Clear Curriculum for Eloquence
المنهاج الواضح للبلاغة
Publisher
المكتبة الأزهرية للتراث
Edition Number
-
Genres
المجلد الأول
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أبلغ بني العروبة منطقًا، وأفصحهم لسانًا، وأدراهم بمداخل القول، ومناحي الكلام، وعلى آله وصحبه اللسن المقاويل، أولي الحجة الدامغة، والحكمة البالغة.
أما بعد، فقد شاء الله أن أدرس هذا الفن للسنة الأولى من القسم الثاني؛ فرأيت الكتاب المقرر -على ما فيه مما يشهد لصاحبه بالفضل- مضغوطًا ضغطًا دعا إليه ما احتواه من المباحث العديدة في الفنون الثلاثة -وهو أمر يتعارض مع ما تتطلبه حاجة الناشئين في هذه الفنون من بسط وإيضاح فيما قرر عليهم منها؛ لتنكشف لهم أوجه المعاني، وينبسط ما تعقد منها، فيسهل عليهم تحصيلها- رأيت ذلك إلى ما شهدته من تشتيت وتشريد فيما تعين لهم من موضوعاته، مما أدى إلى تبرم الطلاب، ورفع عقيرتهم بالشكاية في كل مناسبة.
لهذا رأيتني -وقد لمست حاجة الطلاب الملحة، وهم حديثو العهد بالفن- مضطرًّا إلى وضع كتاب يجمع شمل هذه المباحث، ويضم شتاتها في عبارة مكشوفة المعنى، واضحة المراد، مصوغة في القالب الحبيب إلى نفوسهم، القريب من أفهامهم، متوخيًا جهد المستطيع تذليل العاصي، وإدناء القاصي حتى لا يتوعر الطريق، ولا يتعثروا في المسير.
هذا، وقد وضعت "كعادتي" بعد كل مرحلة تمرينين توليت الإجابة على أحدهما؛ تدعيمًا لقواعد العلم في نفوس النشء، وتركت الآخر لأفهامهم؛ مرانًا لهم على الاستقلال في التفكير.
1 / 2
وقد ذيلنا هذه النسخة بمجموعة من الأسئلة التي وضعتها الإدارة العامة للنقل من الأولى للثانية في سنين مختلفة؛ لتكون كنماذج يسير الطالب في تحصيله على هداها.
والله الكريم أسأل أن يجيء هذا الغرس شهي الثمر، داني القطوف، وأن يجزيني به قبولًا من عنده ورضوانًا.
المؤلف
1 / 3
منهج البلاغة للسنة الأولى الثانوية:
تشمل الدراسة في هذه السنة ما يأتي:
١- معنى الفصاحة والبلاغة.
٢- علم البيان، تعريفه، الدلالة، التشبيه وأقسامه، الحقيقة والمجاز.
٣- الكناية، تعريفها، أقسامها.
٤- البديع، أنواع منه.
1 / 4
كلمة موجزة في تاريخ علوم البلاغة:
لم يصنف العلماء في هذه الفنون الثلاثة -المعاني، والبيان، والبديع- إلا بعد الفراغ من تدوين علوم اللسان: النحو، والصرف، واللغة.
ويمكن القول بأن أول كتاب دون في هذه العلوم كان في علم البيان، وهو كتاب "مجاز القرآن" لأبي عبيدة المتوفى سنة ٢٠٦هـ وضعه على إثر سؤال وجه إليه في مجلس الفضل بن الربيع١ عن معنى قوله تعالى في شجرة الزقوم: ﴿طَلْعُهَا ٢ كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾ وكيف شبه الطلع برءوس الشياطين وهي لم تعرف بعد؟ أي: وينبغي التشبيه بشيء معروف حتى يتبين المشبه ويتضح، فأجاب أبو عبيدة بأنه على حد قول الشاعر:
أيقتلني والمشرفي٣ مضاجعي ... ومسنونة زرق٤ كأنياب أغوال؟
يريد: أن المشبه به هنا غير معروف كذلك، وأن الغرض من التشبيه عرض المشبه في صورة مستفظعة مخوفة، والعرب تشبه قبيح الصورة بالشيطان أو الغول، فيقولون: كأنه وجه الشيطان، أو كأنه رأس الغول، وإن لم يروهما لاعتقادهم أنهما شر محض، لا يخالطهما خير، فيرتسم في خيالهم بأقبح صورة.
ثم قام أبو عبيدة من فوره، وتقصى ما ورد في القرآن من الألفاظ التي أريد بها غير معناها الأول في اللغة، وجمعها في هذا الكتاب، وسماه "مجاز القرآن".
وأبو عبيدة هذا هو معمر بن المثنى اللغوي البصري، تلميذ يونس بن حبيب
_________
١ أحد وزراء المأمون.
٢ الطلع هنا يراد به الحمل، وأصله: طلع النخل، سمي به حمل هذه الشجرة.
٣ وصف للسيف منسوب إلى مشارف الشام، وهي قرى كانت تجيد صناعة السيوف.
٤ المراد بها أسنة الرماح.
1 / 5
شيخ سيبويه، إمام النحاة، وأستاذ أمير المؤمنين هارون الرشيد. ثم تبعه العلماء من بعده، فوضعوا رسائل في الاستعارة والكناية لم تميز علم البيان تميزًا خاصًّا، وبقيت الحال كذلك مدة العصر العباسي الأول.
أما علم المعاني: فلم يعلم بالضبط أول من تكلم فيه، وإنما أثر عن بعض فحول الكتاب والخطباء كجعفر بن يحيى١ وسهل بن هارون٢ وغيرهما كلام في هذا النوع من البلاغة، ولكنه لم يطبع هذا العلم بطابع خاص يتميز به عن سواه.
وأول من أسهم لهذا العلم من عنايته، وخصَّه بمستفيض بحثه، ودوّن فيه ونظم عمرو بن بحر الجاحظ٣ في كتابيه: البيان والتبيين، وإعجاز القرآن، وغيرهما، وتقفاه العلماء من بعده كأبي عباس المبرد٤ صاحب الكامل وقدامة بن جعفر الكاتب٥، ووقف الأمر عند هذا الحد مدة هذا العصر.
أما علم البديع: فإن أول من كتب فيه كتابًا خاصًّا -على ما قيل- عبد الله بن المعتز الخليفة العباسي المتوفى سنة ٢٩٦هـ. وكان الشعراء من قبله يأتون في أشعارهم بضروب من البديع؛ كبشار بن برد٦ ومسلم بن الوليد٧ وأبي تمام٨ وغيرهم، فجاء ابن المعتز وجمع من أنواعه سبعة عشر نوعًا، وكان ممن يعاصره
_________
١ أحد وزراء هارون الرشيد.
٢ فارسي الأصل اتصل بالمأمون فولاه خزانة الحكمة، وكان أديبًا شاعرًا حكيمًا، يتعصب للعجم على العرب.
٣ هو إمام الأدب أبو عثمان عمرو بن بحر البصري، صاحب التصانيف الممتعة والرسائل المبدعة.
٤ هو أبو العباس محمد بن يزيد النحوي.
٥ كان نصرانيًّا، أسلم واشتهر في زمانه بالبلاغة ونقد الشعر، ألف في ذلك كتبًا.
٦ هو أبو معاذ أشعر مخضرمي الدولتين: الأموية والعباسية، كان مع هذا كفيفًا.
٧ هو صريع الغواني أبو الوليد، أحد الشعراء المسلمين في الدولة العباسية.
٨ هو حبيب بن أوس الطائي، عربي الأصل، أحد الشعراء الأعلام.
1 / 6
قدامة بن جعفر سالف الذكر، فجمع منه عشرين نوعًا اتفق مع ابن المعتز على سبعة منها، وسلم له ثلاثة عشر تضاف إلى السبعة عشر التي جمعها ابن المعتز، فيكون جملة ما جمعاه ثلاثين نوعًا، هي أقصى ما جمع في ذلك العصر.
وجاء العصر التالي، فزاد كل من أبي هلال العسكري١ صاحب الصناعتين وابن رشيق٢ صاحب العمدة أنواعًا كثيرة، لم تخرج في جملتها عما جمعه ابن المعتز وقدامة.
ولم تميز هذه العلوم، وتبوب وتفصل إلا في العصر التالي. وأول من نزع عن قوسه، ورمى إلى هذا الهدف شيخ البلاغة الإمام عبد القاهر٣ صاحب دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة.
وبقيت الحال كذلك، حتى جاء فارس الحلبة أبو يعقوب يوسف السكاكي المتوفى سنة ٦٢٦هـ، فبسط هذه العلوم في كتابه "المفتاح" وهذب مسائلها ورتب أبوابها، فكان كل من جاء بعده عيالًا عليه.
وجه الحاجة إلى دراستها:
إن لهذه العلوم الفضل الأول في بيان أسرار اللغة، والكشف عن كنوزها، والبحث عن نفائسها، وفي معرفة ما لها من ميزة السبق على سائر اللغات حتى نزل بها القرآن الكريم، فوسعته معنى وأسلوبًا -على ما فيه من روعة وجلال- فكان ذلك شهادة لها بإحرازها قصب السبق، واستوائها على عرش السيادة. كذلك لها الفضل الأول في الكشف عن سر إعجاز القرآن بما حواه من بارع اللفط، ورائع الأسلوب، وما تضمنه من بيان ساحر هو فوق متناول الإدراك، حتى وقف بنو العروبة وحاملو لوائها أمامه واجمين، وخر له عباقرة البيان ساجدين.
من أجل هذا، كانت حاجتنا إلى دراسة هذه العلوم فوق حاجتنا إلى شأن آخر من شئون الحياة، وما ظنك بما يكشف لك عن سر ما للغة آبائك من قوة واعتزاز، وما احتواه كتاب ربك رمز العظمة وآية الإعجاز!
_________
١ هو الحسن بن عبد الله بن سهل، المتوفى سنة ٢٩٥هـ.
٢ هو أبو علي الحسن بن رشيق، المتوفى سنة ٤٠٩هـ.
٣ هو أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني، المتوفى عام ٤٧١هـ.
1 / 7
معنى الفصاحة والبلاغة:
الفصاحة معناها في اللغة: البيان والظهور. يقال: أفصح الصبي في منطقه، وفصح فيه: إذا بان وظهر كلامه، كما يقال: أفصح الأعجمي، وفصح: إذا انطلق لسانه بالعربية لا تشوبه لكنة. ومنه قوله تعالى حكاية عن موسى، ﵇: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا﴾ أي: أبين مني قولًا.
ويقال: أفصح الصبح: إذا بدا ضوءه ولمع، ومنه المثل المشهور: أفصح الصبح لذي عينين١ كما يقال: هذا يوم مفصح أي: جلي لا غيم فيه.
ويقال: أفصح اللبن: إذا نزعت رغوته فظهر، ومنه المثل المعروف: وتحت الرغوة اللبن الفصيح٢، فظهر لك مما تقدم من الأمثلة أن الفصاحة في اللغة لم تخرج عن معنى الظهور والبيان.
أما معناها في اصطلاح البلغاء فيختلف باختلاف موصوفها، وهو أحد أمور ثلاثة: الكلمة، والكلام، والمتكلم.
يقال: هذه كلمة فصيحة؛ إشارة إلى كلمة معينة كلفظ "الأجل" ويقال: هذا كلام فصيح؛ إشارة إلى مركب معين كقولنا: الله الأجل، ويقال: هذا فصيح؛ إشارة إلى متكلم خاص كأبي بكر، أو عمر، أو علي أو غيرهم من فصحاء العرب، وإليك بيان كل على الترتيب.
فصاحة الكلمة:
فصاحتها: أن تسلم من العيوب الثلاثة الآتية:
١- تنافر الحروف.
٢- مخالفة الوضع.
٣- الغرابة.
وبسلامتها من هذه العيوب تسلم مادتها، وصيغتها، ومعناها من الخلل. وهاك العيوب الثلاثة على هذا النسق:
_________
١ يضرب للشيء يظهر بعد استتاره.
٢ يضرب للأمر ظاهره غير باطنه.
٣ إنما آثرنا هذا التعبير على قولهم: مخالفة القياس؛ لأنه أدل على المعنى المراد منه على ما يأتي.
1 / 8
تنافر الحروف:
هو وصف في الكلمة التي ينشأ عنه ثقلها على اللسان، وتعسر النطق بها، وهو نوعان: تنافر شديد، وتنافر خفيف.
فالشديد كلفظ "الظش" للموضع الخشن و"كالهعخع" لنبات ترعاه الإبل، في قول أعرابي سئل عن ناقته: تركتها ترعى الهعخع. فهاتان الكلمتان غير فصيحتين؛ لما فيهما من تنافر الحروف تنافرًا شديدًا، يشعر به كل ناطق، وهو خلل واقع في مادتهما.
الخفيف كلفظ "النقاخ" بضم النون للماء العذب الصافي، و"كمستشزرات" في قول امرئ القيس١:
غدائره مستشزرات إلى العلا ... تضل العقاص في مثنى ومرسل٢
يصف الشاعر حبيبته بكثرة الشعر وغزارته، وأنه لكثافته مقسم إلى أقسام؛ فبعضه مرتفع، وبعضه مرسل، وبعضه مثنى، وبعضه معقوص ملوي، وأن المعقوص منه يتيه ويختفي فيما ثني وأرسل منه. فهاتان الكلمتان غير فصيحتين؛ لما فيهما من تنافر الحروف، وهو خلل واقع في مادتهما كذلك.
تنبيه:
قيل: إن الضابط المعول عليه في ضبط التنافر: قرب مخارج الحروف أو بعدها، بمعنى: أن تكون الحروف متقاربة في المخرج أو متباعدة فيه؛ فلفظ "الهعخع" مثلًا متنافر ثقيل لتقارب حروفه في المخرج، ذلك: أن الهاء والعين والخاء خارجة كلها من مخرج واحد هو الحلق، إلا أن بعضها خارج من أقصاه، وبعضها من قريب منه.
_________
١ هو أسبق شعراء الجاهلية إلى ابتداع المعاني وحسن التعبير عنها، وأول من وقف على الديار واستبكى الأطلال.
٢ الغدائر: جمع غديرة، وهي المسماة في عرفنا بالضفيرة، والضمير راجع إلى "فرع" في الشطر الأول من البيت قبله، وهو "وفرع يزين المتن أسود فاحم" أي: فرع محبوبته و"مستشزرات" بكسر الزاي أو فتحها بمعنى: مرتفعات أو مرفوعات، و"العقاص" جمع عقيصة وهي خصلة ضده.
1 / 9
ولفظ "مستشزرات" متنافر ثقيل أيضًا؛ لتقارب حروفه في المخرج كذلك، إذ إن حروفه -ما عدا الميم- خارجة من مخرج واحد هو اللسان، غير أن بعضها خارج من طرفه، وبعضها من وسطه. ولفظ "ملع" بمعنى: أسرع متنافر ثقيل؛ لتباعد حروفه في المخرج، إذ إن الميم خارجة من الشفتين، والعين من أقصى الحلق، وهكذا.
ورد هذا القول بأن الضابط المذكور غير مطرد؛ لأننا لا نجد تنافرًا في لفظتي "الجيش والشجي" مع تقارب الشين والجيم في المخرج، ولا نجد تنافرًا في ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ﴾ مع تقارب الهمزة والعين والهاء في المخرج، كذلك كما لا نجد تنافرًا في مثل "علم وملح" مع تباعد المخرجين في العين والميم في الأول، والميم والحاء في الثاني. وإذن فقرب المخارج أو بعدها لا يصلح ضابطًا يعول عليه في ضبط التنافر لعدم اطراده كما عرفت، بل الحكم في ذلك للذوق السليم؛ فما عده الذوق السليم ثقيلًا متعثر النطق فهو متنافر، سواء أكان متقارب الحروف أو متباعدها ا. هـ.
مخالفة الوضع: هي أن تكون الكلمة مخالفة لما ثبت عن الواضع، سواء أكانت مخالفة للقياس الصرفي أيضًا أم لا، فمدار المخالفة على ما ثبت عند الواضع كما ستراه بعده.
فمثال ما خالف الأمرين معًا لفظ: "بوقات" جمع مؤنث مفرده "بوق" بمعنى المزمار، في قول المتنبي يمدح سيف الدولة:
فإن يك بعض الناس سيفًا لدولة ... ففي الناس بوقات لها وطبول
يقول: إذا كنت سيفًا لدولتك له خطره وأثره، فغيرك من الملوك بمثابة البوق والطبل لا أثر له، ولا غناء فيه. فلفظ "بوقات" في البيت غير فصيح؛ لمخالفته ما ثبت عن الواضع والقياس الصرفي؛ إذ الثابت عن الواضع جمعه جمع تكسير، والقياس الصرفي يقتضي جمعه مكسرًا أيضًا فيقال: "أبواق"؛ لأن جمع المؤنث السالم له مواضع خاصة، ليس هذا الاسم منها، وذلك خلل واقع في الصيغة. ومثله لفظ "ضننوا" بمعنى: بخلوا، من قول الشاعر:
1 / 10
مهلًا أعاذل قد جربت من خلقي ... أني أجود لأقوام وإن ضننوا
يقول الشاعر لمن لامته على إحسانه لمن بخلوا عليه: اقصدي من لومك، فقد عرفت أن من خلقي مجازاة من يسيء إليَّ بالإحسان إليه؛ لأني إنما أصنع المعروف للمعروف، لا لشيء وراءه. فلفظ "ضننوا" غير فصيح؛ لأنه مخالف لما ورد عن الواضع، وللقياس الصرفي، إذ الوارد عن الواضع: "وإن ضنوا" بالإدغام لا بالفك، والقياس الصرفي أيضًا يقتضي إدغام المثلين. ومنه لفط "الأجلل" في قول الشاعر:
الحمد لله العلي الأجلل ... أنت مليك الناس ربا فاقبل
فلفظ "الأجلل" غير فصيح؛ لأنه مخالف لما ثبت على الواضع، وللقياس الصرفي كما في المثالين قبله.
ومثال ما خالف الثابت عن الواضع، ووافق القياس قولك: "يأبي" بكسر الباء مضارع "أبى" فهو غير فصيح؛ لأنه مخالف لما ثبت عن الواضع، إذ الثابت عنه "يأبى" بفتح الباء لا بكسرها، في حين أنه موافق للقياس الصرفي؛ لأن "فعَل" بفتح العين لا يأتي مضارعه على "يفعَل" بالفتح إلا إذا كان عين ماضيه أو لامه حرف حلق "كسأل يسأل" و"منع يمنع"، وليس "أبى يأبى" من هذا القبيل. كذلك لا يأتي مضارعه على "يفعُل" بالضم إلا إذا كان مضعف العين متعديًا "كمده ويمده"، أو أجوف واويًّا "كقال يقول"، أو ناقصًا واويًّا "كسما يسمو" وليس "أبى يأبى" أحد هذه الأنواع، فكسر عين مضارعه حينئذ موافق للقياس الصرفي، ولكنه مع ذلك غير فصيح لمخالفته ما ثبت عن الواضع.
فالشرط إذًا في مخالفته الوضع: أن تخالف الكلمة ما ثبت عن الواضع، سواء خالفت القياس الصرفي أيضًا أو لا "كما عرفت".
تنبيه:
علم مما تقدم: أن ما ثبت عن الواضع، سواء وافق القياس الصرفي أو خالفه فصيح؛ فنحو "آل وماء" من قولك: "هؤلاء آلك فاعطف عليهم، وهذا ماؤك
1 / 11
فاشربه" مخالف للقياس الصرفي؛ لأن الأصل فيهما: "أهل وموه" أبدلت الهاء فيهما همزة، وهذا الإبدال لا يقره القياس، ولكنه فصيح لموافقته ما ورد عن الواضع. ومثله "أبى يأبى" بفتح الباء في المضارع، والقياس كسرها لما تقدم بيانه، ولكنه فصيح لوروده هكذا عن الواضع. كذلك قولهم: عورت عين فلان، و﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ﴾، فالقياس فيهما أن يقال: عارت عينه، واستحاذ عليهم بقلب الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فتصحيح الواو حينئذ مخالف للقياس لكنه فصيح؛ لأنه ثبت هكذا عنالواضع.
الغرابة: هي أن تكون الكلمة وحشية أي: غير ظاهرة الدلالة على المعنى، ويكون ذلك لسببين:
الأول: عدم تداول الكلمة في لغة العرب الخلص، فيحتاج في معرفتها إلى بحث وتنقيب في معاجم اللغة.
فتارة يعثر على معناها بعد البحث، كلفظتي "تكأكأتم وافرنقعوا" من قول عيسى بن عمر النحوي، وقد سقط عن دابته، فاجتمع الناس حوله: ما لكم تكأكأتم عليَّ كتكأكئكم على ذي جنة، افرنقعوا، فمعنى "تكأكأتم": اجتمعتم، ومعنى "افرنقعوا": انصرفوا. يقول متعجبًا: ما لكم اجتمعتم علي كاجتماعكم على ذي جنون، تنحوا عني. ومنه لفط "رخاخ" بفتح الراء قي قولهم: نحن في رخاخ من العيش، أي: في سعة ورغد.
وتارة لا يعثر عليه بعد البحث كلفظ "جحلنجع" من قول أعرابي يسمى أبا الهميسع١: من طمحة٢ صبيرها٣ جحلنجع٤ بجيم مفتوحة، فمهملة ساكنة، فلام مفتوحة، فنون ساكنة، فجيم مفتوحة، فعين مهملة.
فهذه الكلمات الثلاث غير فصيحة؛ لأنها غريبة غير ظاهرة المعنى لعدم تداولها، وذلك خلل واقع في المعنى.
_________
١ بفتح الهاء والسين.
٢ الطمحة: النظر.
٣ الصبير: السحاب.
٤ لم يعثر على معناها بعد.
1 / 12
الثاني: عدم استعمال الكلمة عند العرب الخلص بالمعنى الذي أريد منها، فيحتاج في معرفتها إلى تخريج على وجه بعيد، كلفظ "مسرجا" في قول العجاج أحد الرجازين المشهورين:
أيام أبدت واضحًا مفلجًا ... أغر براقًا وطرفًا أدعجا
ومقلة وحاجبًا مزججًا ... وفاحمًا ومرسنًا مسرجا١
يصف الشاعر من محبوبته عدة أشياء؛ منها الأنف في قوله: "ومرسنا مسرجا" فقد أراد بالمرسن أنفها، وهو في الأصل أنف البعير؛ إذ هو موضع الرسن٢ منه.
ثم أريد به: مطلق أنف، مجازًا مرسلًا كما سيأتي بيانه في محله فقوله: "مسرجا" غير فصيح؛ لأنه غريب غير ظاهر المعنى لعدم استعماله بالمعنى الذي أريد منه على ما يظهر.
بيان ذلك: أنه لم يعلم ما أراده الشاعر بقوله: "مسرجا"؛ ولذلك اختلف فيه فقيل: هو من قولهم: "سيوف سريجية" أي: منسوبة إلى حداد يقال له: سريج٣ كان يجيد صنعها، فهو يريد أن يشبه أنفها في الدقة والاستواء بالسيف السريجي.
وقيل: هو من السراج أي: المصباح، يريد أن يشبه أنفها في البريق واللمعان بالسراج. وهذا التأويل قريب من قولهم: سرج الله وجهه أي: بهجه وحسنه.
وعلى كلا القولين هو غير ظاهر الدلالة على ما ذكر؛ لأن مادة "فعَّل" بالتشديد إنما تدل فقط على مجرد نسبة شيء إلى شيء، فيقال: كفّر فلان فلانًا نسبه إلى الكفر، وفسَّقه نسبه إلى الفسق، فهو مكفر أو مفسق أي: منسوب إلى الكفر والفسق. أما النسبة التشبيهية، وهي أن يكون المنسوب شبيها بالمنسوب إليه، فلا تدل عليه
_________
١ ضمير "أبدت" عائد على محبوبته في البيت قبله "وواضحًا" صفة لموصوف محذوف أي: سنًّا واضحًا متميزًا، والفلج بالتحريك: تباعد ما بين الأسنان، والأغر: الأبيض، والدعج بالتحريك: اتساع العين وحسنها، والتزجيج: التدقيق مع تقويس، و"فاحما" صفة لمحذوف أي: شعرًا أسود كالفحم، فهو نسبة تشبيهية من نسبة المشبه إلى المشبه به.
٢ هو مقود البعير.
٣ بضم السين، وفتح الراء.
1 / 13
المادة المذكورة، فأخذ ذلك منها بعيد؛ لهذا كان هذا اللفظ غريبًا، غير ظاهر الدلالة لعدم استعماله عند العرب بهذا المعنى.
تنبيهات:
الأول: اعلم أن عدم ظهور المعنى المتقدم ذكره في مفهوم الغرابة منظور فيه إلى الخلص من الأعراب سكان البادية، فهم قد يخفى عليهم معنى اللفظ إذا قلَّ تداوله بينهم، أو أهمل استعماله بالمعنى المراد كما ذكرنا. أما غير العرب من المولدين فغير منظور إليهم في ذلك، وإلا خرج كثير من قصائد العرب، بل جلها عن الفصاحة؛ لغلبة الجهل باللغة على غير أربابها.
الثاني: زاد بعضهم عيبًا رابعًا على العيوب المخلّة بفصاحة الكلمة، وهو أن تكون الكلمة مستكرهة، يمجّها السمع، ويأنفها الطبع، كلفظ "النقاخ" بضم النون بمعنى الماء العذب، في قول الشاعر:
وأحمق ممن يكرع الماء قال لي ... دع الخمر واشرب من نقاخ مبرد
و"كالجرشى" بمعنى النفس، في قول أبي الطيب يمدح سيف الدولة:
مبارك الاسم أغر اللقب ... كريم الجرشى شريف النسب١
والحق: أن في ذكر الغرابة غنية عن ذكر هذا العيب؛ لأن استكراه السمع للفظ إنما جاء من ناحية وحشيته وغرابته ا. هـ.
إذا علمت هذا، علمت أن كل كلمة برئت من العيوب المتقدم ذكرها، عدت في عرف علماء البلاغة فصيحة.
تمرين:
١- تكلم بإيجاز عن تاريخ نشأة العلوم البلاغية، وبين وجه الحاجة إلى دراستها.
٢- عرف معنى الفصاحة في اللغة، ومثل لها بمثالين.
_________
١ إنما كان مبارك الاسم لإشعاره بالعلو، ولموافقته لاسم علي بن أبي طالب فهو سميه، وأغر اللقب مشهوره لاشتهاره بسيف الدولة، والملوك يشار إليهم بألقابهم، وشريف النسب لأنه "على ما قيل" من سلالة بني العباس.
1 / 14
٣- بين معنى الفصاحة في الكلمة، ثم بين معنى التنافر فيها مع التمثيل.
٤- اختلف الرأي في ضابط التنافر، فوضح هذا الخلاف، ثم أبطل المرجوح منه بالدليل.
٥- بين معنى المخالفة في الكلمة، وهل المعول عليه فيها القانون الصرفي أو السماع؟ وضح ذلك بالأمثلة.
٦- بين معنى الغرابة في الكلمة، ومرجع الغرابة فيها، ثم وجه غرابة "مسرجا" في قول الشاعر: "وفاحما ومرسنا مسرجا".
٧- بين العيوب التي أخلّت بفصاحة الكلمة فيما يأتي:
١- نقنق الضفدع في المثعنجر١.
٢- أكلت العرين وشربت الصمادح٢.
٣- إن بني للئام زهده
ما لي في صدورهم من موددة٣
٤- وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم
خضع الرقاب نواكس الأبصار
٥- مر بي رجل مسعوى به عند الأمير.
٦- ارتخش٤ المهمل فزعًا عند الامتحان.
٧- اطلخم٥ الأمر.
٨- تصفحت الكتاب، فإذا هو مصوون عن الحشو.
٩- نحن قوم فواهم ما تقول.
١٠- صون يديك عن الأذى.
١١- ملأ البعاق الجردحل٦.
١٢- أسمع جعجعة، وأنا أشرب السمالج٧
١٣- يوم عصبصب وهلوف ملأ السجسج طلا٨.
_________
١ نقيق الضفدع: صوته، والمثعنجر: البحر.
٢ العرين: اللحم، والصمادح بضم الضاد: الماء الخالص.
٣ معنى البيت: إن أولاده عاقون لا يأخذهم به حنو ولا رحمة، وإنهم لئام يقابلون إحسانه بالإساءة.
٤ اضطراب.
٥ اشتد.
٦ البعاق بكسر الباء، والجردحل بكسر فسكون ففتح فسكون: الوادي.
٧ الجعجعة: صوت الرحى وصوت الجِمَال إذا اجتمعت، والسمالج بضم السين وكسر اللام: اللين.
٨ "العصبصب": الشديد الحر، والهلوف بكسر الهاء وتشديد اللام المفتوحة: هو الذي يستر غمامة شمسه، والسجسج: الأرض ليست سهلة ولا صلبة، والطل: المطر الخفيف.
1 / 15
١٤- أمنا أن تصرع عن سماح
وللآمال في يدك اصطراع١
١٥- يظل بموماة ويمسي بغيرها
جحيشًا ويعرورى ظهور المسالك٢
الجواب على السؤال الأخير:
١- في "نقنق والمثعنجر" تنافر حروف، وفي الثاني منهما وحشية وغرابة يحتاج في الكشف عنهما إلى بحث.
٢- في "العرين والصمادح" غرابة في المعنى، تحتاج إلى بحث وتنقيب.
٣- في "موددة" مخالفة لما ثبت عن الواضع، وللقانون الصرفي إذ الثابت عن الواضع "مودة" بالإدغام، والقاعدة الصرفية توجب إدغام المثلين المتحركين.
٤- في "نواكس" مخالفة؛ إذ لا يصح نقلًا عن الواضع، ولا في القانون الصرفي جمع فاعل وصفا لمذكر عاقل على "فواعل".
٥- في "مسعوى" مخالفة، والصواب فيه أن يقال: مسعى بقلب الواو ياء، وإدغام الياء في الياء.
٦- في "ارتخش" تنافر الحروف، وغرابه في المعنى.
٧- "اطلخم" لفظ غريب وغليظ في السمع، يمجه الذوق، ويأنفه الطبع.
٨- في "مصوون" مخالفة، والصواب "مصون" بحذف الواو الثانية لالتقاء الساكنين، بعد نقل حركة الواو إلى الساكن قبلها.
٩- في "فواهم" مخالفة؛ إذ لا يجمع فاعل لمذكر عاقل على "فواعل".
١٠- في "صون" مخالفة، وصوابه: "صن" بحذف الواو لالتقاء الساكنين.
_________
١ تصرع بتشديد الراء مع البناء للمجهول، وتمنع بشدة، يريد: أنهم أمنوا أن يغلبه غالب يمنعه من السماح، واصطراع الآمال في يده: ازدحامها وتدافعها.
٢ الموماة: الفلاة الواسعة، والجحيش بفتح فكسر أو بضم ففتح: المستبد برأيه، واعرورى: ركبها عريانة.
1 / 16
١١- "البعاق والجردحل" كلاهما غريب المعنى، يحتاج إلى بحث.
١٢- في "جعجعة" تنافر الحروف، وفي "السمالج" غرابة في المعنى.
١٣- في الكلمات الثلاث غرابة، وفي الثالثة منها تنافر.
١٤- في لفظ "اصطراع" بمعنى كثرة النوال والكرم غرابة، يحتاج بسببها إلى تأويل بعيد.
١٥- في لفظتي "جحيش ويعرورى" غرابة يمجها الطبع، ويأباها السمع.
تمرين على هذا السؤال مطلوب جوابه:
كتب بعض أمراء بغداد، حين مرضت أمه، رقاعًا وطرحها في المسجد الجامع بمدينة السلام، قال فيها:
صين امرؤ ورعي دعا لامرأة إنقحلة١ مقسئنة٢ قد منيت٣ بأكل الطرموق٤، فأصابها من أجله الاستمصال٥ أن يمن الله عليها بالاطرغشاش٦؛ فكان كل من يقرأ كلامه يسلقه بحاد لسانه.
وقال أبو الطيب المتنبي:
فلا يبرم الامر الذي هو حالل ... ولا يحلل الأمر الذي هو يبرم
وقال امرؤ القيس: رب جفنة مثعنجرة٧ وطعنة مسحنفرة٨ وخطبة مستحضرة، وقصيدة محبرة٩ تبقى غدا بأنقرة١٠.
_________
١ بكسر الهمزة وسكون النون وفتح القاف وسكون الحاء وفتح اللام، ومعناه يابسة.
٣ أصيبت.
٤ الخفاش.
٥ الإسهال.
٦ البرء.
٧ الجفنة: القصعة، والمثعنجرة: المتسعة.
٨ متسعة.
٩ أي: محسنة.
١٠ عاصمة تركيا الآن، قال امرؤ القيس ذلك حين أدركه الموت، وكان قد ذهب إلى ملك الروم يستنجده على قتلة أبيه، فهويته "على ما قيل" بنت الملك، وبلغ ذلك قيصر فأسرها وفي نفسه ووعده بإجابة ما طلب، ولما كان بأنقرة بعث إليه بثياب مسموعة فلبسها فتساقط لحمه، وحين علم ذلك قال ما قال.
1 / 17
وقال أبو تمام:
نعم متاع الدنيا حباك به ... أروع لا جيدر ولا جبس١
فصاحة الكلام ٢:
هي أن يبرأ من العيوب الثلاثة الآتية: ١- تنافر الكلمات.
٢- ضعف التأليف.
٣- التعقيد بنوعيه.
غير أن سلامة الكلام من هذه العيوب مشروطة بسلامة أجزائه من العيوب السابقة. وإليك بيان العيوب الثلاثة على الترتيب:
تنافر الكلمات: هو وصف في الكلمات مجتمعة، يوجب ثقلها على اللسان، وعسر النطق بها، وإن كان كل كلمة منها على حدة لا ثقل فيها.
والتنافر فيها نوعان كذلك: تنافر شديد، وتنافر خفيف.
فالشديد البالغ الغاية، كقول الشاعر:
وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر٣
"قفر" بالرفع نعت "لمكان" على القطع للضرورة، وقيل: هو نعت "لقبر" ومعنى كونه قفرًا -على هذا القول- قيامه وحده في هذا المكان. والشاهد فيه المصراع الثاني، فإن كلماته متعادية، ينفر بعضها من بعض أشد النفور حتى لا يكاد اللسان ينطق بها مجتمعة. ومثله قول الشاعر:
"في رفع عرش الشرع مثلك يشرع"
فإن اللسان ليتعثر عند النطق به أيما تعثر.
والخفيف كقول أبي تمام يعتذر لممدوحه، ويتبرأ مما نسب إليه:
_________
١ "حباك" أعطاك، و"الأروع" هو الذي يعجبك حسنه، و"الجيدر" بفتح الجيم والدال: القصير، والجبس بكسر فسكون: الجامد الثقيل الروح.
٢ يراد بالكلام هنا ما يشمل التام والناقص.
٣ زعموا أن هذا البيت لأحد الجان، صاح على حرب بن أمية جد معاوية أمير المؤمنين فمات لوقته، فأنشد الجني هذا البيت، والواقع أنه لم يعرف قائله.
1 / 18
كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي وإذا ما لمته لمته وحدي
يقول: إذا ما جرى لساني بمدحه رأيت الناس عامة ألسنة مدح وثناء معي لفيض إنعامه، وعموم أياديه، وإذا ما هممت بلومه لم يتبعني فيها أحد لعدم وجود ما يقتضيه. والشاهد في قوله: "أمدحه أمدحه" فإن في اجتماع هاتين الكلمتين ثقلا عند النطق بهما، يشعر به صاحب الذوق السليم١.
ضعف التأليف:
هو أن يكون الكلام في تركيبه مخالفًا للمشهور من قوانين النحو التي اعتمدها جمهور النحاة، كالإتيان بالضمير متصلًا بعد "إلا" وكالإضمار قبل ذكر المرجع لفظًا، أو معنى، أو حكمًا.
فمثال الأول قول الشاعر:
وما علينا إذا ما كنت جارتنا ... ألا يجاورنا إلاك ديار٢
والأصل أن يقال: إلا إياك.
ومثال الإضمار قبل الذكر قول حسان بن ثابت يرثي مطعم بن عدي:
ولو أن مجدا أخلد الدهر واحدًا ... من الناس أبقى مجده الدهر مطعما
يقول: لا بقاء لأحد في الدار الدنيا، سواء في ذلك الرفيع والرضيع، ولو أن المجد يخلد صاحبه لبقي مطعم على مدى الدهر، يريد: أنه كان ماجدًا نبيلًا.
والشاهد في المصراع الثاني حيث أضمر قبل ذكر المرجع لفظًا، ومعنى، وحكمًا، ذلك أن الضمير في "مجده" راجع إلى "مطعم" وهو لم يذكر قبل الضمير لفظًا، وهو ظاهر، ولا معنى لأنه مفعول به، فمرتبته التأخير، ولا حكمًا لأنه محكوم عليه بالتأخر لمفعوليته.
_________
١ ذكر الصاحب بن عباد أنه أنشد هذه القصيدة بحضرة ابن العميد، فلما بلغ هذا البيت قال له ابن العميد: هل تعرف فيه شيئًا من الهجنة؟ قال: نعم مقابلة المدح باللوم، وإنما يقابل بالذم أو الهجاء، فقال ابن العميد: غير هذا أريد، فقال الصاحب: لا أدري غير ذلك، فقال ابن العميد: هذا التكرار في "أمدحه" مع الجمع بين الحاء والهاء خارج عن حد الاعتدال، نافر كل التنافر، فأثنى عليه الصاحب.
٢ ومنه قول الشاعر:
ليس إلاك يا علي همام ... سيفه دون عرضه مسلول
1 / 19
فكل من الإتيان بالضمير متصلًا بعد "إلا" والإضمار قبل الذكر غير جائز عند جمهور النحاة؛ لهذا كان المصراع الثاني من البيتين الأول، والثاني غير فصيح؛ لضعف التأليف فيه.
أما نحو: هزم خالد عدوه، ورفع قبيلته عنترة، ونحو: نعم فارسًا علي١ وربه رجلًا٢، و﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ ٣ فكل ذلك فصيح؛ لأنه جاز على قانون النحو المشهور لتقدم المرجع لفظًا في الأول، ومعنى في الثاني؛ لأنه فاعل ومرتبته التقدم على المفعول، ولتقدمه حكمًا في الأمثلة الباقية؛ لأن وضع الضمير على أن يعود على متقدم، وإنما أخر فيها لنكتة بلاغية كما سيأتي في محله.
التعقيد:
هو أن يكون الكلام غير ظاهر الدلالة على المعنى المراد؛ لخلل واقع فيه٤، وهو نوعان: لفظي ومعنوي.
التعقيد اللفظي:
أن يكون الكلام غير ظاهر الدلالة على المعنى المراد؛ لخلل واقع في نظمه وتركيبه، بحيث لا يكون ترتيب الألفاظ على وفق ترتيب المعاني بسبب تقديم، أو تأخير، أو فصل، أو حذف، أو نحو ذلك مما ينشأ عنه صعوبة فهم المعنى المراد، وهو على ضربين: شديد وخفيف.
فالشديد، كقول الفرزدق٥ يمدح إبراهيم المخزومي خال هشام بن عبد الملك:
وما مثله في الناس إلا مملكًا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه
يريد: وما مثل هذا الممدوح في الناس حي يقاربه في الفضائل إلا مملكًا، أبو أم ذلك المملك أبو الممدوح، أي: لا يحاكيه أحد إلا ابن اخته.
_________
١ على رأي من يعرب مخصوص "نعم وبئس" مبتدأ لخبر محذوف أو العكس.
٢ المراد: ضمير رب.
٣ المراد: ضمير الشأن.
٤ احترز به عما خفي المراد منه لا لخلل فيه، بل لإرادة المتكلم إخفاء المراد منه لحكمة، كالذي ورد في القرآن من المتشابه والمشكل والمجمل، فلا مقيد فيه.
٥ أحد الشعراء المعروفين في الدولة الأموية.
1 / 20
ففيه فاصل كبير بين البدل وهو "حي" والمبدل منه وهو "مثله" وفيه تقديم المستثنى وهو "مملكًا" على المستثنى منه وهو "حي" وفيه فصل بين المبتدأ والخبر وهما "أبو أمه أبوه" بأجنبي هو "حي" وبين الصفة والموصوف وهما "حي يقاربه" بأجنبي هو "أبوه"، فانظر إلى أحد وصل تعقيد اللفظ حتى عمي المعنى، وكاد يستعصي على الفهم. ومثل هذا النوع في شدة تعقده قول الآخر:
فأصبحت بعد خط بهجتها ... كأن قفرًا رسومها قلما١
يصف الشاعر دارًا بالية، وأصل الكلام: فأصبحت بعد بهجتها قفرًا كأن قلما خط رسومها، ففيه من الفصل والتقديم والتأخير ما جعل التعقيد اللفظي في أقبح صورة وأشنعها.
والخفيف، كقول أبي الطيب المتنبي:
جفخت٢ وهم لا يجفخون بها بهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل
وأصل التركيب هكذا: جفخت بهم شيم دلائل على الحسب الأغر، وهم لا يجفخون بها أي: افتخرت بهم طبائع دالة على ما كان لآبائهم من مناقب ومفاخر، وهم لا يفتخرون بها؛ لأنهم حاصلون على ما هو خير وأوفى، فقد فصل بين الفعل والفاعل وهما "جفخت شيم" بأجنبي هو جملة "وهم لا يجفخون بها" الواقعة حالًا، وفصل بين الصفة والموصوف وهما "شيم دلائل" بالجار والمجرور وهما قوله: "على الحسب الأغر". ومثله قول الفرزدق من قصيدة يصف فيها ذئبًا:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
يريد: نكن يا ذئب مثل من يصطحبان، ففصل بين الموصول وصلته وهما "من يصطحبان" بأجنبي هو قوله: "يا ذئب" فتعقد اللفظ نوع تعقيد.
التعقيد المعنوي: هو أن يكون الكلام خفي الدلالة على المعنى المراد؛ لخلل واقع في انتقال الذهن من المعنى الأول المفهوم من اللفظ لغة إلى المعنى الثاني المقصود
_________
١ "خط" فعل ماضٍ، وبهجتها بكسر التاء على الإضافة، "ورسومها" بفتح الميم على المفعولية.
٢ افتخرت.
1 / 21