried Wilhelm Leibniz (1646-1716).
Unknown page
Source : Deutsches Museum (German Museum, Munich).
: Foto Deutsches Museum.
William Paley (1743-1805).
Source:
Wikimedia.
Robert Boyle (1627-91).
Source : Deutsches Museum (German Museum, Munich).
: Foto Deutsches Museum.
Jean Baptiste Lamarck (1744-1829).
Source : Wikimedia.
Unknown page
Charles Darwin (1809-82).
Source: Nature
10 [1874], Frontispiece.
Alfred Wallace (1823-1913).
Source : Wikimedia.
Louis Agassiz (1807-73).
Source: Nature
19 [1879], Frontispiece.
Julia Pastrana.
Source : E. Haeckel,
Unknown page
The Evolution of Man [London 1906], Vol. I, 161.
Thomas Huxley (1825-95).
Source: Nature
9 [1874], p. 256.
Ernst Haeckel (1834-1919).
Source : E. Haeckel,
Last Word on Evolution [London 1910], Frontispiece.
Francis Bacon (1561-1626).
Source : Deutsches Museum (German Museum, Munich).
: Foto Deutsches Museum.
Unknown page
John C. Adams (1819-32).
Source: Nature
34 [1886], Frontispiece.
Immanuel Kant (1724-1804).
Source : Deutsches Museum (German Museum, Munich).
: Foto Deutsches Museum.
Friedrich Nietzsche (1844-1900).
Source : Wikimedia.
Sigmund Freud (1856-1938).
Source:
Unknown page
Deutsches Museum (German Museum, Munich).
: Foto Deutsches Museum.
Johann Gustav Droysen (1808-84).
Source : Wikimedia.
Wilhem Dilthey (1833-1911).
Source : Wikimedia.
Max Weber (1864-1920).
Source : Mohr Siebeck Verlag.
Le Livre Noir de la Psych-analyse. Source:
Les Arènes, Paris.
Unknown page
تمهيد
هذا الكتاب وليد ندوات ألقاها المؤلف لأول مرة في جامعة فيكتوريا في ويلينجتون (نيوزيلندا) وبعد ذلك في جامعة برادفورد (المملكة المتحدة). تعود فكرة هذه الندوات والكتاب إلى زعم فرويد أنه أتم الثورة التي أحدثها كوبرنيكوس، وقد صيغت الندوات والكتاب في ضوء اقتناع المؤلف بوجود رابط متين بين الأفكار العلمية والفلسفية.
تيسر الانتهاء من المسودة النهائية للكتاب بالحصول على منحة زمالة زائر في قسم الفلسفة والمنطق والمنهج العلمي في كلية لندن للاقتصاد (من يونيو إلى ديسمبر 2006). وأود أن أشكر أعضاء هذا القسم على حسن الضيافة، كما أدين بشكر خاص إلى ستيفان هارتمان لتشجيعه لي على تقديم طلبات المنح البحثية ومشاركته في تقييمها. وأقدم امتناني للمساعدة المالية التي تلقيتها من كلية الدراسات الدولية والاجتماعية بجامعة برادفورد، كما أنني استفدت من المنحة البحثية الصغيرة التي تمنحها الأكاديمية البريطانية، التي جعلت زيارتي لكلية لندن للاقتصاد ممكنة من الناحية المالية. قرأ روبرت نولا من جامعة أوكلاند (نيوزيلندا) المسودة الأولى للكتاب، وقدم لي نصائح قيمة حول كيفية تحسينه. وأعبر هنا عن امتناني له لتشجيعه ولتقييمه طلبات المنح البحثية التي قدمتها، كما أنني ممتن لعدد من القراء المجهولين الذين قدموا تعليقات مفيدة حول الكتاب. وأخيرا، أدين بالشكر لنيك بيلوريني، منسق التحرير الأول في بلاكويل، على دعمه لهذا المشروع. وأود أيضا أن أشكر أنيت آبيل، محررة الكتاب، على القراءة المتأنية للمسودة النهائية والتحسينات الأسلوبية التي أضافتها.
آمل أن يستمتع القارئ بقراءة هذا الكتاب بقدر ما استمتعت بكتابته.
فريدل فاينرت
جامعة برادفورد
مقدمة
يتناول هذا الكتاب قضايا تقع في النطاق المشترك بين تاريخ وفلسفة العلوم، ويهدف إلى إظهار وجود رابط متين بين العلم والفلسفة باستخدام المدرسة الكوبرنيكية والداروينية والفرويدية كمدارس علمية. ثمة روابط عديدة تجمع بين كوبرنيكوس وداروين وفرويد أكثر من مساهماتهم في استكمال الثورة التي أحدثها كوبرنيكوس. وتبين دراسة الكوبرنيكية والداروينية والفرويدية أن المناهج العلمية لدراسة العالم تؤدي على نحو طبيعي وحتمي إلى نتائج فلسفية.
رأى فرويد أن الأفكار العلمية تغير طريقة تفكيرنا بشأن العالم؛ فقد أزاح كوبرنيكوس - من خلال نظرية مركزية الشمس - البشر من المركز المادي للكون (1543). ووضع داروين - من خلال نظرية النشوء والارتقاء - البشر في وضعهم الطبيعي بين الكائنات (1859). ويرى فرويد أن كوبرنيكوس وداروين سددا ضربات قاسية للصورة التي يفخر بها البشر بوصفهم سادة الكون. ورأى فرويد أنه يكمل دائرة تصحيح هذه الصورة من خلال تدمير الاعتقاد بأن البشر «مسيطرون على أنفسهم» (1916).
غير أن تأثير الأفكار العلمية على الصور الذاتية للبشر ليس سوى جزء صغير من النتائج الفلسفية التي تؤدي إليها النظريات العلمية عادة. هذا الكتاب عبارة عن دراسة لثلاث ثورات في الفكر ونتائجها الفلسفية، وهو تطبيق لنهج متكامل لتاريخ وفلسفة العلوم. يتناول الفصل الأول الانتقال من مفهوم مركزية الأرض إلى مفهوم مركزية الشمس. ويركز الفصل الثاني على التغير الشديد الأهمية في وجهات النظر حول طبيعة الحياة العضوية، الذي سيرتبط إلى الأبد باسم تشارلز داروين. ويناقش الفصل الثالث انتقال فرويد من عقلانية التنوير إلى الدوافع اللاواعية كقوة دافعة للسلوك البشري. ومن شأن إلقاء نظرة واحدة فقط على جدول محتويات الكتاب أن يوضح للقارئ أن كل فصل يختار عددا من القضايا الفلسفية النابعة من دراسة تقاليد محددة في تاريخ الأفكار العلمية.
Unknown page
ينقل عنوان هذا الكتاب - كما هو موضح في مناقشة الكوبرنيكية والداروينية والفرويدية - رسالة ثلاثية؛ أولا: أن وجهات نظر الإنسان نحو الطبيعة المحيطة به والعالم الاجتماعي تتكيف باستمرار مع الاكتشافات العلمية الجديدة. ثانيا: كلما تقدم العلم خضعت إنجازات العصور السابقة لمزيد من التدقيق. ثالثا: أن النتائج الفلسفية بالضرورة مشمولة في هذه التغيرات. لا أقصد الزعم بحدوث عملية اقتلاع وإعادة بناء مستمرة لصرح المعرفة؛ إذ إن النظرة المتقطعة هذه لنمو المعرفة العلمية خاطئة، كما ستحاول مناقشة الثورات العلمية أن تبين. بل ما أعنيه هو أن المعرفة الراسخة ستخوض مواقف إشكالية جديدة؛ مما سيؤدي إلى تعديلات على العديد من المستويات. كان بوبر محقا في قوله إن كل المعرفة العلمية معرفة تخمينية. وما دام البشر يسكنون في المجموعة الشمسية، فمن المتوقع أن تظهر طرق جديدة للتفكير وسيعاد تقييم مكانة البشر في الكون الأوسع. على الرغم من أن البشر اليوم يمتلكون معرفة أكبر على المستوى الكمي، ويتباهون بامتلاكهم براعة تكنولوجية أكبر من معاصري نيوتن، فإن تشبيه نيوتن الخالد سيظل صحيحا: ما زلنا كالأطفال، نلعب بالحصى على الشاطئ، في حين يكمن أمامنا محيط شاسع مجهول.
الفصل الأول
نيكولاس كوبرنيكوس: فقدان المركزية
عالم الرياضيات الذي يدرس حركات النجوم يشبه بالتأكيد رجلا أعمى عليه أن يقوم برحلة خطرة كبيرة لا نهائية وسط أماكن مقفرة لا تحصى، وليس معه سوى عصى تقوده. (ريتيكوس، «المقال الأول» (1540)، 163) (1) بطليموس وكوبرنيكوس
كتب المؤلف المسرحي الألماني برتولت بريشت مسرحيته «حياة جاليليو» في المنفى في عامي 1938 و1939، ومثلت لأول مرة في زيوريخ في عام 1943. في مسرحية بريشت، تصطدم وجهتا نظر: هناك الرؤية الكونية القائلة بمركزية الأرض، التي ترى أن الأرض هي مركز لكون مغلق. ومن بين العديد من أنصارها هناك أرسطو (384-322 قبل الميلاد) وبطليموس (85-165 ميلادية)، ومارتن لوثر (1483-1546). على النقيض من ذلك هناك وجهة النظر المعارضة لمركزية الأرض، وهي الرؤية الكونية القائلة بمركزية الشمس، والتي ترى أن الشمس تحتل مركز كون مفتوح. ومن بين العديد من أنصارها هناك كوبرنيكوس (1473-1543)، وكبلر (1571-1630)، وجاليليو (1564-1642)، ونيوتن (1643-1727).
يعرض عالم الرياضيات والفيزياء الإيطالي جاليليو جاليلي في الفصل الأول على مساعده أندريا نموذجا للنظام البطلمي. تقبع الأرض في المنتصف، وتحيط بها ثماني حلقات. تمثل هذه الحلقات الأفلاك البلورية التي تحمل الكواكب والنجوم الثابتة. تجهم جاليليو وهو ينظر إلى هذا النموذج، وقال ممتعضا: «نعم، الجدران والمجالات والثبات. لمدة ألف سنة والناس يعتقدون أن الشمس وجميع نجوم السماء تدور حول الجنس البشري.» ويعتقد الجميع أنهم «كانوا يجلسون بلا حراك داخل هذا الفلك البلوري.» كانت الأرض ثابتة وكل شيء آخر يدور حولها. وأكد جاليليو لمساعده: «لكننا الآن سنتخلص منه.» لم تعد النجوم في النموذج الجديد «مثبتة في سماء بلورية»، بل سمح لها بأن «تدور في الفضاء دون دعم» (بريشت 1963؛ بلومنباخ، 1981، المجلد الثالث، 762-782).
في الفصل الثاني، يزور رجلان مثقفان، عالم رياضيات وفيلسوف، جاليليو في مكتبه لإلقاء نظرة على أقمار كوكب المشتري من خلال التليسكوب المكتشف حديثا. يشرح جاليليو باختصار إخفاقات النظام البطلمي لهما. ببساطة، هذا النظام لا يتفق مع الحقائق؛ فالكواكب ليست «في المكان الذي ينبغي أن تكون فيه نظريا» وحركات أقمار كوكب المشتري حول الكوكب - اكتشاف جاليليو العظيم - ببساطة لا يمكن تفسيرها من خلال النظام البطلمي. لا يمكن وصف ذلك بالكلمات! رؤية العين أفضل من الكلام. وبسذاجة إلى حد ما، يسأل جاليليو ضيفيه المثقفين هل كانا «مهتمين بالبدء من خلال مشاهدة أقمار كوكب المشتري تلك.» لسوء حظ جاليليو، رفض عالم الرياضيات والفيلسوف كلاهما دعوته، وبدلا من المشاهدة، طلبا «مناقشة رسمية» بالطريقة العلمية. سأله الفيلسوف: «يا سيد جاليليو، قبل أن نتوجه إلى تليسكوبك الشهير، أتساءل هل كنا نستطيع الحصول على شرف إجراء مناظرة؟ يمكن أن يكون موضوعها: هل يمكن أن يوجد مثل هذه الكواكب؟» يريدهما جاليليو ببساطة أن «ينظرا من خلال التليسكوب» ويقتنعا بنفسيهما. ويقول عالم الرياضيات: «بالطبع، بالطبع، أعتقد أنك على معرفة برأي القدماء بأنه لا يمكن أن توجد نجوم تدور حول مراكز أخرى غير الأرض، ولا نجوم توجد دون دعم في السماء؟» أضفى بريشت فحسب بعض الدرامية على حدث حقيقي. في رسالة إلى يوهانز كبلر (بتاريخ 19 أغسطس 1610)، أعرب جاليليو عن حزنه للرفض القاطع من أساتذة علميين، مثل سيزار كريمونيني - أستاذ العلوم الإنسانية في جامعة بادوا - لمشاهدة القمر والكواكب عبر التليسكوب المخترع حديثا (بلومنبرج، 1955، 637). (2) صراع رؤيتين كونيتين
يجسد بريشت في مسرحيته صراع رؤيتين كونيتين ببراعة وهو يرسم الحوار الدائر بين جاليليو وزائريه المثقفين. تنتهي المناظرة بعدم رضا كلا يعرض عالم الرياضيات والفيزياء الإيطالي الطرفين، وسريعا ما يغادر الزائران دون النظر عبر التليسكوب. إن الالتزام بفكرة مركزية الأرض يجعل زائري جاليليو يستخفان باستناده إلى الأدلة الرصدية. والتمسك بفكرة مركزية الشمس يجعل جاليليو يفقد الثقة في جدوى المناقشات العلمية. ومن أجل فهم طريقة وصول أنصار كلتا الرؤيتين المتعارضتين إلى هذا التصادم العنيف - على غرار الصدام الدرامي في مسرحية بريشت - علينا أن ندرس عن كثب الفرضيات الخاصة بهما. ينبغي أن ندقق في بنية الرؤية الكونية القائلة بمركزية الأرض والرؤية الكونية القائلة بمركزية الشمس.
مركزية الأرض تسبق مركزية الشمس بألفية ونصف. كان كوبرنيكوس يعرف السلف القديم أرسطرخس الساموسي، الذي طرح فكرة أن الأرض تتحرك، لكن مركزية الأرض ظلت التفسير الرسمي لبنية الكون حتى ذبولها البطيء في القرنين السادس عشر والسابع عشر. جرى الحوار بين جاليليو وزائريه في صيف عام 1610، وكانت فرضية كوبرنيكوس معروفة منذ 67 عاما. واستغرق اعتراف نظرية مركزية الأرض بالهزيمة أخيرا 77 عاما أخرى؛ حتى نشر كتاب «المبادئ» لنيوتن (1687). استغرقت رؤية كوبرنيكوس الكونية 144 سنة من المناقشات النشطة والبحث لتصبح راسخة. هل يمكن أن تستغرق ثورة علمية كل هذا الوقت؟ ما يهم بشأن الثورة ليس طول المدة التي تستغرقها، وإنما عمقها؛ فما يجعل التغيير ثوريا هو الإرباك الذي يحدثه في البنية الراسخة، قلب وجهات النظر، استبدال المسلمات. إنه يمثل إعادة ترتيب عامة لعناصر الشبكة، سواء أكان مفاهيميا أم سياسيا أم اجتماعيا. فتقتلع بعض عناصر النظام، ويستبدل بعضها، ويبقى بعض آخر. ولكي نفهم الثورة العلمية - الكتلة المتشابكة من العناصر الفلسفية والعلمية - نحتاج إلى فهم النظام «قبل» إعادة ترتيبه؛ لذلك، لكي نفهم الثورة الكوبرنيكية، نحتاج أن نفهم الرؤية الكونية القائلة بمركزية الأرض. (2-1) مركزية الأرض
الآن، بنى القدماء سماء فوق سماء، مثل طبقات في جدار، أو باستخدام تشبيه أقرب، مثل قشر البصل: الطبقة الداخلية تدعم الخارجية (...). (كبلر، «خلاصة الفلك الكوبرنيكي» 1618-1621، الكتاب الرابع، الجزء الأول)
Unknown page
مركزية الأرض أكثر بكثير من وجهة نظر تقول إن الأرض توجد ثابتة بلا حركة في مركز الكون؛ فهي ترقى إلى رؤية كونية نشأت عبر مرحلتين . أولا : قدم أرسطو علم الكونيات الفيزيائي؛ فن عمارة الكون الأكبر. تضمن علم الكونيات لديه نظرية مهمة للحركة. قدم أرسطو بعض الأفكار غير المرضية عن حركات الكواكب. قدم بطليموس في المرحلة الثانية علم الفلك الرياضي؛ هندسة حركات الكواكب. أعاق هذا التقسيم اليوناني للعمل بين علم الكونيات الفيزيائي وعلم الفلك الرياضي تطور علم الفلك لقرون (دكسترهوز 1956؛ ميترشتراسيه 1962، الفصل 4.4؛ دي سولا برايس 1962). وذلك لأنه يفصل بين سؤال الديناميكا عن الأسباب الفيزيائية - لماذا تتحرك الكواكب بطرق معينة؟ - وسؤال علم الحركة عن الحركة، كيف يمكن وصف حركة هذه الأجرام رياضيا؟ يتبنى بطليموس في كتابه «المجسطي» (نشر حوالي 150 ميلادية) هذا التقسيم صراحة. تتعامل الفيزياء مع الأجسام القابلة للفناء الموجودة على الأرض؛ فلا ترقى إلى أكثر من تخمينات، وهذا بسبب «الطبيعة غير الواضحة للمادة» أما الرياضيات، فهي تقدم معرفة محددة؛ لأنها تدرس طبيعة «الأشياء المقدسة والسماوية» (بطليموس 1984، 36). واستمر هذا التقسيم حتى اكتشاف قوانين كبلر للكواكب في بداية القرن السابع عشر. وبوصفها رؤية كونية، ادعت نظرية مركزية الأرض أنها تقدم تفسيرا علميا لما كان يعتبر حينها أنه الكون، وألزمت أتباعها بعدد من الالتزامات الفلسفية، كما قدمت رؤية شاملة ومتسقة عن الكون إلى المؤمنين بها. وكذلك فعلت نظرية مركزية الشمس. ثمة الكثير من الأمور على المحك، وقد صورت مسرحية بريشت على نحو صحيح اللقاء الفاتر بين رجال العلم الثلاثة في عام 1610 كتصادم بين رؤيتين كونيتين. (2-2) علم كونيات أرسطو
يبني أرسطو علم الكونيات الخاص به على أساس كون ذي فلكين ونظرية الحركة. وفي وقت لاحق قدم بطليموس بعض التحسينات الرياضية. (1)
يبني أرسطو كونا ذا فلكين. وهو مقسم إلى «الفلك فوق القمري»، الذي يضم القمر والمنطقة الواقعة خلفه، و«الفلك تحت القمري»، وهذه هي المنطقة بين الأرض والقمر. والأرض هي فلك صغير يقبع ثابتا في المركز الهندسي لفلك دوار أكبر بكثير يحمل النجوم. والنجوم عبارة عن علامات على الفلك الخارجي. وفي هذا التخيل يسبب الدوران المستمر للفلك الخارجي دورات النجوم اليومية. وبين الفلك الخارجي والأرض توجد أفلاك أصغر متحدة المركز تحمل الكواكب الستة التي كانت معروفة آنذاك، بما في ذلك الشمس (شكل
1-1 ).
شكل 1-1: الأفلاك الدائرية وترتيب الكواكب في العصور القديمة. تقع الشمس بين الكواكب الأخرى، وتقبع الأرض ثابتة بلا حركة في المركز.
يرى أرسطو أن الفلك فوق القمري منطقة في غاية «المثالية والتماثل والانتظام». رسم الإغريق هذه الدائرة كشكل هندسي مثالي؛ ولذلك تبعا لمثالية الفلك فوق القمري، من المفترض أن تتحرك النجوم والكواكب في دوائر مثالية. وعلى النقيض من ذلك، يمثل الفلك تحت القمري منطقة «تغيير وتقلب وفناء». ويمتلئ هذا الفلك تحت القمري بأربعة عناصر: التراب والماء والنار والهواء. وإذا لم تتعرض العناصر للاضطرابات، فإنها تستقر في صورة قشور متحدة المركز حول المنطقة المركزية التي تشغلها الأرض، ولكن بسبب الحركة في فلك القمر، تختلط العناصر في جميع أنحاء العالم تحت القمري؛ ومن ثم تعد حركات الفلك القمري مسئولة عن جميع التغيرات ومعظم أوجه التنوع المرصودة في العالم تحت القمري (كون، 1957، 82-83).
أرسطو (354-322 قبل الميلاد).
يبدو علم الكونيات المبني على مفهوم «البصلة الكونية» هذا غامضا للغاية بالنسبة للشخص الحديث، لكن في نظر القدماء، قدم أرسطو النظرية الأكثر شمولا وإقناعا لبنية الكون؛ فقد بدت مفسرة لبعض ملاحظات العين المجردة التي كانت موجودة في ذلك الوقت؛ فكما بدا، يمكن الاستدلال على مركزية الأرض من مسار الأجسام الساقطة على الأرض والحركة الدائرية للنجوم.
شكل 1-2: نموذج متماثل المركز بسيط. يقع كوكب الأرض في المركز، وتحيط به الحلقات أو القشور المتحدة المركز (الأفلاك) الحاملة للكواكب (انظر أندرسن/باركر/تشن، 2006، الفصل 4.6؛ باركر 2002). وتحمل الدائرة الخارجية النجوم البعيدة. يفشل هذا النموذج لأن الكواكب تتحرك على مسافات متفاوتة من الأرض.
اقتداء بالفيلسوف اليوناني والفلكي إيودوكسوس (408-355 قبل الميلاد)، افترض أرسطو أن الكواكب والنجوم كانت تتحرك في قشور متحدة المركز (أو أفلاك) حول الأرض الواقعة في المركز (شكل
Unknown page
1-2 ). بدراسة أكثر دقة، يجب أن يفشل هذا النموذج البسيط، بل إنه حتى لم يتوافق مع ملاحظات الإغريق؛ فعلى سبيل المثال، إذا كانت الشمس محمولة حول الأرض المركزية في قشرة متحدة المركز، كان الليل والنهار سيبقيان دائما متساويين في الطول. مع ذلك، عرف الإغريق من ملاحظاتهم أن النهار والليل لهما أطوال متغيرة، اعتمادا على فصل السنة (انظر القسم 3-2). ولاحظ الإغريق أيضا أن الكواكب تتحرك على مسافات متفاوتة حول الأرض. كان لا بد من إسقاط نموذج الأفلاك متماثلة المركز؛ فقد كان متناقضا مع المشاهدات الأولية. كان من بين إنجازات بطليموس أنه شيد نموذجا هندسيا على أساس الهندسة الأكثر تعقيدا. وتضمن ذلك اختراع أجهزة جديدة هندسية: الدوائر اللامتراكزة وأفلاك التدوير والمؤجلات والموازنات (دكسترهوز 1956، 147؛ روزن 1959، المقدمة؛ كوبرنيكوس، «الشرح المختصر» 1959، 57؛ كوبرنيكوس 1543، الكتاب الخامس؛ دراير 1953، 143). (2)
رغم الاستبدال السريع لوجهات نظر أرسطو البدائية إزاء أفلاك الكواكب، كانت «نظرية الحركة» التي خرج بها هي المساهمة الأبقى أثرا بكثير. لقد ابتكر أرسطو نظرية الحركة المهمة الخاصة به لدعم نموذجه للكون. فنموذج «البصلة» الكونية جعل الأرض جسما مركزيا ثابتا. كيف يمكن تبرير هذه المركزية؟ ادعت نظرية الحركة تقديم آلية فيزيائية لتفسير مسار كافة الأجسام، الأرضية والسماوية على حد سواء.
وفقا لنظرية الحركة لأرسطو، فالأجسام إما تظل ساكنة أو تتحرك في خط مستقيم: فالحجر يسقط عائدا نحو مركز الكون، الذي تقبع فيه الأرض، والدخان يرتفع إلى أعلى نحو السماء؛ بحثا عن مكانه الطبيعي. تشكل الحركة صعودا وهبوطا الحركات «الطبيعية» للأجسام. ويتطلب صرف الأجسام عن حركتها الطبيعية دفعة أو قوة خارجية. ولكي تتحرك الأجسام فإنها تحتاج إلى محرك يحركها؛ فلا حركة من دون محرك: «كل شيء يتحرك عن طريق شيء آخر» (أرسطو 1952أ، الكتاب السابع والثامن). بالطبع، استطاع أرسطو أن يلاحظ أن المقذوفات لا تتصرف بهذه الطريقة؛ فالحجر المقذوف في الهواء أو السهم المنطلق من القوس يطير عادة في مسار على شكل قطع مكافئ قبل عودته إلى الأرض. واستطاع أرسطو أن يفسر حركة القذيفة؛ فبعد إطلاق الجسم من المحرك، أصبح الهواء المضطرب هو مصدر الدفعة الخارجية، وأطال أمد حركة القذيفة.
1
وفي النهاية يستسلم الجسم إلى زاوية ميله من أجل العودة إلى الأرض.
الحركة الطبيعية للأجرام السماوية دائرية، والحركة الدائرية مستمرة ولا تنتهي. ويرى أرسطو أن الحركة المستمرة - الحركة الدورانية للكواكب - يسببها محرك ثابت؛ ذات إلهية (أرسطو 1952أ، الكتاب الثامن).
وهكذا فإن الأجسام لها حركات طبيعية وغير طبيعية، كما أنها تحتل أماكن طبيعية في الكون. اعتقد أرسطو أن اللبنات الأساسية الأربعة للكون - التراب والماء والنار والهواء - تشغل مواضع طبيعية في الأرض وبالقرب منها. وإذا دفعت العناصر بعيدا عن مواقعها الطبيعية، فإنها «تسعى» لاستعادة موقعها الطبيعي؛ فعندما يرفع حجر من الأرض ويطلق بعيدا، فإنه يسعى إلى استعادة موقعه الطبيعي. وعندما تشعل النار، فإن ألسنة اللهب والدخان تقفز لأعلى نحو مكانها الطبيعي في محيط المنطقة الأرضية. والمكان الطبيعي للتراب هو في المركز الهندسي للكون. وبالنسبة لجسم ثابت، يجب أن يكون موجودا في مركز السماوات الدوارة؛ ولذلك، يخلص أرسطو إلى حتمية وجود الأرض (أرسطو 1952ب، الكتاب الثاني). وأية قطعة من الأرض ستسقط دائما إلى حيث تنتمي طبيعيا؛ أي المركز الهندسي للكون. ومن خلال هذه الحجج المستمدة من الفيزياء الأرضية، لم يستنتج أرسطو مركزية الأرض وحسب، ولكن استنتج أيضا ثباتها وكرويتها (أرسطو 1952ب، الكتاب الثاني)، كما يشير إلى أنه خلال الخسوف القمري، يكون شكل ظل الأرض على القمر «منحنيا دائما»، وعندما يسافر الراصدون شمالا وجنوبا على امتداد أحد خطوط الطول، فإنهم يرون نجوما مختلفة في السماء. ولاحقا أضاف بطليموس بعض الحجج الأخرى. كانت الشمس والقمر والنجوم تشرق مبكرا بالنسبة لسكان المناطق الشرقية من العالم عن إشراقها بالنسبة «لأولئك الذين يعيشون في الغرب» (بطليموس 1984). •••
يشكل كون أرسطو المادي ونظريته للحركة رابطا منطقيا؛ فنظرية الحركة تجعل الكون منطقيا، ويوفر كونه الإطار اللازم للظواهر المادية كي توضع في فلكين منفصلين. تحكم قوانين الحركة الأرسطية الفلك تحت القمري؛ فالفيزياء الأرضية تحكم الفلك تحت القمري، وتفسر قوانين الحركة المشاهدات المرصودة في هذه المنطقة من الفضاء: سقوط الأجسام الثقيلة وارتفاع الأجسام الخفيفة. وتنطبق الفيزياء السماوية في الفلك فوق القمري، وهذه هي منطقة الكمال، ولا تحوي سوى الأشكال الكروية والحركة الدائرية، كما أنها منطقة محدودة. في مسرحية بريشت، تذمر جاليليو من «جدران» و«جمود» كون مركزية الأرض. وقدرت المسافة بين الأرض والنجوم بأنها عشرون ألف ضعف طول نصف قطر الأرض، وهذا التقدير أقل من المسافة بين الأرض والشمس المعروفة حاليا (زيليك 1988، 29-31). ويشمل الحد الخارجي فلك النجوم الثابتة. وعلى الرغم من أن هذا الفلك يدور دورة كاملة كل 24 ساعة حول الأرض الثابتة، تبدو النجوم ثابتة لأنها تعود إلى الظهور في الموقع نفسه بعد كل دورة كما كانت في الفترة السابقة. والكواكب مناقضة لذلك، فهي «نجوم سيارة»، لأنها تقوم بحركات ملحوظة يمكن تتبعها خلال السماء. وكون أرسطو هو كون يعاني من نقص في الطاقة. وهذا النقص في الطاقة نتيجة مباشرة لنظرية أرسطو للحركة؛ فلا حركة من دون محرك؛ فالأجرام السماوية تتحرك في أفلاكها عن طريق محرك موجود خارج الفلك الخارجي. يتطلب كون أرسطو طاقة من وراء نطاق النجوم الثابتة؛ فهو كون متناه محدود. وكما سنرى فإن كون كوبرنيكوس أيضا كون محدود ولكنه لم يعد يعاني نقصا في الطاقة. (2-3) مركزية الأرض عند بطليموس
قدم لنا أرسطو علم الكونيات ونظرية للحركة. وكانت هذه الخطوة الأولى في بناء نظرية مركزية الأرض. استكملت الخطوة الثانية بعد عدة مئات من السنين، وتطلب الأمر هندسيا بارعا للقيام بذلك؛ وهو كلاوديوس بطليموس. كان بطليموس الفلكي الأول الذي يصمم نظاما رياضيا كاملا للكون، وقد تنبأ بحركات الكواكب بدقة في حدود 5 درجات من القيم الحديثة. كان نموذجا يعتمد على مركزية الأرض مبنيا عن طريق المنطق الهندسي. ولاحقا سيبني كوبرنيكوس نظاما يعتمد على مركزية الشمس، وسيبنيه أيضا معتمدا على المنطق الهندسي. استخدم بطليموس الهندسة لوصف المشاهدات الفلكية. وكان يتفق مع أرسطو بأن الأفلاك السماوية، التي تحمل الكواكب، تقوم بحركة منتظمة. كما افترض أن الأرض كروية، وموجودة في مركز الكون، وثابتة؛ فكان يرى أنه إن لم تكن الأرض مركز الكون، لم يكن سيحدث اعتدالان، وأن «الفترات الفاصلة بين الانقلاب الصيفي والشتوي لن تكون متساوية» (بطليموس 1984). قدم بطليموس أسبابا وجيهة تماما لرفض الفكرة السخيفة بوجود أي حركة للأرض. ويقال إن أرسطرخس الساموسي (310-230 قبل الميلاد) أشار إلى الدوران اليومي والسنوي للأرض (دراير 1953، الفصل السادس ، 136-148؛ دكسترهوز 1956، الفصل الأول؛ كون 1957، الفصل الأول؛ كوستلر 1964، 50-52)، ولكن إذا كانت الأرض تتحرك، فسكانها سيشعرون بآثار ذلك بوضوح؛ فإذا كانت الأجسام التي تلقى في خط مستقيم لأعلى في الهواء تعود في خط مستقيم إلى النقطة التي أطلقت منها، والمباني تنهار تحت وطأة الحركة، وإذا كانت الطيور تطير من الغرب إلى الشرق (بطليموس 1984؛ قارن كوبرنيكوس 1543، الكتاب الأول)؛ كان منطقيا - بالنسبة للعقل الإغريقي - أن الأرض ثابتة.
كلاوديوس بطليموس (100-175 ميلادية).
Unknown page
ولكن ثمة مشكلة؛ فالراصد الأرضي لا يرصد انتظام حركة الكواكب مقابل خلفية من النجوم الثابتة. كان ينبغي على بطليموس - على غرار الفلكيين الآخرين من قبله - تفسير اختلافين رئيسيين في حركة الكواكب من منطلق فرضياته الأساسية؛ أولا: مسألة «الدوران غير المنتظم» للكواكب، وثانيا: «الدوران القهقري» لها. تنشأ المشكلة بسبب أن المشاهدات لا تتفق مع الفرضيات البطلمية عن حركات الكواكب. المشكلة الأساسية لعلم الفلك القديم هي بناء نماذج هندسية تؤكد الفرضيات المسبقة وتفسر ظاهريا الحركات الواضحة للكواكب. إنها مشكلة الحفاظ على المظاهر البادية، وليس بناء نماذج واقعية للنظام الشمسي. وعلى غرار أسلافه الإغريقيين، اعتمد بطليموس على النماذج الهندسية لحل هذه المشكلات. حاول بطليموس ملاءمة المشاهدات مع فرضياته التي لا جدال فيها: الحركة الدائرية للأجرام السماوية ونظرية أرسطو للحركة، ولكن بطليموس حسن من فائدة النماذج. ابتكر بعض أسلاف بطليموس - على غرار هيبارخوس (190-125 قبل الميلاد) - أدوات هندسية جديدة للتعامل مع هذه المشكلات، وقد استخدمت «الحركة اللامتراكزة» من أجل حل المشكلة الأولى، واستخدمت «أفلاك التدوير» لحل المشكلة الثانية. وأشار بطليموس في كتابه المجسطي على نحو متكرر إلى أعمال هيبارخوس، عادة بقصد تحسينها، وقدم جهازا هندسيا جديدا (الموازن) للوصول إلى نموذج هندسي أفضل للظواهر البادية. وكان يعالج كل مشكلة على حدة. على سبيل المثال، في تعامله مع الحركة السنوية الظاهرة للشمس حول الأرض، تجاهل الحركة اليومية الظاهرة. وخلافا لنموذج كوبرنيكوس، لا يقدم نموذج بطليموس نظاما تكون فيه الظواهر البادية ناتجة عن عامل مشترك؛ على غرار حركة الأرض حول الشمس.
كانت المشكلة الأولى هي «الدوران غير المنتظم» للكواكب عبر دائرة الأبراج ، بغض النظر عن تأثير الدوران القهقري، كما أوضح كبلر لاحقا، فإن الكواكب لا تدور حول الشمس بسرعة موحدة. فكلما كان الكوكب أقرب إلى الشمس، تحرك على نحو أسرع، وكلما ابتعد عن الشمس كان سيره أكثر بطئا، ولكن لم يستطع الإغريق تقبل أن الدوران غير المنتظم حقيقي. كان يجب أن يكون ظاهريا.
كيف يمكن لحركة دائرية منتظمة أن تفسر حركة غير منتظمة؟ الجواب هو الحركة اللامتراكزة (الشكل
1-3 ).
وفق ذلك النموذج كانت الشمس تتحرك حول الأرض عبر دائرة لا متراكزة بسرعة منتظمة. وتوصف الدائرة بأنها «لا متراكزة» لأن الأرض لا تقبع في مركزها. فبينما تدور الشمس حول مركز الدائرة اللامتراكزة، فإن الأرض تكون بعيدة قليلا عن المركز، والمسافة بين هاتين النقطتين مسئولة عن ظهور الاختلاف في الحركة. وكما يرى من وسط الدائرة اللامتراكزة، يتحرك الكوكب من خلال زوايا متساوية في أزمنة متساوية، ولكن كما يرى من الأرض، هذا الكوكب يتحرك من خلال زوايا مختلفة في أزمنة متساوية. بالنسبة للراصد الأرضي، عندما يكون الكوكب أقرب إلى الأرض، يبدو أنه يتحرك على نحو أسرع.
شكل 1-3: الحركة اللامتراكزة. تفسير الدوران غير المنتظم الظاهر من خلال افتراض الدوران المنتظم. تدور الشمس على نحو منتظم حول نقطة مركز الدائرة اللامتراكزة، ومع ذلك، عند النظر من الأرض، فإن الدوران المنتظم يبدو غير منتظم. في الموقع 1 تظهر الشمس في أبعد نقطة عن الأرض (نقطة الأوج)، بينما في الموقع 2، تظهر في أقرب نقطة لها إلى الأرض (نقطة الحضيض).
المشكلة الثانية هي الحركة الشاذة الواضحة باتجاه الغرب للكواكب بالنسبة للنجوم؛ أو «الدوران القهقري»، المصحوب بتغيير في درجة السطوع. بالنسبة للكواكب الخارجية، تحدث هذه الحركة قرب وقت المواجهة الشمسية عندما يكون الكوكب في مواجهة الشمس في السماء. وبالنسبة للكواكب الداخلية، مثل عطارد والزهرة، فإنها تحدث عند الاقتران السفلي، عندما نراهما قريبين أحدهما من الآخر مع الشمس في السماء. فيبدو أن مسار الكواكب العادي المتجه شرقا قد توقف؛ فلبعض الوقت، يرى الراصدون الكواكب تتجه غربا (شكل
1-4 ).
شكل 1-4: مخطط مبسط لحركة الدوران القهقري الظاهرية لكوكب الزهرة كما ترى عن طريق راصد أرضي. «يحدد» الراصد موضع الزهرة مقابل خلفية النجوم بينما يستعد الكوكب لتجاوز الأرض في مدارها؛ الموقع 1. عندما يتجاوز الزهرة الأرض، يرصد الراصد ظاهرة ثانية: كما هو متوقع، انتقل الزهرة من الغرب إلى الشرق؛ الموقع 2، ولكن في مرحلة لاحقة، تكشف مشاهدة ثالثة عن تقهقر ظاهري وغير طبيعي في مدار كوكب الزهرة نحو الغرب. في نظرية مركزية الشمس، يرجع ذلك إلى الوضع النسبي للأرض بالنسبة للزهرة حول الشمس (انظر زيليك 1988، 40؛ كوبرنيكوس 1543، الكتاب الخامس).
حل ظهور حركة الدوران القهقري باستخدام جهاز أفلاك التدوير الهندسي. تحمل الكواكب على دوائر أصغر حجما (أفلاك التدوير) تتحرك على دوائر أكبر منها (المؤجلات). على الرغم من أن الإغريق رصدوا الدوران القهقري، فإنه كان ظاهريا، وليس حركة حقيقية؛ فالحركة الحقيقية للأجرام السماوية تتطلب حركة دائرية منتظمة. كانت المهمة تتمثل في بناء نماذج متلائمة مع المشاهدات دون انتهاك الفرضيات المسبقة. وضع نموذج للدوران القهقري عن طريق إضافة «مؤجل»، مع بقاء الأرض في المركز، ووجود دائرة صغيرة - فلك التدوير - مركبة على مؤجل (شكل
Unknown page
1-5
أ). يتحرك نصف قطر فلك التدوير والمؤجل في الاتجاه نفسه. وبالنسبة للراصد الأرضي، يقوم الكوكب بحركة دوران قهقرية بينما يمر من خلال الجزء السفلي من حركة فلك التدوير، ومع ذلك، فهذا النموذج مفرط البساطة؛ فلا يمكنه تفسير التغيرات المرصودة في الحركة القهقرية للكواكب. ولتفسير الاختلاف، اخترع بطليموس جهازا جديدا: «الموازن» (شكل
1-5
ب)؛ وهو نقطة وهمية على الجانب الآخر من مركز المؤجل كما يرى من الأرض. وعند الموازن، يرى الراصد الكوكب يتحرك حول مداره في السماء بسرعة منتظمة بالنسبة للنجوم، ولكن عند النظر من الأرض بعيدا عن مركز الدائرة، تبدو الحركة غير منتظمة.
شكل 1-5: (أ) حركة غير منتظمة. يحدث الدوران القهقري عندما يتحرك الكوكب من الموضع 1 إلى الموضع 2 على فلك تدويره. (ب) الموازن. التفسير الهندسي للدوران القهقري بواسطة جهاز جديد، الموازن (انظر كوبرنيكوس 1543، الكتاب الثالث؛ بطليموس 1984؛ أندرسن/باركر/تشن 2006، الفصل 3.6). من المفترض أن يكون هذا التمثيل نموذجا أكثر توافقا مع البيانات من النموذج الأولي. من وجهة نظر الموازن، تبدو حركة الكوكب في فلك التدوير منتظمة. وأدخل مزيد من المرونة من خلال السماح للأرض بالوجود إما في مركز المؤجل أو بجوار المركز، كما هو مبين في الرسم البياني.
من أجل دراستنا الفلسفية اللاحقة، ينبغي أن نلاحظ عدة نقاط: كان بطليموس مدركا للغاية لدور النماذج التمثيلية في نظريته. وكانت طريقته المعتادة هي استخدام النماذج الهندسية، ولكن من أجل تمثيل النجوم الثابتة اختار كرة مصمتة كنموذج مصغر (بطليموس 1984). وفي الوقت نفسه، كان بطليموس قلقا حيال ملاءمة فرضياته الخاصة بمركزية الأرض. وكان متشككا بما فيه الكفاية لتحذير قرائه بعدم توقع أن يمثل نموذجه الهندسي الظواهر السماوية على نحو دقيق (بطليموس 1984، 600-601). وعلى غرار كون أرسطو ذي الفلكين، حذر بطليموس من أن النماذج الهندسية المبتكرة على يد أحد سكان الأرض لا يمكن أن تصف بدقة كمال الظواهر السماوية. وكما سنرى، فإن مسألة كيفية تمثيل النماذج للواقع المادي تعد محط اهتمام بالغ لدى الفلاسفة. وأخيرا، اتفق بطليموس مع العرف الإغريقي بأن نماذج أفلاك التدوير والدوائر اللامتراكزة كانت أجهزة مماثلة (بطليموس 1984؛ روزن 1959، 37؛ 1984، 27؛ دكسترهوز 1956، 1). وأي من هاتين الفرضيتين سوف تفسر ظهور الدوران غير المنتظم للكواكب بالنسبة للراصد الأرضي، ومع ذلك، تبنى بطليموس مبدأ استخدام الفرضية الأبسط فحسب (بطليموس 1984). ويثير قبول المتماثلات قضايا فلسفية مثيرة للاهتمام فيما يتعلق بالتفسير والتمثيل. فإذا كانت الدائرة اللامتراكزة تمثيلا جيدا مثل جهاز المؤجل-فلك التدوير، ألا توجد وسيلة لتحديد أيهما يتناسب مع النظام المادي الفعلي على نحو أفضل من الآخر؟ هذه المخاوف من التبعات الفلسفية للنظريات العلمية.
قبل أن نذكر بعض التطورات في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، والتي خلقت ظروفا مناسبة لظهور الثورة الكوبرنيكية، ينبغي أن نضيف بعدا تاريخيا آخر؛ وهو التآلف بين «النظرية الأرسطية واللاهوت». وهذا البعد التاريخي هو ما يستطيع وحده أن يوضح أسباب الصدام بين جاليليو والكنيسة في القرن السابع عشر، وقد طور هذا التآلف توما الأكويني (1225-1274) وألبيرتوس ماجنوس (1206-1280)، وغيرهما.
وفقا لتوما الأكويني، تعتمد المعرفة الحقيقية على التجربة الحسية. ويؤكد ألبيرتوس ماجنوس أيضا أن دراسة الطبيعة تقوم على التجربة الحسية، التي تقدم أعلى شكل من أشكال الإثباتات. وحيثما نفتقر إلى المعرفة، علينا أن نلتمس الوحي. فكمال السماوات - المفترض في التقاليد الإغريقية - يكافئ الآن القدرة الإلهية. ونتيجة لذلك، تقتصر معرفتنا على العالم على المدار تحت القمري. فكمال السماوات يتجاوز قدرات التفكير لدينا. يرحب الأكويني بالدراسة المنهجية للطبيعة؛ لأنه يرى في ذلك وسيلة لاكتساب المعرفة من حكمة الإله. وبعبارات أكثر حسما نقول إن توما الأكويني يأمل أن تساعد الدراسة المنهجية للطبيعة في القضاء على الخرافات. وانقيادا لهذه الشروط، لا يجوز نشأة صراع بين الفكر والوحي؛ لأن عقلنا ضعيف وذو نقائص، وفي مسائل الشك يجب أن يخضع للحقائق الأبدية كما وردت في الوحي. كان هذا توجها ذهنيا شائعا في العصور الوسطى. يدافع روجر بيكون (حوالي 1210-1292) عن فكرة مماثلة. تكمن قيمة العلم في مساهمته في تفسير الكتاب المقدس؛ فهو يساعد على تمجيد الرب. وبمجرد أن اعتنقت الكنيسة مذهب أرسطو، أصبحت كل الانتقادات التي وجهت إلى نظرية مركزية الأرض نقدا موجها أيضا للاهوت والكنيسة.
ومع ذلك فقد حدث تقدم، وحدثت بعض التطورات قرب نهاية العصور الوسطى. بيد أن التقدم اعتمد على القدرة على التغلب على الفرضيات التي لا جدال فيها، والتي تفرض قيودا على النماذج المسموح بها. ويمكن التعبير عن هذه الحاجة لإزالة الفرضيات المسبقة قبل أن يحدث التقدم بعبارات كانط. يسأل كانط على نحو عام للغاية متقلدا دور كوبرنيكوس ولكن في الفلسفة: «ما شروط إمكانية حدوث المعرفة؟» وقياسا على ذلك، يمكننا أن نسأل: «ما شروط إمكانية حدوث الثورة الكوبرنيكية والداروينية والفرويدية؟» ما الفرضيات الجديدة اللازمة لتكون نظرية كوبرنيكوس قادرة على الظهور؟ وقع التشكيك في الفرضيات القديمة على مرحلتين: جذبت نظرية أرسطو للحركة التدقيق النقدي قبل التشكيك في فكرة الحركة الدائرية. (2-4) تنحية الفلسفة جانبا: دلائل المستقبل
لنعتبر نظرية أرسطو للحركة وكونه المادي، أو أجهزة بطليموس، بمنزلة تعليمات مصاحبة لمجموعة من الأدوات نحاول من خلالها بناء نموذج للكون. لبنات البناء لدينا هي نجوم ثابتة وكواكب، وأفلاك دائرية، وأرض ثابتة. تتضمن ورقة التعليمات لدينا شرطا إضافيا: يجب أن يكون النموذج الذي نبنيه قريبا بأكبر قدر ممكن مما ترصده العين المجردة. الأكثر لفتا للنظر هو أننا نرصد حركة الكواكب على خلفية النجوم، وتعاقب الفصول، والتتابع المنتظم لليل والنهار. بوجود هذه العناصر في متناول أيدينا، لا يمكننا أن نبني سوى نموذج قائم على مركزية الأرض. يجب أن تتحرك الشمس والكواكب وحتى خلفية النجوم الثابتة البعيدة أمام أعيننا؛ لذا يجب وضع الأرض في مركز هذه الحركات، وإلا فإننا سنعجز عن أن نفسرها (شكل
Unknown page
1-1 ).
إذا اتبعنا التعليمات، فإن قدرتنا على بناء نوع «واحد» من النماذج تمثل في الوقت نفسه عجزا عن بناء نموذج «مختلف». يمكننا التفكير في مجموعة الأدوات كإنشاء فضاء، على نحو أدق «فضاء محدد»، لاستيعاب النموذج الكوني. هذا الفضاء المحدد فضاء منطقي؛ لأنه يخلق بعض الاحتمالات المحددة لبناء النموذج، سواء تحققت أم لا. سيسمح لنماذج من النوع الهندسي أن تشغل هذا الفضاء، وستستبعد أنواع النماذج الأخرى. وتخضع لعبة الاحتمالات والمستحيلات للقيود التي نقبلها. عمل أرسطو في ظل قيود نظريته للحركة والكون ذي الفلكين. إذا غيرنا هذه القيود، فسيظهر فضاء منطقي آخر، ويستوعب أنواعا أخرى من النماذج. ويمكن فهم «القيود» على أنها شروط مقيدة، يجب التوافق مع عباراتها الرمزية من أجل أن تصبح عبارات علمية مقبولة بشأن العالم الطبيعي. وهذا يعلمنا بعض الدروس التي ستثير اهتمام فيلسوف العلم. (1)
تأتي النظريات العلمية مصحوبة ببعض «القيود»: قيود تجريبية ونظرية يمكن تقسيمها أكثر إلى قيود حسابية ومنهجية وميتافيزيقية. وتعمل النظريات العلمية في ظل هذه القيود. وباستثناء القيود التجريبية، تمثل هذه القيود «فرضيات مسبقة». الفرضيات هي افتراضات أساسية محمية - على الأقل في الوقت الراهن - من التحقيق النقدي، كما تقبل على أنها «حقيقية»؛ فهي بمنزلة بداهات تاريخية. إنها ليست معصومة من الشكوك، لكنها تظل حقائق لا جدال فيها لفترات معينة من الزمن. وسواء كانت صحيحة أو خاطئة، فإنها توجه الأبحاث في اتجاهات معينة. تحتوي مجموعة أدوات أرسطو مثل هذه الفرضيات؛ فالكون ذو الفلكين وأجهزته الهندسية - بما في ذلك نظرية الحركة - يشكلان الفرضيات الأرسطية. يمكن أن تتعرض الفرضيات للشكوك. وحدث هذا عندما استبدلت أجهزة أخرى بحلقات أرسطو المتحدة المركز. ومن خلال هذا التدقيق، تعدل القيود أو ترفض. وبالفعل، سوف يغير التعديل على تعليمات النموذج، مع الحفاظ على العناصر، احتمالات بناء النموذج. على سبيل المثال، اعتماد أفلاك التدوير خلق فضاء لنموذج بطليموس. وأحيانا التعديل على أحد القيود يكون أكثر تأثيرا. حرر التشكيك في نظرية الحركة الأرسطية والاستعاضة عنها بما يسمى «نظرية الزخم» الفضاء المقيد من أجل تطوير نظريات جديدة. من الصعب أن نتصور كيف يمكن أن تظهر نظرية مركزية الشمس لو لم تتغير بعض الفرضيات الأساسية (بلومنبرج 1965، الفصل 1). على سبيل المثال، كان كوبرنيكوس قادرا على رفض بعض الاعتراضات الكلاسيكية ضد حركة الأرض، لأنه لم يعد يسلم بنظرية الحركة الأرسطية. فسمح له تطور نظرية الزخم باعتبار أن حركة الأرض أمر طبيعي. (2)
يمكننا أن نرى أيضا أن بناء النموذج الكوني لا يقتصر على قراءته من المشاهدات المتاحة وحسب. فلا يمكن أن يكون كذلك إذا كانت الفرضيات واقعا للتفكير العلمي بقدر وسائله ونتائجه (فاينرت 2004). حتى وجهة النظر الاستدلالية البسيطة للمنهج العلمي لن تكفي، على الأقل ليس في حالة الثورات العلمية. لنسم وجهة النظر، التي ترى العلم تعميما مباشرا نابعا من المشاهدات والتجارب، «الاستدلال بالتعدد». انتقد فرانسيس بيكون بالفعل وجهة النظر تلك. فثمة طريقة أكثر تطورا تسمى «الاستدلال الإقصائي»، وأوصى فرانسيس بيكون بوجهة النظر هذه باعتبارها منهجا علميا مثمرا. لقد أطلق عليها اسم «الاستدلال الإقصائي»؛ لأن النماذج البديلة أو المنافسة تواجه بالأدلة التجريبية وغيرها من صور القيود. والنموذج الذي يبلي على نحو أفضل في ضوء هذه القيود سوف يكتسب مصداقية، في حين أن النموذج المنافس سوف يفقدها. إذن، تتطلب وجهة النظر هذه وجود نموذجين متاحين على الأقل يواجهان الأدلة. وكما سنرى، حدثت الثورتان الكوبرنيكية والداروينية من خلال الاستبعاد التدريجي لنماذج فاشلة في مواجهة عدد متزايد من القيود. أما وجه الصعوبة في الثورة الفرويدية فهو بالتحديد أن الأدلة المتوفرة غير قادرة على ترجيح كفة بعض النماذج عن كفة منافسيها . هل الأسلوب العلمي الغالب هو الاستدلال الإقصائي أم مبدأ الدحض الأكثر شيوعا، كما اقترحه كارل بوبر؟
وحتى في هذه المرحلة المبكرة من المناقشة، من الجيد طرح هذه الأسئلة الفلسفية؛ لأن القضايا الفلسفية لا يمكن فصلها عن الأمور العلمية والتاريخية، وهذا أحد الفرضيات الرئيسية في هذا الكتاب. بعبارة أخرى: «الثورات العلمية لها تبعات فلسفية.» وسنقابل هذا المنطق في كثير من النقاط على مدار الكتاب. (3)
ثمة سؤال مباشر يطرأ على الذهن، وليس فقط لذوي النزعة الفلسفية. هل هذه الأدوات الهندسية تمثل فعليا أفلاكا مادية، في حين أن الاختلافات غير المنتظمة مجرد ظواهر؟ هل هذه الأدوات الهندسية - فلك التدوير والمؤجل، والموازن والدوائر اللامتراكزة - تصف آلية فيزيائية ما موجودة في الطبيعة؟ هذه هي مسألة القوة «التمثيلية» للنماذج العلمية، التي شغلت بطليموس بالفعل. هل التمييز بين الظواهر والواقع - بين الطريقة التي يبدو أن الكواكب تتحرك بها وفقا للرصد بالعين المجردة والطريقة التي قيل إنها تتحرك بها وفقا للفرضيات الإغريقية - يتوافق مع سمة فيزيائية ما للكون؟ إذا كنا مهتمين بماهية العلم وما يفعله، فإن مثل هذه الأسئلة - على الرغم من أنها فلسفية بطبيعتها - لا مفر منها. وأيا كان الموقف الذي نتخذه استجابة لهذه الأسئلة، فإنها فعليا تؤدي دورا حقيقيا. انقسم أنصار نظرية مركزية الأرض حيال هذه المسألة؛ إذ اعتقد أرسطو أن الأفلاك كانت أفلاكا مادية حقيقية، كما تمتلك حركة طبيعية: دوران دائري. والحركة الطبيعية لتلك الأفلاك تحرك كل الأجرام السماوية، وهي تعتمد على محرك ثابت من أجل الحصول على احتياجاتها من الطاقة. كان بطليموس أقل تأكدا بكثير من الواقع المادي للكرات البلورية وأفلاك التدوير والمؤجلات التي استخدمها كأدوات هندسية. بالتأكيد كانت وظيفتها هي «تفسير الظواهر»، ولكن بطليموس لم يعتقد أن الأدوات الهندسية ملائمة للظواهر السماوية على نحو تام (بطليموس 1984، 600-601؛ دراير 1953، الفصل التاسع). حاولت النماذج الإغريقية التوفيق بين ما ترصده العين المجردة وبين فرضيات مسبقة بشأن العالم المادي. فلم تعتمد فرضيات وجود الحركة الدائرية المنتظمة، والكون ذو الفلكين، والأدوات الهندسية على الرصد . بل على العكس من ذلك ، بدت المشاهدات متعارضة مع الفرضيات. يا لسوء حظ المشاهدات! لم يشجع الفصل بين علم الكون الفيزيائي وعلم الفلك الرياضي علماء الفلك الإغريق على التفكير في المشاهدات كاختبارات للنماذج الرياضية. كان السؤال هو هل كانت النماذج تستطيع تحقيق ما هو أكثر من «تفسير الظواهر». يؤدي هذا السؤال إلى أفكار الفلسفة الذرائعية والواقعية؛ التفسير والتمثيل.
عانت نظرية مركزية الأرض من حالة عدم اليقين فيما يتعلق بالواقع المادي للنماذج الهندسية حتى لحظة زوالها النهائي، وقد أعرب العالم العربي تحديدا، الذي حافظ على تقاليد علم الفلك الإغريقي طوال العصور الوسطى، عن كثير من المعارضة ل «واقع» الأدوات الهندسية (روزن 1984)، ولكنها ظلت مستخدمة لنحو 1400 سنة، وقد تنبأت هذه الأدوات بمواقع الكواكب في حدود الدقة المطلوبة من جانب علماء الفلك الذين اعتمدوا على الرصد بالعين المجردة. واتبع هؤلاء العلماء نظرية الحركة الأرسطية وكون أرسطو.
كما نرى، أشار وصف نظرية أرسطو-بطليموس لمركزية الأرض إلى بعض القضايا الفلسفية العامة، التي يصعب فصلها عن المادة العلمية. (2-5) زعزعة الفرضيات المسبقة: بعض التطورات في العصور الوسطى (...) من خلال غاية الحركة ثبت «أن الحركة جزء من الأرض بوصفها وطنا للمخلوق المفكر.» (كبلر، «خلاصة الفلك الكوبرنيكي» (1618-1621)، الكتاب الرابع، الجزء الأول)
في مسرحية بريشت تصادم جاليليو مع ممثلي «المدرسة السكولاستية» (التمسك الشديد بالتعاليم التقليدية). يؤمن جاليليو بمركزية الشمس، والمشاهدات، واستقلال المنهج العلمي. يمثل عالم الرياضيات والفيلسوف عالما متدهورا؛ فهما يضعان ثقتهما في العلم الموجود في الكتب، وخبرة القدماء، ويتشبثان بإيمانهما بمركزية الأرض. يحاول جاليليو زعزعة معتقدات زائريه، ولكنها ليست آراء ضحلة؛ فهي تستند إلى فرضيات فلسفية تحدد فضاءهما المقيد. ويمكن ملاءمة نماذج معينة في هذا الفضاء المقيد، ولكن لا يمكن ملاءمة نماذج أخرى. أصبح بعض العلماء البارزين في القرن الرابع عشر منتقدين للمذاهب الراسخة؛ منهم نقولا دوتركور (توفي بعد 1350)، وجان بوريدان (1300-1358)، ونقولا الأورسمي (حوالي 320-382) في جامعة باريس، ووليم الأوكامي (1295-1349) في جامعة أكسفورد. ثمة تطوران جديران بالملاحظة على وجه الخصوص: (1) رأى نقولا دوتركور أنه يجب الفصل بين الفلسفة واللاهوت ؛ وهو الاقتراح الذي تبناه بعد ذلك جاليليو وباسكال. تمثلت الفكرة العامة في أن الفلسفة الطبيعية ينبغي أن تتناول العالم الطبيعي واللاهوت ينبغي أن يتناول العالم الروحي. (2) يجب أن تخضع النظرية الأرسطية للحركة لدراسة دقيقة. أشار نقولا الأورسمي وبوريدان - كما سيفعل كوبرنيكوس لاحقا - إلى أنه لا يمكن دحض الدوران اليومي للأرض من خلال الحجج المستمدة من النظرية الأرسطية للحركة. فوفقا لأرسطو، تقبع الأرض ثابتة في مركز العالم، لأنها تقف في مكانها الطبيعي. فإذا كانت ستتحرك، يجب أن يشعر الراصد الأرضي بتأثير هذه الحركة غير الطبيعية. كرر جان بودان - الفيلسوف السياسي الشهير من القرن السادس عشر - هذا المنطق القديم في 1597، بعد مرور خمسين عاما على صدور كتاب كوبرنيكوس (1547):
لا أحد في صوابه، أو يمتلك أدنى معرفة بالفيزياء، سيعتقد أبدا أن الأرض الضخمة الثقيلة بسبب وزنها وكتلتها، ستتمايل صعودا وهبوطا حول مركزها وحول مركز الشمس. فلو تحركت الأرض قيد أنملة، فسنرى انهيار المدن والحصون، والبلدات والجبال. (مقتبس من كون 1957، 190)
Unknown page
كما رأينا، قدم بطليموس حججا مماثلة تنطوي على سقوط الأجسام وتدمير المباني. كان الرد في جميع هذه الحالات هو صنع الدوران اليومي والسنوي للأرض الذي يشير بودين إليه بأنه حركة «طبيعية». ويرى نقولا الأورسمي وبوريدان أنه إذا كنا نشارك في هذه الحركة، فإننا لن نشعر بها. ويقول كوبرنيكوس إنها ليست حركة عنيفة كما كان يعتقد بطليموس؛ فالحركة العنيفة تدمر الأشياء بالفعل، ولكن دوران الأرض «يتوافق طبيعيا مع شكلها»، بحيث إن كل جزء من الأرض، «الغيوم وغيرها من الأشياء التي تسبح في الهواء أو تهبط أو تصعد لأعلى» يشارك في هذه الحركة الطبيعية للأرض (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الأول). استخدم كوبرنيكوس أفكار الزخم لدحض الحجة البديهية القديمة. إذا كان غلاف الهواء يتحرك مع الأرض ويشاركها حركتها الطبيعية، فإن عدم وجود رياح عنيفة أمر متوقع. ونحن اليوم لم نعد نقبل نظرية الزخم، ومع ذلك، فإننا جميعا على دراية بمثل هذه الظواهر؛ ففي المركبات التي تتحرك باستمرار، تحدث أفعالنا - شرب القهوة ولعب الورق وقراءة الكتب - كما لو كانت المركبة متوقفة. يمثل مبدأ النسبية لجاليليو تفسيرنا لذلك. كانت نظرية الزخم خطوة مهمة نحو التفسير الحديث للحركة.
طورت نظرية الزخم للحركة في القرن الرابع عشر كبديل لنظرية أرسطو للحركة. ووفقا لهذه النظرية - كما أوضحها نقولا الأورسمي وبوريدان - تمارس قوة دافعة على الشيء وتحمله. هنا تدحض الحجة المعارضة لحركة الأرض. ناهض بوريدان في البداية نظرية أرسطو للحركة. إذا ألقيت أداة حادة وأداة غير حادة في مسار القطع المكافئ نفسه، فإن الهواء لا يستطيع أن يضغط على الأداة الحادة بالطريقة نفسها كما يضغط على الأداة غير الحادة. من الأفضل أن نقول إن القاذف (الطاقة الدافعة الداخلية) يمارس «زخما» أو قوة دافعة معينة على الشيء المتحرك، وأن المقذوف يتحرك في اتجاه الزخم، ولكن مقاومة الهواء و«جاذبية» المقذوف تقلل من الزخم؛ «فهو يقل بحيث تتفوق جاذبية الحجر عليه وتحرك الحجر إلى مكانه الطبيعي».
2
لعبت نظرية الزخم دورا أساسيا في الثورة الكوبرنيكية؛ فكانت أحد الظروف التي جعلتها ممكنة. وكذلك اعتمد نقولا الأورسمي - تلميذ بوريدان - في دحضه لحجة أرسطو الرئيسية بشأن ثبات الأرض على نظرية الزخم، وقد وجه انتباهه إلى الحجة الأولى ضد حركة الأرض. ادعى القدماء أنه إذا كانت الأرض تتحرك شرقا حول محورها، فإن الراصد الذي يرمي حجرا لأعلى في خط مستقيم سيرى الحجر يعود إلى الأرض في ناحية الغرب من قدميه. في غياب نظرية الزخم، بدت هذه الحجة منطقية؛ ففي وجهة نظر القدماء، سوف يدفع الحجر بعيدا عن موقعه الطبيعي وسيسعى للعودة إليه، ولكن بينما كان الحجر في الهواء، فإن الأرض ستدور نحو الشرق. وما دام الحجر لا يستطيع أن يصاحب الأرض في حركتها، يجب أن يقع إلى الغرب من نقطة انطلاقه، لكن أشار نقولا الأورسمي إلى أن الأرض المتحركة تمنح الحجر زخما نحو الشرق. وهذا سيجعل الحجر يتبع الأرض المتحركة (كون 1957، 121؛ ماسون 1956؛ ولف 1978، الجزء الثاني، الفصل 7).
وسع نقولا الأورسمي وبوريدان هذه الحجة لتشمل حركة الأرض. لم تكن توجد حاجة إلى «قوة سماوية» لتحريك الأجرام السماوية. لم تكن توجد حاجة إلى افتراض وجود احتكاك بين الأفلاك البلورية لإبقائها متحركة وفق إيقاعها الدائم. ولم تكن توجد حاجة لمحرك أرسطو غير المتحرك. ولا حاجة لكون يعاني من نقص في الطاقة. فخلال خلق الله للأرض، منحها قوة دافعة تبقيها متحركة. وخلافا للمقذوفات على الأرض - التي وفقا لنظرية الزخم، تتباطأ لأنها تواجه مقاومة الرياح وقوة الجاذبية الخاصة بها المرتبطة بالأرض - لا توجد مثل هذه القوة لتتداخل مع الحركة الأبدية للأرض. وعلى نحو أعم، تضمنت نظرية الزخم حركة دائرية مستدامة ذاتيا للكواكب أيضا (كون 1957، 121-122؛ دكسترهوز 1956، الفصل الثاني).
على المستوى المفاهيمي، كان لنظرية الزخم تبعات مهمة؛ فقد رفعت الحظر المفروض على إمكانية حركة الأرض؛ فالمنطق الأرسطي سبب ثبات الأرض، وبدت الحجج المعارضة لحركتها - الأجسام الساقطة، والرياح العاتية، وتهدم المنازل - منطقية. ثم أوضحت نظرية الزخم أن حركة الأرض كانت ممكنة من الناحية النظرية، كما أوحت نظرية الزخم أيضا بتوحيد الفيزياء الأرضية والسماوية؛ لأنها فسرت مسار الأجسام على الأرض وفي السماء وفقا للمبدأ نفسه؛ ومن ثم أدت إلى تدمير محتمل للكون ذي الفلكين. فصل أرسطو بين الحركة الدائرية - المخصصة للأجرام السماوية - والحركة المستقيمة للأجسام الأرضية، واعتبر أن الدوران هو الحركة الأساسية (أرسطو 1952أ، الكتاب الثامن). وتضمنت نظرية الزخم احتمال التخلص من الانقسام بين الفلكين فوق القمري وتحت القمري.
رغم التحرر الذي تمتعت به نظرية الزخم، لم تصل الحجج المدافعة عنها إلى نتائجها المنطقية. كان المفكرون في القرن الرابع عشر قانعين بدراسة البدائل المنطقية للنظرية الأرسطية، ولم يكونوا مهتمين بالإطاحة بها.
إذا كانت نظرية الزخم إحدى الظروف التي مكنت حدوث الثورة الكوبرنيكية، فإن ظهور «الحركة الإنسانية» في عصر النهضة كان ظرفا آخر. وجهت الحركة الإنسانية في عصر النهضة ضد «المدرسة السكولاستية» القروسطية؛ فكما يبين عالم الرياضيات والفيلسوف في مسرحية بريشت، تنظر المدرسة السكولاستية إلى تعاليم أرسطو كأمر مقدس. فتمثلت الثقافة السكولاستية في تفسير نصوص أرسطو. فيذكر الفيلسوف في مسرحية بريشت جاليليو بأن «كون المبجل أرسطو يمثل صرحا من (...) نسب متقنة.» ويعارض جاليليو بروح العلم الحديث بأن «الثقة في أرسطو شيء، والحقائق الملموسة شيء آخر.» ولكن هذا الاعتراض دفع الفيلسوف فحسب إلى ثورة غضب عارم قائلا: «إذا كنا سنلقي بأرسطو في الوحل - الذي يمثل سلطة لا يعترف بها كل عالم كلاسيكي فحسب، ولكن أيضا يعترف بها رؤساء الكنيسة - فإن أي إطالة لأمد هذا النقاش في رأيي مضيعة للوقت. لا فائدة في المناقشات غير الموضوعية. هذا يكفي.»
ظهر مع الإنسانية اهتمام متجدد بالانتظام الرياضي والهندسي للظواهر الطبيعة. وهذا أمر مهم لأن كوبرنيكوس كان من بين الأوائل في إحياء علم الفلك الرياضي الإغريقي، الذي كان قد ازدهر في عصر بطليموس (بلومنبرج 1957؛ 1965؛ 1981). ركزت الحركة الإنسانية أيضا تركيزا جديدا على التوجهات الذهنية البشرية حيال الكون، وقد عكست المبدأ القديم الموجود منذ بطليموس القائل بأن المعرفة الإنسانية لا يمكن أن تمتد إلى حد السماء. فرفعت الحركة الإنسانية عالم الفلك إلى منزلة «المفكر السماوي» (بلومنبرج 1957، 77)، مؤكدة على أن بمقدور البشر أن يفهموا طريقة عمل الكون. وهذا التأكيد نقل التركيز من الفهم عن طريق الملاحظة إلى الفهم عن طريق التفكير المنطقي. وكان للتركيز على الفهم المنطقي على أساس الرصد الشخصي من الأرض انعكاسات مهمة على نظرية مركزية الشمس. (3) نظرية مركزية الشمس
ولماذا لا نعترف بأن حركة الدوران اليومية تبدو منتمية إلى السماء ولكنها في الواقع تنتمي إلى الأرض؟ (كوبرنيكوس، «عن دورات الأجرام السماوية» (1543)، الكتاب الأول، الفصل 8 (17)).
Unknown page
توفي نيكولاس كوبرنيكوس في 24 مايو 1543. وبعد موته بأسابيع قليلة، نشر كتابه العظيم «عن دورات الأجرام السماوية». كان العنوان الأصلي للكتاب «عن دورات الأفلاك السماوية»، وغير هذا العنوان المقصود عن طريق أندرياس أوزياندر إلى «عن دورات الأجرام السماوية» (بلومنبرج 1957، 79؛ 1981، المجلد الثاني، 344). كان أوزياندر رجل دين ومبشرا يعيش في نورمبيرج، وأشرف على نشر كتاب «عن دورات الأجرام السماوية»، كما أضاف أيضا مقدمة مهمة فلسفيا لعمل كوبرنيكوس دون توقيع. وأشار كبلر لاحقا إلى أن أوزياندر هو مؤلف المقدمة مجهولة المؤلف. كانت المقدمة مهمة فلسفيا لأن أوزياندر حاول تفسير الكتاب على أنه أطروحة لا تتحدى الرؤية الكونية الشائعة؛ وهو ما يخالف الانطباعات الأولى. ظل كوبرنيكوس يعمل على رائعته هذه لسنوات، ولكنه تردد في نشرها ؛ فعلى غرار داروين من بعده، خشي كوبرنيكوس أن أفكاره سوف تلقى رد فعل عدائيا. ومع ذلك، قبل نشر هذا الكتاب، تم تداول نسخ مكتوبة بخط اليد من «صورة لنظريته حول الحركات السماوية» عرفت بعنوان «الشرح المختصر». كانت قد كتبت في الفترة بين 1502 و1514 (انظر روزن 1959، مقدمة). قدم كوبرنيكوس في هذين العملين نموذجا للنظام الشمسي قائما على مفهوم مركزية الشمس. (3-1) نيكولاس كوبرنيكوس
لم يكن إنجاز كوبرنيكوس شيئا تفرضه المشاهدات الجديدة، بل كان انتصارا للعقل في تصور ما كان في الأساس ترتيبا أجمل للكواكب. (جنجريتش، «الكتاب الذي لم يقرأه أحد» (2004)، 116)
يتبين من النظرة الفاحصة أن كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» ينقسم إلى قسمين. يقدم كوبرنيكوس في الفصل الأول فكرة عامة عن نظام شمسي المركز. يذهب كوبرنيكوس إلى أن اعتراضات الإغريق على فكرة أن الأرض تتحرك لا تستطيع الصمود أمام النقد. ويشير إلى عدد ممن سبقوه من الإغريق إلى فكرة مركزية الشمس، وقد ذهب إلى أن مركزية الشمس تقدم تفسيرا للنظام الشمسي أكثر بساطة أو أكثر اتساقا. وبالنسبة لكوبرنيكوس - وكذلك الإغريق - يتألف الكون من النظام الشمسي والنجوم الثابتة. ويحتوي الجزء الثاني من الكتاب على الحسابات الرياضية لحركة الكواكب. وهو جزء تقني أكثر بكثير، ولكن كوبرنيكوس يستخدم الأدوات الهندسية نفسها التي استخدمها الإغريق (الدوائر اللامتراكزة وأفلاك التدوير).
نيكولاس كوبرنيكوس (1473-1543).
أصبح من المعتاد منذ عصر كانط أن توصف نتيجة أعمال كوبرنيكوس باسم «التحول الكوبرنيكي» (دكسترهوز، 1956، الجزء الرابع؛ بلومنبرج 1981، الجزء الخامس). وهذا المصطلح مفيد للغاية؛ فهو يميز الإنجاز الكوبرنيكي دون إعلاء عمل كوبرنيكوس إلى مصاف الثورة العلمية.
التحول الكوبرنيكي هو مفهوم الكون شمسي المركز، الذي تحمل فيه الكواكب على أفلاكها حول شمس مركزية (رئيسية)، وليس حول أرض مركزية. لم تكن هذه الفكرة في حد ذاتها جديدة، لأنها كانت موجودة منذ العصور القديمة؛ فقد شيد عالم الفلك الإغريقي أرسطرخس الساموسي نظاما شمسي المركز للكون، فيه تدور الأرض يوميا حول محورها وسنويا حول الشمس. وتصور مفكرون آخرون - في العصور القديمة (هرقليطس) وفي القرن الرابع عشر (بوريدان ونقولا الأورسمي ونقولا الكوزاني) على حد سواء - حركة الأرض اليومية؛ فما الجديد في أعمال كوبرنيكوس؟ رغم أن عمل أرسطرخس لم يصل إلينا، فقد صار كوبرنيكوس أول عالم فلك يشيد نظاما رياضيا لحركة الكواكب من منظور مركزية الشمس. حاول كوبرنيكوس استنتاج كل الظواهر السماوية من عدد قليل من الافتراضات الأساسية («الشرح المختصر» 1959، 58-59). يمكن تفسير جميع المشاهدات عن طريق افتراض حركة الأرض. افترض كوبرنيكوس أن الشمس ثابتة ولكن كبلر صحح لاحقا هذا الرأي مشيرا إلى أن الشمس تدور حول محورها
3 (كبلر 1618-1621، الجزء الثاني). كان كوبرنيكوس أول من وضع تقريرا مفصلا عن النتائج الفلكية الناجمة عن حركة الأرض (كون 1957، 142، 144). فذهب إلى أنها مسئولة عن الظواهر وأنها تنشئ نظاما «مترابطا» لترتيب وأحجام جميع الأفلاك والنجوم.
كان كوبرنيكوس يدرك جيدا أن «الترابط» بين الظواهر الطبيعية سيؤدي إلى نموذج مترابط للكون. وفي إهدائه الكتاب إلى البابا بولس الثالث، أوضح كيف نقله تفكيره من ترابط الظواهر الطبيعية إلى نموذج مركزية الشمس الأكثر ملاءمة لها:
وهكذا، بعد توضيح الحركات التي أعزوها إلى الأرض في موضع لاحق من العمل، اكتشفت أخيرا - بمساعدة من المشاهدات الطويلة والعديدة - أنه إذا ما كانت حركات النجوم السيارة الأخرى مرتبطة بالحركة الدائرية للأرض، وإذا حسبت الحركات وفقا لحركة دوران كل كوكب، فلن يتضح أن جميع الظواهر تنبع من هذا فحسب، ولكن سيتضح أيضا أن هذا الترابط يربط معا على نحو وثيق ترتيب وأحجام جميع الكواكب وأفلاكها أو دوائرها المدارية والسماوات نفسها، بحيث لا يمكن لشيء أن ينتقل في أي جزء منها دون الإخلال بما تبقى من أجزاء وبالكون ككل. (كوبرنيكوس 1543، 6)
يزعم كوبرنيكوس وتلميذه جورج يواخيم ريتيكوس (1514-1576) أن فرضية مركزية الشمس تمتلك العديد من المزايا أكثر من فرضية بطليموس. وتنبع هذه المزايا من معاملة الكواكب وحركاتها ك «نظام»:
Unknown page
وفقا لكوبرنيكوس، تفسر فكرة الأرض المتحركة - دورانها اليومي والسنوي - على نحو طبيعي كل المشاهدات السماوية. على سبيل المثال، يبدو أن المعضلتين الكبريين الموروثتين من العصور القديمة تختفيان في نموذج مركزية الشمس؛ إذ تصبح حركة الدوران القهقري للكواكب (الداخلية والخارجية) نتيجة طبيعية لحركة الأرض حول الشمس (المركزية). فكوكب داخلي على غرار عطارد له فترة مدارية أقصر من الأرض؛ فهو يدرك الأرض ويتخطاها في مدارها السنوي. وبالنسبة للمراقب الأرضي، تبدو حركته كحركة دوران قهقري (شكل
1-3 ). أما المشكلة الثانية فكانت الدوران غير المنتظم للكواكب. بدا أن الكواكب تستغرق أزمنة مختلفة لاستكمال رحلاتها المتعاقبة حول المسار الظاهري للشمس. تمثل جزء من الحل في وضع الكواكب على بعدها الصحيح من الشمس. تحتاج الكواكب الخارجية لإكمال دورتها السنوية وقتا أطول من الكواكب الداخلية، ولكن لم يحقق حل كوبرنيكوس سوى نجاح جزئي؛ لأنه كان لا يزال يفترض وجود الحركة الدائرية المنتظمة. مع ذلك، يمكن تفسير كلتا «الظاهرتين» دون استخدام أفلاك التدوير الكبيرة؛ فالاختلالات الرئيسية لحركة دوران الكواكب ظاهرية وحسب (كون 1957، 149، 166-171؛ زيليك 1988، 49). تنتج هذه الظواهر بسبب الحركة المدارية للأرض. وبما أن الشمس ثابتة في النظام شمسي المركز، فلا يوجد لها حركة دوران قهقري (شكل
1-1 ، مربع 1-1) (انظر كون 1957، 66، 69؛ كوبرنيكوس 1543، الكتاب الثالث).
مربع 1-1: ترتيب الكواكب في النظام الشمسي المركز «الشمس، عطارد، الزهرة، الأرض، القمر، المريخ، المشتري، زحل، النجوم الثابتة.»
مقارنة مع ترتيب الكواكب في النظام الأرضي المركز: «الأرض، القمر، عطارد، الزهرة، الشمس، المريخ، المشتري، زحل.»
يحدد كوبرنيكوس أيضا المسافات «النسبية» لبعد الكواكب عن الشمس مستخدما أسلوبا معروفا من العصور القديمة (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الأول؛ نوجيباور 1968؛ كون 1957، 142، 175؛ زيليك 1988، 40-41). إذا اعتبرنا أن المسافة بين الشمس والأرض وحدة واحدة، فإن عطارد يقع على بعد 1 / 3 وحدة من المسافة بين الأرض والشمس، والمريخ عند ، والمشتري عند 5 وزحل عند 9 وحدات من المسافة بين الأرض والشمس. يقول كوبرنيكوس: «يجب أن يقاس حجم الدوائر المدارية بفترة زمنية» (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الأول). ويعني بهذا أن بعد الكوكب عن الشمس ينبغي أن يحدد من واقع فترته المدارية. وبهذا يرفض ممارسة استخلاص المسافات الكونية التي تعود للقرون الوسطى من خلال طريقة بطليموس الخاصة بتداخل الدوائر السماوية بعضها في بعض وفقا لنسب معينة. ويشير كوبرنيكوس إلى أن النموذج الشمسي المركز هو وحده الذي يفي بالعلاقة بين المسافة والفترة الزمنية؛ ففي النظام شمسي المركز، يتحدد ترتيب الكواكب من خلال رصد الفترة المدارية للكواكب. فيعامل كوبرنيكوس الكواكب كنظام مترابط (شكل
1-6 ).
على الرغم من أن افتراض الأرض المتحركة يسمح لكوبرنيكوس بالتخلي عن أفلاك التدوير الكبيرة، فإنه لا يزال بحاجة إلى أفلاك تدوير صغيرة. استخدمت أفلاك التدوير الكبيرة لتفسير الظهور النوعي لحركة الدوران القهقرية. أما أفلاك التدوير الصغيرة فهي دوائر صغيرة لازمة لإلغاء التباينات الكمية الطفيفة بين المشاهدات والنماذج الهندسية (انظر كون 1957، 68). احتاج كوبرنيكوس أفلاك التدوير الصغيرة تلك؛ لأنه أيد المبدأ الإغريقي الخاص بالحركة الدائرية للكواكب، حيث كتب أن حركة الأجرام السماوية «دائرية منتظمة ودائمة» (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الأول). في الواقع يريد كوبرنيكوس إنقاذ المنهج الإغريقي من بطليموس. فيريد «نظاما يدور كل شيء فيه على نحو منتظم حول مركزه السليم كما تتطلب قاعدة الحركة الدائرية المطلقة» (كوبرنيكوس، «الشرح المختصر» 1959، 57-58). فيغير الموضع الهندسي للأرض ولكنه يظل متمسكا بالمثالية الأفلاطونية للحركة الدائرية المنتظمة التي يعزوها إلى الأفلاك الحاملة للكواكب (شكل
1-6 ). وينتقد بطليموس لإقحام الموازن، على الرغم من أن نموذجه استخدم جهازا رياضيا مكافئا له وهو فلك التدوير الصغير (جنجريتش 1993، 36، 175؛ نوجيباور 1968).
شكل 1-6: نموذج كوبرنيكوس للنظام الشمسي.
Unknown page